وفي مقابل ذلك جعلت له من بيته مستقر رحمة ومودة، وأنجبت له صدرية وعامر ومطرية وسميرة وحبيبة وحامد وقاسم. وكان عمرو - بخلاف سرور - فخورا بأهله، بسراي ميدان خيرت وفيلا شارع السرايات والأراضي والأملاك والرتب؛ ولذلك حظي بيته بعطف الجميع، وطاف به الحنطور تلو الحنطور، يحمل إليه أعيان بني سويف وهوانمهم وآل داود وهوانمهم، يجلسون حول طبليته، ويغمرونه بالهدايا، ويستمعون إلى نوادر راضية وتراثها منوهين ببطولة أبيها بطل الثورة العرابية. وتلك المودة العميقة هي التي فتحت باب المصاهرة إلى آل عطا وآل داود فزادت منزلته رفعة وقوة، وأثارت من سوء التفاهم بينه وبين سرور ما كان خليقا بأن يفسد العلاقة بينهما لولا متانة الأساس وعمق الذكريات. وطالما قال سرور بحسرة: لو ماتت هدى الألوزي قبل عطا المراكيبي لكنا من الوارثين!
فيقول: لا اعتراض على المشيئة الإلهية.
تغلب على تلك الوخزة بسماحة إيمانه، وكان دأبه إذا ناوشته نقمة أن يذكر نفسه بالنعم الكثيرة المتاحة كالصحة والأولاد. أجل تفجر غضبه يوم وأد آل داود ميل لطفي لمطرية وترك راضية تهدر قاذفة لعناتها وقال لنفسه: صدق من قال إن الأقارب عقارب!
ولكنها كانت غمامة ما لبثت أن تلاشت تحت أشعة شمس دائمة واتسع قلبه أيضا للعواطف الوطنية. فاته أن يشارك أباه خيبته لنكسة الثورة العرابية، ولكنه كثيرا ما رأى جنود الاحتلال وهم يطوفون بالحي العتيق كالسائحين. وأفعم وجدانه فيما بعد بكلمات مصطفى كامل ومحمد فريد، ثم بلغ قمة انفعاله في ثورة 1919، وعشق زعيمها، واشترك في إضراب الموظفين، وحافظ على ولائه للزعيم رغم انشقاق أهله العظام محمود وأحمد وعبد العظيم عليه. وتابع خليفة الزعيم - مصطفى النحاس - بكل وجدانه، ووزع الشربات يوم عقد المعاهدة. وأيد الزعيم بقلبه ضد الملك الجديد، وغضب مع الغاضبين لإقالته من الحكم رغم أنه كان يعاني ضعف القلب الذي أودى به بعد ذلك بقليل، وقد تحمل عبء الأولاد وهم في رعايته، وشارك في همومهم بعد أن استقل كل ببيته. وكان يقول: نحن نحلم بالراحة دائما ولكن لا راحة مع الحياة.
ثم يلوذ بإيمانه تاركا الخلق للخالق. وكم ناط بقاسم من آمال، وماذا كان المصير؟! ولما أحيل إلى المعاش غشيته وحشة لم يكن يفيق منها أبدا، ثم دهمه مرض القلب من حيث لم يحتسب فحدد حركته ومسراته الحميمة وغاص به إلى قعر الكآبة. وذات مساء وهو جالس في الكلوب المصري أغمي عليه، فحمل إلى فراشه في حال احتضار، وأسلم الروح قبيل الفجر على صدر راضية.
