وكان «هملت» قد قطع في طريقه إلى غرضه شوطا لا يستطيع معه أن يقف عند ما وصل إليه، وكان الآن في حالة عقلية يستطيع فيها أن يفصح عما في قلبه لوالدته، فواصل حديثه إلى غايته. نعم، إن الأبناء يجب ألا يغلظوا القول لآبائهم إذا ما حدثوهم عن أخطائهم، لكنه لا حرج على الابن أن يخاطب أمه نفسها بشيء من الغلظة إذا ما ارتكبت جريمة شنيعة. وكان غرضه من هذه الغلظة إصلاح حالها لا تأنيبها فحسب؛ ولذلك أخذ هذ الأمير الطاهر يصف لأمه بعبارات قوية مؤثرة ما ارتكبته من جرم شنيع بنسيانها ذكرى أبيه المليك الميت، وزواجها بعد موته بقليل بأخيه الذي اشتهر بين الناس بأنه قاتله، وقال: إن هذه الفعلة التي فعلتها بعد الأيمان المغلظة التي أقسمتها بأن تكون وفية لزوجها الأول تكفي وحدها لأن تزعزع ثقة الناس بأيمان جميع النساء، وتحملهم على أن يعدوا الفضائل كلها كذبا ونفاقا، وعقود الزواج أقل شأنا من أيمان اللاعبين، والدين نفسه لهوا ولعبا وألفاظا تلوكها الألسنة. وكان مما قاله لها: إنها قد فعلت فعلة تنفطر منها السماوات وتنشق الأرض، ثم أخرج لها صورتين إحداهما للملك المتوفى زوجها الأول، والأخرى لزوجها الثاني الملك الحالي، وطلب إليها أن تتأمل ما بين الصورتين من فوارق. لقد كان لأبيه وجه سمح جميل كوجه الملائكة الأبرار، وكانت له غدائر كغدائر «أبوللو» (Apollo)
وجبهة كجبهة «جوبيتر» (Jupiter) ، وعينان كعيني «المريخ» (Mars) ، وكان إذا جلس كأنه «عطارد» نزل حديثا على جبل شامخ يناطح السماء، وقال لها: إن هذا هو الرجل الذي كان لها زوجا. ثم أراها صورة الرجل الذي تزوجت به بعده وقال: إنه رجل سقيم، بل هو السقام مجسم؛ لأنه أصاب أخاه السليم. وخجلت الملكة أشد الخجل حين كشف لها عن خبيئة نفسها، وأدركت ما هي عليه من ضلال وفساد، وسألها كيف تستطيع أن تعيش بعد الآن مع هذا الرجل، وتكون زوجة لمن قتل بيده زوجها الأول وأخذ منه التاج أخذ اللصوص. وبينا هو في حديثه إذ دخل الحجرة طيف أبيه في صورته التي كان عليها أيام حياته والتي رآه عليها من قبل، وسأله «هملت» في رعب شديد عما يريد، وقال الطيف: إنه جاء ليذكره بالثأر الذي عاهده عليه، والذي يلوح أنه نسيه، وطلب إليه أن يحدث أمه لئلا يقضي الحزن والرعب على حياتها. ثم اختفى ولم يره أحد غير«هملت»، وإن كان قد أشار إلى أمه إلى موضعه ووصفه لها، ولكنها لم تره وظنت أن «هملت» يحدث نفسه، فاستولى عليها الرعب وعزت ما تشاهده منه إلى اضطراب عقله. ولكن «هملت» طلب إليها ألا تحسن الظن بنفسها الخبيثة، فتحسب أن السبب الذي جاء بروح أبيه إلى هذه الأرض هو جنون ولدها لا شناعة جرمها، ورغب إليها أن تجس نبضه لتعرف أن قلبه يدق دقا منتظما لا كما تدق قلوب المجانين. ثم رجاها والدمع يفيض من عينيه أن تستغفر لذنبها وتندم على ما فات، وأن تتجنب في مستقبل أيامها صحبة الملك فلا تكون له كما تكون الأزواج، فإذا ما فعلت ذلك حفظت عهد أبيه وأظهرت أنها أم له حقا، طلب إليها عندئذ أن تدعو له بخير كما يطلب الأبناء دعاء أمهاتهم لهم، وعاهدته أمه على أن تطيع أمره وانتهى اجتماعها به.
