الإهداء
هارب من الأيام
الإهداء
هارب من الأيام
هارب من الأيام
هارب من الأيام
تأليف
ثروت أباظة
الإهداء
إلى أبي إبراهيم دسوقي أباظة باشا
Halaman tidak diketahui
أبي
أحس يدي تقوى على أن ترفع هذا الكتاب إلى أعتابك، فعند أعتابك أضعه وحسبه من مكان.
ثروت
هارب من الأيام
1
في فرحة غامرة واستبشار بيوم جديد، وفي تكاسل رخي وبطء هادئ، تحرك الشيخ زيدان أبو راجح عمدة قرية السلام، ونزل عن سريره لينادي الخادمة: يا فاطمة.
وسرعان ما رجع النداء بصوت الخادمة: نعم يا سيدي.
وصاح الشيخ في تظاهر بالغضب يصحبه هدوء مستريح: يا بنت هاتي ماء الوضوء، الفجر سيفوتني!
وفي هذه المرة رجع النداء بالخادمة نفسها تحمل إبريقا وطستا، وأخذ العمدة يتوضأ والخادمة تصب الماء، ولكن العمدة لم يطق أن يتوضأ فقط، وإنما هو - على عادته - يسأل الخادمة عن أفراد البيت فردا فردا، فتختلط ألفاظ الوضوء بألفاظ الأسئلة: بسم الله الرحمن الرحيم، نويت فرض الوضوء ... أين ستك؟
فتجيب الخادمة وهي تصب الماء: نزلت عند الفرن. - اللهم اجعلني أمسك كتابي بيميني ... وأين ستك درية؟ - تعد لك الفطور. - اللهم ولا تجعلني من أهل اليسار، وماذا عندكم اليوم في الفطور؟ - عندنا يا سيدي ما يرضيك إن شاء الله، عندنا فول وقشدة وعسل، الخير كثير والحمد لله. - اللهم ثبت قدمي اليمنى على الصراط المستقيم، الحمد لله، هذا شيء عظيم، أسأل عني أحد اليوم؟ - لا. - ألم يحضر صالح أبو سعد الله فراخا؟ - يا سيدي إننا ما زلنا في الفجر.
Halaman tidak diketahui
فيجيب العمدة في شبه غيظ: ولكنه مدين يا فاطمة ... الدين يا بنتي ... أينسى أحد دينه؟
وتسأله فاطمة ذاهلة: وهل اقترض صالح منك يا سيدي؟
فيجيب العمدة وهو ينزل أكمام جلبابه بعد أن أتم وضوءه: نعم.
وتسأل فاطمة وهي لا تزال في ذهولها: هل اقترض منك فراخا يا سيدي؟
ويطلق العمدة ضحكة صغيرة ساخرة من غفلة خادمته، ثم يقول وهو يثبت قلنسوته على رأسه: يا مغفلة أرأيت أحدا يقترض فراخا من العمدة؟ - أنا الأخرى أتعجب يا سيدي! - لقد حكمت له في قضية أمس فأقسم أن يحضر لي فراخا اليوم، اليوم فجرا، وها هو ذا الفجر يولي وهو لم يجئ، كم أنت ثرثارة يا فاطمة! الفجر سيفوتني، الله أكبر، الله أكبر، أصلي الصبح ركعتين فرضا حاضرا لله العلي العظيم، الله أكبر.
وتركت فاطمة العمدة يقيم الصلاة، وخرجت هي لتجد البيت وكأنما هو آلة زر إدارتها هو نداء العمدة «يا فاطمة»؛ فالسيدة الكبيرة تعد الفرن للعيش، والسيدة الصغيرة تعد الفطور للأب، وإن كلا من السيدتين لفرحة غاية الفرح بهذا العمل الذي تقوم به، وإن كلا منهما لتصرخ بأعلى صوت لها، فكلما ارتفع الصوت كان العمل الذي تقوم به ضخما يحتاج إلى مجهود كبير، وعمل كثير، وصوت جهير، وسعي حثيث، وكر وفر.
والعمدة فرح بهذه الأصوات التي تنبعث إلى حجرته، فكلما ارتفع الضجيج ازدادت أهمية العمدة في بيته، وإلا فمن أجل من تقوم هذه القيامة؟ ومن أجل من يعد العيش والفطور، ويعلو الصراخ ويحث السعي ويكر ويفر، أليس كل هذا من أجله هو؟ رجل البيت وعمدة البلد على رغم كل سن ورمح يمكن أن يتعرض له. وينتهي العمدة من صلاته، ويرتفع صوته في شبه غضب ولكن في هدوء تماما كما كان ينادي فاطمة، ولكن - دون أن يحس - خالجت الصوت نبرة من حنان وحب لا يطيق الأب كتمانهما حين ينادي ابنته: يا درية.
وتجيب الابنة في فرح ولكن في تظاهر بالعمل: حالا يا أبي.
وما هي إلا لحظات حتى تدخل درية حاملة طعام أبيها، ويستقبلها الأب في عطف بالغ: ما هذا الجمال يا بنت؟ من أين تزيدينه كل يوم؟
وتجيب درية في خجل فرحان: طبعا يا أبي، إن لم تشهد لي أنت فمن يشهد؟
Halaman tidak diketahui
ولم يكن العمدة كاذبا في هذه المرة، فقد كانت درية جميلة حقيقة؛ فهي بيضاء صافية اللون، إلا من حمرة وردية تخالط بياضها بمقدار ما يجعل جمالها حيا متوثبا، وهي ذات شعر ذهبي مسرح في تموجات ثائرة معربدة. وإنها لتشجع هذه العربدة من شعرها فهي لا تكبح جماحه بمنديل أو شريط، وإنما تتركه على هواه فيلتوي حيث يطيب له أن يلتوي ويسيل حين يطيب له أن يسيل، وهو على الحالين جميل رائع الجمال. وإن لها جبهة طاب للشعر أن يأخذ مكانا كبيرا منها، فأخذ دون رادع، ولم يترك إلا ومضة ضيقة يتبعها حاجبان مرسومان في دقة رائعة، يعلوان عينين خضراوين ينبعث منهما نور فيه ذكاء لماح وجمال آسر، يعقبهما فم ما هو بالصغير ولا هو بالكبير، وإنما هو شفتان فيهما غلظة رقيقة، تزيدهما جمالا تلك النثلة التي تصل الشفة العليا بالأنف الصغير ذي الأرنبة المتوثبة. والوجه في مجمله يكاد يستدير لولا ذلك الذقن الصغير الذي أبى إلا أن ينفر نفورا منعه الجمال أن يشتط. تتوسط خدها الأيمن تلك النونة الصغيرة التي تزداد وضوحا عندما تضحك درية، وكم كانت تضحك درية! كل هذا الجمال يعلو رقبة تلعاء تفضي إلى صدر ينهد إلى باكر الشباب، حيران بين الظهور الواضح والاستخفاء الخجلان. ودرية فارعة الطول هيفاء غيداء، متوثبة إلى الفرح، سريعة إلى الضحك، تستعجل الأيام والأشخاص والأشياء. لا تطيق أن ترى الأيام تمضي مكتملة جميعا، تتمنى لو أن النهار أومض ثم أعقبه آخر. ثم هي تكلم الناس جميعا فلا يشعرون أنها مغرورة بجمالها هذا، وإنما هي تغمرهم بفيض من حنان فيحسون وكأن درية يهمها من أمرهم ما يهم أصدقاءهم الأقربين. لم تكن درية تستثني من عطفها هذا شخصا أو شيئا، نعم فإن من الناس أشياء، وهل كان كمال إلا شيئا؟ حتى هذا الشيء كانت درية تبذل له من كريم عطفها ما جعله يحس أن له وجودا ولا وجود له، أو أن له كيانا ولا كيان له. لقد كان العمدة محقا إذن حين فرح بابنته عندما قدمت إليه بالفطور في باكر الصباح، وكان محقا في تدليلها؛ فإنه هو لا شأن له بتربيتها فما كان يفهم في أصول التربية إلا أن يقول ما يراه، وهو يرى ابنته جميلة غاية الجمال، ويرى الناس من حوله وحولها يحبونها، ولا يهم العمدة إن كان حب الناس لدرية مبعثه أنه عمدة أو أنها تستحق هذا الحب، إنما كل شأنه أنهم يحبونها. ولو أن درية تركت لتدليل أبيها لكانت الطامة الكبرى، ولفقدت هذا الحب الذي يحبوها به الناس. لم يكن تدليل أبيها وحده هو قوام أخلاقها، وإنما كانت أمها من ورائها تشتد حين ترى لين الأب مائعا، وتقسو حين ترى البنية تنحرف عما تريده لها الأم.
أفطر العمدة في يومه هذا، وهم بأن يغير ثياب نومه ليخرج إلى الناس، حين سمع صوتا يعلو بجانب شباكه، ولم يسأل من ذاك فقد عرف الصوت وصاحبه ... كان ذاك هو كمال أبو منصور ذلك الشيء الذي ينطلق مع الفجر يلتمس رزقه بالدعاء للناس، وما هو بالشيخ العجوز الذي يقعده الكبر، ولا بالمريض المقعد الذي تحتجزه العلة، ولا هو بالعاطل المتبطل الذي يفقره العجز، وإنما هو شاب في ريعان الفتوة مكتمل الجسم موفور الصحة، وما له لا يكون وهو على كل مائدة واجد زاده! وهو - بعد - صاحب صنعة تجمع بين نقيضين، فهو رجل الأحزان والسعادة، وهو نجم المأتم والفرح، وهو الناعق عند الفراق الذي لا لقاء بعده في الدنيا، وهو البشير بلقاء يرجى فيه الاتصال. إنه عمود الوفيات في قريته، فما لاقى إنسان ربه إلا كان كمال هو ناقل نبأ هذا اللقاء إلى أهل القرية، حتى يبادروا إلى القيام بواجب العزاء ورد الجميل السابق، ومساندة أهل الذاهب، الحزين منهم والمتظاهر بالحزن.
وما لاقى إنسان زوجته إلا كان كمال أبو منصور هو الزغرودة، زغرودة الرجاء التي تنطلق مبشرة باللقاء، على حب كان هذا اللقاء أو على طمع في مال أو جاه، أو كان على ظروف اقتضت فتحكمت فكان الزواج ... لا شأن لكمال بشيء من هذا، وإنما كل شأنه أنه يعلم بالوفاة أو الزواج، فيهب إلى طبلته يعلقها إلى رقبته ويمسك بعصاه بالخيزران الغليظة بعض الشيء، ويطوف بالقرية. ولن يسمع أهل القرية نغمة حزينة أو فرحة، وإنما هي دقات تصاب بها الطبلة فتطلق لها صوتا ضخما يصيب بدوره آذان الآمنين من قرية السلام. نعم لقد كان كمال أبو منصور طبالا؛ فهو إذن ليس متبطلا، ولكن قرية السلام قرية لا تزيد، ولن تجد بالقرية ملاقيا لربه أو لعروسه في كل يوم، وقد تتباعد الأيام بين كل لقاء ولقاء، ولكن مواقيت الغذاء لا تتباعد، والبرد يأتي في موعده المعلوم، وكمال يعتقد أن الكرامة كل الكرامة هي أن يحصل على قوت يومه، ليس يعنيه أي سبيل يسلكه إلى هذا القوت، فما البأس به لو أنه طاف بالأغنياء من قريته يطلب أن يعوضوه خيرا عما يفوته عليه عدم انتظام الوفاة أو الزواج؟ ولا بأس عليه ما دام قد فكر في الأغنياء أن يكون في مقدمتهم عمدة القرية وعميدها، لا بأس عليه نعم. ولكن أكان عدم البأس وحده هو الذي ساق كمالا إلى موقفه هذا، أم أن هناك سببا آخر؟ ويحك يا كمال! ماذا تراه يكون السبب؟ حذار أن تفكر، حذار أن تهمس نفسك ولو إلى نفسك، ولكن لتقل الحق، وما ضرك أن يقال وهو مجرد أحلام؟ وهل تملك يا مسكين إلا هذه الأحلام؟! نعم، إن كمالا ليقصد إلى بيت العمدة لينال من بر العمدة، وليفتتح يومه بنظرة كريمة طيبة متفضلة تلقيها إليه درية مع ما تلقيه إليه من طعام، وهو لا يطمع في غير تلك النظرة، وإنه ليعتدها كرما منها يتخاذل إزاءه كل كرم يلقاه من أي كريم، وإنه ليعتدها زاد الدنيا الذي به يعيش إلى أن تتحقق له آمال وأحلام. وكم فكر في هذه النظرة إذا ما خلا بمغارته! وكم وقفت هذه النظرة حائلا دون أفكاره العاتية أن تنثال في ذهنه! ولكنه مع هذا لا يطيق الصبر عليها. لا بأس إذن بكمال أن يقف دون الشباك في باكر الصباح داعيا إلى الله: أن يطيل عمرك يا حضرة العمدة ويبقيك لنا يا رب.
