حرف الألف‏

حرف الباء‏

حرف الجيم‏

حرف الحاء‏

حرف الخاء‏

حرف الدال‏

حرف الراء‏

حرف الزاي‏

حرف السين‏

حرف الشين‏

حرف الصاد‏

حرف العين‏

حرف الغين‏

حرف الفاء‏

حرف القاف‏

حرف اللام‏

حرف الميم‏

حرف النون‏

حرف الهاء‏

حرف الواو‏

حرف الياء‏

حرف الألف‏

حرف الباء‏

حرف الجيم‏

حرف الحاء‏

حرف الخاء‏

حرف الدال‏

حرف الراء‏

حرف الزاي‏

حرف السين‏

حرف الشين‏

حرف الصاد‏

حرف العين‏

حرف الغين‏

حرف الفاء‏

حرف القاف‏

حرف اللام‏

حرف الميم‏

حرف النون‏

حرف الهاء‏

حرف الواو‏

حرف الياء‏

حديث الصباح والمساء

حديث الصباح والمساء

تأليف

نجيب محفوظ

حرف الألف

أحمد محمد إبراهيم

في السماء زرقة صافية، وعلى الأرض تغفو ظلال أشجار البلخ، وأديم الميدان العتيق يشرق بنور الشمس، ويتلقى من الحارات هديرا لا ينقطع؛ ميدان بيت القاضي يضم قسم الشرطة الحديث، وبيت العدل والمال القديم، وتطؤه أقدام حافية، وشباشب مزخرفة، ومراكيب ملونة، وحوافر الخيل والحمير والبغال. ويطلع أحمد على ذلك الملعب الواسع فسرعان ما ينسى بيته الأصلي؛ بيت والديه بحارة الوطاويط. كان ابن أربعة أعوام عندما حمل إلى بيت جده لأمه بميدان بيت القاضي ليؤنس وحدة خاله قاسم الذي كان يكبره بعام ونصف عام. خلا البيت بعد زواج البنات والصبيان فلم يبق فيه إلا عمرو أفندي الأب وراضية الأم، وآخر العنقود قاسم. لم يعرف قاسم أخواته صدرية ومطرية وسميرة وحبيبة، وأخويه عامر وحامد إلا كضيف عابر مع أمه أو أبيه، يزورهم، كما يزور فروع أسرته في ميدان خيرت أو سوق الزلط أو العباسية الشرقية. وفي بيت شقيقته مطرية بحارة الوطاويط أحب ابنها أحمد حبا فاق حبه للجميع. وكان لأحمد أخ أكبر يدعى شاذلي وأخت في اللفة تدعى أمانة ولكنه خص أحمد بكل قلبه. وكانت مطرية تحب قاسم كأبنائها فأهدته إليه ليعيش في كنف جديه ويؤنس وحدته في بيت كبير خال من الأنيس. ولم يرتح محمد أفندي إبراهيم - أبو أحمد - لذلك كما لم ترتح له أمه - حماة مطرية - ولكنهما لم يعترضا مصممين على أن يسترداه حال بلوغه السن المناسبة لدخول الكتاب. وجهل قاسم تلك النية المبيتة فنعم بالصحبة في صفاء لا يشوبه كدر. وكان أحمد كأنه آية في الجمال، مورد البشرة ملون العينين ناعم الشعر خفيف الروح، يتبع خاله كظله في أرجاء الميدان، يشاهدان ألعاب الحاوي، وعربة الرش، وطابور جنود الشرطة، ويستقبلان معا عم كريم بياع الدندورمة، ويتابعان بشيء من الخوف مواكب الجنازات، وكانت الرائحة والغادية من الجارات تنظر إلى أحمد وتتساءل: من هذا الولد الجميل؟

فيجيب قاسم باعتزاز: أحمد ابن أبلة مطرية.

فتمضي المرأة وهي تقول: الجميل ابن الجميلة.

وكان محمد أفندي إبراهيم يقول لراضية أم قاسم: لا تملئي رأس أحمد بحكايات العفاريت يا نينة.

فترمقه باحتقار وتقول: يا لك من مدرس جاهل!

فيضحك الرجل كاشفا عن ثنيتيه المتراكبتين ثم يواصل تدخين غليونه. ذلك أن ختام اليوم يتم عادة بين يدي راضية فتنداح النشوة في قلبي الطفلين على سماع الحكايات قبيل النوم، وتنهمر على خيالهما كرامات الأولياء وعبث العفاريت، وينغمس الواقع في دنيا الأحلام والخوارق والآيات الربانية. وتمضي بهما في أوقات الفراغ من بيت إلى بيت، ومن ضريح ولي إلى جامع حبيب من آل البيت. وظلت الدنيا لهوا ولعبا حتى حمل قاسم ذات يوم إلى الكتاب ليبدأ حياة جديدة وليحرم من رفقة أحمد ثلثي النهار. والكتاب يقع في منحنى من منحنيات عمارة الكبابجي على بعد خطوات من البيت، ولكنه محاط بسياج من التقاليد الصارمة تجعل منه سجنا تتلقى فيه المبادئ الإلهية تحت تهديد المقرعة ... ولم تجد التوسلات ولا الدموع. ويغادره عصرا فيلقى أحمد وأم كامل في انتظاره عند الباب. لم تعد الدنيا كما كانت. تسللت إليها هموم لا مفر منها. وبغريزة يقظة شعر بخطر آخر يتهدده من ناحية محمد إبراهيم والد أحمد، فهو لا يرتاح لإقامة أحمد بعيدا عنه. وتتجلى في عينيه الجاحظتين نظرة باردة نحوه، ويقول لأمه: أنا لا أحب هذا الرجل.

فيكفهر وجهها الأسمر الطويل وتقول له: يا لك من جاحد! ألم يهد إليك ابنه؟ - ولكنه يريده.

فتضحك قائلة: أترغب في أن ينزل لك عن ملكيته؟! •••

ولكنه ذات يوم لم يجد أحمد في انتظاره لدى خروجه من الكتاب، ووجد أمه جادة أكثر من عادتها، وقالت له: حبيبك مريض.

ورآه مستغرقا في نوم ثقيل في فراشه، وراحت أمه تعمل له مكمدات خل وهي تتمتم: يا ولدي ... يخرج منك صهد كالنار.

ولا تكف عن تلاوة الآيات. ولما رجع عمرو أفندي إلى البيت مساء رأى أن يرسل أم كامل لإخطار مطرية وزوجها. ولما لم تنخفض الحرارة بالبخور والتعاويذ، جاء عمرو أفندي بطبيب من الجيران، ولكنه أعلن أنه طبيب عيون ونصح باستدعاء الدكتور عبد اللطيف المقيم في باب الشعرية. واعترض عمرو أفندي قائلا: ولكنه متزوج من العالمة بمبة كشر!

فقال الطبيب ضاحكا: بمبة كشر لم تنسه الطب يا عمرو أفندي.

وجاء الطبيب زوج العالمة المشهورة، وشعر قاسم بأنه شحن الجو بمزيد من التوتر. وسمع أمه وهي تقول: أنا لا أصدق الأطباء ولا أعترف إلا بطبيب واحد هو خالق السماوات والأرض.

وتمر الأيام ويتساءل قاسم أين أحمد؟! أين غابت نضارته وجماله؟!

عاد عصر يوم من الكتاب.

دهمه البيت بمنظر جديد، رأى أهله جالسين في صمت غريب. في حجرة أحمد لمح أمه وجدة صديقه لأبيه، وفي حجرة المعيشة رأى إخوته وأخواته ... عامر وحامد وصدرية وسميرة وحبيبة. أما مطرية فكانت تجهش في البكاء وإلى جانبها يجلس محمد إبراهيم واجما يدخن غليونه. وتسرب الخوف إلى قلبه مع الهواء المفعم بالحزن، وأدرك بطريقة ما أن ذلك العدو الذي سمع عنه في مناسبات ماضية، الذي رآه يخيم فوق الجنازات المتجهة نحو الحسين، قد اقتحم بيته وخطف أحب خلق الله إلى قلبه. وصرخ باكيا حتى حملته أم كامل إلى السطح. ومن وراء خصاص نافذة الحجرة الصيفية رأى جدة أحمد تحمل بين ذراعيها لفافة مزركشة وتستقل حنطورا مع ابنها وعمرو أفندي. وذهب الحنطور يتبعه حنطور آخر يحمل عامر وحامد وعمه سرور أفندي. جنازة من نوع جديد فهل انتهى أحمد؟! أبى أن يصدق ذلك أو يسلم به. آمن من كل قلبه بأنه سيراه مقبلا ذات يوم مطلا بعذوبته الوردية، ولكنه لم يكف عن البكاء. وفي الليل انفض الجميع، نهره أبوه قائلا: كفاية!

فسأل أباه برجاء: أين ذهبتم به؟

فقال عمرو: لم تعد طفلا، أنت في الكتاب وتحفظ سورا من كتاب الله، أحمد مات، وكل إنسان سيموت كما يشاء الله، وهذه هي إرادة الله.

فتساءل محتجا: ولكن لماذا؟ - إرادة الله، ألا تفهم؟! - لا أفهم يا بابا. - لا ... هذه قلة أدب أمام الله ... سيذهب أحمد إلى الجنة بغير حساب، وهذا حظ عظيم ...

فاحذر قلة الأدب.

فصاح: أنا حزين جدا يا بابا. - اقرأ الفاتحة يبرد قلبك.

لكن قلبه لم يبرد. وكان كلما تذكره بكى. وقيل إن حزنه عليه فاق حزن أمه نفسها ... ولم يسل عن حزنه حتى تحطم واقعه وخلق خلقا جديدا لم يجر لأحد على بال.

أحمد عطا المراكيبي

عملاق في الرجال، بالطول والعرض، وقسمات الوجه الخليقة بتمثال، يجري دمه الدافق في أديم أسمر، صورة خيالية لبطل حكاية شعبية بشاربه الكث وراحته المنبسطة، وظاهر يده الأشعر، يملأ مقعد الحنطور وهو يتهادى به في ميدان بيت القاضي قبل أن يقف أمام البيت القديم إذا جاء لزيارته في هالة إقطاعي كبير، ويتلقى ابن أخته عمرو أفندي - وهو يماثله في السن - بين أحضان عامرة بالود، ويصافح راضية بحرارة، ويضع الهدايا فوق الكنصول وهو يتساءل: أين قاسم؟

ويند عنه صوت هادئ خفيض يعد غريبا بالنسبة للهيكل العملاق الصادر عنه، وتشع من عينيه البنيتين نظرة وانية متوددة تتحلى بالطيبة والسلام، كأنه مسجد ضخم يجمع بين الجلال والأمان. - حدثنا كيف حال أولادنا؟

يقصد البنات والأبناء. وكان يزور الجميع على فترات وخاصة البنات ليزكي مكانتهن أمام أزواجهن. وكان يغمر قاسم بالحلوى، وقد حزن لوفاة أحمد الذي أحبه كثيرا لجماله.

ويبقى عادة للغداء مشترطا تقديم وجبة بلدية من طواجن راضية التي اشتهرت بإتقانها مع إضافات جاهزة من طعمية الحلوجي وكباب العجاتي، ويواصل البقاء حتى يقضي السهرة مع عمرو، وشقيقه سرور في الكلوب المصري. وكان الفرع الفقير من الأسرة يسعد بزيارات الفروع الغنية مثل آل المراكيبي ، وآل داود ويزهو بما تحدثه من أثر باق في الحي رغم أن راضية كانت تقول لعمرو: لا أصل لأحد منهم، كلهم نشئوا في التراب!

ثم تلتفت إلى قاسم قائلة بتحد: يوجد رجل واحد ظفره بكل هؤلاء، هو جدك الشيخ معاوية!

فيبتسم عمرو ويصمت إيثارا للسلامة. على أن قاسم لا يفيق أبدا من سحر سراي آل المراكيبي بميدان خيرت. في حجم ميدان بيت القاضي وفي ارتفاع القلعة، ولها حديقة مثل حديقة الحيوان، لا حصر لحجراتها، ولا مثيل لأثاثها، وأي تحف مختلفة الأشكال والألوان وتلك التماثيل من الجص والبرنز في الأركان، وفوزية هانم حرم أحمد بك ونازلي هانم حرم محمود بك، ذواتا البشرة العاجية والأعين الملونة. عالم حقيقي يفوق بسحره عالم الحكايات والأحلام. وجدته لأبيه نعمة عطا المراكيبي هي أخت أحمد بك ومحمود بك. ولكنها امرأة فقيرة رغم ذلك لا تملك من دنيا الله سوى ابنيها عمرو وسرور وابنتها رشوانة، غير أن الأخوين الثريين كانا يحبان أختهما ويحبان ذريتها وخاصة عمرو أفندي الذي تميز بحكمة فطرية. وكان أحمد بك يوثق عزوته بآل داود، أقارب أولاد أخته نعمة وأصهاره، على ما بين الفرعين الثريين من غيرة متبادلة ويدعوهم لسراي ميدان خيرت، وكان أحمد أحب إلى عبد العظيم باشا داود من أخيه محمود لدماثة خلقه وبساطته وتواضعه. ولكن جرت العادة عند ذكر آل المراكيبي في بيت عمرو أن يقول عبد العظيم باشا بسخرية: مال كثير وجهل أكثر وما المنبع؟ ... بياع مراكيب حقير بالصلحية!

أو يقول محمود عطا عن آل داود: ألقاب رنانة ... والأصل أجير على باب الله!

فيقول عمرو بتقواه المعروفة: كلنا أولاد آدم وحواء.

وقد بدأ عمرو وسرور ومحمود وأحمد حياتهم التعليمية في سنوات متقاربة وقنعوا بالشهادة الابتدائية، فالتحق عمرو وسرور بالحكومة لفقرهما، واقتحم محمود تجربة الحياة تحت جناح أبيه، وجنح أحمد للدعة وحياة الأعيان، فأسقطه أبوه من حسابه. كان يمضي وقتا في العزبة ببني سويف على هامش العمل الزراعي، ثم يرجع وحده، أو هو وفوزية هانم إلى السراي بالقاهرة بمقامه في الدور الثالث، وينفق وقته بين زيارات الأهل واستقبال الأصحاب. كان بهوه الفخم معدا لاستقبال الأصدقاء والأقارب، يحتسون الشاي والقهوة والقرفة ويلعبون النرد والشطرنج ويدعون للغداء أو العشاء، ويسهرون في ليالي رمضان والمواسم حتى مطلع الفجر. كان الفونوغراف رفيق خلوته، والحنطور متعته، وحدائق شبرا والقبة مرتاده، والسيدة مصلاه أيام الجمع، وقد يحضر بعض ليالي الذكر الصوفية مع عمرو ابن أخته المنتسب للطريقة الدمرداشية. ولما مات الأب عطا المراكيبي تلقى مجرى حياته الهادئ الدائم الخضرة دفقة هواء عنيفة كادت تعصف به. وجد نفسه بغتة أمام مسئولية ضخمة لم يدرب على التعامل معها. كان عليه أن يدير أرضه الموروثة - ثلاثمائة فدان - بالإضافة إلى أرض زوجته البالغة المائة. وقال له محمود بك: ستتعلم كل شيء، ولديك من يعاونك، ولكن ... وكور الرجل يده الغليظة ثم واصل: عليك أن تتخلى عن طيبتك، فالتعامل مع الفلاحين والمستأجرين غير التعامل مع الأصحاب والأقارب!