وكان في وسع «هملت» وقتئذ أن يتبين من هو الشخص الذي قضى على حياته باندفاعه وتهوره المشؤوم، فلما رأى أنه قد قتل «بولونيوس» والد محبوبته «أوفيليا» نقل الجثة من مكانها، وكانت نفسه قد هدأت قليلا فأخذ يبكي حسرة على ما فعل.
واتخذ الملك هذا الحدث المشؤوم - وهومقتل «بولونيوس» - حجة تذرع بها لإخراج «هملت» من المملكة، وكان يود لو استطاع أن يقتله؛ لأنه يرى في وجوده خطرا عليه، ولكنه كان يخشى الشعب الذي يحب «هملت»، ويخشى الملكة التي كانت على الرغم من أخطائها مولعة بولدها الأمير، ولذلك أمر هذا الملك الماكر أن يحمل «هملت» على ظهر سفينة مسافرة إلى «إنجلترا» بحجة إنقاذه من تبعة قتل «بولونيوس»، وعهد بحراسته إلى رجلين من حاشيته، وأرسل معهما رسائل إلى بلاط «إنجلترا» التي كانت في ذلك الوقت خاضعة لمملكة ال «دانمرك» تؤدي لها الجزية، وطلب في هذه الرسائل أن يقتل «هملت» عندما تطأ قدماه أرض تلك البلاد لأسباب خاصة مختلفة ادعاها في رسائله. وارتاب «هملت» في الأمر وظن فيه غدرا، فحصل على الرسائل في أثناء الليل بطريقة خفية، واستطاع بمهارته أن يمحو منها اسمه ويضع بدله اسمي الرجلين اللذين كانا يرافقانه في رحلته، ثم ختم الرسائل كما كانت وأعادها إلى موضعها. وبعد أن سارت السفينة قليلا هجم عليها جماعة من لصوص البحار، ونشبت بينها وبينهم معركة بحرية، أراد «هملت» أن يبرهن فيها على شجاعته وشدة بأسه فهجم بمفرده على سفينة الأعداء وترك سفينته تفر من القتال فرار الجبان. وتركه الحارسان تتصرف فيه الأقدار واتخذا طريقهما في البحر إلى «إنجلترا»، سالكين إليها خير سبيل يستطيعان سلوكه، ومعهما الرسائل التي بدل «هملت» معناها فأوقعهما في شر أعمالهما. ووقع «هملت» أسيرا في يد اللصوص ولكنهم كانوا أعداء رحيمين، وعرفوا أسيرهم فأنزلوه إلى البر عند أقرب ثغر من ثغور ال «دانمرك»، لعل الأمير يستطيع أن يجيزهم على حسن صنيعهم بأن يشفع لهم عند الملك. وكتب «هملت» من مكانه رسالة إلى الملك، قص عليه فيها ما وقع له من الحادثات الغريبة التى عاد بسببها إلى بلاده، وأبلغه أنه سوف يمثل بين يدي جلالته غدا، فلما جاء وقعت عيناه أول ما وقعت على منظر أحزنه أشد الحزن.
وكان المنظر الذي رآه جنازة «أوفيليا» الفتاة الحسناء التي كان من قبل يهيم بحبها، وكان سبب موت هذه الفتاة أن موازين عقلها بدأت تختل بعد موت أبيها، فقد أثر في قلب هذه الفتاة الرقيق أن يغتال أبوها وأن يغتاله الأمير الذي تحبه، فلم يمض على موته إلا قليل من الوقت حتى ذهب عقلها كله، وأخذت تطوف الطرقات تقدم الأزهار إلى سيدات البلاط، وتقول لهن: إنها أعدت تلك الأزهار لجنازة أبيها. ثم تنشد أناشيد الحب تارة وألحان الموت مرة أخرى، ومنها ما ليس له معنى على الإطلاق، كأنها لا تذكر شيئا مما أصابها. وكانت هناك صفصافة تنمو مائلة على ضفة غدير، وتنعكس صورة أوراقها على صفحة الماء، فجاءت يوما إلى هذا الغدير حين غفلت عنها أعين الرقباء تحمل تيجانا صنعتها بيدها من خليط من الأقحوان والقريض والزهر والعشب، وتسلقت الصفصافة لتعلق تاجها على أغصانها، فانكسر الغصن وهوت الفتاة الحسناء هي والتاج وكل ما جمعته من الأزهار في مياه الغدير.