ويجيب العمدة في فرح مبتسم، سعيدا أنه مقصد يدعى له ويسعى إليه: خيبك الله يا ولد يا كمال، يا بني الفجر حاضر لا يزال، ألا تنام يا ابن الملاعين؟
ويجيب كمال في تظاهر بالعبط والسذاجة السعيدة بهذه المداعبة: أطال الله عمرك يا حضرة العمدة، ولا أرانا فيك سوءا أبدا، والله صحوت وجئت إليك؛ لأني أستبشر بوجهك يا حضرة العمدة. - تعني أنك تريد أن تجد مأتما بعد أن تشوفني؟ - العفو يا حضرة العمدة، إنما وجهك كله أفراح، اللهم أطل عمرك يا رب أنت وستي درية الأميرة المؤدبة ...
ويسارع بالاستدراك: وستي الحاجة يا رب. - طيب طيب انتظر حتى تحضر لك فاطمة لتفطر.
ويجيب كمال بالدعاء مترسلا، ويترك موقفه من الشباك ويذهب إلى الباب الخلفي لينتظر ما سيجود به العمدة، وتمر به درية فيسارع منتهزا الفرصة السانحة: صباح الخير يا ستي درية. - صباح الخير يا كمال، كيف حالك؟ ألم تحضر لك فاطمة الفطور؟ - ستحضره يا ستي، لا تتعبي نفسك، اللهم أطل عمرك يا رب.
وتنصرف عنه درية إلى شئون المنزل ويظل هو حيث هو: إن رأى عينا تطل عليه أمعن في الدعاء للعمدة ولزوجته وابنته، وإن آمن كيد العيون صمت وظل ينظر إلى الخير الذي يرتع فيه العمدة، فيرى الدجاج الكثير معه الوز والبط، ويلقي بنظرة إلى مرتع الماشية فيرى عددا وفيرا من الجاموس والبقر والثيران والحمير والخيل، ويل للأيام! أكل هذا الخير في بيت واحد تنعم به أسرة واحدة؟! أهذا عدل يا رب؟ ويا ليته جمع ما جمع من الطريق الحلال! بل هو النصب والسرقة والرشوة، عدلك يا رب! هذا العتل الغليظ يتمتع بكل هذه الخيرات وأنا لا أملك شيئا، ما ذنبي إن كان أبي طبالا فكنت مثله؟ وكان أبوه عمدة فهو مثله! أأنا الذي خلقت أبي وجدي ومن سبقهم وقلت لهم كونوا طبالين فكانوا؟! أي ذنب جنيته؟! آه لو تحقق حلمي! اللهم حقق أملي يا رب، شيء تافه ذلك الذي أرجو أن أحصل على ثمنه أو أجده أو حتى أجد فرصة لأسرقه.
وتنقطع آمال كمال عندما تأتي فاطمة وفي يدها الطعام، ويسارع كمال داعيا لها ممازحا: اللهم أطل عمرك يا فاطمة أنت وسيدي وسيتي. - يا أخي كل، ما لك كثير الكلام؟! أتظننا فارغين مثلك؟! كل بسرعة.
ولا يمنع هذا الرد الجاف كمالا من أن يصل مزاحه: اللهم لا تحرمني من يديك الكريمتين، تتزوجيني يا فاطمة؟
Halaman tidak diketahui
وتغضب فاطمة من هذا المزاح الثقيل، وتثور أن ينطق كمال - وإن كان مازحا - بمثل هذه الكلمة، فما كانت لتظن أن يخطر بباله هذا الفكر. وإن كان مازحا فهي تسارع مجيبة وقد دقت صدرها بيمناها وبدا الحنق على وجهها: هل جننت يا ولد؟! ألم يبق إلا أنت يا طبال حتى تقول هذه الكلمة؟! والله إن لم يبق في الدنيا كلها إلا أنت لما قبلت أن أسمع منك هذه الكلمة.
ولا يعجب كمال من ردها هذا؛ فقد كان يعلمه، ولكنه يسارع ملاطفا في ضحكة ما زالت مازحة: أعرف يا فاطمة لكني كنت أمزح. - ولو! لكل شيء حد! أيصل بك المزاح إلى هذا؟ - لا تغضبي يا ستي فاطمة، أنا غلطان. - طيب، كل وأسرع. - اللهم أطل عمرك يا فاطمة أنت ...
وتتركه فاطمة وتنصرف إلى عملها، ويفكر هو فيما كان بينه وبين فاطمة غير غاضب، فهو قد تعود أن تصده الألسنة وتعود أن يحتملها، ولكنه يخاف أن يبلغ الغضب بفاطمة حدا تبلغ معه سيدها بما كان من أمره وأمرها، ولكنه لا يلبث أن يصرف هذا الخاطر عن ذهنه؛ فهي تعلم أنه كان يمزح، ولن تذكر من الأمر شيئا، ففاطمة عاقلة، وهي تأبى أن يرتبط اسمه باسمها وإن كان يمزح.
يخرج العمدة إلى شرفة منزله فيستقبله شيخ الخفراء بالتحية والود، ثم يسأله العمدة: هل أرسلت أحدا ليحرث الفدانين كما قلت لك أمس؟
ويجيب شيخ الخفراء في فرح: نعم يا حضرة العمدة، لقد ذهب إليهما عبده أبو مسعود بعد صلاة الفجر مباشرة. - وهل اتفقت معه على الأجر؟ - خيرك سابق يا حضرة العمدة. - لا، أنا لا أقبل هذا أبدا. - لا تقبل ماذا يا حضرة العمدة؟ - أيريد أن يرشوني أبو مسعود؟ - لا، ومن قال هذا لا سمح الله؟ إنما هو يقدم خدمة خالصة لوجه الله. - آه، إن كان هذا فلا بأس. - وسيزورك الليلة إن شاء الله. - زيارة لوجه الله أيضا؟ - طبعا طبعا يا حضرة العمدة ، لكن فقط ... - ماذا؟ - له مسألة بسيطة. - ما هي؟ - عبد الحميد جاره منع عنه المياه. - ابن الكلب! والله لأمنعنه هو أن يروي أرضه، وأجعلن الماء يمر في أرضه إلى عبده أبو مسعود ... ألم يأت صالح حتى الآن؟ - لقد رأيته راكبا حماره في الفجر، يمر بالبيوت ليشتري الفراخ التي طلبتها منه سعادتك؟ - أنا! أطلب؟ أتعقل هذا يا عبد الجليل؟ أليس هو الذي قال إنه سيحضر لي فراخا اليوم؟! وحين أقسمت أن يأخذ ثمنها أقسم هو بالطلاق أنه سيحضرها هدية في مقابل تعبي في قضيته التي كانت بينه وبين امرأته؟ سبحان الله يا أخي أأرفض الهدية وأطلق المرأة من زوجها؟ ألم تكن شاهدا؟ - نعم يا حضرة العمدة ولكني نسيت، ولكنك يا حضرة العمدة - باسم الله ما شاء الله - تتذكر كل شيء، هذا ما كان والله! - وأنت ماذا تنتظر؟ ألم تذهب لتراقب الأولاد وهم يجمعون القطن؟ - لقد جئت يا حضرة العمدة من أجل هذا. - من أجل ماذا؟ - أريد أن أجمع القيراطين اليوم، وأريد أن تمنحني إجازة. - ماذا جرى يا عبد الجليل؟ أتطلب الإجازة اليوم؟ وتريدها اليوم؟ لماذا لم تقل بالأمس حتى أرسل غيرك؟ - والله يا حضرة العمدة نسيت. - دائما تنسى ولكن لماذا تجمع القطن اليوم؟ لماذا لا تنتظر إلى الغد؟ - لقد ذهب الأولاد فعلا إلى الأرض. - اجعلهم يذهبوا إلى أرضي اليوم، وغدا اجمع قطنك. - أمرك يا حضرة العمدة. - وما أجر الولد عندك؟ - مثلما تعطيهم يا حضرة العمدة. - عظيم لقد خفت أن ترفع أجورهم فيتركوني إليك. - وماذا يفعلون عندي؟ سعادتك عندك الأرض واسعة، أما أنا فثلاثة أفدنة أيتركون الدائم للعاجل؟ أهم مجانين؟
ويضحك العمدة ملء شدقيه بهذه المقارنة التي جعلته يزداد إحساسا بمكانته، ويأمر شيخ الخفراء بالانصراف ليشرف على جني القطن ونقل الأولاد من غيط إلى غيط. ويكاد شيخ الخفراء يفعل لولا خفير التليفون الذي يأتي مهرولا مقبلا من حجرة التليفون التي كانت أمام الشرفة، ويصيح الخفير: انتظر يا شيخ الخفراء.
ويسأل العمدة في قلق: ماذا جرى لك يا ولد يا عبد الهادي؟ - المأمور يا حضرة العمدة. - ما له يا ولد؟ - يجيء الآن. - الآن يا ولد؟! - الآن يا سيدي.
فيلتفت العمدة إلى شيخ الخفراء في اهتمام: عبد الجليل، أين الخفراء؟ - في الغيط. - اجمعهم وأسرع. - أمرك يا حضرة العمدة، ولكن ألا تعرف لماذا سيأتي المأمور؟ - علمي علمك يا عبد الجليل، اذهب أنت الآن وأحضر الخفراء.
ولكن عبد الهادي خفير التليفون لا يجعله يذهب، فكأنما أقسم في صباحه هذا أن يثير الرعب والقلق في نفس العمدة. - بل انتظر يا عمي يا عبد الجليل.
فيقول العمدة في ثورة مكبوتة: ماذا تريد أيضا يا عبد الهادي؟ - سعادة البك المأمور يريد مشايخ البلد. - أيضا؟ - أيضا. - ومن أين آتي بهؤلاء ما هذا النهار الأسود؟
Halaman tidak diketahui
ولكن شيخ الخفراء يسارع إلى نجدة عمدته. - وما يهمك يا حضرة العمدة؟ سنخبر الذي نجده، ومن لا نجده نخبر المأمور أنه ذهب إلى البندر؛ لأنه لم يكن يعلم بمجيئه. - وهو كذلك، اذهب إذن فادع من تجده، ومر الخفراء أن يلبسوا ملابسهم الرسمية ويقفوا على طول الطريق من عند المفارق حتى البلد ليؤدوا التحية.
ويذهب شيخ الخفراء، وينتقل العمدة إلى منزله في حيرة واهتمام بالغين مناديا زوجته: يا صفية، يا صفية.
وتجيب زوجته من أقصى المنزل: نعم، نعم.
فيسارع إليها العمدة حيث هي ويصرخ في وجهها: المأمور يا صفية، المأمور! - ما له المأمور؟ - وصلت إلينا إشارة تليفونية الآن أنه ... - مات؟ - لا سيجيئ. - أكل هذا؛ لأن المأمور سيجيئ؟ أهذه اول مرة يزورك فيها المأمور؟ إنك منذ عشرين سنة عمدة، وفي كل يوم يأتيك مأمور. - نعم، ولكن هذا مأمور جديد، ويقولون عنه إنه شديد جدا. - إنهم في كل مرة يقولون إن المأمور الجديد شديد، ثم يأتي، وما إن تصل إليه الفراخ والسمن والديوك حتى يصبح لينا لطيفا كالخراف التي تذهب إليه تماما. - هذا صحيح، ولكن لا بد لنا من جس النبض أولا. - اذهب واطمئن، وكل شيء سيكون على ما يرام. - الفطور يا صفية، هذه أول مرة يزورنا فيها المأمور الجديد. - ألم أقل لك اطمئن؟!