وفكر طويلا وهو يتخبط في الشرك، ثم قال: أنت أخي الأكبر، وما لقيت منك إلا البر والوفاء، وأنا لم أخلق لذلك.

بذلك حل محمود محل أبيه. ولم ترتح فوزية هانم للقرار وقالت له بأدبها الجم: شد ما تعجلت قرارك دون مشاورة.

فسألها بحيرة: هل يداخلك شك من ناحية أخي؟

فقالت بأمانة: نعم الأخ هو، ولكن لم تضع نفسك تحت وصايته؟!

فقال: إنه شقيقي وحبيبي، وأنت شقيقة زوجته، وأسرتنا مثال في الوئام والحب، وقد فعلت ما أراه مناسبا.

وواصل حياته الناعمة، وكان يتسلم نصيبه دون مراجعة، وكان الخير عميما والبال رائقا. وانقضت عليه ثورة 1919 فهزته من الأعماق وأشعله سحر زعيمها، وتبرع لها بعشرة آلاف جنيه مستجيبا لاقتراح أخيه. تناسيا وصية قديمة لأبيهما بالبعد عن السياسة وتجنب ما يثير غضب السلطات الشرعية وغير الشرعية. كان المد أقوى من أن يفلت منه إنسان. ولكن عندما أطل الشقاق بقرنه وحصل الخلاف بين سعد وعدلي، تشاور الرجلان فيما ينبغي فعله. أو راح محمود يفكر وأحمد يتابعه. قال محمود: انقضت فترة العواطف وجاءت فترة العقل.

فقال أحمد: الأرض كلها مع سعد. - نكون حيث تكون مصلحتنا.

فاشتد انتباه أحمد حتى استطرد أخوه: لا يغرنك الهتاف، الإنجليز هم القوة الحقيقية، عدلي قريب منهم ولكنه لا يوفر الأمان الدائم، هناك سلطة شرعية هي الوسيلة الباقية بين الإنجليز وهي العرش، فليكن ولاؤنا للملك!

فقال أحمد مستسلما: الصواب معك دائما يا أخي!

وعرف ذلك الموقف في بيت القاضي حيث يتجاور بيتا عمرو وسرور. وهمس عمرو بأسلوبه الهادئ: سلوك غير لائق.

فقال سرور بسخرية: أقاربنا الأغنياء، وهبهم الله مالا لا يعد وخسة لا تدانى.

وكان عمرو يتحرج من العنف لأكثر من سبب؛ لهدوء طبعه من ناحية، ولزواج حامد ابنه من شكيرة بنت محمود بك، وعامر من عفت بنت عبد العظيم باشا، ولكنه لم يخف رأيه عن خاله أحمد بك وهو يتعشى معه في السراي، فقال له أحمد باسما: علم الله أن قلبي معكم ولكنه رأي محمود!

فقال عمرو آسفا: الميدان تحت بيتنا يموج بالمظاهرات كل يوم، والهتاف بسقوط الخونة يتصاعد إلى السماء.

فقال أحمد: أصحاب المصالح لا يحبون الثورات يا ابن أختي.

والواقع أن أحمد هو الذي تعرض للنقد لاختلاطه بالناس ليل نهار، أما محمود فكان أكثر وقته منغمسا في عمله في العزبة. ونتيجة للولاء المعلن في تلك الفترة الحرجة فاز الأخوان برتبة البكوية في عيد الجلوس، وسر بها الرجلان سرورا فاق كل تصور. وأولم أحمد وليمة دعا إليها جميع الأقارب نساء ورجالا، من آل عمرو وسرور وداود، وبدت السراي في حلة لا تبدو بها إلا في الأفراح. وغاص أحمد في حياته الخاصة حتى قمة رأسه، ولم يأذن لهموم الوطن بالتسلل إلى خلوته وتكدير صفوها. ولكن بتقدم الزمن ونمو الأبناء جاءته المتاعب من حيث لم يحتسب. لم يوافق ابنه الأكبر على الوضع الذي اختاره لنفسه تحت وصاية أخيه. وخاض نزاعا طويلا عنيدا مع أمه أولا ثم مع أبيه ثانية. ولم يعف أباه من ملاحقته حتى وعد باسترداد حقه الذي نزل عنه بمحض اختياره. ومن تلك الشرارة اندلعت النيران في أركان الأسرة المتحدة. انتهز أحمد فرصة زيارة محمود للقاهرة لبعض شأنه وفاتحه في الموضوع على استحياء، وختم حديثه كالمعتذر قائلا: الأولاد كبروا ولهم رأيهم!

أدار محمود ما سمع في رأسه طويلا وهو يتلقى من الغضب أمواجا هادرة. كان قد تطبع بسلطة غير محدودة، ومارس في السراي هيبة تجاوزت أسرته إلى أسرة أخيه الوديع الطيب. كانت فوزية هانم تهابه وتصدع بأوامره على حين تناقش زوجها مناقشة الند للند. وكان ابنا أحمد يلتزمان أمامه حدود الأدب والطاعة على حين يتعاملان مع أبيهما بالحب والمرح والحرية. وأفلت الزمام من يدي محمود فقال لأخيه: يا لك من رجل ضعيف! كيف سمحت لابنك بهذا العبث؟!

فاستاء أحمد ولم يشأ أن يفرط في احترام أبنائه له فقال: لا ضرورة للكلمات القارصة يا أخي.

فسأله بوحشية: هل تشكون في ذمتي؟

فبادر يقول: معاذ الله، ما هو إلا حقي في تولي شئوني بنفسي. - حقك في تدمير نفسك بنفسك بوحي من حماقة أولادك؟

فقال عابسا: الله المستعان.

وتلا ذلك مناقشة مع عدنان الابن الأكبر لأحمد اعتبرها محمود بك قحة تستحق الزجر. وكان أن خاطب الشاب عمه بشيء من العنف اعتده الرجل جريمة. وسرت النار من فرد إلى فرد. تخاصم الشقيقان، وانحازت كل زوجة إلى زوجها ممزقة الولاء لشقيقتها، وتبادل أبناء العم أسوأ ألوان السباب. وتهرأت عروة الأسرة، وانطوى كل فرع على نفسه في دوره بالسراي كأنه لا يعرف الآخر، وخابت مساعي رشوانة وعمرو وسرور في إصلاح البين، بل إن حامد بن عمرو - وكان يقيم مع زوجته شكيرة في دور محمود وأسرته - وجد مشقة وحرجا ليحافظ على صلته الطيبة بآل أحمد خال أبيه. وانتقل أحمد بك إلى العزبة في بني سويف ليتسلم أرضه على كبر، فيزرع ما يزرعه منها ويؤجر ما يؤجره، ولقي في ذلك من المتاعب ما لم يتصوره وتعرض لخسائر لم تجر له في حسبان. وقبيل الحرب العظمى الثانية بقليل أصيب الرجل بالفالج وحمل إلى فراشه بالقاهرة في انتظار النهاية. كان أول من هوى من الجيل الثاني العتيد، وكانت الأمراض ترشح بقية الجيل للحاق به بطريقة أو بأخرى، وكان عمرو ما زال يقاوم الأجل، وفي الحال زار محمود بك وقال له: آن لك أن تنسى الخصام وأسبابه وأن تعود شقيقك.

وصمت الرجل متأملا ثم قال: ثمة أمور لا تنسى، ولكني سأفعل ما يليق بي .. وما تدري أسرة أحمد بك إلا ومحمود بك يستأذن في الدخول. وجموا ووقفوا له متأدبين وقد دمعت أعينهم. وكان بصحبته زوجته وأبناؤه فتم التصافح وقال الرجل: يذهب الشقاق وينسى ويظل القلب ينبض بدقات القربى.

ومضى إلى أخيه المطروح فوق فراشه بلا حركة ولا نطق. انحنت فوزية هانم فوق أذنه وهمست: أخوك محمود بك جاء ليطمئن عليك.

فانحنى بدوره فوقه ولثم جبينه ثم استقام وهو يقول: العفو عند الرحمن، شد حيلك.

ورفع الرجل جفنيه الثقيلين، وتبدى عجزه عن النطق، ولكن لم يشك أحد في الأثر الطيب الذي اختلجت به وجنتاه المحتقنتان. وأسلم الروح عند منتصف تلك الليلة الحزينة.

أدهم حازم سرور

مهندس معماري من خريجي عام 1978. استقبل حياته العملية وهو ابن خمسة وعشرين في القاهرة الحافلة بالمشكلات، ولكنه لم يعثر في حياته بمشكلة واحدة. وتلاطمت حوله أمواج البشر والمركبات وانفجر هديرها مثل عزيف البراكين، ولكنه نعم في فيلا والديه بالدقي بالهدوء والسكينة وشذا الورد والأزهار، وتحير جيله في مسالك الحياة بحثا عن الهوية والبيت والزوجة وتحقيق الذات ولكنه وجد مكتب والده الهندسي في انتظاره ليشغل فيه مركز السيادة المرموق. وسيم مثل أبيه، ومثله أيضا ضعيف العين اليسرى لدرجة العمى، ولا يعرف من شئون الدنيا إلا فنه ولا ينتمي إلا لأحلام التفوق والثراء، ويكاد لرقة دينه أن يكون بلا دين عن غير إلحاد. وقالت سميحة هانم أمه مخاطبة أباه: خسرنا أخاه الأكبر، فدعني أهيئ له حياة محترمة!

فقال برقة مشفقا كالعادة من إغضابها: هذا جيل يختار لنفسه فلا تتحدي كبرياءه ... ولكنها غضبت رغم رقته، اشتعلت كالعادة صائحة: في أسرتكم عرق قذر أخشى أن يسوقه إلى طريق أخيه.

فأشعل سيجارة وقال لها: افعلي ما بدا لك.

ولكن أدهم كان مبادرا بأكثر مما تخيلت، فأخبرهما وهم جلوس في حديقة ميناهاوس صباح يوم العطلة بأنه اختار شريكة حياته ... وفزعت أمه وحملقت في وجهه متسائلة، وحدس الشاب مخاوفها فقال باسما: كريمة، في السنة النهائية بكلية الحقوق، أبوها محمد فوزي مستشار بقضايا الحكومة.

هدأت أعصابها فيما بدا وتناولت ملعقة من الكاساتا وراحت تلوكها في فمها المنقوشة حوافيه بتجعيدات السنين، ثم تمتمت: لا بد من التحري.

فقطب أدهم، وقال الأب ملاطفا: مجرد إجراءات ولكني متفائل.

وتبودلت زيارات، وحظي الاختيار بالرضا، وكان لا بد أن تعلق بنقد ما فقالت لحازم زوجها: أمها جاهلة فيما يبدو.

فعجب الرجل لقولها إذ إنها - سميحة - لم تحصل على البكالوريا ولكنه قال: لا أهمية لذلك.

وتم الاتفاق على كل شيء، واشترى حازم لابنه شقة في المعادي بتسعين ألفا من الجنيهات، استقر ابنه وعروسه فيها في نهاية العام.

ولم يكن أدهم يعرف من شجرة أهله إلا فرع أمه، جده محمد سلامة منشئ المكتب الهندسي وأخواله وخالاته. أما أهل أبيه فكان يعرف - ربما معرفة عابرة - أن جده سرور أفندي عزيز كان موظفا بالسكك الحديدية، وأن عمرو أفندي عم والده كان موظفا بالمعارف، وكان له عمات ولكل أبناء وبنات ولكنه لم ير أحدا منهم. يعرف أيضا أن أسرته من حي الحسين وهو حي يقترن في ذهنه بالفقر والتأخر فلا حاجة به إلى تذكره، ولم يمر به إلا عابرا وهو في سيارة. وكثيرا ما يلتقي بنفر منهم في الميادين أو بعض الأماكن العامة فلا يعرفهم ولا يعرفونه. وتابع أبوه نشاطه بارتياح، واطمأن إلى أنه إذا تقاعد يوما - وهو قريب - فسيترك المكتب لرجل قادر. وقد قال له يوما بمناسبة ما ذاع وشاع عن الفساد: كل الفرص متاحة، لك العلم والذكاء والهمة فتجنب الانحراف، لا تسخر من النصيحة. إن كنت ممن يسخرون من القيم، فعلى الأقل احرص على السمعة واخش السجن!

أمانة محمد إبراهيم

مشرقة اللون، دقيقة القسمات، ناعمة الشعر، صورة جديدة لأمها مطرية لولا بروز ما في ثنيتيها وهي آخر من أنجبت مطرية، وجاء ميلادها قبيل وفاة أحمد بأشهر. وأحبها خالها قاسم ولكنه لم يجرؤ على المطالبة بها كما فعل مع شقيقها الراحل. فجعل يحبها من بعيد حتى انتزعته مأساته الشخصية من هموم الدنيا جميعا. وماتت جدتها لأبيها وهي في السابعة فحزنت عليها حزنا أكبر مما يجوز في سنها. ودخلت المدرسة الابتدائية دون اعتراض بحكم زمنها، وبحكم زمنها أيضا انتقلت منها إلى المرحلة الثانوية. ومع أن مطرية لم يكن يشغل بالها إلا الزواج إلا أنها قالت لزوجها: كبنات أختي سميرة، الدنيا كلها تود أن تتعلم اليوم.

وكان محمد إبراهيم يسلم بذلك دون مناقشة. وكان قد رقي لدرجة مدرس أول مع بقائه في مدرسة أم الغلام بشفاعة عبد العظيم باشا داود. والحق أن أمانة أبدت استعدادا طيبا للتعليم وتجلى تفوقها في الرياضيات، وتراءت لها الجامعة كحلم سهل التحقيق. وحصلت على البكالوريا ولكن في العطلة الصيفية التالية مرض أبوها مرضا لم يمهله فسرعان ما توفي وهو في الخمسين. ورثت الأسرة البيت والمعاش وإيجار دكان في أسفل البيت، وكانت الحرب العظمى الثانية قد انتهت ورحل من الجيل الثاني عمرو وسرور ومحمود عطا، فشعرت مطرية بأنها تواجه الحياة وحيدة. في ذلك الوقت تقدم عبد الرحمن أفندي أمين الموظف بدار الكتب لطلب يد أمانة. رجل يكبرها بخمسة عشر عاما ذو سمعة طيبة، وكان رأي أمانة أن الرجل مقبول ولكنها تود أن تكمل تعليمها. وقالت لها مطرية بعطف: ظروفنا تقتضي تفضيل الزواج.

وشاورت مطرية أمها فقالت راضية: الرجل المناسب أهم من الجامعة ألف مرة.

ونظرت إلى أمانة بإعجاب وقالت: كيف تهتم بالتعليم بنت في جمالك؟

وقال لها خالها الشيخ قاسم: رأيتك في المنام وأنت ترقصين في قسم الجمالية!

وسألت مطرية أمها عن تأويل الحلم فقالت دون تردد: القسم هو الأمن والأمان، هو بيت الزوجية.

