ورأى «هملت» هذا فقال في نفسه إنه إذا كان في وسع هذا الممثل أن يظهر هذا الانفعال الشديد وهو يلقي خطابا موضوعا، فيبكي من فرط حزنه على سيدة لم تقع عليها عينه - على «هكيبا» التي مضى على موتها مئات السنين - إذا كان في وسع الممثل أن يفعل هذا فما باله هو يبقى خاملا بليدا، ولديه من الأسباب الحقة ما يثيره ويلهب نفسه؟ لديه ملك حق وأب عزيز قد قتل
غيلة ولم يتأثر هو بذلك إلا قليلا، وقد ظل غله خامدا ونسي ثأر أبيه حتى ليكاد دمه يذهب هدرا.
وبينا هو يفكر في التمثيل والممثلين والأثر الذي تتركه في النظارة رواية جيدة الوضع متقنة التمثيل، تذكر قصة قاتل رأى في يوم من الأيام مقتلا يمثل على المسرح فتأثر من إتقان التمثيل وانطباقه على الحقيقة، فلم يسعه إلا أن يقر من فوره بجرمه. واعتزم «هملت» أن يدعو الممثلين أن يمثلوا أمام عمه رواية شبيهة بمقتل أبيه، وأن يراقب هو عمه عن كثب ليرى ما يحدثه التمثيل من الأثر في نفسه، فيعرف عن يقين من ملامح وجهه أكان هو قاتل أبيه أم لم يكن. وأمر أن توضع لذلك رواية، ودعا إلى مشاهدة تمثيلها الملك والملكة.
وكان موضوع الرواية جريمة قتل ارتكبت في «ويانة»، وذهب ضحيتها الدوق. وكان اسم هذا الدوق «جنزاجو» (Gonzago)
واسم زوجته «ببتستة» (Baptista) ، وقد اغتيل الدوق في حديقته مسموما بيد أحد أقربائه الأدنين المسمى «لوسيانوس» (Lucianus)
طمعا في أملاكه، وبعد زمن قليل من موته أحبت القاتل زوجة الدوق «جنزاجو».
وشهد الملك تمثيل الرواية وهو لا يعلم بالشرك الذي نصب له، وشهدتها معه الملكة وحاشية القصر كلها، وجلس «هملت» إلى جانب الملك ليرقب منظره. وبدأت الرواية بحديث بين «جنزاجو» وزوجته أعربت فيه الزوجة عما تكنه لزوجها من حب خالص، وعن اعتزامها ألا تتخذ لها زوجا غيره إذا ما عاشت بعده، واستنزلت على نفسها اللعنات إذا ما فعلت غير هذا، وقالت: «إن اللاتي يتزوجن بعد موت أزواجهن هن اللاتي يقتلن بعولتهن الأولين». وشاهد «هملت» عمه الملك يمتقع لونه عندما سمع هذه العبارة ورأى أنها كان لها أسوأ الوقع في نفسه ونفس الملكة، فلما أن هم «لوسيانوس» أن يسم «جنزاجو» وهو نائم في حديقة قصره، ورأى الملك شبها شديدا بين هذا العمل وبين الجرم الذي ارتكبه هو حين سم أخاه الملك السابق في حديقته، فآلم ذلك ضميره ولم يقو على البقاء إلى آخر الرواية، بل طلب على حين غفلة أن تضاء الأنوار، وتظاهر بأنه قد أصابته فجأة نوبة من المرض، أو لعله قد شعر ببعض المرض حقيقة، فترك التمثيل مسرعا، ولما غادر الملك المكان لم يتم الممثلون الرواية، وكان فيما رآه «هملت» بعينه ما يكفي لإقناعه بأن ما حدثه به الطيف حقيقة لا وهم، وابتهج كما يبتهج الرجل إذا رفع عنه وزر كان ينقض ظهره، أو أيقن بأمر كان يشك فيه، وأقسم لصديقه «هوراشيو» أنه يراهن بألف جنيه على أن ما حدث به الطيف حق لا مراء فيه. ولكنه قبل أن يضع الخطة التي يتبعها للأخذ بثأره بعد أن ثبت له أن عمه هو الذي قتل أباه، بعثت إليه والدته تدعوه لتتحدث إليه حديثا خاصا في مخدعها.