ويذهب العمدة مهرولا ليرى كيف دبر شيخ الخفراء الأمر، ولكن الوقت لم يتسع بعد؛ لأن يصل شيخ الخفراء إلى أول خفير، ولا بد من الانتظار انتظارا قلقا مليئا بالأفكار السوداء. أي داهية ستحط على دماغه إذا جاء المأمور ولم يجد ممن طلب أحدا؟ لا شك أنه سيقفه عن العمودية، ومن يدري من أي حزب هذا المأمور؟ لعله من الحزب المناوئ؟! ولكن ما يهم؟ إن جميع المآمير ينتمون إلى الحزب الحاكم، والحزب الحاكم هو حزب العمدة، والحمد لله لعله إذن شريف، يا للخراب لو كان شريفا! إذن فهو لن يقبل أن يتناول الفطور، وإذن لن يقبل الهدايا التي سيقدمها له، ولكن كيف يكون مأمورا شريفا؟! إنه مأمور، ثم هم يقولون إنه مأمور قديم، أي إنه ظل مأمورا مدة طويلة من الزمان، وهل يعقل أن يظل مأمورا مدة طويلة من الزمان ويظل شريفا؟ لو أنه كذلك لكان قد فصل منذ زمن بعيد! أو كان على الأقل قد نقل إلى وظيفة أخرى! ولكن هب يا حضرة العمدة أنه صغير في السن، وأن تلك الأنباء التي وصلت إليك كاذبة، وأنه ما زال طائشا مجنونا يعتقد في الشرف ويتمسك بأهداب الفضيلة، إذن فهو متعجرف، ولن يمكن لك يا حضرة العمدة أن تتفاهم معه. وإذن فهو سيقفك، بل لعله يفعل ما هو أدهى، لعله يفصله عن العمل، يا للخراب النازل! يفصله من العمودية تلك الوظيفة التي ظل فيها عشرين عاما، وأي مصير سيصير إليه؟ وكيف تتزوج درية إذن؟ ومن ذلك الذي سيتزوج ابنة عمدة مفصول؟ نعم، إن عنده خمسين فدانا، ولكن ما خمسون فدانا بالنسبة للعريس الذي يرجوه لدرية؟ إنه يريد شابا من كبار الأثرياء، ابن أحد الباشوات، فإن تواضع فابن أحد البكوات، وما الذي يدعو مثل هذا الشاب إلى الزواج من ابنة عمدة مفصول، لا يملك من حطام الدنيا إلا خمسين فدانا لن تزيد؟ ومن أين لها أن تزيد، وقد فصل صاحبها من العمودية؟! ويل لدرية من الأيام إذن لو كان المأمور شريفا!
بل ويل لي أنا حضرة العمدة إذا كان المأمور شريفا، ماذا أفعل؟ أينقل هذا التليفون الذي ظل ببابي عشرين عاما؟ ألا يدعوني أحد إذن يا حضرة العمدة؟ ومن ذلك الذي سيعين عمدة بدلا مني؟ لعلهم ينتخبون ذلك الرجل الخرف عبد الرحمن السلامي، ذلك القزم القميء، ذلك الرجل النحيل الفقير، نعم فقير، إنه لا يملك غير عشرين فدانا، ولكنه أغنى فرد في البلدة بعدي. ويل لي إذن، لكن ما لك قد يئست إلى هذا المصير الأسود؟ إنك بعد لم تر المأمور، آه إن المصيبة هنا أنني لم أر المأمور حتى الآن، أكان لا بد أن أكون مريضا حين دعا المأمور العمدة للاجتماع به؟ أما كنت أستطيع الذهاب؟ وكيف؟! أكنت أريد المأمور أن يراني متوكئا على عصاي، ضعيفا لا قوة بي ولا هيبة؟ ماذا كان سيظن حينئذ؟ لقد كان جديرا إذن أن يظنني ضعيفا غير حازم، لا أستطيع معالجة الأمور الجلائل التي تتعرض لها العمودية. كان لا يمكن الذهاب، ولكنني أرسلت تلغرافا. أجل إنني بهذا التلغراف أعلنت إلى المأمور الجديد أنني رجل أحترم اجتماع العمد، كما أنني غني؛ لأني أرسل تلغرافا لا خطابا مع خفير، كما أنني كريم؛ لأنني لم أبخل بثمن التلغراف المطول الذي أرسلته إليه. أجل، لقد كانت فكرة طيبة فكرة التلغراف هذه، وكان أسلوبه أيضا عظيما. هذا الولد ابن الشيخ حسن يكتب كتابة عظيمة، ولد طيب فخري ابن الشيخ حسن هذا. لقد اهتم بالتلغراف اهتماما بالغا، أكانت فكرته أم كانت فكرتي؟ لا إنها فكرتي، نعم هو فكر أولا ولكني نفذتها، أجل، ألست أنا من أرس التلغراف؟ ألست أنا من دفع أجره؟ ولكن لا، إنه هو الذي دفع الأجر! نعم وهو الذي كتبه، ولكن ولكن ألست أنا على أي حال من وقعه؟! ولكن التوقيع لا يصل مع التلغراف! نعم ولكنه كان باسمي ... النهاية كانت فكرة عظيمة، أقول في التلغراف، أعني أن فخري يقول باسمي: لمرض فاجأني واضطرني ألا أنال شرف ...
وحينئذ يسمع نقير سيارة قادمة من قريب، أي نهار أسود هذا! لقد وصل المأمور ولم يصل المشايخ ولا حتى الخفراء، وما هي إلا لحظات حتى كان المأمور يترجل سيارته ذات الصندوق الضخم الرمادي اللون أمام بيت العمدة، الحمد لله أن المأمور كبير السن. - أهلا وسهلا سعادة البك المأمور. - أهلا بك يا عمدة. - شرفت يا سعادة البك، نورت يا سعادة البك. - شكرا يا عمدة.
يا عمدة! من غير «حضرة»، النهاية، اللهم اجعله خيرا. - لم تصلنا الإشارة إلا الآن يا سعادة البك، وقد أرسلنا في طلب المشايخ. - أنتظر إذن. - أظن أن سعادة البك لم يتناول فطوره بعد، الفطور جاهز يا سعادة البك. - وما لزوم التعب يا حضرة العمدة؟
لقد جاءت «حضرة» أخيرا، يومنا لبن إن شاء الله. يسارع العمدة بالإجابة: تعب يا سعادة البك؟ تعب؟ فطور سعادتك تعب؟! هذا شرف يا سعادة البك هذا تنازل يا سعادة البك ... يا ولد يا عبد الهادي.
ويأتي عبد الهادي مهرولا. - نعم يا حضرة العمدة. - الفطور يا ولد لسعادة المأمور، أسرع. - دقيقة واحدة يا حضرة العمدة دقيقة واحدة.
Halaman tidak diketahui
وينصرف عبد الهادي يتعجل الفطور، ويجلس العمدة إلى المأمور يبالغ في التحية ويمعن في التبجيل، والمأمور يقبل في عظمة متواضعة وفي خجل متكبر، ثم هو يقول وكأنما تذكر شيئا قد نسيه: آه لقد كنت ناسيا لقد ...
ويسارع العمدة: خير يا سعادة البك؟ - لقد نسيت أن أقول لك: الحمد لله على سلامتك. - سلمك الله وعافاك يا سعادة البك. - مم كنت تشكو يا حضرة العمدة؟ - الروماتيزم يا سعادة البك. - آه، هذا مرض ثقيل؟ - إي والله يا سعادة البك وليس أثقل منه إلا المأمور الذي كان قبل سعادتك.
ويظهر الغضب على وجه المأمور، ويثور بالعمدة ثورة جامحة: ماذا تقول يا عمدة؟ أهذا يليق؟
إذن فقد طارت حضرة مرة أخرى. - العفو يا سعادة البك، أستغفر الله. - أهذه هي الطريقة التي تتكلم بها عن رؤسائك؟ - يا سعادة البك، يا ... - ألا تعرف أن المأمور الذي كان قبلي أخي الأكبر؟
ويقول العمدة في نفسه: أنا عارف، إنه نهار أسود.
ثم يسارع إلى المأمور قائلا: من تقصد سعادتك؟ - محمد علاء الدين. - ولكن ... ولكن يا سعادة البك، أنا أقصد ... أنا أقصد الذي كان قبله ذلك الرجل الغاضب دائما، فرق كبير بينك وبينه يا سعادة البك، أما أخوك - حماه الله - لقد كان رجلا بمعنى الكلمة، والله لقد حزنا لنقله حزنا عظيما الله شهيد. - آه، أنت تقصد عبد السميع بك؟ - آه، هو هذا. - أعرفه رجل ثقيل.
وينشرح صدر العمدة، ويحمد الله في نفسه، فقد أصبح اليوم لبنا مرة أخرى، ويقول للمأمور: ثقيل؟! ثقيل فقط يا سعادة البك؟ أعوذ بالله، سعادتك تعرفه إذن؟ - أعرفه، كان رئيسا علي، أنت محق يا حضرة العمدة.
إذن فقد عادت حضرة، أهلا بها، ولكن مشكلة جديدة بسبيلها إلى الظهور، اللهم نجنا مما نخاف، ألم يجد صالح الكلب وقتا للفراخ إلا الآن، طارت حضرة، لا بل طارت الفراخ، يا أخي الفراخ في داهية، المهم الآن هو العمودية، مصيبة لو كان هذا المأمور شريفا.
ويقبل صالح في إعجاب شديد بنفسه أن أوفى بعهده وأحضر ما وعد به العمدة من فراخ سمان ... وما إن يبلغ صالح مجلس العمدة والمأمور حتى يتخفف من القفص الذي يحمله بأن يضعه في زهو أمام الجالسين ... - الفراخ يا حضرة العمدة. - أي فراخ يا ولد؟ - الفراخ التي ...
ويقاطعه العمدة في سرعة خائفة ملتاعة: اذهب الآن يا صالح، سعادة المأمور هنا، ولن أشتري فراخا في وجوده.
Halaman tidak diketahui
وينقذ المأمور الموقف في كياسة مرنة وفي دربة واعية: والله فراخ عظيمة فعلا يا حضرة العمدة.
وكأنما كان العمدة في غمرة من بحر متلاطم، ثم وجد نفسه فجأة على الشاطئ الأمين، فهو يسارع قائلا لصالح: ضع هذه الفراخ في سيارة البك المأمور يا صالح.
ولكن المأمور يستر الموقف في غضبة واضحة الاصطناع، يتقنها منذ تعود أن يقبل هذه الهدايا: لا، لا يا حضرة العمدة، والله لا يمكن. - زوجتي طالق إن لم تقبل هذه الهدية. - يا رجل اتق الله، حرام يا رجل، الأمر لله، الأمر لله.
وبين هذه الأيمان المتبادلة كانت الفراخ قد أخذت مكانها المستقر في السيارة، وكان الفطور قد أعد، وكانت نفس العمدة قد هدأت بعد اضطراب، فقد رضى الله عنه، وأرسل إليه مأمورا طيبا مثل كل مأمور عرفه قبل اليوم، والحمد لله من قبل ومن بعد.
دخل العمدة وراء المأمور إلى المنزل، ونبت من مكان خفي ذلك الشيء كثير الدعاء كثير الحقد «كمال»، بعد أن رأى المسرحية منذ بدئها حتى أنزل عليها الستار في حجرة الطعام ... وسار كمال في طريقه وهو يردد: يا رب أهو كثير ما أطلب؟ مجرد مسدس يا رب، أو ثمنه من أي مكان، مسدس يا رب!
2
للكتاب في القرية أثر بعيد، فمن بين جدرانه المتهالكة ومن تحت فلقة الشيخ العنيفة، يخرج إلى الحياة صبيان تعلموا الجهل فأحسنوا تعلمه، فكل ما يعرفون من الثقافة قراءة عاجزة، وكتابة أكثر عجزا، وهم وإن كانوا قد أخذوا على الشيخ القرآن فحفظوه، إلا أنهم أبدا لم يفهموه، وما كان لهم أن يفقهوا منه شيئا، والشيخ نفسه أكثر جهلا به منهم. ويخرج هؤلاء الصبيان إلى الحياة وينظرون حواليهم فيجدون أنفسهم أكثر ذويهم علما وأكثرهم معرفة، فيدخل إلى نفوسهم الغرور، ولا يزال بهذه النفوس حتى يملأها لا يترك فيها مكانا لتواضع، أو منفذا لبعض حياء. وللغرور في هذه النفوس أشكال وأوضاع، فمن كان منهم ذا يسار ونعمة يرتكن إلى أب ذي مكان بعض ملحوظ، فغرره إذن متفجر واضح لا يبقي ولا يذر؛ فهو هو الأستاذ الغني والعالم القدير.
ومن كان منهم غير ذي يسار، ولكنه ذو أصل دارس وغنى تشتت فأصبح فقرا فبيته دوار وإن كان خاليا، وأبوه محترم وإن كان فقيرا، وأمه لا تخرج بالجرة وإنما ترسل أخته. إن كان الفتى كذلك فغروره إذن صمت، واستعلاؤه بعد عن سائر الفتيان.
وأما من تخرج في الكتاب فلم يجد وراءه أصلا، ولم يجد أمامه مالا، فكبره إذن خبيث، يؤديه اللفظ اللين الناعم يغلف به السم الناقع المتراكم في نفسه، وكبره أيضا حقد مستعر وكره للعالم كله متمثلا في قريته، يخص منها ذوي اليسار وذوي الأصل، وذوي المكان وذوي الثقافة.
ولا ينكسر الغرور في واحد من هؤلاء إلا إذا تقدمت به السن أو أتاحت له الحياة أن يكمل تعليمه، فإنه حينئذ يدرك مقدار ما كان يجهل، ويرى من حوله القوم متساوين معه إن لم يكونوا أحسن منه حالا، فيصاب غروره برعدة، ثم لا يلبث أن ينقشع عنه.