وجهزت مطرية أمانة بمهرها وثمن حليها وحلي جدتها لأبيها وما تبقى من مدخر قليل للمرحوم محمد إبراهيم، وزفت إلى زوجها بشارع الأزهر. ووضح أن الحب أظل بجناحه الأسرة الجديدة، ولكن التوافق بين الزوجين بدا من أول الأمر أنه يقتضي عناء مريرا. المسألة أن عبد الرحمن أمين آمن بسيادة الرجل، وأنها كانت شديدة الحساسية تتهول في وجدانها قرصة نملة فتخالها قرصة ثعبان. سرعان ما تبكي وتنفرد بنفسها أو تذهب من الأزهر على حارة الوطاويط. وتمضي بها مطرية لتفض الاشتباك فتتورط في الخصام. وقالت لها شقيقتها الكبرى صدرية: ليس زوج بنتك بأسوأ من زوجي ... ومع ذلك لم يدر أحد بما ينشب بيننا، لا تتدخلي بينهما ولا تميلي مع أمانة مع كل خلاف.

وعلمت راضية بذاك النقار المتجدد فاستعانت بالتعاويذ والرقى وزيارة الأضرحة، وبدا أن الحال تنذر دائما بمزيد من الشقاق حتى لاح شبح الطلاق بوجهه القبيح كالوطواط الأعمى. وضاعف من عمق المأساة أن أمانة بمجرد أن أنجبت بكرها محمد استحوذت عليها الأمومة واختفت الزوجة الجميلة أو كادت. وأنجبت بعده عمرو وسرور وهدية، وابتعد شبح الطلاق، واستمر النقار، وانطبع الوجه الجميل بطابع أسى دائم. وشرع الأبناء في التعليم مع أول جيل لثورة يوليو، وعبروا جو بيتهم الكئيب فحلقوا في سماوات من الآمال والمجد حتى غرقوا في بحر الحيرة الذي ابتلع ضحايا 5 يونيو 1967، ومضوا يستقبلون حياة عملية بعد رحيل الزعيم الأول، وفي موجة النصر والانفتاح فازوا بعقود عمل في البلاد العربية، حتى هدية لم تتخلف عن ذلك وكانت مطرية قد رحلت بدورها بعد معاناة طويلة لخيبة الأمل، بعد موت البكري ورحيل الزوج قبل الأوان، وانحراف شاذلي، وسوء حظ أمانة، وسلم عبد الرحمن أمين بالواقع بعد طعنه في السن، ونعمت أمانة بنجاح أبنائها وإن حل بها الكبر والسقام قبل الأوان. وبحكم الزمن شهدت رحيل الأعزة من الأخوال والخالات وبقية الأقارب، وقرأت كتاب الأحزان وهو يقلب صفحاته صفحة في إثر صفحة ... واستمعت إلى نبوءات الشيخ قاسم المرسلة من وراء السحب لتجري أحكامها فوق المصائر.

أمير سرور عزيز

ولد ونشأ في بيت القاضي، وكان بيت سرور أفندي يلاصق بيت شقيقه عمرو أفندي، كما كان أمير يقارب ابن عمه قاسم في سنه، وقد شارك ابن عمه في لعبه وجولاته، وانفصل عنه عقب مأساته على رغمه، وكان بخلاف إخوته قويا مع ميل إلى البدانة وحب للدعابة، وكان أشبه الجميع بعمه عمرو في رجولته وتقواه. وقد عرف ثورة 1919 كأسطورة من المظاهرات والمعارك والقصص فترعرع سعديا وطنيا مؤمنا. وحاول أن يقلد أخاه لبيب في تفوقه واجتهاده فشق طريقه بنجاح ولكن دون أخيه بمراحل. وبسبب من تقواه وروحه المحافظة على الآداب والتقاليد ساءت علاقته بأخته جميلة التي كانت تكبره بأربع سنوات، لاعتراضه على ما اعتبره تحررا في سلوكها لا يليق بسمعة الأسرة ولا بكرامة الدين. ولم ير أحد من أسرته رأيه فزادوا غضبه حتى قال له أبوه: أنت متعصب أكثر من اللازم فدع الأمر لي.

وبدخوله المرحلة الثانوية بدأ يشارك في المعارك الحزبية التي نشبت بعد رحيل سعد زغلول. اشترك في المظاهرات التي قامت احتجاجا على دكتاتورية محمد محمود، وأصابته هراوة لبث بسببها في المستشفى أسبوعين. وكان له ثلاثة أقارب من ضباط الشرطة في مراكز حساسة بالداخلية، حامد عمرو ابن عمه، وحسن محمود عطا ابن خال أبيه، وحليم عبد العظيم داود ابن عم أبيه، وتشاوروا في الأمر وكلفوا أقربهم إليه بتحذيره وترشيده. وكان حديث قدمه حامد على مسمع وشهود من سرور عمه، وعمرو أبيه. قال مخاطبا ابن عمه: اسمك على رأس قائمة سوداء في الداخلية.

فقال أمير ضاحكا - وكان الضحك عادته: لي الشرف.

فأشار ابن عمه إلى أثر الجرح في صدغه وقال: ما كل مرة تسلم الجرة.

وقال له أبوه: لا يتورعون عن فصلك من الكلية.

وقال حامد: إني وفدي مثلك، ولكن لا بد من النصيحة.

وكان الشاب لا يخفي احتقاره لآل عطا وآل داود، وكان يشعر بفتور عواطف أبيه نحوهما، وتهكمه عند كل مناسبة بأصلهما. ومضى أمير يتألق في سماء السياسة في أوساط الشباب الوفدي، ويقدم لزعماء الوفد، ويطير بطموحه الوطني إلى آفاق بعيدة. وحاول شقيقه لبيب - وكان وكيل نيابة في ذلك الوقت - أن يفرمل من اندفاعه ولكنه قال له: قد عرفت سبيلي ولن أتراجع عنه.

فسأله بهدوئه الطبيعي: وإذا رفت ونحن فقراء كما تعلم؟

فقال بثقة: في تلك الحال أعمل في الصحافة.

ولكنه لم يرفت ولم يعمل في الصحافة ولم يواصل جهاده السياسي. ففي أوائل عهد إسماعيل صدقي، وفي طوفان المظاهرات التي قامت احتجاجا على إلغاء دستور 1923، أردته رصاصة قتيلا في شارع محمد علي. وقد تولى رجال الأمن دفنه مع كثيرين حتى لا تهيئ جنازاتهم فرصة لقيام مظاهرات جديدة، ولم يسمح لشهود دفنه إلا لأبيه وعمه وإخوته، وقد هز موته المبكر آل سرور من الأعماق، وكذلك آل عمرو، وتذكروا ما قاله له الشيخ قاسم في آخر زيارة لبيت عمه: سترفع العلم الأحمر.

فأولوا قوله بأنه إشارة إلى دمه المسفوح يوم استشهاده!

حرف الباء

بدرية حسين قابيل

ولدت في شقة بعمارة حديثة بشارع ابن خلدون، فكانت بكرية حسين قابيل تاجر التحف بخان الخليلي وسميرة كريمة عمرو أفندي والرابعة في ترتيب ذريته. وكان الحي يعبق برائحة اليهود المتفرنجين. وكانت العذوبة في ملامحها والرشاقة في أطوار سلوكها. وكانت إذا زارت البيت القديم في بيت القاضي بصحبة والديها لفتت الأنظار بنضجها المبكر. ويضحك جدها عمرو أفندي ويقول: الظاهر أنها ستستعمل الحجاب والنقاب قبل الأوان.

فيقول حسين قابيل: ولكنها يا عمي ستواصل تعليمها إلى النهاية.

فتقول راضية ضاحكة: يا له من عالم مجنون، ولكنه لذيذ.

فتقول سميرة: لن نفرق بين البنات والصبيان في شيء.

وتسألها راضية: وإذا جاء عريس في السكة؟

فتقول سميرة دون تردد: عليه أن ينتظر أو يذهب مع السلامة.

فيقول الأب مداريا اعتراضه بابتسامة: سميرة ... أنت خواجاية غريبة في أسرتنا!

وفعلا حين المراهقة رآها تاجر في زيارة لدكان والدها فأراد أن يخطبها، ثم عدل لما عرف أن عليه أن ينتظر حتى تنتهي من تعليمها. ولكن جاء زائر آخر عجزوا عن التعامل معه. كانت قد جاوزت الخامسة عشرة، وكانت تجالس أمها وإخوة لها في الشرفة، عندما سقطت على وجهها متصلبة الجسد مرتجفة الأطراف وفوها ينثر الزبد ... آه ... إنه الصرع. وكانت مأساة قاسم قد حفرت في الوجدان ... ولكن هذا صرع شديد العنف. واستدعي الطبيب ونصح بالراحة وتغيير الهواء ومزيد من لين المعاملة، وانقطعت عن المدرسة، وحلت في عينيها النجلاوين، مكان النظرة المتألقة، أخرى خابية ذاهلة، وتلاشى الحوار وحل محله هذيان. واستغاثت سميرة بأمها، وقال حسين قابيل: لو كانت تملك نفعا لنفعت به ابنها.

ولكن سميرة لم تأخذ بذلك المنطق، وجاءت راضية ببخورها ورقاها وتعاويذها. وطافت بالبنت أضرحة الأولياء وآل البيت، ومضت الحال من سيئ إلى أسوأ، فلم يبق منها إلا خيال.

وفي صباح يوم من الأيام قالت بدرية لأمها: رأيت في النوم أميرا يدعوني إلى نزهة في القناطر.

فران التشاؤم على قلب سميرة، وعند الضحى احتضرت الفتاة ثم أسلمت الروح. هكذا فقدت سميرة بكريتها كما فقدت مطرية بكريها، ولكنها فقدتها وهي في أوج صباها، وأحاط بها المعزون من آل عمرو وسرور، ومحمود بك عطا وأحمد بك عطا، وعبد العظيم باشا داود. وشد ما حزنت راضية، وكانت تتذكر حال ابنتها وتناجي ربها قائلة: رحمتك يا رحمن يا رحيم.

وكان سرور أفندي يحنق عليها في باطنه ويتهمها بأنها كانت السبب في عدم اختيار إحدى كريمتيه لأحد أبنائها، فراح يشنع بها كعادته في ذلك ويقول لزينب زوجته: كل ذلك موروث عن أسرتها، فما من رجل بها أو امرأة إلا وبه مس من الجنون، وهي في مقدمة الجميع.

بليغ معاوية القليوبي

هو آخر عنقود الشيخ معاوية القليوبي، وشقيق راضية زوجة عمرو أفندي، وقد ولد في بيت الشيخ بسوق الزلط بباب الشعرية، ولعله المولود الوحيد الذي أنجبه الشيخ بعد خروجه من السجن. ونشأ من صغره نشأة دينية، وألحقه أبوه بالأزهر في سن مبكرة. ويزور شقيقته في بيت القاضي فيلفت الأنظار بشبابه وجبته وقفطانه وعمامته، ويحدث في أسرة راضية إثارة تجمع بين الاحترام والفكاهة معا، وهو بطبعه يشبع الناحيتين، فيرتل القرآن بصوت جيد استجابة لأخته، ويداعب البنات والصبيان بالملح. وكان ذا وجه قمحي مستدير جذاب الملامح، ولا يخفي حبه للطعام اللذيذ، وخبرته بصنوفه لا تقل عن خبرته بالدين الذي يدرسه. وتقول له راضية بلسانها اللاذع: الأصلح أن تكون طباخا من أن تكون عالما من علماء الدين كأبيك.

فيقهقه قائلا: أنا رجل حائر بين أب عالم وأخت مؤاخية للعفاريت.

في ذلك الوقت كان الشيخ معاوية قد انتقل إلى جوار ربه، وقد تمت خطبة راضية على يديه ولكنه لم يشهد دخلتها. وعقب وفاته لم تجد غرائز بليغ من يكبحها. وفي جلسة جمعت راضية مع جليلة أمها العجوز فوق الكنبة، في مدخل البيت الذي يتصدره الفرن وتقع البئر في جناحه الأيسر، في جلسة حزينة لاحظت راضية أن أمها غارفة في بحر من الغم على غير عادة، ولما سألتها عما بها قالت: أتصدقين يا راضية؟ ... أخوك الشيخ الأزهري بات يرجع كل ليلة سكران فاقد الوعي؟

وفزعت راضية وهتفت: أعوذ بالله. - أنا ... أمامه بلا حول.

ووجدت راضية نفسها أعجز من أمها حياله ... واستعانت بعمرو أفندي ولكن بليغ كان يتظاهر بالندم ويتمادى في ضلاله. وأثار فيما حوله استهجانا عاما وسخطا متصاعدا، فترامت الأنباء إلى إدارة الأزهر، وانتهى الأمر بفصله وطرده بدون أن يحصل على العالمية. وجد نفسه ضائعا وبلا مورد. وكانت أمه تملك قطعة أرض فضاء فنزلت له عنها فباعها، وقرر أن يستثمرها في بقالة الجملة. وسافر إلى أهل أبيه في قليوب وراح يشتري الجبن والسمن، ويحملها إلى القاهرة ليوزعها على البقالين، وقامت الحرب العظمى الأولى فأثرى ثراء مذكورا وتحسنت أحواله. ومن يومها أخذ نجمه في التألق والصعود. وفي تلك الفترة تزوج من أمينة الفنجري؛ أسرة ذات مال واحترام، ولما قامت الحرب العظمى الثانية بلغ غايته من الثراء، فشيد العمائر، وبنى لنفسه سراي في القبيسي عرفت في الحي ب «عابدين القبيسي» لعظمتها وفخامتها، ولم ينجب إلا ولدا واحدا رآه من كبار القضاة، وأثبت أنه تاجر ماهر، ولكنه لم يتخل عن الداء الذي طرد من أجله من الأزهر حتى آخر عمره. وكان يزور بيت القاضي في الحنطور تارة أو السيارة فيما بعد، محملا بالهدايا، مشيعا في الخلق الأثر الذي يتابعه خفية بسرور لا مزيد عليه. وكان يحافظ على صلاته وصومه وزكاته محافظته على كأسه، ويثابر على الاستغفار مثابرته على الغرور والفخار. وقد امتد به العمر حتى مشارف الخمسينيات، بعد أن رحل أحمد عطا وعمرو وسرور ومحمود عطا وجليلة أمه وأخواته نهيرة وشهيرة وصديقة فلم يبق بعد إلا أخته الكبرى راضية مؤاخية العفاريت. وقد أصيب بتليف الكبد، ولازم الفراش الوثير نصف عام ثم فارق الحياة وهو نائم، أو هكذا خيل لزوجته أمينة الفنجري.

بهيجة سرور عزيز

شهد ميدان بيت القاضي ملاعب طفولتها مع أخيها لبيب وأختها جميلة، ومنذ نشأتها خالطت بنات وأبناء عمها عمرو. وجمع الطبع الهادئ بينها وبين أخيها الأكبر لبيب وابنة عمها سميرة، وإن ماثلت في العمر ابن عمها قاسم. تبدى وجهها في هالة بيضاء كأمها ست زينب مشربة بحمرة. صافية العينين الخضراوين، في صوتها دسامة تذكر بصوت والدها سرور أفندي. وفي سجيتها رزانة فطرية جرت عليها تهمة ظالمة بثقل الدم، ومحافظة على التقاليد وتدين حصناها ضد عبث الصبا. واكتفى في تعليمها بالكتاب كبنات عمها وأختها جميلة. وتفرغت مثلهن لفن البيت من طهي وحياكة وما يجري مجراهما، وأخذت موضعها منذ وقت مبكر في محطة الانتظار التقليدية، انتظار ابن الحلال. ولعل أنسب أحد لها من الأسرة كان حامد ابن عمها، ولكن آل عطا المراكيبي استولوا عليه بوضع اليد مما أثار أشجان سرور أفندي وزوجته زينب هانم. وكانا قد مرا بالتجربة نفسها عندما راودتهما الأحلام في زواج عامر من جميلة. وعلى ذلك قام سرور لشقيقه عمرو: ألم تفكر في بهيجة قبل أن تهدي حامد لمحمود المراكيبي؟

فقال له عمرو: نحن يا سرور فقراء على باب الله ونبحث لطيورنا عن ريش، وابنتك جميلة والحمد لله ولن يطول انتظارها.