وحملتها ملابسها فوق الماء برهة من الزمن وأخذت تغني في أثنائها قطعا من ألحان قديمة كأنها لا تعي ما حل بها، أو كأنها من الخلائق التي تعيش في الماء. ولكنها لم تلبث إلا قليلا حتى امتلأت ملابسها ماء فثقلت وجذبتها إلى قاع الغدير، فقطعت عليها غناءها وماتت في الطين أشنع ميتة. وكانت جنازة هذه الفتاة الحسناء، هي التى يشيعها أخوها «لايرتس» (Laertes)
ويحضرها الملك والملكة وحاشيتهما حين أقبل «هملت» على المدينة.
ولم يدر «هملت» شيئا مما حدث، فوقف على جانب الطريق حتى لا يقطع على المحتفلين احتفالهم. ورأى الأزهار تنثر على القبر كما يفعل الناس عندما يدفنون الفتيات الأبكار، ونثرت الملكة هذه الأزهار بيدها وقالت وهي تنثرها: «إن الحسان تهدى إليهن أحسن الأشياء، لقد كنت أظن أيتها الغانية أني سأزين سرير عرسك، فإذا بي أنثر الأزهار على قبرك، أنت يا من كنت أرجو أن تكوني زوجة لولدي «هملت».
وسمع «هملت» أخاها يدعو ربه أن ينبت البنفسج على قبرها، ورآه يقفز مهتاجا إلى القبر وقد ذهب الحزن بعقله، ويأمر الخدم أن يهيلوا عليه جبالا من الثرى حتى يدفن معها. وعاد حب الفتاة الحسناء إلى قلبه ولم يطق أن يرى أخا يظهر من الحزن ما أظهره هذا الأخ؛ لأنه كان يظن أن حبه ل «أوفيليا» يعدل حب أربعين ألفا من الإخوة. وعندئذ أظهر «هملت» نفسه وقفز إلى القبر وراء «لايرتس»، وكأنه مجنون مثله أو أشد منه جنونا. وعرف «لايرتس» أنه «هملت» الذي يحمل وزر قتل أبيه وأخته، فقبض قبضة العدو الألد على عنقه، ولم يتركه حتى فرق بينهما الخدم. ولما فرغوا من تشييع الجنازة اعتذر «هملت» عن طيشه وتسرعه في إلقاء نفسه في القبر، كأنه يريد قتال «لايرتس»، وقال: إنه لم يطق أن يرى أحدا من الخلق أشد منه حزنا على «أوفيليا». وظن الناس حينا من الدهر أن العداوة قد زالت من قلب هذين الشابين النبيلين.
ولكن الملك الأثيم عم «هملت» أراد أن يتخذ من غضب «لايرتس» وحزنه على أبيه وأخته سببا يستعين به على هلاك الأمير، وأخذ يحرض «لايرتس» على أن يتذرع بما تم بينهما من صلح فيدعو «هملت» إلى مباراة ودية يظهران فيها براعتهما في المبارزة بالسيف. وقبل «هملت» الدعوة، وحدد يوم المباراة، وشهده جميع رجال البلاط وأعد «لايرتس» بأمر الملك سيفا مسموما، وتراهن رجال الحاشية بمبالغ طائلة؛ لأنهم كانوا يعرفون براعة «هملت» و«لايرتس» في المبارزة، وأخذ «هملت» السيوف القلفاء واختار واحدا منها دون أن يرتاب في أمر «لايرتس» أو يعنى بتفقد سيفه الذي لم يكن أقلف مثلها كما تقضي بذلك شريعة المبارزة، بل كان حادا مسموما.
Halaman tidak diketahui