Halaman tidak diketahui
وقد كان كمال من هذا الصنف الأخير من المتكبرين، وقد رأينا بعض كبره عند العمدة، فما كان تزلفه الحقير إلا كبرا، فهو يعتقد أنه بألفاظه تلك قد طوى العمدة وضحك منه، وأنه ببعض ألفاظ لا تكلفه شيئا - فما كانت الكرامة عنده شيئا - قد بلغ من مال العمدة ما قدر لنفسه أن يبلغ في يومه هذا.
سار كمال فرحا بنفسه وبذكائه، متحسرا في الوقت نفسه على هذا الذكاء الذي أبت الدنيا إلا أن تعطله ولا تتيح له مجالا يسعى فيه، حاقدا على هذه الدنيا البخيلة، أشد حقده على ذلك العمدة الذي يهدي الفراخ السمان ليضمن لنفسه البقاء في منصبه.
ولم يطل بكمال المسير فسرعان ما التقى بفئة من القرية لا تحس به، إلا أنه هو يعتقد أنها تبغضه وتحقد عليه؛ لأنها تخافه وتخشاه، تلك هي فئة التلاميذ أولاد المدارس.
لقد كان كمال يعتقد أن هذه الفئة تحس بمبلغ علمه وتعرف أنه يزاحمها فيما تعلموه في المدارس، وأنه بذكائه وحده غني عن تلك الكتب التي يحبسون فيها عقولهم، وهم ينفسون عليه هذا الذكاء المتوقد الذي لم يمنعه من الظهور إلا زمن غادر، وفقر مرير.
وهكذا شاء كمال أن يسخر من تلك الفئة المتعالمة، فما إن رآها حتى قصد إليها في استرخاء ساخر، وعلى فمه ابتسامة تعلم أن يضعها على فمه منذ رأى شيخ الكتاب يستعملها إن أراد سخرية، وفي لسانه لفظ تعلم أن يديره منذ اتخذ الاستجداء وسيلة إلى الحياة. - أطال الله عمركم، وأخذ بيدكم وجعل النجاح نصيبكم.
وشاء أحد التلاميذ أن يتبسط مع كمال: شكرا يا أبا كمال شكرا.
ولكن تلميذا آخر يسرع بالإجابة: ولكن شكرا هذه لا تنفع يا أبا كمال، والذي ينفع ليس معنا.
ويدرك كمال ما يقصد إليه التلميذ فهو يقول : فهل أنتم مفلسون؟ - يا رب كما خلقتنا. - فاشرحوا لي آية من القرآن فأكون قد أفدت منكم علما ما دمت لم أفد مالا. - الله! أبا كمال! وهل نحن فارغون لمسامرتك؟ - أنا لا أراكم تعلمون شيئا؟ - والله إن فراغنا أحب إلينا من أن نشغله بك. - خذ يا أبا كمال قرشا وتوكل على الله مع السلامة.
ويأخذ أبو كمال القرش، وقد ازداد إيمانا أن فئة التلاميذ تخشاه وتبغضه، ولكن لا بأس بها ما دامت تدفعه عنها بالمال مهما يكن قرشا.
ويمشي كمال ليكمل دورته اليومية، فقد كان يأخذ نفسه بالعمل الكثير ويجرب ذكاءه يوميا على كل فئة من فئات القرية، وقد كان لا بد له أن يدور طوال يومه حتى لا يبغته وقت الغداء خاليا بعيدا عن الناس. وكان لا بد له أيضا أن يغشى الجامع ليقيم الصلاة في موعدها مع المصلين، فإن عدم الصلاة في القرية كبيرة من الكبائر التي لا تغتفر، وهو يحب أن يترضى عقول القوم وأن ينسرب إلى قلوبهم من أي سبيل. وقد كان كمال بعد هذه الواجبات جميعا يخلو إلى نفسه منذ الأصيل إلى الغروب في مغارة في الجبل لا يعرفها إلا هو.
Halaman tidak diketahui
وقد وجد كمال أن ثمة فسحة من الوقت قبل أن تجب صلاة الظهر، فهو إذن يستطيع أن يعرض لقوم آخرين، إن لم يصب منهم مالا فهو على الأقل يحتسبها عليهم مرة لم يعطوه فيها، فيضطروا إلى إعطائه في المرة التالية.
وهكذا أخذ كمال يمر على الناس فيجد النفور والازدراء أغلب الأحيان، أو يجد الإعطاء الشحيح بعض الحين، أو لعله يجد - ولكن نادرا ما يجد - سماحة في البذل، وكرما في اللقاء، ومهما يكن اللقاء وعلى أي نوع له، فإن كمالا ينصرف ونظره إلى السماء داعيا الله، نعم، الله الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر والبغي ويعظنا لعلنا نتقي. يجرؤ كمال أن يتجه إلى هذا الرحاب ليسأله «مسدس»، أداة القتل والعدوان ووسيلة المنكر والبغي، ولكن من للشرير غير الله؟ سبحانه متجه القلوب جميعا، حتى كمال.
كل أمله أن يجد هذا المسدس أو يجد ثمنه، فإن لم يتيسر فلتكن بندقية أو مقروطة، والمقروطة بندقية جار عليها الزمن فقطعت مقدمتها فلا هي بندقية ولا هي مسدس، ولكنها عند القتل تؤدي الغرض كما يؤديان، ثم هي تمتاز عن البندقية في أنها تختفي في الثياب، فلا يراها أحد، وعن المسدس في أنها تحكم التصويب وتبلغ الهدف في وثوق، وصاحب المقروطة فخور بها أشد الفخر، يدعي - لشعوره بنقصها - أنه قطعها خصيصا حتى يبتعد مرماها، مخالفا في ذلك كل ما يقول به هواة السلاح وخبراؤه، لا بأس بها أيضا لكمال، ولكن أين هي؟
وفي «أين هي؟» هذه مشى كمال يفكر، ويمني نفسه الأمنيات ويوسع للأحلام آفاقها، ويمر بالفقير المعدم فينظر إليه نظرة الأخ في الشقاء، ويعظم في نفسه إذا ما عثر على المقروطة وتحققت الآمال أن يجعل لهذا الفقير نصيبا من بعض ماله، ثم هو يرجع إلى نفسه يسائلها إن كانت ستسمح يومذاك، فإذا نفسه تجيبه في سرعة متوثبة أنها ستسمح، فيعود إليها يسائلها: من أين لها هذا الخير الذي تصطنعه؟ فلا تعجز نفسه عن الجواب، فما هو الخير الذي يدفعها إلى البذل، إنما هي الحاجة، حاجة؟ أأكون يومئذ في حاجة؟ نعم حاجة إلى الناس وليس إلى المال، إلى الناس! إلى الكثرة الكاثرة من الناس، فإذا سأل نفسه عن نفعها من الناس، وماذا يفيد هو من هؤلاء الذين تريد نفسه أن يضمهم إليه، ويبسط عليهم فضل عطفه وسابغ رحمته؟ حينئذ تضحك منه نفسه الضحكة الصفراء التي عرفها لها منذ امتزجا فاتفقا، ولا تسكت نفس كمال عن الجواب: ألا تعرف ماذا تريد من الناس أيها الغبي؟ ألم تر منصور الدفراوي كيف ينظر إليه الناس نظرة احترام وتوقير وهو القاتل السفاك؟ ألا ترى أنهم يمتدحونه ويصفونه بالرجولة والكرم؟! - وهبي ذلك صحيحا، ما شأني أنا بمنصور أو مهزوم فيما نحن فيه؟! - أيها الغبي ألا تعرف أن الناس هم الذين يجعلون المجرم محسنا، والقاتل كريما، وما ذاك إلا لأنه يبذل لهم فنجان قهوة أو لفة جوزة، أو كرسي دخان، فإذا ذكرهم واحد منهم أن هذا الذي يمدحونه قاتل وإن كان كريما، سارع أكثر الجالسين ينهون ذلك المتحدث قائلين له: ما لنا وما له إذا كان قاتلا أو غير قاتل؟ المهم أنه كريم رحب اللقاء، مفتوح البيت ... ألا ترى أن له بيتا والقرية جميعها تعرف عنه أنه قاتل، ولكن واحدا منها لا يذكر عنه شيئا؟ وكل من في قريتنا هذه أو فيما جاورها إذا دعي للشهادة في حادثة قتل ارتكبها منصور ذكر في جرأة وثبات أن منصورا كان يتناول العشاء عنده، وأنه سهر معهم ليلته حتى طلوع الفجر يسمعون القرآن ويتبادلون الحديث.
وحينئذ ينتهز كمال الفرصة ليضحك من نفسه، فيطلقها ضحكة معربدة: أيتها النفس الغريرة أمني تسخرين؟ ألا تنظرين إلى قولك هذا كم هو تافه لا يسنده منطق؟ أظننت الشهادة التي يؤديها الشهود في صالح منصور، مبعثها حب هؤلاء الناس لمنصور؟ - أعرف أيها المتذاكي العبيط، إنه الخوف. - نعم هو الخوف، ولا شيء غير الخوف. - أعرف ذلك وما هو عني ببعيد، ولكن منصورا يتيح لهؤلاء الشهود أن يتخذوا لخوفهم ستارا من الرجولة، هو الخوف ما يرسلهم يشهدون في صالح منصور، ولكنهم يقنعون أنفسهم أنها الصداقة التي تربطهم بمنصور تحتم عليهم أن ينجوه عند الشدة، ويساندوه عند الحاجة، فهم يشهدون الزور، ولكنهم يرضون الصداقة، وهم تصطك أسنانهم خوفا منه ولكنهم يقولون: إنها تصطك خوفا عليه. - وما يهمني أن يقنعوا أنفسهم أو لا يقنعوها، ما داموا سيؤدون ما أريد لهم أن يؤدوه. - هناك فرق أيها الساذج لو أرضيتهم، أو أرضيت غالبيتهم أصبح لك من بينهم عيون على أنفسهم، وأنت حينئذ تستطيع أن تتشدق في يسر، إنك تسرق ولكن المال مآله إلى الفقراء وليس إليك. - على أية حال أيتها النفس لا بأس عندي أن أذكر هؤلاء القوم حين يفتحها الكريم ونحصل على ...
وحينئذ وجد كمال نفسه وجها لوجه أمام الحاج إبراهيم الحسيني شيخ البلدة، فما أسرع ما نفض كمال نفسه من حديث نفسه وفرغ إلى الحاج بكله: صباح الخير يا عم الحاج إبراهيم. - صباح الخير يا ولد يا كمال. - إلى أين إن شاء الله؟ - وما شأنك أنت؟ - إن كان الطريق طويلا أقطعه معك بلساني فأسليك ونتحدث حتى تصل. - يا حول الله يا ابني، على كل حال قضا أخف من قضا، أنا ذاهب إلى دكان الحاج علي أسمع الراديو، وكان الولد أحمد أبو خليل يريد أن يصحبني إلى هناك ولكني هربت منه، وها أنت ذا تحل محله، قضا أخف من قضا. - لك حق يا حاج إبراهيم، ربنا رحمك من ثقل أحمد، ثقيل يا حاج إبراهيم، ثقيل. - ثقلا لا يوصف يا كمال يا ابني، والعجيبة أنه يقول النكات ويضحك منها، ويعتقد أن خفة ظله لم ترد على بني آدم، وأنا رجل كبير لم أعد أحتمل، مرارتي يا بني لم تعد تحتمل. - ألم يبع لك الفدان يا عم الحاج؟ - أبدا مصمم على ألا يبيع هذا الفدان، والفدان يا كمال واقف في وسط أرضي كالعقلة في الزور. - وكم عرضت عليه؟ - ثمانمائة جنيه. - وكم يطلب؟ - ألفا. - له الحق. - أما إنك بارد يا ولد يا كمال، الفدان في أرضي إن لم أشتره أنا فلن يشتريه أحد، وأنا مع هذا لا أظلمه وإنما أدفع له ثمانمائة جنيه، بينما لا يساوي الفدان أكثر من سبعمائة، فيستغل فرصة رغبتي فيه ويطلب ألفا، ألفا مرة واحدة، وتقول لي أنت له حق، أما أنك بارد مثله. - يا عم الحاج أنت لم تعرف قصدي أنا أقصد أنه محق في أن يسوق الدلال ما دمت تعرض وتساوم. - وماذا أعمل؟ - مر، أنت شيخ البلد، أنت والعمدة على درجة واحدة، أرسل فيه بلاغا إلى المركز، وحين يجره العسكري يترك أربعمائة بدلا من مائتين. - أما إنك شيطان يا ولد يا كمال أهذا معقول؟ لا حد الله بيني وبين الفدان ...
وينقطع الحديث عند هذا الحد فقد وصل المتحادثان إلى المقصد.