وكان طلبها له إجابة لرغبة الملك، فقد أراد أن تنبه الأم ولدها إلى أن تصرفه الأخير قد أغضبهما جميعا، وأراد الملك أن يعرف كل ما يدور بينهما من الحديث، وظن أن عاطفة الأمومة قد تغري الملكة بالتحيز لولدها فتخفي عن الملك بعض ما يهمه أن يعرفه من أقوال «هملت»، فأمر «بولونيوس» مستشار الدولة الكبير أن يقف خلف الستائر في مخدع الملكة ليسمع ما يدور بينهما من غير أن يراه أحد. وكان هذا الاحتيال مما يلائم طبع «بولونيوس» كل الملاءمة، فقد قضى هذا الرجل عمره منغمسا في أساليب السياسة ومبادئها الملتوية، وكان يسره أن يعرف الأشياء بطريق الاحتيال المعوج البعيد.
وجاء «هملت» إلى والدته فشرعت تعنفه بأقسى الألفاظ على تصرفاته وأعماله، وقالت له: إنه قد أغضب أباه كثيرا - تريد بذلك أنه أغضب عمه الملك الذي سمته أباه لأنه تزوج بها. واغتاظ «هملت» أشد الغيظ حين سمع أمه تدعو هذا النذل، الذي لا يعرف عنه أكثر من أنه قاتل أبيه الحق، بهذا الاسم الكريم المحبب إليه، فأجابها في شيء من الحدة: أمى، لقد أسأت أنت كثيرا إلى أبي. فقالت له أمه: إن هذا رد سخيف. فأجابها بقوله: إنه خير رد يستحقه السؤال. وسألته أمه هل نسي من هي التي يحدثها؟ فأجابها بقوله: ليتني أستطيع أن أنسى أنك الملكة التي تزوجت بأخي زوجها، وأنك أمي. ألا ليتك كنت غير ما أنت. فقالت له: إذا كان هذا مبلغ احترامك لي، فسأدعو من يستطيعون أن يتحدثوا إليك.
وهمت أن ترسل في طلب الملك أو «بولونيوس». ولكن «هملت» وقد سنحت له فرصة الاجتماع بها منفردا لم ير أن يتركها تفلت من يده حتى يحاول أن يشعرها بما في حياتها من إثم، فقبض على معصمها قبضة قوية، وأرغمها على الجلوس، وارتاعت الملكة لما شاهدته عليه من مظاهر الجد. وخشيت أن يدفعه جنونه إلى إيذائها، فصرخت صرخة عالية، وسمع من وراء الستار صوت ينادي: «وا غوثاه! أدركوا الملكة». وسمع «هملت» هذا الصوت فظنه صوت الملك نفسه مختبئا وراء الستار، فاستل سيفه وأخذ يطعن به المكان الذي جاء منه كأنه يطعن فأرا يجري فيه، وما زال يوالي الطعن حتى انقطع الصوت وظن أن صاحبه قد مات. فلما أخذ بعدئذ يقلب جسم القتيل لم يجده الملك بل وجده الشيخ «بولونيوس» المستشار المتطفل الذي وقف يتجسس عليه من وراء الستار. وصرخت الملكة قائلة: وا حسرتاه! أي جرم شنيع قد ارتكبت بطيشك. فأجابها «هملت»: حقا، إنه لجرم شنيع يا أماه، ولكنه لم يبلغ ما بلغه جرمك أنت التي قتلت ملكا وتزوجت بأخيه!
Halaman tidak diketahui