من أجل ذلك تناقضت عواطف سرور حيال شقيقه الأكبر بين الحب والمرارة، كعواطفه حيال أهله جميعا مما أطلق لسانه فيهم كالخنجر بلا رحمة، ومما أنزله في النهاية من قلوبهم منزلة لا تقارن بحال بالمنزلة التي حظي بها أخوه عمرو. وغضبت زينب زوجته لذلك الجواب الناعم المحبط الذي يلطمهم به للمرة الثانية، وقالت بسخط شديد رغم أنها لم تخرج عن برودها السطحي: أنا أعرف السر وراء ذلك كله!

فقال سرور: المسألة أن أخي شديد الشعور بضعته بين أقاربه الأغنياء، ويتحرق دائما على التعلق بفروعهم العالية. - ولا تنس راضية ربيبة الجان والسحر أنها تغار مني وتضن علي بالخير.

لم تكترث بهيجة لضياع حامد ... كانت تنفر من خشونته وابتذاله. في الوقت نفسه راقبت بازدراء شديد العبث الفاضح الذي تمارسه أختها جميلة مع ابن عمها قاسم. كانت أختها ابنة ست عشرة وابن عمها في الثانية عشرة أو يزيد قليلا، فما هذا الذي تضبطه أحيانا فوق السطح أو تحت بئر السلم؟! الأخلاق تأباه والدين يتوعده وهي تكتمه خوف العواقب. ولما خطبت جميلة وعقلت وجدت نفسها تفكر في قاسم بدورها. لم تكن كأختها النزقة المجنونة. خفق قلبها بعاطفة رقيقة ولكن داخل قفص ذي قضبان صلبة من الحياء والتقاليد. وقد انتبه الفتى لها وقرأ في عينيها الصافيتين النداء الصامت، وسرعان ما لبى مفعما بالشهوة والأمل في أن يواصل معها العبث الذي انقطع بضياع جميلة. ولكنه وجد قلبا وإرادة من فولاذ. وحام حولها كالمجنون حتى قالت لها أمها: إنه من سنك فلا يصلح لك.

لم تعترض ولكنها لم توافق فقالت الأم: أمامه مرحلة طويلة ولا تنسي أمه.

وشعرت بالتعاسة. ولما ألم بالفتى ما ألم فاعتبر مفقودا غرقت في التعاسة حتى قمة رأسها. ولم تر بدا من العودة إلى محطة الانتظار. ولكن انتظارها طال دون سبب حتى وضعتها ألسنة الأسرة في سلة واحدة مع دنانير بنت عمتها رشوانة. البنت جميلة ومثال كريم للأخلاق الفاضلة، فلم صد عنها الخطاب؟! وطال الانتظار وانكسار القلب حتى توفي عمها عمرو وأبوها سرور وأمها زينب.

وجاء عام 1941 وهي وحيدة في بيتهم القديم المجاور لبيت عمها في بيت القاضي، تعاونها أم سيد، وينزل بها أخوها لبيب كالضيف الذي أقصاه عمله عن القاهرة. وجعلت تقترب من الثلاثين وهي تمضغ اليأس ليل نهار، وليس لها من الدنيا إلا نصيبها من معاش أبيها. وفجأة - وكأنما بوحي - انتبه لها الشيخ قاسم من جديد وقال لأمه: أريد أن أتزوج من بهيجة!

واعتبرت راضية الطلب كرامة من كراماته، وأمرا تنزل يحيط به الغمام، فحدثت لبيب في أول زيارة. ففكر الرجل طويلا. ابن عمه لا ينقصه المال ولكن ...! وعرض الأمر على أخته فتلقى الموافقة. أهو اليأس؟ أهو الحب القديم؟ ... أهو الخوف من الوحدة؟

وتم الزواج الذي تندرت به الأسرة طويلا في ليلة تعرضت فيها القاهرة لغارة جوية طويلة وزلزلت أركانها بدوي المدافع المضادة.

وانتقلت بهيجة إلى بيت عمها، لأن قاسم أمر بألا يغادر بيته. ومضت أعوام دون أن تنجب ولكن قاسم طمأنها قائلا: سوف تنجبين ذكرا عندما يرضى القمر.

وقد أنجبته في عام 1945 وأسماه أبوه النقشبندي، بدأ حياته التعليمية عقب قيام ثورة يوليو، وثمل طوال عهد دراسته بالعظمة والمجد، وحظي بوجه مشرق وقوام رشيق وذكاء لماح، وتخرج مهندسا عام 1967. وتقرر إرساله في بعثة، ودعت له راضية وهي في قمة شيخوختها، وقال له أبوه: الله معك، إني أودعك بلا دموع.

وسافر النقشبندي إلى ألمانيا الغربية بعد مضي أشهر على 5 يونيو، مهيض الجناح حزين الفؤاد، وعلم هناك بموت الزعيم فلم يحزن، ولما حصل على الدكتوراه عدل نهائيا عن العودة إلى مصر، وعمل في ألمانيا وتزوج من ألمانية ثم تجنس بالجنسية الألمانية، ولما علم أبوه بذلك قال مرة أخرى: الله معك، إني أودعك بلا دموع.

وبعد رحيل راضية بقي قاسم وبهيجة في البيت القديم وراء شجرة البلخ التي شهدت حبهما القديم، وما زال قلباهما ينبضان بالحب والعزلة.

حرف الجيم

جليلة مرسي الطرابيشي

ولدت في أواخر الربع الأول من القرن التاسع عشر في باب الشعرية لأب كان يعمل في مصنع الطرابيش الذي أنشأه محمد علي فيما أنشأ من مصانع. وكان الأب قريبا للشيخ القليوبي وغير بعيد من بيته بسوق الزلط، فخطب ابنته جليلة لابنه الشيخ معاوية الذي بدأ حياته في ذلك الوقت كمدرس مبتدئ بالأزهر الشريف. هكذا صارت ربة البيت القديم بسوق الزلط وعرفت في الحي بجليلة الطرابيشية. وكانت ذات قامة طويلة، جعلتها تنظر إلى الشيخ من عل - الأمر الذي لم يغفره لها أبدا - سمراء رشيقة ذات جبهة عالية وعينين بنيتين نجلاوين، وقد أنجبت له مع الأعوام راضية وشهيرة وصديقة وبليغ ، وعرفت بأنها موسوعة في الغيبيات والكرامات والطب الشعبي، وكأنما أخذت من كل ملة بطرف بدءا من العصر الفرعوني، ومرورا بالعصور الوسطى. وحاول الشيخ معاوية ما استطاع أن يلقنها أصول دينها ولكنه من خلال المعاشرة الطويلة أخذ منها أكثر مما أعطاها. فكان يطاوعها «حين المرض» وكلما دهمه خطب من خطوب الحياة، يسلمها رأسه لترقيه، أو يستسلم لبخورها، أو يردد وراءها بعض التعاويذ. وكانت صلبة، عنيفة إذا لزم الأمر، فكانت الجارات يعملن لها ألف حساب، ولقد لقنت بناتها جميع ما لها من علم وخبرة، فاستجبن لها بدرجات متفاوتة، وبرعت راضية في استيعاب ميراثها أكثر من الجميع، وحظيت بحبها أكثر من أي من ذريتها بما فيهم الابن بليغ. وكلما أراد الشيخ معاوية التسلط عليها صمدت له بصلابة، حتى التهديد بالطلاق لا يخيفها، ولم تغب عنه قوة أخلاقها ومهارتها المنزلية الفائقة، فتراجع راضيا بالمهادنة والمشاركة. وكانت تقدس معتقداتها لدرجة التفاني والتصلب، وتجلى ذلك يوم وفاة زوجها الشيخ معاوية في عصر الاحتلال. كانت خطبة راضية لعمرو، وقد أعلنت عقب اتفاق جرى بين الشيخ معاوية وعزيز زياد والد عمرو وصديق الشيخ. وعقب الوفاة بساعة واحدة، وصوات ست جليلة يذيع الخبر المشئوم، وصل نيشان العروس، أولى هدايا العريس، على غير علم منه بما حدث. وتقبلت جليلة الهدية - سمكة في حجم ابنها بليغ - ونفحت حامليها بما قسم. وانقبض قلبها لمجيء النيشان وسط هدير الصوات، وأشفقت من عواقب ذلك على مستقبل أحب ذريتها إليها. ووقفت فوق رأس الشيخ المسجى بلحافه الأخضر وناجته من قلبها المكلوم: اغفر لي يا معاوية.

وهرولت إلى حجرة في الجانب الشرقي للبيت تطل من بعيد على جامع سيدي الشعراني وهي تقول لنفسها: لا يفك عقدة النحس إلا استقبال الهدية بما يليق.

وجففت دموعها ووقفت وراء النافذة وأطلقت زغرودة مجلجلة ترقص على أنغام فرح متدفق. ورجعت بسرعة إلى حجرة الجثمان وراحت تصوت من أعماق صدرها. ولم يغب ذلك عن بعض الآذان الماكرة، وتهامسن به، ثم تندرن به على مدى العمر وتنوقل كشهادة حية على غرابة أطوار المرأة المثيرة، التي جمعت بين التقوى والحب والجنون. ولكن لم ينل خطب من بنيانها المتين ما ناله رحيل زوجها، حزنت عليه بالطول والعرض ولبثت تلهج بمآثره الحقيقية والخيالية طيلة عمرها الطويل. فقد عمرت حتى جاوزت المائة ... بعشرة أعوم، عاصرت فيها فترة من حكم محمد علي وعهود إبراهيم وعباس وسعيد وإسماعيل وتوفيق والثورة العرابية وثورة 1919. ولم يرسب في أعماقها زمن كالثورة العرابية التي اعتبرت من أهم رجالها، وما أكثر ما روت من بطولاته وسجنه لأحفادها، وذهب بها الخيال في ذلك كل مذهب حتى ليخيل للسامع من أبناء وبنات راضية أن الشيخ معاوية هو الذي عرب محمد علي، وهو الذي اعتمد عليه عرابي بعد الله، واختلطت صورة عرابي في رأسها بعنترة والهلالي وآل البيت إكراما قبل كل شيء لذكرى الشيخ معاوية. ولم تسعد بذريتها سوى براضية وأبنائها. وحظي عمرو برضاها، وإن لم تزر بيت القاضي إلا مرات معدودات بسبب طعونها في السن، أما شهيرة وصديقة وبليغ فقد تركن في قلبها جراحا لا تلتئم. أنت تقول لبليغ وهو ملقى مخمورا على كنبة المدخل: أنت سكير عاص وعار على زيك الشريف.

ولما أورقت شجرته وصار تاجرا مرموقا قالت له: وهبك الله الثروة ليمتحنك فاحذر امتحانه.

وكان بليغ يحبها ويشك في سلامة عقلها، وقد رجعت شهيرة إلى بيتها طريدة فملأته قططا، أما صديقة فوا أسفا عليك يا صديقة.

وكان قاسم أحب الأحفاد إلى قلبها؛ يغمرها بقبلاته، وينصت لحكاياتها، ويصدقها بقلبه وحواسه، ولما حصل ما حصل، لم تجزع وقالت لراضية: أبشري، ربنا وهبك وليا.

وفي السنوات الخمس الأخيرة من عمرها نهاية الربع الأول من القرن وعند مشارف الثلاثينيات، أقعدها الكبر، وسدت المنافذ بينها وبين الوجود ففقدت السمع والبصر، وبقي لها الوعي فكانت تعرف الأحباب بأناملها، وقامت شهيرة بخدمتها ما استطاعت حتى ضاقت بها، وكانت أحن على القطط منها على أمها. وكانت تشكوها إلى راضية كلما قامت بزيارة لها، فتعاقب راضية شقيقتها وتذكرها بوصية الرسول بالأم فتقول شهيرة: ما أسهل الوعظ، ولكنك تعيشين مكرمة في بيتك وتلقين علي وحدي تنفيذ الوصية!

وفي إحدى الزيارات وجدت راضية المدخل يموج بالقطط، تموء وتتداخل بأسلوب وحشي ينذر بالدهشة، ورأت جليلة ملقاة على الكنبة مسلمة الروح، وكانت شهيرة نائمة في الدور الأعلى.

جميلة سرور عزيز

لم ير ميدان بيت القاضي وأشجاره المثقلة بأزهار «ذقن الباشا» أجمل منها إلا تكن مطرية ابنة عمها عمرو، وهبتها أمها بشرتها العاجية وعينيها الخضراوين النجلاوين، وفاقت أمها بفيها الأنيق كالقرنفلة وجسمها المدمج. وبخلاف أمها كانت تموج بالحيوية والخفة واستمدت من غرائز أبيها لفحات حارة خضبت وجنتيها بماء الورد الأحمر، وسبقت زمنها لا بالتعليم، فلم يجاوز نصيبها منه محو الأمية كأختها وبنات عمها، ولكنه بالتحرر التلقائي المنطلق بقوة نضج مبكر ونداء الأشواق المبهمة، فتلوح في النافذة لتسقي أصيص الورد، أو تخطر بنصف نقاب فيما بين بيتها وبيت عمها المجاور، أو تلاقي النظرات الجائعة بدلال متمرد، في طفولتها كانت تجول في الميدان بصحبة أخيها الأكبر لبيب، وانضم إليهما بعد سنوات قاسم. كانت تكبر قاسما بسنوات ولما ناهزت الحلم لم تجد سواه لعبة لقلبها المتحفز. وكلما خلت به لاعبته لتوقظه من براءته فتبعها في حيرة ثملة ممتعة كرؤية جمال الفجر لأول مرة، ولمس بأنامله المتشنجة جواهر حال الجهل بينه وبين معرفة قيمتها. ولما قارب الثالثة عشرة سقط في الشهد قبل الأوان. وتفتح على راحتها الناعمة المخضبة بالحناء كالوردة وأخلد بكل عذوبة إلى نفثات صدرها المضطرم، وبسبب من تلك الرعونة تصدى لها أخوها أمير، وعنفها حتى ضاقت به وبكت. وقالت له أمه: تذكر أنك أخوها الصغير.

فقال لها: سمعتنا!

فقالت زينب بهدوئها الذي لا تخرج عنه: إني أعرف بنتي تماما وهي مثال للأدب.

ولما جاوز أمير حدوده قال له سرور أفندي: دع الأمر لي.

وكان سرور أفندي يميل إلى التسامح المعتدل، وكان في ذلك الوقت يتساءل عما جعل عامر ابن أخيه عمرو يميل إلى عفت بنت عبد العظيم داود دون جميلة بنت عمه. ويقول لزوجته: الله يخيبه. أليست بنتنا أجمل؟

فتقول زينب ساخرة: أليس هو ابن راضية المجنونة؟!

ويقول سرور بمرارة: أخي يزعم أنه من أهل الطريق، ولكن رغبته في القرب من أهله الأغنياء تفوق رغبته في القرب من الله!