وقد كان دكان الحاج علي أو الحاجعلي - كما ينادونه - منتدى الصفوة المختارة من القرية، يتحلقون فيه حول الراديو ويشاركون ساسة العالم وساسة مصر في تصريف الأمور، وإن لم تكن هذه المشاركة تقف عند منتداهم هذا، إلا أنها تريح أعصابهم وتهدأ لهم خواطرهم، وتجعلهم يعتقدون أنهم أهل تصرف وقوام أمور.
بلغ الحاج إبراهيم وكمال المنتدى، وكان الجالسون هم الحاج علي الطحان، والشيخ رضوان العكلي المعلم الإلزامي وخطيب الجمعة، والشيخ عبد الودود مأذون البلدة الذي يملك فيها عشرة أفدنة كاملة في طريقها دائما للزيادة، وقام الجالسون يحيون الحاج إبراهيم، ولكن الشيخ عبد الودود لم يقبل أن يسير الحاج إبراهيم في صحبة كمال فهو يقول: والله طيب يا شيخ البلد، ألم تجد غير كمال ليسايرك؟
وغضب كمال لهذا التجريح من رجل لم يأخذ منه في حياته مليما، ولا ينتظر أن يصيب منه في حياته مليما، غضب كمال وكان غضبه في محله؛ فهو لا يغضب من أحد إلا إذا كان من غير المحسنين عليه، وممن لا ينتظر أن يحسنوا إليه، وقد كان الشيخ عبد الودود من هؤلاء الذين لم تكن بينهم وبين كمال معاملة، قال كمال: وما له كمال يا عم الشيخ عبد الودود؟! إن كنت لا ترحم اترك رحمة ربنا تنزل. - ألا تعرف ما له كمال؟ شخص ضائع بلا صنعة! - سامحك الله يا شيخ عبد الودود. - لا شأن لك بالله. - ولماذا؟ - لأن الله يحب العاملين ولا يحب المتسكعين الخاملين.
Halaman tidak diketahui
وكاد النقاش يحتدم، وكاد يصل بالشيخ والفتى إلى ما لا تحمد عواقبه، فلم يجد الحاج إبراهيم بدا من أن يصرف كمالا فينصرف بعد أن يقول للحاج إبراهيم: والله لأجل خاطرك يا عم الحاج إبراهيم، لأجل خاطرك فقط.
ينصرف كمال، ويقبل الحاج إبراهيم على الجماعة في إقبال على الحديث، وعلى تصريف الأمور السياسية والاقتصادية.
يترك كمال هذا المجمع الكريم من قادة القرية وزعمائها، معزيا نفسه أن له مجلسا آخر بين قوم آخرين يعرف لنفسه مكانا بينهم، ومهما يكن هذا المكان قاصيا غير كريم إلا أنه - على أية حال - مكان.
3
في أقصى القرية بيت قائم بذاته لا يحيط به سكن، اختار صاحبه مكانه بعيدا عن الناس، ولم يكن اختياره هذا عفوا أو ليفكر في خالق الليل والنهار - كما يطيب له أن يقول - وإنما اختاره خصيصا ليعصي فيه ومنه خالق الليل والنهار، معصية لا يتوقف شرها على مرتكبها، وإنما هو يبيع المعصية لكل راغب فيها، مدمن لها، متكالب عليها.
يملك هذا البيت هلال النمرود، وفي هذا البيت كان يتاجر في المخدرات، وفي هذا البيت تزوج النمرود من سلمى بعد أن أحبها، وقد بنى لها هذا البيت من المكاسب التي سكبتها عليه تجارته.
وقد ظل النمرود يمارس تجارته في بيته هذا بعد زواجه من سلمى، وظلت أمواله تتكدس وتزيد، ولكنه قابض يده فلا يخرج منها إلا ما يبقي له ولزوجه الحياة، وكانت زوجته تحاول جهدها أن تفك يده المغلولة تلك ولكن هيهات، فهو يحافظ على تلك الأموال حتى ينمي تجارته، فقد كانت تجارته تلك حبيبة إلى نفسه؛ فقد أكسبته مالا وزوجة وبيتا، بل أكسبته أيضا اسما؛ فإن اسم النمرود الذي أطلق عليه قد جاءه من تجارته، ومن مهارته في تصريف بضائعه.
لم تستطع سلمى أن تنجب لزوجها بنين أو بنات، فكانت تجارته عنده هي البنين والبنات، فلها وحدها يختزن المال، ولها وحدها يسهر الليالي الطوال ويجوب المخاطر ويغشى الأهوال.
والزوجة قابعة في بيتها فلا مال في يدها ولا ولد لها ولا زوج بجانبها، فسرعان ما زالت عن هلال لهفة الحب الأولى وأصبح لا يرى فيها إلا امرأة عقيما لا عمل لها إلا أن تفتح عليه أبواب الخراب.
وهكذا وجدت سلمى نفسها قد فقدت كل شيء، ولم يبق لها إلا تركة حواء، امرأة، امرأة عطشى إلى الحياة، مشوقة إلى الولد، مهجورة من الزوج، متجردة عن الحياة، والليل طويل والزوج بعيد، والشباب فوار، والذئاب كثير، والبيت منفرد، فخانت.
Halaman tidak diketahui
خانت سلمى زوجها ولم تجهد نفسها في اختيار الرجل، الذي لا تتم الخيانة إلا به، فالبيت في الليل مقصد زوار، والزوار لهذا البيت لا يحتاجون إلى إغراء، فهم يشترون المخدرات، وهي من تبيع لهم، والحديث بينها وبين المشتري سائر لا شك إلى الطريق. وقد كان المشتري يعرض وكانت البائعة تعرض عن كلامه، ولكنها حينما أرادت أن تخون أقبلت، وأصبح المشتري يعلم - وهو يشتري - أنها تبذل له مع المخدر نفسها، وأصبح وهو يشتري البضاعتين يدفع الثمن لكليهما جملة، فتأخذ سلمى ثمن بضاعتها وتحفظ لزوجها ثمن بضاعته.
وظل الأمر كذلك حتى عرض لها ضمن المشترين شاب صغير، لم يقف الأمر بينهما عند البيع والشراء، بل أخذ طريقه إلى الإعجاب، فأصبحت تمنحه بضاعتها بغير ثمن، بل لقد منحته أيضا من بضاعة زوجها دون أن تتقاضاه ثمنها، وإن كانت هي تعطي زوجها ماله كاملا.
وجدت سلمى في هذا الشاب كل ما كانت تفقده ولا تجده، ووجد هو فيها كل ما كان يؤمل فيه؛ فقد كان الفتى يحب أن تكون له زوجة في المساء إن خلا المساء من العمل، ولا يحب أن تكون له زوجة في الصباح مهما يكن صباحه فارغا، إلا أن سلمى كانت تريد لنفسها زوجا دائما لا يريم عنها في صباح أو مساء، فهي تطلب إلى هذا الفتى أن يتزوجها فيقول: كيف، وزوجك؟ - وما شأنك؟ - أيطلقك؟ - وهل لا بد له أن يطلقني حتى تتزوجني أنت؟ - إذن فما معنى طلبك هذا؟ ألا أتزوجك أنا في كل ليلة؟ - معناه أن نعيش معا في الصباح والليل. - وأين يمكن أن نعيش معا؟ - في أي مكان. - نهرب معا إذن! - ولم لا؟ - والله ... - أنت متردد. - لا أرى داعيا لهذا، فنحن هنا مبسوطون والحمد لله، لا ينقصنا شيء. - لا ينقصك أنت. - فما ينقصك أنت؟ - رجل. - ألا يكفيك رجلان؟ - تقصد نفسك وزوجي؟ - ألسنا رجالا؟ - أما هو فلا وجود له على الإطلاق، وأما أنت ... - نعم، وأما أنا ...؟ - وأما أنت فلا تأتي إلا مع الظلام، ولا أراك إلا في نور المصباح الباهت. - وفيم تهمك رؤيتي في نور الصباح؟ - أريد أن أملكك جميعا، أريد كلك، أريد أن أحس بالرجل الوحيد الذي أحببته، أريد نفسي أن تطمئن إلى هذا الركن الذي اخترته لحياتي، أريدك. - وكيف نصل إلى هذا الأمل وأنت زوجة لرجل آخر؟ - زوجة لوهم مضى وحلم تبدد، لا أراه - حين أراه - إلا وهو يعد نقوده، ويسلم بضاعته، أو يتسلمها. - ولكنك على ذمته! - وما يهمك؟ - أخاف أن يتعقبني. - أتخاف أنت ولا أخاف أنا؟ - أنت تريدينني جميعا، وأنا لا أريد منك إلا ما أنال. - أيكفيك هذا مني؟ - وهل هناك أكثر من هذا؟ - نعم هناك. - ماذا؟ - أموال وفلوس، نهرب معا، ونتاجر معا. - وزوجك؟ - ألا تزال خائفا؟ - والله مسألة الفلوس هذه ... - ما لها؟ - عظيمة. - إذن. - متى نهرب؟
وهربت الزوجة مع بضاعتها جميعا من مخدرات وآدميين، وعاد الزوج فوجد البيت خاليا، فخرج يسأل الناس عن زوجته فوجد بلاهة عن الإجابة وخوفا من الإفصاح، وطالعه من وجوه الرجال إشفاق فيه كبر، ومن وجوه النساء بسمة فيها اعتزاز وفيها ألم، ولكنه التقى بالاحتقار من الرجال والنساء جميعا، ومن ضجيج البلاهة والخوف والإشفاق والكبر والعزة والاحتقار عرف النمرود الإجابة، ولم يعد إلى بيته، بل لم يقم في البلدة جميعا وإنما تركها من فوره، ولم يعد إلا بعد ثلاثة أشهر وفي يده جريدة تتحدث عن امرأة قتيل لم تعرف شخصيتها. وراح هو يؤكد أن هذه القتيل هي زوجته، وأما القاتل فقد كان يترك لذكاء سامعه أن يستنتجه.
وهكذا، جعلت هذه الأكذوبة من خزيه فخارا، ومن خجله تبجحا، ومن هربه عن القرية إقامة فيها مطمئنة، يحيط به من كل مكان تملق راجف واحترام مذعور.
عاد النمرود إلى بيته القائم في أقصى القرية، وجعل منه منتدى لأبناء الليل يجتمعون فيه على غابة تغيب بهم عن الوعي.
وكان العمدة على علم بهذا المنتدى، ولكنه يغضي عنه عينا مشغولة بالمأمور والمعاون والرشاوي الصادرة عنه أو الواردة إليه.
وكان منصور الدفراوي كبير مجرمي الناحية هو زعيم المنتدى، يتحلق حوله المعجبون والخائفون من سيرته، والمتملقون الذين يريدون أن يتقنوا فن النفاق ويمرنوا عليه، ولكن هؤلاء جميعا كانوا يلمون بالجلسة فلا يلبثون إلا قليلا ثم ينفضون عنها، وتخلص الجلسة إلى الأربعة الزعماء؛ منصور الدفراوي، وهلال النمرود، والزهار عبد السيد، ونور الكحلة.
أما منصور فهو القاتل المحترف، وأما هلال فهو الزوج الذي انصرفت عنه زوجته والذي ادعى أنه قتلها، وأما الزهار ونور فنحن في طريقنا إلى الالتقاء بهما.
فالزهار فلاح قديم دخل القرعة العسكرية، ولكنه ما لبث أن قضى فترة الخدمة العسكرية في الحبوس؛ فقد تعود منذ كان فلاحا أن يسرق المالك ما أمكنه إلى ذلك سبيل. أما اليوم وقد دخل العسكرية فإنه لم يجد مالكا ليسرقه إلا الحكومة والزملاء، فسرق من كليهما وتعود الحبس، ولم يتعود من العسكرية إلا اللمم؛ فقد تعلم كيف يصيب الهدف، وتعلم كيف يسير في دقة وكيف يميل بالطاقية الصفراء، وكيف يفتح الزر الأول من أزرار الجلباب، وتعلم من العسكرية أنه لن يمسك بالفأس مرة أخرى، وتعلم من العسكرية العجز الكامل عن أي عمل يمكن أن يعهد به إليه، اللهم إلا الوقوف في الطابور. ولما كان الزهار لا يجد طابورا خارج العسكرية، ولما كان لا يجديه نفعا طاقيته المائلة أو زره المفتوح أو مشيته المنتظمة، فإنه لم يجد عملا آخر الأمر إلا السرقة التي كانت عنده - قبل العسكرية وأثناءها - هواية، فجعل منها احترافا وانضم إلى جماعة المخدرات مساعدا للنمرود في تجارته، وعضوا في منتداه، ولكن تابعا وليس متبوعا ينفذ الأوامر ولا يصدرها.