حرف الغين
غسان عبد العظيم داود
ولد ونشأ في فيلا شارع السرايات وهو الثاني في ذرية عبد العظيم باشا داود. ولعله الوحيد من أبناء عبد العظيم باشا الذي لم يقتبس من رواء أمه فريدة هانم حسام شيئا. كان مائلا للقصر، نحيفا، غامق السمرة، متجهم الوجه غالبا، وغالبا يحمل طابع المتقزز كأن ليمونة تعصر في فيه! وكأنما خلق ليشمئز من الدنيا ومن عليها، فهو في الفيلا منفرد بنفسه في حجرته، أو يتمشى في الشوارع الشرقية الصامتة تحت ظل أشجارها الفارعة، أو يتوغل في الصحراء الخالية، لم يعرف له صديق واحد من الجيران، ولا نمت بينه وبين أخويه لطفي وحليم أو حتى فهيمة وعفت وشيجة أخوية، وفي المرات النادرة التي لاعب فيها أخاه حليم سواء في حديقة الفيلا أم في الشارع انتهت بسوء تفاهم وخصام، وختمت مرة بمشاجرة هزم فيها رغم أنه الأكبر. واصطحبه أبوه معه لزيارة أهله خاصة آل عمرو، ودعي مرة مع الأسرة إلى سراي آل عطا بميدان خيرت، فكان يشاهد بعينيه ولا يكاد ينبس بكلمة ولم يفز بصديق واحد. وأطلقوا عليه «عدو البشر»، وتهكموا بوجهه الصامت المشمئز، وعوده النحيل، ونفوره الدائم، وكبريائه المتوحد. أجل كانت عيناه تعكسان شعاع النهم وهما تنظران إلى البنات الجميلات من قريباته، ولكنه لم يصل النظرة بابتسامة ولا بأي إشارة. ويقول له أبوه: يجب أن تخرج من عزلتك.
فيقول بنبرة قاطعة: إني أعرف أين توجد راحتي ولا أهمية لشيء وراء ذلك. - وماذا تفعل في حجرتك المغلقة؟ - أسمع أسطوانات ... أو أقرأ.
ولكنه لم يكشف عن أي موهبة ذوقية أو فكرية. وقد تابع رؤية أبيه السياسية ربما لأنها وافقت تعاليه واحتقاره الطبيعي للعامة، واعتبر المطالب الوطنية والزعامة الشعبية ألوانا من التهريج المبتذل. ولم يغب عن حاسته تدني صورته الكئيبة بين صور أسرته الرائقة، وتحدى عزة نفسه قدر من الغباء أعجزه عن بلوغ التفوق الجدير في نظره بمركزه الاجتماعي وكبريائه الطبقي. وقد قسا على نفسه وكلفها من الاجتهاد ما لا تطيق، وسهر الليالي في المذاكرة فلم يظفر إلا بالنجاح العادي الذي بالكاد ينقله من مرحلة إلى مرحلة في ذيل الناجحين. سام نفسه العذاب ليتفوق دون جدوى، ورمق المتفوقين بالحقد والاحترام، وأترع قلبه بالأسى لعجزه. كيف يعاشر هذا العجز على حين أن جده باشا وأباه باشا وشقيقه الأكبر باشا؟! وتراءى له المستقبل كخصومة عارية مفعمة بالتحدي والاستفزاز. ولم يجد في الدين أي عزاء؛ لأنه كسائر إخوته لم يعرفوا الدين إلا عنوان هوية بلا مضمون، فعبد العمل عبادة ووهبه نفسه كلها ليقنع في النهاية مرغما بأقل ثمرة تنبتها أرضه القاحلة. ولما التحق بالحقوق وجد هناك قريبه لبيب بن سرور أفندي محاطا بهالة من الإعجاب لتفوقه وحداثة سنه فضاعف ذلك من كآبته وتعاسته، واحتج على الأقدار التي ميزت قريبه الفقير ابن الفقير بالموهبة وحرمته منها هو سليل الباشوات والمهن القضائية والطبية الرفيعة. ولعل من أسباب احتقاره للوطنية كان حماس أهله الفقراء - وآل عمرو وآل سرور - لها، فلم يتحمس لثورة 1919 في إبانها وسرعان ما لاذ بجناح الخارجين عليها مع أبيه وأسرته. وعند التخرج رأى قريبه يتعين في النيابة، ووجد نفسه رغم العرق والسهر في الذيل. وبسعي من أبيه المستشار الكبير عين في قضايا الحكومة بوزارة المعارف فالتحق بالعمل ساخطا متبرما رغم أنه لا يستحقه. واشتهر في حياته العملية بالانطواء والاجتهاد والغباء، ولدى كل حركة ترقيات كان أبوه يسعفه، ومضى في عزلته ما بين الديوان والفيلا، بلا صديق ولا حبيبة، لا يكاد يبرح مكتبته التي كونها عاما بعد عام إلا حين الضرورة القصوى. وربما رؤي وحيدا في حديقة عامة أو في النادي، وربما تسلل في حذر تام إلى بيت راق من بيوت الدعارة السرية. وقالت له فريدة هانم حسام: آن لك أن تفكر في الزواج.
Halaman tidak diketahui