والحق أن جميلة أخافت الأسر المحافظة من الجيران فأحجمت عنها رغم جمالها، حتى قيض لها حظها ضابط شرطة جديدا بقسم الجمالية يدعى إبراهيم الأسواني. كان ممشوق القوام طويله غامق السمرة، رآها فأعجبته، ووجد سمعة البنت طيبة، فخطبها بلا تردد. وما يدري قاسم إلا وفاتنته ومعلمته تتغير بين يوم وليلة كتفاحة اجتاحها العطب؛ اختفت وحل بها وقار، لا يحل إلا مع الزمن الطويل، وزفت إلى العريس في مسكنه بدرب الجماميز في حفل أحيته الصرافية والمطرب أنور. وما لبثت الأسرة الجديدة أن غادرت القاهرة بحكم عمل الزوج، فمضت أعوام وأعوام وهي تشرق وتغرب دون إنجاب، وبعد أن مات سرور أفندي قبل أن يرى أحفاده من جميلة. وفي أثناء ذلك حصلت لإبراهيم الأسواني أمور، فقد كان وفديا، وافتضحت عواطفه في تراخيه بالقيام بواجبه في عهود الديكتاتوريات، حتى انتهى الأمر بفصله. وكان قد ورث عشرين فدانا فرحل بأسرته إلى أسوان، وانضم إلى الوفد جهرا، وانتخب عضوا بمجلس النواب، وثبت عضوا دائما بالهيئة الوفدية. وأنجبت جميلة بعد العلاج من عقمها خمسة ذكور عاش منهم سرور ومحمد، وكان الزواج قد حولها من الرعونة إلى رزانة عجيبة وجدية فائقة وأمومة سخية، وكأنها قد تمادت في بدانتها إلى درجة يضرب بها المثل. ولم يكن إبراهيم الأسواني يخلو من انفعالات وأحوال، ولكنها كانت كالمحيط الذي يستقبل الأمواج العالية والعواطف الهادرة ثم يهضمها في صبر وأناة كي يعود إلى هدوئه الشامل وسيادته الكاملة. فهذا يصدق أنها هي التي نصحت أمانة بنت مطرية مرة فقالت لها: على الزوجة أن تكون مروضة للوحوش!

ولما قامت ثورة يوليو أيقن إبراهيم الأسواني أن حياته السياسية قد انتهت، فاعتزل في أرضه وتفرغ للزراعة، وكان ابناه سرور ومحمد قد صارا ضابطين طيارين، وانقرضت هذه الأسرة بقضاء لا راد له. أما إبراهيم الأسواني فقد قتل في تصادم بين قطارين عام 1955. كان في الخامسة والخمسين وجميلة في الخمسين . وأصيبت طائرة سرور في حرب 1956 ولقي مصرعه، ولحق به أخوه محمد في حرب 1967، وأنقذت جميلة من الوحدة والأحزان عام 1970 فماتت بسرطان المعدة وهي في الثالثة والستين من عمرها. وكانت حين وفاتها كأنها مقطوعة من شجرة لا أهل لها.

حرف الحاء

حازم سرور عزيز

من أيامه الأولى نشأ عزوفا متوحدا يقف أمام بيته مبتعدا عن إخوته وأبناء عمه يتفرج على الرائح والغادي بين حارات الميدان. لم يدخل بيت عمه عمرو مرة واحدة، وكان عمرو يقول لسرور ضاحكا: ابنك حازم عدو للبشر.

وكان وسيما كأمه، قصيرا كبهيجة، وفي عينه اليسرى ضعف طبيعي بلغ بها العمى، ولم ير ضاحكا أو منفعلا قط. وتجلت نجابته منذ كان في الكتاب فأوشك أن يعيد سيرة أخيه الأكبر لبيب، وانحصر في ذاته فلم يعرف هدفا في الحياة سوى النجاح والتفوق، وجهل وجوده جميع أهله من آل عطا وآل داود. ولتفوقه لم يكلف أباه مليما في تعليمه، حتى الهندسة دخلها بالمجان بكل جدارة وتبين لأخيه أمير أنه لا يعرف اسم رئيس الوزراء ولا ينظر في الصحف ولا تصل إلى وجدانه أي موجة من بحر الأحداث التي يضطرب بها الوطن. وسأله: أتظن الدنيا مذاكرة فحسب؟!

ولكن لم يكن بوسع أحد أن يجره إلى مناقشة على الإطلاق. ولما رحل أمير ضحية لجهاده، ذهل وصمت ووجم ولم ينبس بكلمة ولم يذرف دمعة، وسرعان ما واصل حياته وتخرج مهندسا في عام 1938، ولم يتجه نحو الحكومة بسبب عجزه، ولكنه وجد وظيفة أفضل في شركة مقاولات الدكتور محمد سلامة الذي كان أستاذا له في المدرسة. كان الدكتور المهندس يعجب به ويحبه ويرى فيه مثالا للذكاء والعمل والبعد عما يثير المتاعب. وكان يزور أستاذه في ڨيلته بالدقي لإنجاز بعض الأعمال، وهناك عرف كريمته سميحة. كانت على درجة من الجمال مقبولة ولكنها كانت كريمة مديره وأستاذه، وهو الأهم. ولم يغب عن فطنته أن البك يشجع تعارفهما، وأدهشه ذلك لما يعرفه الرجل من بساطة أصله وفقره. وركبه الغرور حينا من الدهر، إلى أن تم الزواج وأقام في شقة بعمارة يملكها الدكتور المهندس وحسب أنه ملك العالمين. هناك وضحت له الحقيقة وجابهته بوجه منذر بالخطر، بأن العروس ذات جهاز عصبي لا يخلو من خلل، وسرعان ما أسفرت عن طبيعة لا يمكن مداراتها. كانت عاصفة تهيج وتنتشر لأوهى الأسباب. وربما بلا سبب ألبتة. وكان قد خلق بجهاز مانع للصواعق فطري اقتبسه من ست زينب أمه، وكان يعيش برأسه لا بقلبه، فقال لنفسه وهو ملتف بالروب الحريري الكحلي وغائص في الفوتيل بحجرة المعيشة: ليكن، فهي زيجة على أي حال عادلة.

ضمنت له مستقبلا يعز عن الأحلام، وهو يملك من الذكاء والهمة ما يجعله قادرا على استثماره على خير ما يمكن أن يكون، ولو كانت سميحة عروسا كاملة أو حتى عادية لاستحقت زوجا من طبقتها في درجة عالية أو في السلك السياسي، ولقد أهداها أبوها إليه بعد تفكير وتدبر وعليه أن يقبل الهدية بتفكير وتدبر كذلك، وقال لنفسه أيضا: إن تكن مريضة فأنا الطبيب!

وقد كان.

وتتابعت وفيات آل سرور وعمرو الهامة قبيل الحرب العظمى الثانية، وفي أثنائها بدأت برحيل عمرو، فسرور، ثم زينب. وكانت سميحة قد ضاقت بزيارات أمه وأبيه وإخوته فقررت في لحظة جنون ألا تشارك في العزاء! ونظر إليها بتوسل وقال: ولكن.

وضمن لهجته كل المعاني المطلوبة ولكنها قالت بحدة: لن أذهب إلى ذلك الميدان المليء بالحشرات، ولا أحب أن يجيئني أحد منه.

ولم يغضب ولم ينبئ وجهه عن شيء، وسرعان ما انقطعت العلاقة بينه وبين أهله. واندمج في أهلها كظل لها ونسي أصله. غير أن طاعته العمياء لم تكفل له السلامة. فعلى أثر سهرة في شقته شهدتها حماته وأختها وبعض الأقارب، قالت له لما انفردا بنفسيهما: لم تعجبني، غلب عليك الصمت، وبدرت كلماتك القليلة بلا معنى ...!

فقال معتذرا وبأسلوب غاية في الأدب والرقة: الكلام الكثير يوجع رأسي، ولم يجر ذكر لأي موضوع هام.

فصرخت: إن لم يكن الكلام في الهندسة يصبح لغوا؟

فلاطفها بابتسامة وإذا بها تثور وتهدر بأقسى الألفاظ ثم تقبض على فازة ثمينة وتقذف بها الجدار فتتحطم وينهال حطامها على غطاء الكنبة المطرز بالكانافاه. ونظر إليها باسما مشفقا ثم قال بحنان: لا شيء في الوجود يستحق أن تجشمي نفسك من أجله هذا الغضب كله ... ولكن الشقة شهدت أيضا العناق والأبوة والأمومة، وقد أنجبت له حسني وأدهم، وعلا مركزه بثبات وجدارة في الشركة، وزاد اعتماد محمد بك سلامة عليه مع الأيام حتى حل محله - بعد وفاته - نيابة عن سميحة، وشارك في رأس المال بمدخراته، وازدهرت الشركة في عهده أكثر من ازدهارها الأول، وشيد حازم فيلا في الدقي انتقلت الأسرة إليها، وقد هضم نزواتها جميعا ببطولة خارقة، ولكن بعض النزوات بدت عسيرة في هضمها. مثال ذلك أن محمد بك سلامة كان عضوا في الهيئة الوفدية، على حين أن حصيلة حازم من السياسة كانت صفرا، ولكنه بإزاء حماسها أعلن في البيت على الأقل وفديته. وهي لم تقنع بالإعلان البارد، فرجع يوما إلى شقته فرأى صورة النحاس معلقة مكان صورة سرور أفندي أبيه. نظر واجما دون أن يجرؤ على إبداء أي ملاحظة فقالت: إني أتشاءم من صور الأموات، وهذه صورة زعيم الأمة ... ولم يبد أي ملاحظة حتى بعد أن رحل محمد بك سلامة والنحاس وظلت صورتاهما بمكانهما! ويوم انتقلت الأسرة إلى الفيلا الجديدة ضحكت ضحكتها العالية وقالت: احمد ربنا يا غبي، رفعناك من الحضيض إلى القمة.

فقال باستسلام: الحمد لله على كل شيء.

فقالت مقطبة: ولا تنس نصيبي من الشكر.

فقال ببروده المعهود: أنت الخير والبركة.

ولما قامت ثورة يوليو خاف أن تكون وفديته المزعومة قد جاوزت جدران مسكنه ولكنه لم يتعرض لسوء، ودأب على مدح الثورة في شركته، والحملة عليها في بيته مجاراة لسميحة، وهو يقلب عينيه فيما حوله مستعيذا بالله. ولدى كل مناسبة تقول بحنق: هل سمعتم عن بلد تحكمه مجموعة من الكونستبلات؟!

فيهمس في أذنها بتدخل: احذري الخدم ... والجدران ... والهواء.

وشد ما فرحت بالعدوان الثلاثي وشد ما خابت آمالها. وفي 5 يونيو أغلقت على نفسها حجرتها وراحت ترقص، وساعة بلغها نبأ وفاة الزعيم زغردت حتى هب حازم واقفا وهو يصرخ لأول مرة: أنا في عرضك!

وكانت الشركة قد أممت، ولكن سائر مقتنيات الأسرة لم تمس، وفي عهد السادات بلغ حازم ذروته الحقيقية، وفتح مكتبا هندسيا وبات في عداد أصحاب الملايين. وقالت سميحة عن الزعيم الجديد: حقيقة أن وجهه أسود، ولكن قلبه أبيض.

ولكن لعل هزيمة سميحة على يد ابنها حسني فاقت هزيمتها السياسية ضراوة. من بادئ الأمر، أرادت أن تسيطر على الذرية كما سيطرت على الأب ولكنها سجلت خيبة كاملة. أما حسني فقد حطم السدود والقيود، أما أدهم فلم يخيب أحلامها بعد أن صنع حياته بقراره المستقل عن الجميع. ولم تجد سميحة من تصب عليه غضبها سوى حازم فقالت له باحتقار: لولا ضعفك وغباؤك لما كان ما كان.

وسقطت في كبرها فريسة للاكتئاب حتى اضطرت إلى قضاء شهر في مصحة أعصاب بحلوان. وبقي حازم صامدا رغم إصابته بالسكر، بل لعله تكيف تماما مع معاشرة المرأة المريضة. أجل، شد ما تمنى موتها فترة طويلة من عمره خاصة بعد وفاة حميه. كانت تراوده أحلام غريبة، فيراها مرة ضحية حادث للسيارة، أو مرض عضال، أو غريقة في البحر الأبيض، أو ... أو.

ولكنه كف عن أحلامه، واستوحش البيت حين إقامتها بالمصحة، واعتبر نفسه قد حقق حلمه الأبدي في النجاح والثراء.

حامد عمرو عزيز

منذ نشأته الأولى بدأ نبتا شاذا في أرض أسرته. ولعل عمرو أفندي لم يتعب في تربية أحد من ذريته كما تعب في تربيته، أحب اللعب والعراك واكتسب ثروة من قاموس أوباش الحواري والأزقة، وطالما مارس عنفه مع أخواته برغم أن ترتيبه كان السادس بينهم. ونتيجة لذلك تعثرت خطواته في الكتاب والمدرسة، وكثيرا ما يرجع إلى البيت القديم ممزق الجلباب أو دامي الأنف، فيتعرض لمجابهة أخيه الأكبر عامر، ولم يكن يتورع عن ضربه أحيانا، بخلاف عمرو أفندي الذي كان يقنع بالزجر والنصيحة والتهديد، وتظل راضية من أجله في تعامل متواصل مع الرقى والتعاويذ وتنذر النذور لأضرحة الأولياء.

وكان يضمر أخبث النوايا لبنات الأقارب مثل جميلة وبهيجة ابنتي عمه. ودنانير بنت عمته رشوانة، لولا سوء سمعته الذي حمل الأمهات على الحذر منه. وامتاز أيضا بين آله بضخامة في الجسم وكبر ووضوح في القسمات أضفت عليه حال رجولة مبكرة. وكان حلمه الأثير أن يقود عصابة مثل مشاهير الفتوات الذين يهدمون اللذات في حيه العريق. ولما حصل على شهادة الكفاءة بعد أكثر من محاولة نصح محمود عطا المراكيبي والده بأن يختصر الطريق ويدخله مدرسة الشرطة، قال: هو الحل الذي وجدته لابني حسن.

ورحب عمرو أفندي بالنصيحة فتعهد محمود عطا بتذليل العقبات بشفاعته التي لا ترد، باعتباره من الأعيان المرموقين. هكذا دخل حامد المدرسة مع حسن ابن خال أبيه في عام واحد. وجاهر محمود برغبته في تزويج حامد من كبرى بناته شكيرة فسر عمرو بتلك الرغبة التي توثق علاقته بآل المراكيبي، كما وثق ابنه عامر علاقته بآل داود. هيأ الزواج لفرعه الذابل من أسباب المجد ما لم يكن يحلم به وعزز موقعه في الشجرة الشامخة فشعر بالرفعة والرضا. وسر حامد أيضا - رغم منظر خطيبته الذي لا يسر - لطموحه إلى طيبات الحياة. راضية وحدها امتعضت وقالت: يا له من اختيار يستحق الرثاء.

فقال لها عمرو: احمدي الله يا وليه.

فقالت بحدة: الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه!

فقال الرجل برجاء: البيوت السعيدة تقوم سعادتها على الأصل والأخلاق.

فقالت بسخرية: والمال! ... آه يا ناري!