Halaman tidak diketahui
وقد قامت بينه وبين سعدية أم الخير قصة حب، كان هو الطرف الوحيد فيها، فلم تكن الطاقية المنحرفة ولا الزر المفتوح ولا المشية المنتظمة ولا إجادة التصويب، لم يكن شيء من هذا ليغري سعدية به، ولكنه أصر على حبها فلم تبال هي ولا أبوها إصراره، وتزوجت من صالح أبي سعد الله.
وأما نور الكحلة فهو رجل حديث التخرج من سجن المديرية، ولقد سجن في واحدة من جريمتين إحداهما يرويها هو والأخرى ترويها ملفات القضية القابعة في المحكمة، والتي لا يطلع عليها إلا المعنيون بالأمر، أما التي يرويها هو فهي أنه كان يحب فتاة تسكن في جواره بالبندر، وكانت البنت لعوبا تحب أن يعجب الناس بها، وكان هو يرقبها ليل نهار، فحين عرف القوم أنها لا تسير إلا وعينه رقيب عليها، انفضوا عنها وتركوها خشية عيونه الرقيبة وجبروته وعنفه وخشية سطوته وسلطانه؛ فقد كان ساعي الباشا المدير، حتى كان يوم وقعت فيه مشادة بينه وبين ولد تافه يعمل كاتب حسابات في المديرية، فاغتاظ منه الكاتب وأراد أن يفجعه في أعز شيء لديه، فتقدم للجارة يخطبها، فلم يجد نور بدا من أن يطلق الرصاص على الكاتب ولكن الرصاصة أخطأته؛ لأن السلاح كان قديما، فحبس نور، تلك هي رواية نور.
وأما الحقيقة فهي أن نورا كان يعمل ساعيا بمكتب المدير حقا، ولكنه لم يحب فتاة ولم يطلق رصاصا، وإنما سرق حافظة المدير في أول الشهر وعاش المدير شهرا يقترض، ولم يتمكن نور من إخفاء الحافظة بعد أن صرف النقود، فقبض عليه وأودع السجن، وشددت العقوبة، لا لأن الحافظة حافظة المدير، ولكن لأنه ساعي المدير، وكان المفروض أن يكون أمينا على الحافظة لا سارقها.
وعاد نور إلى القرية يعيش على ريع فدان وعشرة قراريط جمع ثمن أغلبها من نفحات القوم في المديرية، تلك التي كانت تعطى له عن كرم، أو تلك التي كان يختلسها اختلاسا كلما غفلت عين صاحب مال عن ماله.
تلك هي الجماعة أكاد أكون قد ألممت بها جميعا لم أترك منها أحدا، وإن كنت قد تركت شيئا لم أذكره فما أظنني قد أسقطت جليلا ولا أغفلت أمرا ذا بال، وهل كانت تلك اليد الدائرة بالمخدر إلا يدا تمتد عن كمية من الهمل تنظر إليها الجماعة أو لا تنظر، فهي بقعة في الأرض لا تزيد، فأسرار الجماعة كلها تدار على مسمع من هذا الشيء، يكادون لهوان شأنه لا يحسون أن معهم خامسا، فجرائم القتل أو السرقة أو تجارة المخدرات جميعا تلقى، ويخيل لأعضاء المنتدى أنها تلقى في الأرض، فما كانوا يحسون أن في وسطهم أذنا تسمع، ألم أقل لك إنهم ما كانوا يحسون بصاحب الأذن جميعا؟ فكيف بأذنه؟!
كان ذلك الشيء هو كمالا، وكان في جلسته تلك يقدم إلى نفسه أمتع ما تتمتع به نفسه، فلم يكن أحب إليه من تلك الجلسة يستمع فيها إلى هؤلاء الجبابرة وهم يروون أفاعيلهم وكيف نجوا منها، ولم يكن كمال غبيا كل الغباء؛ فقد كان باستطاعته أن يعرف الكذب من الصدق فيما يقولون، ولكنه كان يطلق إعجابه الضخم بأعمالهم جميعا ما وقع منها وما لم يقع، وقد كان مديحه شيئا مفروضا في الجلسة، ينتظره كل منهم ولا يجيب عليه، وإنما يستقبله في صمت فرحان، ويمضي فيما كان يقول وكأن أحدا لم يمدح، أو يقاطع، أو يبذل أقصى غايات الجهد ليبلغ بنفاقه إلى أروع الإتقان.
هذه هي الجماعة التي كان ينضم عليها بيت النمرود في كل مساء.
وكان قد مضى على الجماعة عدة أمسيات لم تشرف فيها بجلسة الدفراوي في صدرها، وكانت الجماعة تقول فيما بينها إن لديه مأمورية في بلدة ما.
حتى كان ذلك اليوم فإذا هم يتناقلون فيما بينهم أن الفرماوي قد قتل، فيسأل الكحلة: قتل؟ من قال؟ - أنا كنت في الزمارنة، كنت أبيع بيعة إلى الطحاوي وعرفت أنه قتل. - إذن فالدفراوي نجح في مهمته! - وهل كنت تشك في هذا؟
فقال الزهار في اعتزاز: يد الدفراوي قاعدة لا تخيب أبدا.
Halaman tidak diketahui
فقال كمال: تسلم ويسلم صاحبها البطل. قل لي يا زهار، من منكما أمهر في التصويب أنت أم منصور؟
ويقول الزهار: أظن أنني أمهر؛ لأنني تعلمت التصويب على أصوله في العسكرية.
فقال نور: لا بد أن الدفراوي سيأتي الليلة.
فقال النمرود: حتما، فهو يجيء إلى هنا بعد كل حادثة.
فقال الزهار: ولكن السلاح الذي يحمله في هذه المرة ليس سلاحا رخيصا، وأخشى أن تضطره المحافظة عليه إلى حمله مدة طويلة فيضبط معه.
فقال النمرود: ومن الذي يضبطه معه؟ الحكومة؟! ما أحب إليها أن تتخلص من الفرماوي، والرجل الذي استأجر الدفراوي رجل يحمي رجاله.
فقال نور: لطيف بك حماه الله رجل قليل المثال، ولكن لماذا غضب على الفرماوي؟ ألم يكن من رجاله؟
فقال النمرود: كان، وكان لطيف بك يترك له ريع خمسة أفدنة، فلما قتل له بهجت الدلموني دخله الغرور وراح يطالب لطيفا بعشرة أفدنة، وهدده بأنه سيخبر أهل الدلموني، لطيف بك - طبعا - لم تعجبه الحال، أرسل لصاحبنا دون أن يعلم الفرماوي.
وقبل أن يسأل نور سؤالا آخر دخل منصور الدفراوي جامد الوجه يغطي مشاعره بكثير من الزهو واللامبالاة، واستقبله الأعضاء بكثير من الإكبار والتحايا، وراح كل منهم يهنئه بهذا النصر الجديد الذي أحرزه، ولكن الزهار لم ينس موضوع السلاح، فهو يسأل الدفراوي: كنت في كل مرة ترمي السلاح في الترعة، ولكن سلاحك في هذه المرة من النوع الغالي. - والله لم يهن علي. - فماذا فعلت به؟ - وضعته في التلفيعة وخبأته في المقابر. - وهل قتلت الفرماوي عند الجبانة؟ - والله الرجل كان صيدا سهلا، طلبت إليه أن نخرج لنتمشى قليلا فقال: والله يا منصور لولا أنك أخي ولا أشك فيك أبدا ما خرجت معك، فقلت له لماذا؟ قال الرجل - يعني لطيفا بك - في هذه الأيام يكرمني إكراما غير معقول، طلبت أن يعطيني عشرة أفدنة فأعطاني خمسة عشر، طلبت جاموسة فأحضر لي جاموستين، وأنا عارفه، ويهيأ لي أن المسألة فيها شيء، فقلت له: وماذا فيها؟ ألست رجله وواجب عليه أن يكرمك؟
ودار بيننا الحديث ولم يلتفت إلى الطريق حتى وصلنا إلى الجبانة، فإذا الفرماوي يقول: الله إلى أين يا منصور؟ قلت: إلى هذه. قال: وما معنى مجيئنا للجبانة يا منصور؟ قلت له: كلنا لا بد من مجيئنا إلى الجبانة يا فرماوي، كل إنسان لا بد أن تكون الجبانة آخرته. قال: لا أفهم كلامك. قلت له: أفهمك. وأخرجت المقروطة من تحت الجلباب، حاول أن يمسك بها، كنت أنا قد أطلقت العيارين في قلبه، أراد أن يقول عملتها يا منصور فلم يكمل «منصور» وودع.
Halaman tidak diketahui
فصاح كمال على الفور وكأنما كان يضع الكلمة على شفتيه: «سبع يا ابني سبع والله!» وصاح النمرود: «يا سلام يا ولاد لو ذقتم لذة العيار الخارج من ماسورة بندقيتك لقلب عدوك، يا سلام يا ولاد ... مريح.»
وحينئذ رأى الزهار حشرة سوداء تمر بجانب حذائه فهم بقتلها، فسارع الدفراوي ينهاه قائلا: اتق الله يا شيخ، ماذا عملت لك؟ لماذا تقتلها؟ اقذف بها بعيدا ولا تقتلها.
وتصايح الجالسون إعجابا بشفقة الزعيم الدفراوي.
ولكن نورا لا يزال يختزن أسئلة لم يفرغها فعاد يسأل: ولم يسمع أحد انطلاق البندقية؟
فقال منصور: الطلقات كثيرة في هذه الأيام، فالخفراء يحرسون القطن ويطلقون الأعيرة في الهواء لإخافة اللصوص.
فقال الزهار: والله فلوس ترمى في الهواء، وهل يخاف أولاد الليل من أعيرة الهواء؟!
فقال نور: وأين قضيت ليلة البارحة؟
فقال منصور: قضيتها في دوار عمدة الفرايحة.
فقال النمرود: ونعم الرجل، لا يمكن أن يعترف بشيء أبدا، لا بد أنهم سألوه اليوم.
فقال منصور: إنني قضيت اليوم كله معه.
Halaman tidak diketahui
فقال نور: فأفرج عنك في الحال.
فقال الزهار: إنهم لم يقبضوا عليه.
فقال منصور: بل قبضوا علي.
فسأل النمرود: ولماذا؟
فقال الدفراوي: المباحث سمعت من البلد أنه خرج معي، وحاولت أن أعرف من هذا الذي أخبر المباحث فلم أستطع الاهتداء إليه، ولكني وراءه لن أتركه ابن الكلب، عشنا وشفنا الدفراوي يشي به الناس.
فصاح كمال: جاءك الموت يا تارك الصلاة، إنما قل لي يا أبا الرجال، كيف ستصل إلى المقروطة إذا أحببت أن تصل إليها؟
ولم يشأ منصور أن يجيب كمالا، فقد رأى أنه في هذه اللحظة بالذات أكبر من أن يجيب أي إنسان، فما الخطب إذا كان السائل كمالا؟ ولكن نورا أعجب بسؤال كمال فأعاده على النمرود، فأراد أن يسكت فألح عليه نور بالسؤال، فقال في مزاح قريب كل القرب من الجد: والله يا أولاد الكلب إذا ضاعت المقروطة لألزمن ثلاثتكم بدفع ثمنها. وضحك الجميع في فرح غامر أن منصورا يمزح، ولكن كمالا في هذه المرة لم يضحك فقد كان ملهوفا إلى سماع ما سيقوله منصور، وتكلم منصور أخيرا: طيب سأقدم تعميرة على حسابي لمن يقول بماذا ميزت مكان المقروطة.
واشتد السرور بالجماعة من هذا التبسط، وراح كل منهم يعرض ذكاءه، ولكن منصورا قال في آخر الأمر: كلكم حمير، ألم يتذكر واحد منكم أن أختي مدفونة في جبانة الزمارنة، وضعت المقروطة مع أختي، أختي الحديد مع أختي من أمي وأبي.
وانطلقت ضحكة عالية قوية من هذه المقابلة الرائعة التي افتر عنها ثغر البطل، وفي هذه المرة كانت ضحكة كمال أشد قوة وأعلى ضجيجا من ضحكاتهم جميعا، إنها تحمل الكثير عن صدره، وإنها تبدأ به عهدا جديدا، وإنها أيضا - ولو أن هذا لم يصبح ذا أهمية كبيرة - تتملق البطل القاتل.
4
Halaman tidak diketahui
كان الطريق إلى القرية خاليا لا يسير فيه أحد؛ فقد كانت الساعة الثالثة من عصر يوم حار شديد الحرارة، ولم يكن هذا موعد عودة الفلاحين من الحقل ولا ذهابهم إليه، وكأن الشمس قد وعدت الطريق في يومه هذا أن تريحه من دائسيه ساعات طويلة من النهار، فهي ترسل أشعتها القاسية فتفي بوعدها للطريق، إلا أن الطريق لم ينعم طويلا بهذه الدعة التي هيأتها له الشمس؛ إذ ما لبث أن بدا في أوله شاب طويل القامة يسير في همة توشك أن تصبح لهفة، ولا يلبث هذا الفتى أن يقترب رويدا، فإذا هو متناسق القسمات، قوي الملامح أبيض الوجه، دقيق الفم، وامض العينين، إن رأيته وهو يستقبل الأفق ورأيت هذا الطيف من الابتسامة الذي يترقرق على شفتيه خيل إليك أنه فتى في طريقه إلى هواه، فإن أدركت ذلك فلا تظلم ذكاءك فإنك محق أنه فتى في طريقه إلى هواه.
ليس هذا الفتى غريبا عليك فقد أطلعتك عليه حيرة العمدة حين كان ينتظر المأمور الجديد، وحين كان يفكر في تلك البرقية التي أرسل بها إلى المأمور ليعتذر إليه لمرضه من عدم حضوره جمعية العمد، أذكرت الآن الفتى؟ ما أخالك فعلت، إنه فخري ابن الشيخ حسن، فمن فخري؟ ومن الشيخ حسن؟
الشيخ حسن رجل من وجوه القرية قريب إلى العمدة كل القرب؛ فقد جمعتهما ملاعب الطفولة وفلقة الشيخ في الكتاب، ثم صحن الأزهر في القاهرة، ثم عودتهما دون أن ينالا شهادة، ثم جمعتهما من بعد الحياة في القرية، فكانا يواجهان الشدائد معا حتى تنحسر، فإن هي تركت عليهما بعض آثار امتدت يد كل منهما تمسح عن أخيه أثر الشدة حتى تزول، وكانت هذه اليد تمتد بطبيعة لا أثر فيها لكلفة؛ فكأنما هي تذود عن صاحبها - لا عن صديق صاحبها - شرا وقع أو يوشك أن يقع، وكلما مر بهما الزمان توثق ما بينهما من ود، وكم حاول ذلك الزمان بالأشرار من أبنائه أن يفسد ما بين الصديقين، ولكنها صداقة تأبت على الزمان وأشراره، وصمدت لا تلين.
وهكذا عرف الناس الشيخ حسن على أنه الصديق الأول للعمدة، فإن أراد واحد من أهل القرية أن ينال العمدة بشر احتشم أن يفعل على مسمع من الشيخ حسن، فقد تعودوا منه - إذا فعلوا - شدة في الرد وعنفا في الإجابة.
وكذلك كان الأمر مع العمدة إن حاول محاول أن ينال من الشيخ حسن على مسمع منه، وقد يلين العمدة إن انتقده أحد، وقد يلين الشيخ حسن إن لامه لائم، ولكن واحدا منهما لا يلين ولا يسكت إن ذكر الآخر أمامه بنقد أو لوم.
ولم يكن الشيخ حسن في مثل يسر العمدة، ولكنه كان مستور الحال، له في أرضه ما يسد حاجته. وقد كان الشيخ حسن ذكيا يعرف أن ماله إذا قسم بين ولديه فهما إلى الفقر، فرأى أن يجعل الأرض من نصيب الأكبر والعلم من نصيب الأصغر، وبرر هذا التقسيم لنفسه بأنه سينفق على الأصغر مالا جسيما مما تنتجه الأرض، وهو في إنفاقه هذا إنما يعدو على حق الأكبر في النفقة، فهو لذلك سيعوضه عما فاته بأن يجعل رأس المال كله حقا مباحا له بمجرد أن يتم الأصغر تعليمه.
وقد كان صلاح هو الأكبر وفخري هو الأصغر، وكان فخري هو صاحب العلم في تقسيم أبيه، وهكذا وجد فخري نفسه يقاد إلى المدرسة منذ لا يذكر متى، ومنذ ذلك الحين الذي لا يذكره كان يذهب فخري إلى دوار العمدة مع أبيه حينا أو مع صحابته أو منفردا، وكان يلقى هناك جمعا من الأطفال، وقد اتخذوا من باحة الدوار ملعبا يسع كل ما يعن لأذهانهم الطفلة من ألعاب، فمن كرة تضرب باليد، إلى كرة تلقف، إلى كرة تنتاشها العصي المعقوفة بألوان من الزجر والضرب والإلقاء، إلى جري لا يعرف هدفا، إلى جري هارب من الإمساك، إلى وضع غمامة على عينين، إلى غير ذلك من مراح الطفولة والصبا.
ومنذ ذلك الحين الذي لا يذكره عرف فخري درية، ومنذ ذلك الحين أحب فخري درية، أكان حبا ذاك؟ إنه اليوم يعلم أنه الحب، ولكن أكان إذ ذاك حبا؟ لم يعد يدري! لقد شب هو عن مدرسة القرية وعن باحة الدوار، فوجد نفسه يحب درية حبا لم يفجأه، وإنما وجده معه كما وجد معه عينيه وقلبه، لا يعرف كيف بدأ ولا يذكر متى.
ولكنه يعرف أن هذا الحب عوده أن يكون السابق دائما، فلم يكن يقبل أن تسمع درية عنه أنه تخاذل في ميدان أو سبق في مضمار، فهو في دراسته أول فصله، وهو في احتفالات القرية خير خطبائها، وهو في أبناء البلدة خيرهم، إن تحدث يجهد كل الجهد أن يقتسر المديح اقتسارا، ويجهد كل الجهد أن يأخذ هذا المديح طريقه إلى أذن درية.
لم يعرف عنه أحد أنه انحدر إلى شر، فإن أحدق به الشباب لينزلق به عرف كيف يمنع كل شائبة أن تلحق باسمه إذا ما ذكر اسمه عند درية.
Halaman tidak diketahui
وقد كانت درية تلقاه وقد أحاطت باسمه عندها كل هذه الهالة التي أقامها حول نفسه، فتذكي حبها له بإكبار، وكان الشباب قد حال بين اجتماعهما منفردين بعلم من الآباء والأمهات، ولكن هذا الشباب نفسه مهد لهما اللقاء المختلس في ستار من الليل ووقار من العفة.
كانا يلتقيان في باحة الدوار نفسها هناك تحت شجرة أظلتهما وأظلت حبهما شابين، والليل هاجع والعيون مغمضة إلا أعينهما، والرقيب بمنأى إلا رقيبا أقامه في نفسيهما أمل في الغد والزواج، وماض من الطفولة والملعب يحمل لهما في طواياه أنقى الذكريات.
كان حديثه يدور عن المدرسة ثم عن الكلية، وكان حديثها يدور عن أتراب الباحة من اللاعبين وما صارت إليه أمورهم، فكانت تجد في حديثه الدنيا التي لم تعرف عنها إلا ما تقرؤه فيخيل إليها أن صاحبها أحاط بكل شيء علما، وكان حديثها عنده أعمق من علم كل عالم عرفه أو لم يعرفه.
ثم ينتهي اللقاء بوعد على اللقاء، حتى إذا انتهت الإجازة انتهى اللقاء بوداع تشتبك فيه الأيدي وتتصافح القلوب وتتعانق الأرواح، يفصل بين الجسدين أمل في الغد والزواج، وماض من الطفولة والملعب يحمل لهما في طواياه أنقى الذكريات.
هكذا كان فخري يقضي أمسيات إجازاته، وهكذا استطاع فخري أن يطارد الزمن في تعليمه، فهو في الطليعة الأولى من الناجحين كل عام، حتى بلغ السنة الثالثة في كلية الحقوق وأدى الامتحان وعاد إلى القرية.
وعاد إلى الأمسيات الحالية في باحة العمدة، إلا أن الحديث من درية لم يعد طلقا كما كان، وإنما تمسكه عن الجريان غصة فيه مترددة بين الظهور والاستخفاء، يحيط بها حياء وخوف وإشفاق وهوى. ولم يكن عقله ليدرك هذه المعاني، ولم يكن عقله بمطيق أن يصل إلى منابت تلك الغصة، ولكن قلبه أحسها حين كان كلامها يصل إلى قلبه. كان يجد بالحديث حصى وهو يعرفه صافيا، ويجد به رواسب ألم وهو يعرفه نقيا طلقا مصطفق المجرى حلو الأرانين. - درية؟ - هه. - أنت تخفين شيئا. - نعم. - ولم تخفينه؟ - لا بد أن يختفي. - حتى عني؟ - عنك بالذات. - لعلني أدركه. - ما أظن. - بل إني أدركه. - لا عليك فلنعد إلى حديثنا. - ويل للزمان. - وما فعل الزمان؟ - سرقنا، سرق طفولتك وطفولتي، فما عدنا نحس الأيام وهي تمضي، غفلنا عن الأيام ولم تغفل، أشرفت بك على النضوج وأنا بعد لم أنل تلك الورقة التي تؤكد أنني استويت، وأصبحت لك أهلا. - لا أفهم ما تقصد إليه. - ومتى جاء الخاطب؟ - بل لم يخطبني أحد. - فهناك من يسعى إلى خطبتك. - ولا ذاك. - فما الذي تخافين؟ - خوف. - مم؟ - من الغد. - وما في الغد؟ - ما أخشاه. - وما يدعوك للخشية؟ - حديث أبي. - أبوك! ماذا يقول؟ - يقول ...؟ - نعم. - يقول ... يقول أريد يا درية أن أزوجك من ابن الحلال، وأريده وافر الغنى، وأريد لك بيتا، بل قصرا في القاهرة، ما رأيك يا درية؟ - وبماذا تجيبين؟ - بالصمت. - بالصمت؟! - وماذا يمكن أن أقول؟! - لا، أما أنت فلا تقولي شيئا، إنه أنا من سيقول ... - وماذا تقول؟ - غدا تعرفين.
ويقوم فخري من مجلسه والدموع تتواثب في عينيه، وتنثني درية إلى حجرتها حائرة لا تدري أأصابت أم أخطأت بحديثها.
ويصل فخري إلى منزله فيجد أباه ما زال صاحيا ويجد أمه وأخاه نائمين، فينتهز الفرصة السانحة ويجلس إلى أبيه لا ينطق، حتى يسأله الأب: ما لك يا فخري؟ - لي أمل عندك يا أبي. - فقله. - أريد أن أخطب. - وما له، ما أحب إلي أن أراك متزوجا سعيدا في بيتك، ولكن ألا تنتظر حتى تأخذ الشهادة الكبيرة؟ - ولكن من أريدها لن ينتظر عليها الخطاب حتى أنال الشهادة، وأنا أريد أن أخطب فقط ثم أتزوج عندما أتم تعلمي. - والله يا ابني لا أرى مانعا، ومن هذه الفتاة التي لا ينتظر خطابها؟ - درية بنت العمدة. - نعم من اخترت يا بني إنها فعلا لن تنتظر، الحبيبة بنت الحبيب، نعم الخيرة يا بني. - فمتى تخطبها يا أبي؟ - كما تشاء. - غدا؟ - غدا. - ولكن ...؟ - ماذا؟ - ألا يحسن أن تنتظر حتى تظهر النتيجة، وأنقل إلى السنة الرابعة؟ - وهل في نجاحك شك يا فخري؟ إنك من الأوائل دائما. - ولكن يا أبي عندما أكون في السنة الرابعة أكون قريبا من التخرج، وتكون مناسبة معقولة للخطبة، وأنت تخبر عم الشيخ زيدان بنجاحي. - والله يا ابني كلام معقول. - غدا سأسافر إن شاء الله ولن أعود حتى أعرف النتيجة، وأجيئك بخبر نجاحي إن شاء الله. - وهو كذلك يا ابني على بركة الله.
ويقوم فخري إلى فراشه فيراح إليه يكاد لا يستقر به من فرح غامر راح يتواثب في حنايا قلبه، يحاول أن ينام فتذود عنه النوم تلك السعادة العنيفة التي انتهت بها ليلته، فيدافع القلق عن عينيه بما جرى له في ليلته تلك، فلا يزيده ذلك إلا قلقا، فيقبل على هذا القلق يكاد يعانقه فرحا به هو أيضا، فما عاد يضيق بشيء حتى بتلك العيون المفتحة وخيوط الفجر توشك أن تنسج بردها من الصباح.
ويسافر فخري في أول وسيلة تصل به إلى القاهرة، وتمضي أيام ثم ما يلبث أن يعود إلى هذا الطريق المؤدي إلى قريته فيدوسه بأقدامه، ويكسر بذلك وعد الشمس الذي بذلته للطريق ألا يدوسه أحد في هذا الحر القائظ، ولكن ما لفخري ولهذا الوعد! إنه عائد إلى قريته يحمل في جنبيه أمل حياته ما مضى منها وما هو في مطوي الغيب خبيء.
Halaman tidak diketahui
لقد نجح فخري في الامتحان وهو اليوم عائد لينقل بشراه إلى ... إلى من؟
أيميل إلى درية فيحتال للقائها بكل سبيل ثم يلقي بين يديها نبأ انتصاره؟ أم يقصد من فوره إلى أبيه فيستنهضه إلى العمدة ليخطب درية؟ تكاد الحيرة تقلق الفرح الغامر الذي يتواثب في كيانه جميعا، ولكن قليلا ما تلبث هذه الحيرة؛ فقد انتصرت درية، وهل يمكن إلا أن تنتصر.