وأفضى سرور أفندي باستيائه إلى شقيقه، وراح يفسر الأمر فيما بينه وبين نفسه برغبة أخيه الجامحة في التعلق بأذيال أقاربه الأغنياء، وبأن محمود عطا اختار بنفسه عريسا لابنته كحامد لشعوره العميق بتفاهة ابنته، وبأنه إذا لم يظفر لها بشخص بسيط مكبل بأفضاله فلن يتقدم لها إلا بلطجي ممن يطمعون في مالها واستغلالها ونهبها. ولما اتهمت ست زينب راضية بأنها لا تحب لهم الخير، قال لها سرور: المسألة أكبر من راضية، إنها صفقة يبدو حامد في ظاهرها هو الرابح، والحقيقة أن الرابح الحقيقي هو المراكيبي وابنته التي ما كانت لتجد عريسا يجبر الخاطر، وأخي رجل طيب ومغفل.

ولم تسر واحدة من بنات عمرو، وقالت صدرية معلقة على الخبر: سيتزوج أخي من رجل كامل الرجولة!

ولما قامت ثورة 1919 كان حامد في السنة النهائية، وقد مال قلبه إليها بمجامعه، واتهم بالتحريض على الإضراب، وحوكم، وأنزل إلى السنة الأولى من جديد، وكان الجميع يستبقون في بذل التضحيات، فلم يحزن عمرو أفندي كثيرا، وحمد الله على أنه لم يفصل ويلق به في الطريق. ولما تخرج ضابطا، كانت مكانة محمود بك قد ارتفعت بإعلان ولائه للملك، فأمكنه أن يلحق حامد بالمراكز الرئيسية في الداخلية مع ابنه حسن، وسرعان ما زفت إليه شكيرة دون مطالبته بأي تكاليف فعلية، فانتقل من البيت القديم ببيت القاضي إلى سراي ميدان خيرت ليحتل هو وعروسه جناحا صغيرا في الطابق الأوسط الخاص بآل محمود.

نقلة ثورية بلا شك، ربيب الحواري في زواياها الكاسدة يجد نفسه بين يوم وليلة في سراي سامقة، تحيط بها حديقة غناء، وتزينها التحف والتماثل والأثاث الفاخر، وتطربها لغة الهوانم الرفيعة بأعذب ألحانها، وتحفل موائدها بأطيب الأطعمة، وتعبق إلى جانب ذلك بمناخ ديني مهذب لا أثر فيه لغيبيات راضية الخارقة. وجد حامد نفسه في قفص يحرسه رجل جبار هو محمود عطا المراكيبي وهانم غاية في العذوبة والجمال هي نازلي هانم، أما شريكة حياته وقريبته فكادت تكون صورة من أبيها في تكوينه الصلب ونسخة من أمها في التهذيب والورع. ولم يكن بوسعه أن يغير من طبعه، فقد تعامل في صباه مع البلطجية وها هو يواصل تعامله معهم كضابط شرطة كلما تمادوا في انحرافهم! ولم يكن من الممكن أن يولد حب في خليته الصغيرة، وما جرب في حياته سوى اللذة العابرة، ومنذ الأسابيع الأولى في حياته الزوجية أسفرت طبيعته عن حقيقتها في الكلمة والفعل. أجل لم ينس القفص والحارسين، كان يهاب محمود بك أكثر من أبيه، ويقف أمامه كما يقف أمام رؤسائه العظام بالداخلية، فكبح جماحه، على قدر استطاعته، وروض نفسه على الرضا بواقعه، لكن العادة قاهرة واللسان خائن. وقد ارتعبت العروس وهمست لأمها: إنه غاية في الابتذال، أكله وشربه وحديثه .

وكانت الهانم ست بيت بالمعنى الكامل؛ طالبتها بالحكمة والصبر، وقالت لها: كل ذلك لا يمنع من أن يكون رجلا صالحا.

كانت خير وساطة بين الطرفين ولم يدر أحد شيئا عما يدور في الجناح الجديد. سرعان ما اعترضت الهانم مشكلة جديدة نشأت عن الكراهية المتبادلة بين راضية وشكيرة. لم تكن راضية تدري كيف تداري عواطفها، وكانت شكيرة لا تمارس النفاق. وكانت المودة بين نازلي هانم وراضية كاملة، ولكنها كانت في أعماقها تؤمن بخطورتها، وقالت لابنتها: حذار، حماتك عليمة بفنون السحر وأسرار الأولياء، وأنا أصدق ما يقال من أنها مؤاخية للعفاريت، أعطيها حقها الكامل من الاحترام والمجاملة.

وكانت تتوسل إلى راضية قائلة: من أجل عشرتنا وحبنا اصفحي عن ابنتي وامسحي أي خطأ منها في وجهي.

في خضم ذلك الاضطراب أنجبت له وحيدة وصالح وحظيت من حياتها المتوترة بشيء من العزاء، رغم أنها حياة لم تعرف الحب ولا السلام، كما أن منغصاتها انحصرت في أضيق الحدود. ولما وقع الشقاق بين الشقيقين محمود وأحمد، وتمزقت وحدة الأسرة، خشي عمرو أن يجرف ابنه تيار عداوة لا شأن له بها. وكان عمرو يسعى لإصلاح ذات البين، ويحافظ على علاقته الطيبة بخاليه فنصح حامد بأن يلتزم بموقفه هو - عمرو - وألا يقطع صلته بأحمد بك، وسعى لدى محمود حتى انتزع منه موافقته على ذلك، وارتاح حامد لذلك إذ كان يميل في أعماقه إلى خاله أحمد ويؤمن بعدالة مطلبه. وفي الفترة السابقة للحرب العظمى الثانية وما تلاها من أعوام، رحل عن الدنيا أحمد وعمرو ومحمود فشعر حامد بتحرره من الرقباء، وبلغت علاقته بزوجه الغاية من السوء. وقد أشقى ذلك فيمن أشقى وحيدة وصالح فتمزقا بين والديهما. أجل كانت شكيرة صاحبة الأثر الأكبر في تربيتهما؛ فنشآ نشأة مهذبة، وعرفا بالاجتهاد والتدين، ولم يعفيا والدهما قط من الاتهام وأدانا معاملته الفظة لأمهمها وإن حافظا ما استطاعا أمامه على الحياد والأدب. ولكنه تلقى نجواهما من نظرات عينيهما، وشعر بالغربة والغضب. وظل حامد على إيلاء حماته بما تستحقه من احترام ومجاملة، ولكنها اضطرت أن تقول له: لقد أدميت قلبي بسوء معاملتك لشكيرة.

وكان يحقد على شكيرة ويتصور أنها التهمت خير سني حياته بغير حق. وتلاحيا مرة وتبادلا كالعادة كلمات قاسية، وإذا بها تصرخ في وجهه، وهي تبكي: إني أكرهك أكثر من الموت.

وأقدم على الحلم الذي راوده طويلا فطلقها، وقال معتذرا لقريبه وصديقه وزميله حسن شقيقها: معذرة، لم أعد أحتمل، وكل شيء بمشيئة الله.

ولم يعد إلى البيت القديم في بيت القاضي إلا شهرا واحدا. ولخصت راضية موقفها قائلة: ما كان يجب أن يتم ذلك الزواج، ولكن ما كان يحق لك الطلاق إكراما لوحيدة وصالح.

رغم أنها اتهمت في السراي بأن سحرها كان وراء الطلاق كما كان وراء فشل الزواج من أول يوم.

وانتقل حامد إلى شقة في عمارة جديدة بشارع المنيل دله عليها قريبه حليم بن عبد العظيم باشا داود حيث كان يسكن شقة أخرى بها. وفي الخمسينيات وهو يقترب من الخمسين أعجبته أرملة في الأربعين تدعى عصمت الأورفلي فتزوج منها وجاء بها إلى شقته بادئا حياة جديدة. ووهنت علاقته بوحيدة وصالح وإن لم تنقطع. ولما قامت ثورة يوليو أحالته إلى المعاش ضمن ضباط الشرطة الذين اعتبرتهم أعداء للشعب، علما بأنه حافظ على وفديته في قلبه دائما، ولكن الثورة عدت الوفديين أعداء للشعب أيضا. وانطوى على نفسه حينا في مسكنه مع عصمت حتى تبين له أن حكيم ابن شقيقته سميرة من المقربين ومن أصحاب النفوذ، فطلب إليه أن يفعل شيئا من أجله، وفعلا تعين مدير علاقات عامة بعمر أفندي بخمسين جنيها شهريا إلى معاشه. وطابت له الحياة نوعا ما، ووجد في الزوجة الجديدة امرأة محنكة تعاملت بمكر حسن مع نزواته وابتذالاته وهيأت له حياة مستقرة ... لا انفصام لها فيما بدا. ولم ينقطع أبدا عن زيارة البيت القديم والتودد الصادق لأمه وأخيه قاسم، وكان يجد في غرابة أطوارهما ما يسره ولا يكف عن ممازحتهما. يترك جبينه لأمه تلثمه بحنان، ويسلم رأسه لها لترقيه وتتلو عليه الصمدية وبعض محفوظاتها من الأوراد، ويسأل أخاه عن الطالع والمستقبل، ثم يجول في ربوع الصبا ويزور الحسين قارئا الفاتحة، وكان ذلك يمثل الغاية والنهاية في حياته الدينية. وكان أيضا يزور بيوت أخواته وبيت أخيه عامر وآل داود. وفي تلك الفترة من حياته توثقت علاقته بحليم بن عبد العظيم باشا، وقد جمع بينهما نفس المصير على يد الثورة، كما توثقت صلته أكثر بابن عمه لبيب، وكان يشارك الأول في تدخين الحشيش، وكان يشارك الأخير في السكر، ثم يؤاخي بين أرواحهم نقد الثورة والسخرية برجالها وتذكر أيام العز الماضية. لم ينغص عليه صفوه إلا شعوره المطارد بأن وحيدة وصالح لا يكنان له من الحب ربع ما يكنه لهما منه، وأنهما يؤثران أمهما عليه بلا حدود. وشهد بكل وجدانه مآسي وطنه. ومآسي أسرته، وشهد أيضا وثبة أكتوبر 1973، وفي العام التالي شعر بضعف، شخص أولا بأنه فقر دم، ثم عرفت زوجته من نتيجة التحاليل أنه سرطان دم، وأن النهاية واقفة أمام الباب. ولم يدر ما أصابه، ونقل إلى المستشفى وهو يجهله، وشهد ساعاته الأخيرة الممزقة بنزع الألم زوجته ووحيدة وصالح، وفي اللحظات الأخيرة طلب رؤية راضية ولكن تعذر ذلك بطبيعة الحال لأنها من ناحية كانت قد جاوزت المائة، ومن ناحية أخرى لم تعلم بمرض ابنها، وظلت على جهلها به حتى وفاتها. وأسلم الرجل الروح بعد عذاب، وودعته دموع زوجته ووحيدة وصالح. أما شكيرة فلم يخفف الموت من كراهيتها العميقة له.

حبيبة عمرو عزيز

إن يكن لميدان بيت القاضي والحواري التي تصب فيه وأشجار البلخ السامقة أثر في قلوب آل عمرو وآل سرور، إن يكن للمآذن والدراويش والفتوات والأفراح والمآتم أثر، إن يكن للحكايات والأساطير والعفاريت أثر، فهي حياة تجري مع الدم وتكمن في جذور البسمات والدموع والأحلام في قلب حبيبة - الخامسة في ذرية عمرو أفندي - لم تطق مغادرة الحي على سنوح الفرص الباهرة، ولم يحب الأب أو الأم أحد كحبها لهما، ولا الإخوة ولا الأخوات ولا أبناء العم ولا بناته، حتى الجيران والقطط. بكت كل راحل وراحلة حتى عرفت بالنائحة، وحفظت الذكريات والعهود، وثملت دائما بالماضي وأيامه الحلوة. كادت في الجمال أن تماثل سميرة لولا سحابة تعلو عينها اليسرى، ووقف حظها من التعليم عند محو الأمية، وسرعان ما استردت أميتها لإهمالها. ولم تعرف من الدين إلا دين أمها الشعبي، ولكنها اقتنعت بأن عشق الحسين هو خير وسيلة إلى الآخرة. وفي سن السادسة عشرة خطبها مدرس لغة عربية يدعى الشيخ عارف المنياوي من زملاء أخيها عامر وزفت إليه في الدرب الأحمر، وبعد عام من حياة سعيدة أنجبت له «نادر»، وبعد عام ثان سقط الرجل في قبضة السرطان ومضى قبل الأوان. وهتفت راضية من قلب مكلوم: ما أسوأ حظك يا ابنتي!

وعاشت حبيبة مع حماتها على دخل دكانين بالمغربلين، مكرسة حياتها لوليدها، أرملة دون العشرين من عمرها. وأحبت نادر حب الأمومة المعتاد بالإضافة إلى حب قلب كأنما تخصص في الحب. ولما أنهى نادر مرحلة الكتاب في أوائل الثلاثينيات أراد محمود بك عطا أن يزوجها من عمدة ببني سويف. وقد رحبت الأسرة بذلك، وكان عليها أن تسلم نادر إلى عمه، ولكنها رفضت بقوة، أبت أن تسلم ابنها كما كرهت أن تغادر الحي. وقال لها حامد أخوها: أنت مجنونة، ولا تدرين ماذا تفعلين!

فقالت: بل أدري ما أفعل تماما.

وحاول عمرو، وحاولت راضية، ولكنها لم تعدل عن قرارها. وتخرج نادر في مدرسة التجارة العليا في أثناء الحرب العظمى الثانية، وتعين في مصلحة الضرائب، ولكنه عرف من أول يوم بطموحه الذي لا حد له، وراح يدرس اللغة الإنجليزية في أحد المعاهد الخاصة، وأشفقت أمه عليه من انهماكه في العمل ما بين المصلحة والمعهد. وتسأله: لماذا تكلف نفسك هذا التعب كله؟!

ولكنه كان راسما هدفا، ولم تكن قوة هناك لتحيد به عنه. أما حبيبة فقد توجت الكهولة حياتها الجافة فبليت وتبدت كالعليل. وراقبت صعود ابنها بسعادة، ولم يكن يضن عليها بمال، ولكنها أبت أن تهجر الدرب الأحمر إلى مغانيه الجديدة. ولما تركها إلى بيت الزوجية غاصت في غربة مخيفة لم تفلت من قبضتها حتى الموت. وقالت لها راضية : نحن نربيهم لهذا، وعليك أن تفرحي وتحمدي الله.

فقالت بانكسار: شد ما ضحيت من أجله!

فقالت راضية: هكذا كل أم، وعليك أن تزوري سيدي يحيى بن عقب.

وكانت حبيبة آخر من مات من آل عمرو، فبكت الجميع بحرارتها المعروفة حتى صفت عينيها، ولما ماتت لم تجد من يبكي عليها.