دوار العمدة صامت لا صوت به ولا حركة حوله، فالجميع لاجئون إلى سقف يدرأ القيظ عنهم، انفتل فخري إلى باحة الدوار وأجال نظره في مراح الصبا وملتقى الهوى، فما وجد غير تلك الشجرة التي أظلت الطفولة والشباب، والتي يطل عليها الشباك ذو المصراعين الخشبيين اللذين يقفلان على أعواد من الحديد الأسود.
يلجأ فخري إلى ملاذه القديم من ظل الشجرة، وينقر الشباك نقرات لا تكاد تنتظم ولا تكاد تبين، وتطل درية: من؟ فخري هل جئت؟ - نعم. - الدنيا نهار، وللناس عيون! - غبت عنك أياما كثيرة، وعندي أخبار لا تعبأ بالدنيا ولا بالنهار ولا بالناس ولا بالعيون. - خير؟ - نجحت في الامتحان وأصبحت في السنة الرابعة. - والنبي؟ مبروك، مبروك يا فخري. - مبروك لا تكفي. - وماذا تريد؟ - ألا تعرفين معنى نجاحي هذا؟ - معناه أنك أصبحت في السنة الرابعة. - ومعناه أن أبي سيجيئ إلى أبيك. - إلى أبي؟ - نعم. - ولماذا؟ - لماذا؟ ألا تعرفين؟ - أظنني أعرف. - فما لك لا تطيرين من الفرح؟! ما لك لا تكسرين هذا الحديد الذي يحول بيننا؟! أراك واقفة لا تزالين، درية ما لك مطرقة؟! - أخاف يا فخري! - مم؟ - إن أبي يحلم أحلاما كبيرة لا أريدها أن تتحقق، ولكن أخشى أن يرفض اليوم ما نهفو إليه وينقطع ما بيننا، وأفقد حتى الأمل الذي أحيا به. - أبوك يرفض طلب أبي! ألا تعرفين ما بينهما من صداقة؟ - أعرف ولكن أخشى. - فدعي الخشية الآن وافرحي معي. - أرجو أن أفرح. - فافرحي. - الله لنا يا فخري! - يا شيخة لقد أفسدت فرحتي بتفكيرك. - أنت محق يا فخري؛ فالتفكير - على أي لون له - يفسد الأفراح، ولكن لا عليك، اذهب أنت الآن إلى أبيك، ولندع الله أن يحقق آمالنا. - إن الله أرحم من أن يفرق بيننا. - قادر على كل شيء يا فخري. - طيب أشوفك في المساء إن شاء الله. - إن شاء الله.
ويمضي فخري إلى أبيه، وقد تطامنت فرحته بعض الشيء، يفكر في درية وفي صداقة أبيه لأبيها، وفي نجاحه، وفي مديح الناس له وفي المستقبل الذي ينتظره، وفي حبه لدرية وحبها له، فإذا أراد عقله أن يجمح به إلى قلة ماله رد عقله في عنف عن هذا التفكير السخيف، وما المال أمام الصداقة والمديح والمستقبل والحب؟
5
قام كمال من جلسته في بيت النمرود، وقد أحس أن الله أجاب سؤله وحقق رجاءه، ومن عليه أخيرا بما كان منتهى آماله؛ فقد عرف في هذه الليلة أين يحصل على سلاح، وهو يعرف منذ أمد بعيد كيف يستعمل هذا السلاح، ويعرف كل خطوة سيخطوها منذ أن يستعمله، وأراد كمال أن يحتفل بمستقبله الذي رسمه في ظل السلاح الجديد، وإن له لمراسم خاصة لاحتفالاته، تعود أن يقيم هذه المراسم كلما حصل على مبلغ كبير سكبه عليه فرح ثري، أو غفلة من صاحب مال مكنته أن يسرق هذا المال.
وكان احتفاله هذا مقصورا على نفسه، يشاركه فيه جزء آخر من الهمل يسعى في القرية ضالا بلا هدى ولا مأوى إلا الاستجداء والإلحاف في الاستجداء.
كانت «وطنية»، وذلك هو اسمها، هي صديقة كمال، نشأت من المجهول وتسير إلى المجهول، لا يعنيها من طريقها إلا أن تسير، ولا يعني أحدا من أمرها أن تسير أو لا تسير، فهي بنت المجهول، أبوها الليل الدامس وأمها شجرة على الطريق، عثرت بها قابلة القرية في ليلة حالكة السواد، ولولا أن وطنية كانت تصرخ ما أحست بها القابلة في ليلتها تلك ، ولولا أن القابلة كانت عائدة من ميلاد شرعي متعسر ما عاشت وطنية، وكانت البلاد في ذلك الحين واقعة تحت موجة من موجات الوطنية التي يثيرها الزعماء، فرأت القابلة أن تسمي اللقيطة وطنية. وأصبحت وطنية في القرية أكثر شهرة من الوطنية ذاتها؛ فإن القرية لا تجد في كل يوم حادثا مثل هذا يوسع لها مجالات الحديث والتخمين والاستنكار، والتعوذ بالله من الشيطان، واستغفار الله للجاني والجانية، وطلب الستر على العباد الصالحين وغير الصالحين، ولكن إجماع القرية كان منعقدا على أن وطنية من قرية أخرى؛ إذ لا يعقل أن تحمل فتاة من القرية دون أن ترى القرية حملها، وفتيات القرية غاديات رائحات على الملأ لا يتخفين.
وهكذا ظهرت وطنية في القرية من ثنايا قصة خزي وعار، وأكد الناس أنها غريبة من القرية، فأصبحت تجمع إلى ذل العار انكسار الغريب، وفي وسط هذه الأمواج المتزاحمة من الهوان شبت وطنية تضارع بقبح وجهها قبح مكانتها في القرية، وكأنما رفضت الطبيعة أن تهب لها شيئا تتعزى به؛ فهي عجفاء بلا قوام على الإطلاق، ينتهي جسمها من أعلى بكمية من الشعر الأسود القوي يتأبى على كل منديل يحاول أن يلم شعثه، تعقبه إلى أسفل جبهة ضيقة، فعينان صغيرتان تحيط بهما مرتفعات ضخمة، لا بد لك أن تنعم فيها النظر حتى تتبين خلالها أنف وطنية الأفطس، وما إن تتبينه حتى تقف حائرا كل الحيرة، باحثا عن المكان الذي يمكن أن يدخل منه الهواء أو يخرج إلى ومن جسم وطنية. ثم ما تلبث أن تفيق من هذه الحيرة حين يروعك فمها، فإنك حينئذ ستدرك أن هذا الفم لا يمكن أن يمنع الهواء داخلا أو خارجا، فهو من السعة بحيث يحتاج إلى قوة عنيفة لتمسك به مقفلا يذود الهواء او أي شيء أن يدخل أو يخرج منه، فإن استطعت أن تحول عينيك عن الفم وتنحدر بهما إلى أسفل الوجه، وجدت ذقنا يحاول جاهدا أن يخفي ما اتسع من الفم، فهو صغير جميل، يفضي إلى رقبة معتدلة، وإن كانت - من شدة هزل وطنية - تكاد تحسبها امتدادا لجسمها، أو تكاد تحسب جسمها امتدادا لتلك الرقبة.
Halaman tidak diketahui
تلك كانت وطنية التي شبت في بيت قابلة القرية، وقد كانت القابلة ترى في عطفها على وطنية أمرا يزيد من عطف القرية عليها، ويجعل لها العذر إذا هي طلبت الجدوى أن تطالب بحق اللقيطة التي تقوم على تربيتها، وكانت لا تعدم بين الأثرياء من يمد لها يدا سخية، وهكذا أصبحت وطنية - وهي النقمة على نفسها - نعمة على القابلة التي تقوم بشأنها.
ولكن الطبيعة أبت أن تبقي لوطنية هذا الملجأ الذي كانت تتوارى فيه من خزيها وغربتها؛ فقد ماتت القابلة ولم تترك وراءها شيئا، فقد شاءت - غفر الله لها - أن تحج، فأخذت كل مال مدخر لديها، وباعت كل ما عندها من حلي، وسافرت للحج وأعجبها الحجاز فماتت هناك، وخلفت بالقرية بيتا متداعيا ليس فيه إلا وطنية.
ولم تكن وطنية قد أخذت عن القابلة صناعتها؛ فإنها حين بلغت السن التي يمكنها فيها أن تتعلم شيئا كانت القابلة قد بلغت السن التي لا يمكنها فيها أن تعلم شيئا، فقد كانت - رحمها الله - في سنينها الأخيرة راعشة اليدين بطيئة الحركة، حتى لقد انفضت عنها المشرفات على الولادة، ولم تبق لها إلا العوائد التي كانت تستجديها من الأغنياء.
وهكذا أصبحت وطنية وحيدة لا معين لها ولا عائل، إلا يد تمتد وفم يستجدي.
وعلى هذا الطريق من الاستجداء اتصلت أسباب وطنية بكمال.
فكمال لا يجد حانيا عليه إلا وطنية، ووطنية لم تجد رجلا إلا كمالا، فاتصلت الحاجات وتعارف الشريدان، وأصبحت مراسم الاحتفال عند كمال أن يقضي لدى وطنية ليلة يصيب فيها طعاما يشتريه هو وتطبخه هي، ثم يبيت عندها ليلة ويخرج قبل الفجر، فلا يحس أحد الطبخ أو المبيت.
وهكذا خرج كمال من بيت النمرود وقد حزم أمره على أن يحتفل الليلة بمستقبله الباسم.
كان الوقت صيفا والفلاحون في الصيف يسمرون إلى عميق الليل، فخرج كمال قاصدا إلى منزل عبد العزيز الجزار فوجده يدخل منزله بعد أن قضى سهرته مع إخوانه، فاشترى منه رطلين من لحم الذبيحة التي ذبحها في نهاره هذا، وكان عبد العزيز قد تعود أن يبيعه رطلا بين حين وآخر فلم يدهش كثيرا لزيادة الكمية، ولم يدهش مطلقا أنه جاء للشراء في هذا الوقت المتأخر من الليل، فقد تعود أن يبيعه - كلما باعه - في مثل هذا الموعد، ووضع كمال اللحم في جيبه، وذهب إلى جنينة العمدة، فوجد عبد الله حارس الجنينة مشعلا نارا يصنع عليها قهوة، فاشترى منه بطاطس وطماطم وكل ما لا بد من شرائه للاحتفال، وقصد بحمله تحت ستار الليل إلى بيت القابلة سابقا وبيت وطنية حاليا، وطرق الباب. - من؟ - افتحي يا بنت الكلب.
وفتحت وطنية الباب هنيهة تسرب فيها كمال إلى داخل المنزل، ثم أقفلت الباب وراحت تنظر إلى ما يحمله كمال. - خير، أين كنت طول هذه المدة؟ - وما شأنك أنت؟ انظري أحضرت لك اليوم رطلين لحمة من أحسن صنف. - رطلين يا ابن الكلب؟ لا بد أنك قتلت قتيلا! - لا، لم أقتل بعد. - وهل ستقتل؟ - والله، الله أعلم. - ماذا تعني؟ - ما لك أنت بما أعني وما لا أعني؟ هيا اطبخي لنا هذا الطعام فإني أريدها ليلة نذكرها طول العمر. - ولماذا نذكرها؟ -؛ لأننا غدا سنصبح أغنياء. - أغنياء! من؟ أنت؟ - نعم أنا. - أنت يا ابن الضائعة؟ - اخرسي يا بنت. - أنت ... أغنياء ... ولماذا؟ وهل عمي الغنى حتى يجيئك أنت؟ ألم يعد يجد أحدا إلا أنت؟ - وما لي أنا يا بنت؟ والله إني مجهول في بلد الكلاب هذه، ولكن لا بأس غدا تعرفني البلدة وتعرف قيمتي. - وما قيمتك؟ أنا والله أعرف قيمتك كل المعرفة، ضائع ابن ضائع، لا خير فيك ولا منك. - غدا حين ترين المال في يدي تعرفين قيمتي. - والله يا ابن الملاعين لو جاء المال إلى يدك ما نظرت إلي ولا عرفتني. - لماذا يا وطنية؟ - يا ابني أنا بنت حرام، أتظن كلامك ينطلي علي؟!
أنا أعلم أني لست جميلة، وأنك لا تأتيني إلا لأنك لا تجد غيري. - لا والله يا وطنية، الله أعلم. - فلماذا لا تتزوجني؟ - ولم لا ؟ نتزوج إن شاء الله. - يا أخي هيه ... النهاية.
Halaman tidak diketahui