حسن محمود المراكيبي

نشأ في أحضان النعيم ما بين السراي الكبرى بميدان خيرت وسراي العزبة ببني سويف. وكأنما جيء بنازلي هانم إلى آل المراكيبي لتحسين النسل، فتجلى أثرها الطيب في الذكور، ومنهم حسن الذي عرف بطول قامته ووسامته ومتانة عوده. وبفضل تقاليد تلك الأيام وسماحة القاهرة على عهدها لم يكن يمر أسبوع دون تزاور بين ميدان خيرت وميدان بيت القاضي، وأراد محمود بك أن يوجه بكريه لدراسة الزراعة لينتفع به في حينه، ولكن إقباله على الدراسة كان فاترا كقريبه حامد، فأدخلهما الرجل مدرسة الشرطة معا. وغمرته ثورة 1919 بعواطفها القوية وإن لم يتعرض بسببها للأذى كما حصل لحامد. وسرعان ما شارك أسرته موقفها من زعيم الثورة وولائها للملك. وكان ذلك أوفق لعمله في الداخلية فلم ينقسم كحامد بين باطن وفدي وظاهر حكومي، وبفضل نفوذ أبيه لم يعرف عناء العمل في الأقاليم، ولم يستجب لرغبة أبيه في الزواج المبكر، ولكنه مارس حياة إباحية مستغلا سحر زيه الرسمي الملون وما توفر له من نقود مرتبه والنفحات التي كانت تكرمه بها أمه. ولكنه أذعن أخيرا فتزوج من عروس تدعى زبيدة من أسرة أمه؛ فزفت إليه في شقة بجاردن سيتي، وعاش في مستوى يحسده عليه وكيل الداخلية نفسه. واشتهر في عهود الانقلابات السياسية بالعنف في تفريق المظاهرات. وتلقى حملات متتابعات في الصحف الوفدية، بقدر ما أساءت إلى سمعته لدى الجماهير فإنها زكته خير تزكية عند السراي والإنجليز، وأتاحت له ترقيات استثنائية. وقال عمرو أفندي لحامد ابنه: دخلتما المدرسة في عام واحد وها هو يرقى إلى رتبة اليوزباشي على حين أنك ما زلت ملازما ثانيا.

وكان سرور أفندي حاضرا على نفس مائدة الغداء فقال بلسانه الحاد : خائن وابن مراكيبي!

ولكن حامد وحسن كانا صديقين بالإضافة إلى قرابتهما، وتوثقت العلاقة أكثر بعد زواج حامد من شكيرة، وقد تعرض حسن للموت في عهد صدقي فأصابت طوبة رأسه وأخرى عنقه، وقضى في المستشفى شهرا كاملا. وكان أعنف إخوته على آل عمه أحمد عندما فرق الخلاف بين الأخوين، بل قد تصادم مع ابن عمه عدنان واعتدى عليه بالضرب في السراي فكان يوما مأساويا في تاريخ الأسرة. وأنجب حسن ثلاثة من الذكور محمود وشريف وعمر، وضرب بهم المثل في الجمال والذكاء. ولما قامت ثورة يوليو كان لواء، وكان ثريا جدا بما ورثه وما ورثته زوجته، ولكن الثورة أحالته على المعاش في حركة تطهير الشرطة؛ فخرج مع حامد في قائمة واحدة، وكانت علاقته به قد انقطعت بعد طلاق شكيرة. وقال لزبيدة: علينا أن نبيع الأرض، فقد انقلب الدهر على ملاك الأراضي.

والضرر الذي لحقه بيد الثورة لا يقاس بما دهم غيره من طبقته، منهم ابن عمه عدنان، ولكنه وجد نفسه، في المعسكر المضاد، ومارس عواطفه كلها نحو الثورة الصاعدة. ومضى يبيع أرضه وأرض زبيدة على دفعات وأنشأ بماله متجرا في شارع شريف راح يديره بنفسه فازدادت ثروته، أما أبناؤه محمود وشريف وعمر فقد تربوا في مدارس الثورة وتشبعوا بفلسفتها وثملوا ببطولة زعيمها، ولم يأسف حسن على ذلك، بل وجد فيهم وفي أخويه عبده ونادر حماية له من أعاصير تلك الأيام، ولعل أخويه كانا وراء الأسباب الخفية التي جنبت متجره التأميم عام 1961. ولما وقعت كارثة 5 يونيو، كان محمود وشريف وعمر قد تخرجوا أطباء وعملوا في مستشفيات الحكومة، وأدركتهم النكسة التي زلزلت الجيل الناصري فأذرته مع رياح الضياع واليأس؛ ولذلك ما كاد الزعيم يرحل ويحل محله السادات حتى هاجر محمود وشريف إلى الولايات المتحدة ليبدآ حياة علمية جديدة ناجحة، أما عمر فقد فاز بعقد عمل في السعودية. ووجد حسن في السادات وسياسة الانفتاح بغيته وعزاءه عن كافة هزائمه الماضية، فشمر للعمل والثراء الخيالي، وشيد له ولزوجته قصرا في مدينة المهندسين وعاش عيشة الملوك وهو يحلم بعودة أولاده ذات يوم ليرثوا ما جمع لهم من ملايين. وانتهت حياته في الثمانينيات في حادث عارض، إذ كان يسوق سيارته المرسيدس في شارع الهرم فانقلبت به واحترقت، واستخرجوا جثته منها متفحمة متخلية عن الدنيا وملايينها.

حسني حازم سرور

هو بكري حازم وسميحة، وكان ذا جسم رياضي ووجه مليح وذكاء وقاد، وقد نشأ في النعيم في فيلا الدقي، وتخرج مهندسا عام 1976، ولم يجد - كأخيه - في حياته مشكلة ما، ولا عرف هموم الانتماء، ومثل أبيه جرى في طريق النجاح والثراء في مكتب أبيه. وأرادت سميحة أن تسيطر عليه كما سيطرت على أبيه، ولكنها وجدته مستعصيا على السيطرة، ويثور مثلها لأتفه الأسباب، ولمست فيه المرأة جموحا خطرا فنزعت تخطط لزواجه ولكنه قال لها بوضوح: لا شأن لك بهذا.

فقالت بحدة: ولكنك طفل.

فضحك عاليا وهو ينظر نحو أبيه الذي زاغ من عينيه وقال: أنا المالك الوحيد لحياتي. - ولكنك لا تدري شيئا عن الزوجة الصالحة.

فسألها بسخرية: وما الزوجة الصالحة؟

فقالت بصوت مرتفع: الأصل والمال وهما مترادفان!

فقال مواصلا سخريته: شكرا لا حاجة بي إلى خاطبة!

وكان قد عشق راقصة بأحد ملاهي الهرم تدعى عجيبة، تجاوز عشقه لها النزوة العابرة، حتى اقترح عليها فكرة الزواج ... وقالت له: لولا الحب ما قبلت قيد الزواج.

وسعد بذلك كل السعادة، غير أنها اشترطت عليه ألا يطالبها بهجر حياتها الفنية، فتفكر مغتما ثم قال: إذن لنبق كما نحن.

فقالت غاضبة: بل يذهب كل منا إلى حال سبيله.

فقبل مرغما وعقد زواجه عليها. وكان أخوه أدهم أول من علم. وكان أبوه الثاني. ولما حمل الخبر إلى سميحة ثارت ثورة وجم لها الخدم وتساءل الجيران. أما حسني فانتقل إلى شقة تملكها زوجته بشارع الهرم. وهناك قالت له: لم أهجر حياتي الفنية لأن السينما بدأت تعترف بأهميتي.

ولكن الظاهر أن طريق ذلك الاعتراف لم يكن ممهدا، وأن الأمر احتاج إلى أن ينشئ حسني شركة إنتاج سينمائي من أجل عبقرية زوجته. وشعر بأن أباه لا يوليه الثقة التي كان يحظى بها فطالب بنصيبه من رأس المال على أن يتفرغ لعمله الجديد. وحقق له أبوه رغبته وهو يقول له: ليكن ذلك سرا بيننا.

بذلك انفصل حسني تماما عن أمه، بل عن أسرته ... وأنتج لعجيبة فيلمين لم يستطيعا أن يخلقا منها شيئا يذكر. وترامت إليه أنباء عن علاقة مريبة بينها وبين ممثل أدوار ثانوية يدعى رشاد الجميل، فرصد لهما العيون حتى ضبطهما في شقة مفروشة بالعجوزة. واعتدى عليها بالضرب حتى قتلها، وحوكم، وقضي عليه بخمسة عشر عاما. وعرف أقرباؤه خبره مما نشرته الصحف وما كانوا قد سمعوا به من قبل. وأكثر من شخص منهم هتف: يا ألطاف الله، إنه ابن حازم بن سرور أفندي رحمه الله.

حكيم حسين قابيل

الناظر في عينيه الواسعتين العسليتين يبهره حسن تكوينهما، وقوة إشعاعهما، ورأسه الكبير غزير الشعر يضفي عليه مهابة. وهو الثالث في ترتيب ذرية سميرة بنت عمرو أفندي وزوجها حسين قابيل تاجر التحف بخان الخليلي. وكان شارع ابن خلدون مدرج طفولته وصباه حيث تقيم الأسرة بعمارة به، كما كانت حديقة الظاهر بيبرس ملعبه. وعلى ذكائه وتفوقه ولع منذ الصغر بالمقامرة؛ مارسها أولا في الدومينو والطاولة، وأخيرا في البوكر والكنكان.

كما عرف بصداقته الحميمية لجار من جيرانه تلازما في المرحلتين الابتدائية والثانوية، ثم اتجه حكيم إلى مدرسة التجارة على حين التحق الآخر بالكلية الحربية. وقد عرف حكيم أهل أمه جميعا، عمرو وسرور والمراكيبي وداود كما عرف أهل أبيه، وأدهش خاليه عامر وحامد بآرائه السياسية الرافضة أو شبه الرافضة للوضع كله. قال له حامد: إني أعتبر المعاهدة إنجازا مشرفا للوفد!

فقال حكيم: لا حصر لسلبياتها، ثم إني لا أومن بالأحزاب. - الإخوان تجار دين، ومصر الفتاة عملاء فاشيست! - ولا هؤلاء جميعا! - إذن، بماذا تؤمن؟ - لا شيء.

وضحك عامر ضحكة خفيفة فقال حامد: هذه نغمة نشاز في أسرتنا.

وتخرج حكيم في إبان الحرب العظمى الثانية، بعد وفاة والده بقليل، وتعين في مصلحة الضرائب، وما لبث أن أحب زميلة له تدعى سنية كرم فتزوج منها وأقاما في شقة بالعباسية الغربية ، وأنجب منها حسين وعمرو، ووعدت الحياة بخط روتيني معروف الأول والآخر. ولكن قامت ثورة يوليو وإذا بصديق عمره نجم من نجومها، وبذلك تفتق المستقبل عن أبعاد جديدة لم تجر لأحد في خاطر. وفي الوقت المناسب اختير حكيم في وظيفة إشرافية في إدارة التوزيع بإحدى الصحف الكبرى، ووثب مرتبه بجرة قلم من العشرات إلى المئات. ودوى مقامه في شجرة الأسرة من أسفلها إلى أعلاها. تاهت به أسرة سميرة، وسعد به آل عمرو رغم وفديتهم المهيضة، أما المعارضون من آل المراكيبي وداود فقد قالوا ساخرين: ذهب فساد متواضع وجاء فساد شره.

ولصلته بصديقه الحميم هابه حتى الوزراء وداهنه الأعداء والأصدقاء، وسرعان ما انتقل إلى شقة جديدة بالعباسية الشرقية، واقتنى سيارة وأصبح حقيقة من رجال العهد. وكان وفيا لأسرته ولأصدقائه، فمد يد المعاونة لخاله حامد ولابن خالته نادر، وبفضله عومل أخوه الأصغر سليم معاملة لم تخل من إنسانية عند التحقيق معه قبل سجنه، كما كان الوساطة الناجعة وراء تعيين كثيرين من أصدقائه حراسا عقب فرض الحراسة على من فرضت عليهم من الأسر. وظلت علاقته بصديقه الحميم كما كانت رغم استوائه قائدا بين القادة الجدد، فلا يمر أسبوع دون لقاء عائلي في قصر القائد يتبادلان فيه نجوى الحب والذكريات. وفي إحدى هذه المرات سأله بلا كلفة: أما آن الأوان لترشحني وزيرا؟

فقال الرجل: وما قيمة الوزير؟ سينقص دخلك إلى النصف. - ولو.

فقال الآخر ضاحكا: أصارحك بأني فعلت.

ورمقه بنظرة باسمة ذات معنى، فقال حكيم: أعدك بأن أقلع عن القمار.

فقال واجما: ومسألة أخيك سليم أيضا!

وعدل عن التفكير في الوزارة ولكن نجمه استمر في الصعود فانتخب عضوا في مجلس الأمة، وما زال نوره يتألق حتى 5 يونيو، فابتلعت الظلمات صديقه فيمن ابتلعت، وتلاشى نفوذه بضربة واحدة وإن بقيت له وظيفته. جاء السقوط هزيمة شخصية فوق الهزيمة العامة ومضغ مرارة الهوان بعد حلاوة العزة، وشق عليه تنكر الكثيرين له حتى الذين انتشلهم من التفاهة بوفائه، ولم يبق له من عزاء في الدنيا إلا في ابنيه حسين وعمرو اللذين صارا ضابطين في سلاح الفرسان. وفي تلك الآونة تجلت به أعراض ضغط الدم الخبيث وقاسى منها ما قاسى، ثم دهمته داهية كثيرا ما ناوشته في أحلام يقظته السوداء، عندما بلغ باستشهاد عمرو في حرب الاستنزاف وكان - بخلاف سنية - يحب ضبط النفس، والتظاهر بالشجاعة، والرضا والقدر، تاركا أحزانه تنعقد في أعماقه كالعكارة في جوف الوعاء. وواصل وجوده حتى رحل زعيم وخلفه آخر، وعاصر 6 أكتوبر فهزته نشوة لم يشعر بمثلها منذ الأيام السعيدة قبل 5 يونيو، ولكن سرعان ما خمدت شعلتها عندما تلقى نبأ استشهاد ابنه الباقي حسين في الميدان. وانفجر الضغط صاعدا بلا ضابط فوق ضبط النفس والتظاهر بالشجاعة والرضا بالقدر فقتله، وتحدث تلك الأمور وراضية تهيم في ذروة شيخوختها، وتضاحك الملائكة في البيت القديم!

حليم عبد العظيم داود

ولد ونشأ في فيلا أنيقة بالعباسية الشرقية، وهو الابن الثالث لعبد العظيم باشا داود. مقبول الوجه رياضي الجسم مدمن منذ صغره للهو واللعب والمزاح والعربدة، لا تصدر عنه كلمة جد واحدة. أخواه اللذان سبقاه كانا غاية في الجد والاجتهاد؛ لذلك قال: خلقت لأحدث التوازن الضروري في الأسرة.

ويتابع عبد العظيم باشا عثراته المدرسية بمرارة ويقول له: ستكون عارا على نفسك وأسرتك.

ولكنه لم يكن يكترث لملامة، ولم يحتفظ من سجايا أسرته إلا بالكبرياء والغرور والنظرة إلى الآخرين من عل، حتى أهله كمال وعمرو وسرور أضمر لهم الازدراء، وحنق على المتفوقين منهم، ولم يسلم من لسانه إلا عامر الذي تزوج من شقيقته عفت، أما آل المراكيبي فكان يضعهم - رغم ثرائهم - في الدرجة التي كرستها لهم أسرة داود باعتبارهم أشباه أميين ومن صلب رجل كان يبيع المراكيب. ولم يكن يتورع عن إغواء قريباته الجميلات اللاتي يقاربن سنه مثل جميلة وبهيجة ابنتي سرور أفندي أو دنانير بنت رشوانة ... لولا ثقل التقاليد ويقظة الأمهات. ولعل حامد كان الوحيد الذي يعمل له ألف حساب لقوته واستعداده الفطري للعنف، فحقد عليه، ولم يصف ما بينهما إلا حين جمع بينهما سوء المصير في أواخر العمر وفي صباه ومراهقته - وبتدليل أمه له - أتقن السباحة والكرة والقمار والخمر والعشق والمزاح، وامتاز أيضا بصوت عذب فكان يقول بغروره المعهود: لولا تقاليد الأسرة لكنت مطرب العصر.

وبعد صراع طويل مع المدرسة قرر الالتحاق بمدرسة الشرطة، واستاءت الأسرة رجالا ونساء وقال له أبوه: نحن أسرة قانون وطب.

فاعترف له قائلا: لا صبر لي على المذاكرة.

ولما التحق بالمدرسة وجد حسن محمود عطا المراكيبي بالسنة النهائية وحامد بالمرحلة الوسطى، فكان عليه أن يؤدي لهما في نطاق التقاليد المدرسية فروض الذل والطاعة، وكان أهون على نفسه أن يؤدي ذلك لأي جندي ... ومرة تناول الثلاثة الغداء عند راضية، وهناك تحرر من واجباته والتزاماته، وخاضوا ثلاثتهم حديث الأصل، في مفاخرة ساخرة، فذكرهما بأصلهما وعيروه بأصله. قال له حامد: أنتم باشوات حقا ولكنكم من طين الأرض خرجتم.

وتابعت راضية حديثهم باسمة ثم قالت: الكل في النهاية من صلب آدم وحواء، وليس في الأسرة كلها من بطل إلا أبي الشيخ معاوية.

وكان حليم يعتبر راضية من عجائب هذه الدنيا بدروشتها وسحرها وأورادها وعفاريتها، ويقول لأمه: لولا الحظ لاتخذت مكانها الطبيعي بين مجذوبات الباب الأخضر.

وتهتف به أمه: إياك أن تمس بسوء أحب الناس إلي.

كانت تؤمن بها، وعند كل لقاء تدعوها لقراءة فنجانها، وعندما حدست قرب نهايتها في كبرها أوصت بأن تشهد راضية غسلها دون غيرها من أهلها أو أهل زوجها.

وتخرج حليم ضابطا بعد حامد بعام، وبفضل أبيه عين في المراكز الخاصة بالداخلية فقضى أكثر خدمته في حراسة الأميرات والوزراء، وقد مرت به ثورة 1919 وكأنها فيلم مثير يشاهده في إحدى دور العرض لم يعرف طيلة حياته انتماء إلا إلى اللهو والعربدة والمزاح والطرب ... كان أبوه وأخواه من دراويش الأحرار الدستوريين، أما هو فكان درويش الحانات والملاهي الليلية ونوادي القمار، ولم يفكر أبدا في تكوين أسرة أو الالتزام بأي قيد. وقد اختار لنفسه شقة في عمارة بشارع النيل - هي التي دل عليها حامد بعد طلاقه - وزينها بهدايا الأميرات والوزراء، وشهدت من بنات الليل والفنانات أشكالا وألوانا. ولم يكن يتورع ، حتى عندما ارتفعت رتبته، أن يقضي سهرة في عوامة مونولوجست، يسكر ويعربد ويغني، ثم يرجع عند الفجر إلى مأواه وهو يترنح. وقد ساءت العلاقة بينه وبين والده، وبينه وبين أخويه، وبذلت محاولات عقيمة لتزويجه. ومع الأيام غلبهم بروحه المرحة فغزا قلوبهم وبيوتهم حتى سلموا به كشر لا بد منه، بل لعله كان أمتع شر في أسرتهم. ولما قامت ثورة يوليو نقل إلى التفتيش. أجل كان أحسن حظا من حامد وحسن ولكنه عانى العمل الجاد لأول مرة على كبر. إلى هذا فقد أظهر للثورة حنقا من أول يوم، وتساءل كيف يسرق الحكم أناس لا ميزة لهم إلا استحواذهم على السلاح؟ وهل يحق قياسا على ذلك أن يتحول قطاع الطرق إلى ملوك؟ وما هذا الذي يحدث للأسر الكريمة؟ وكيف تلغى الباشوية بجرة قلم؟ وكيف يخاطب بعد اليوم أباه وشقيقه الأكبر؟ وكيف يؤدي هو سلام التعظيم لضابط يماثله في الرتبة أو يقل عنه؟ والأدهى من ذلك كله، أنه يوجد من آل المراكيبي ضابطان يعتبران من الصف الثاني من الحكام؟ وإن حكيم ابن سميرة يلحق أيضا بهيئة الحكام! حقا لقد انقلب العالم فصار عاليه أسفله وصار أسفله عاليه، اضطرمت في قلبه نيران الغيرة والحنق وتجهم بكل غضب للعالم الجديد الذي تجهمه.

وشد ما فرح بالعدوان الثلاثي فظن أن الستار سيسدل على المهزلة ويستقيم حال الدنيا، ولكن الحوادث خيبت أمله، واستقبل الزعيم حياة جديدة كلها فتوة وبطولة. وفي الستينيات توفي أبوه، وتبعه شقيقه الأكبر بعد عامين؛ فتضاعفت غربته وأساه وأفرط وأفرط بلا حرص في لهوه وعربدته. وكان يقضي ليلة في شقة فاخرة تدار للقمار السري عندما كبسها البوليس. وأظهر شخصيته لرئيس القوة ولكنه تعامى عن ذلك وساقه مع الآخرين إلى قسم شرطة قصر النيل، ولم تنته المسألة إلى خير فأرسل إليه وزير الداخلية يطالبه بتقديم استقالته تفاديا لما هو أسوأ، فقدمها على رغمه، ووجد نفسه على المعاش. وقرر في ظلمة اليأس أن يقصر خطوطه. وعرض عليه حامد أن يوسط حكيم ليجد له عملا كما نفعه ولكنه رفض شاكرا. فضل أن يعيش في نطاق معاشه على أن يذل نفسه أمام حكيم، ووجد في المعاش ما يكفي لمعيشته، واستبدل بالويسكي الحشيش لرخصه النسبي وأثره المناسب، وتفرغ بكليته للحقد على العهد ورجاله والسخرية منهم في غرزته الخاصة الحافلة بالحاقدين. ولما وقعت كارثة 5 يونيو، قرر أن يحج لبيت الله الحرام. ولم يكن له من الدين إلا الاسم كغالبية أسرته، ولكنه حج، ورجع إلى حياته لم يغير منها شيئا، وسكنت انفعالاته بعض الشيء، ولكنه أصيب بالسكر، ولم يكن يملك من الإرادة ما يواجه به متطلباته من الرجيم فاستفحل معه، وحصلت له مضاعفات متلاحقة. وذات مساء اتصل تليفونيا بجاره وقربيه حامد وقال له: تعال أنت وعصمت هانم ... إني أحتضر.

وفعلا أسلم الروح تلك الليلة بين حامد وزوجه.

حرف الخاء

خليل صبري المقلد

بكري زينة صغرى بنات سرور أفندي، ولد ونشأ في مسكن الأسرة في بين الجناين، في مستوى متوسط حسن، بفضل ارتفاع مرتب أبيه النسبي، يعتبر أفضل من مستوى جده الذي توفي قبل زواج أمه من أبيه، وكان أشبه الأحفاد بخاله لبيب، فائق الجمال الموروث عن جدته ست زينب وأمه أيضا زينة التي خصت بجمال لا بأس به وإن يكن دون شقيقتيها جميلة وبهيجة. وكانت زينة تفارق بين وجهه ووجه شقيقته الصغرى أميرة بحسرة، فقد اقتبست البنت من أمها أنفا أفسد صفحة وجهها الحسن ولبد سماء مستقبلها الأنثوي بالمخاوف، غير أنها سرعان ما خطفها الموت عقب نزلة معوية حادة. وأبدى خليل نجابة في حياته المدرسية، وتشرب بحماس جيل الثورة الناصرية، غير أنه تلقى تجربة عاطفية استثنائية في ختام مرحلته الثانوية، إذ نشأت علاقة بينه وبين جارة أرملة جاوزت الثلاثين من عمرها تدعى خيرية المهدي كانت تكبره خمسة عشر عاما.

وذات مساء قالت زينة لزوجها صبري المقلد: خيرية المهدي أغوت ابنك المحترم!

وبهت صبري أول الأمر، لم يكن متزمتا، وكان أبا ودودا متفاهما لأقصى درجة، وقد كان في شبابه عربيدا حتى انضبط بالزواج بمعجزة. وبقدر ما أزعجه الخبر بقدر ما أثار تيهه ، وراقب الولد حتى تأكد له تردده على بيت الأرملة، وقالت له زينة: إنك لا تتحرك.

فسألها: هل تؤمنين بجدوى النصيحة؟

فقالت بقلق: إنها في سن أمه. - سرعان ما يشبع ويذهب.

فقالت معترفة: من ناحيتي لن أسكت، فهل تتصور أنهما يفكران في الزواج؟

وضحك الرجل غير متمالك نفسه وهتف: العبيط!

وراح يتحرى حتى عرف أشياء. وقال لزينة: المرأة غنية.

ولمست منه ترحيبا فاستنجدت بأخيها لبيب، وكانت حياته العامة والخاصة لا تسمح له بتقبل المزيد من المشكلات، وفي الوقت نفسه لم يستطع أن يتجاهل حيرة شقيقته الصغرى، فزار بين الجناين متفضلا، وجمع بين الابن ووالديه، وعرض الموضوع صراحة، ولم تسفر المناقشة عن نتيجة ترضي زينة، وقال خليل: لن يحول شيء بيني وبين الاستمرار في الدراسة.

فقال لبيب حاسما الموضوع ومخاطبا زينة: احمدي ربنا، العروس عمرها كبير ولكن مالها وفير.

وأرادت زينة أن تؤجل الزواج حتى ينتهي خليل من دراسة الحقوق، ولكن العروس كانت أحرص على حظها من ذلك، ولم يتأخر الزواج إلا ريثما تجدد المرأة بيتها وتؤثثه، وتزوجت من خليل، ولما حصل على الليسانس في عام 1965 كان قد أنجب بكريه عثمان وتعين في قضايا الحكومة، وقدر كثيرون أن الزواج مقضي عليه بالفشل في سن معينة، ولكن خيرية فارقت الحياة في الخمسين وهي تجري جراحة في الكلوة، ولم تنجب سوى عثمان، ولم يفكر خليل في الزواج مرة أخرى.

حرف الدال

داود يزيد المصري

هو الابن الأصغر ليزيد المصري وفرجة الصياد، ولد بعد أخيه عزيز بعام في بيت بالغورية على مبعدة يسيرة من بوابة المتولي، وكانت فرجة الصياد ترقب الوقت المناسب لإرسالهما إلى أمها بالسوق ليتدربا على بيع السمك، ولكن يزيد قال لها: أحب أن يتعلما أولا في الكتاب.

فتساءلت محتجة: ولم نضيع الوقت بلا ثمرة؟

فقال الرجل بثقة: لولا أني أفك الخط وأعرف مبادئ الحساب ما ظفرت بعملي في وكالة الوراق.

وكانت المرأة تجد في بيع السمك فوائد لا يحظى بمثلها زوجها في الوكالة، ولكنها لم تستطع ثنيه عما عزم. ووجد الرجل تشجيعا من صديقه الشيخ القليوبي المدرس بالأزهر، بل قال له: الكتاب وبعده الأزهر إن شاء الله تعالى.

ولكن تدين يزيد - كصديقه الثاني عطا المراكيبي الذي كان يقيم في نفس البيت - كان قانعا بأداء الفرائض المتاحة كالصلاة والصوم لا يتجاوزهما إلى أحلام دينية أعمق، فرسم لولديه الكتاب كمدخل للحياة العملية، وذات يوم والشقيقان يجولان ما بين الغورية والسكة الجديدة رأيا نفرا من رجال الشرطة، أما عزيز فبإلهام خفي هرب، وأما داود فقد اعتقله رجل الشرطة وساقوه إلى المجهول. وتحدث الناس بما رأوا، وعرفوا أن الوالي محمد علي يحمل أبناء الناس إلى ما وراء الأسوار ليلقنوا علوما جديدة، إنه يحبسهم تحت الحراسة حتى لا يفروا من التعليم. وقال عزيز لأبيه: لولا العناية لسقطت في أيديهم.

وشكا يزيد «مصيبته» إلى الشيخ القليوبي فقال له: لا تحزن، ابنك في الحفظ والصون، وربنا يدفع عنه السوء.

وبلغ الحزن بالأسرة منتهاه، ودعت فرجة على الوالي بالهلاك، وشددوا في المحافظة على عزيز الذي واصل تعليمه في الكتاب، ومضت أعوام فاشتغل عزيز ناظر السبيل بين القصرين وتزوج من نعمة المراكيبي ابنة عطا المراكيبي، وإذا بداود يرجع إلى الغورية وقد أتم تعليمه ... وفرحت الأسرة بعودته فرحة كبرى، ولكنها لم تدم، إذ قال داود: سيرسلوننا في بعثة إلى فرنسا.

فصاح يزيد: بلاد الكفار! - لنتعلم الطب.

وصاح عزيز: لولا عنايتك يا رب لكنت من الذاهبين!

وسافر داود ليخوض تجربة ما كانت تجري له في حلم، وفي غيابه توفي يزيد المصري وفرجة الصياد، وأنجب عزيز رشوانة وعمرو وسرور، ووثب عطا المراكيبي من حضيض الفقر إلى ذروة الثراء، ثم انتقل من الغورية إلى سراي ميدان خيرت، ورجع داود طبيبا، وقصد مسكنه القديم بالغورية الذي انفرد به عزيز وأسرته. جمع الحب مرة أخرى بين الشقيقين، وجعل عزيز يراقب أخاه باهتمام وتوجس، سره أن يجده محافظا على صلاته، شغوفا كالعادة القديمة بزيارة الحسين، وإن تغير زيه، وإلى درجة ما لهجته. وبدا له أن يطوي في أعماقه النصف الآخر الذي اكتسبه في بلاد الكفار. سأله: ألم يحاولوا أن يردوك عن دينك؟

فأجاب ضاحكا: كلا ألبتة.

وود أن يحدثه أكثر «عنهم»، ولكنه آثر السلامة، وسأله أيضا: هل حقا تشرحون الجثث؟

فأجاب: عند الضرورة ومن أجل خير البشر!

فيحمد عزيز الله في سره على إكرامه له بالهرب في ذلك اليوم البعيد، وقال لأخيه: لولا ظروفك لكنت أبا من زمن.

فقال داود: هذا هو شغلي الشاغل.

وكانت توجد أسرة تركية بدرب قرمز ... «آل رأفت» فأشار إليهم قائلا: لعلهم يرضون لبنتهم بطبيب عائد من فرنسا!

ووجدا في عطا المراكيبي في حاله الجديدة الشخص المناسب للكلام في الموضوع. ولكن داود رفض باعتباره فلاحا حقيرا، ولم يشفع له علمه ولا زيه ولا وظيفته ... وتألم الشاب ونظر إلى أخيه مسترشدا فقال عزيز: عندنا أسرة الوراق التي كان أبونا يشتغل في وكالتهم.

أسرة من أصل مصري شامي، ووجدوا ضالتهم في حفيدة الوراق الكبير سنية الوراق، فرحبوا بالعريس، وتم الزفاف، ومضى داود بعروسه إلى بيت جديد بالسيدة، وقد أنجب منها ولدا - عبد العظيم - وثلاث بنات اختطفهن الموت صغارا. وترقى داود في عمله حتى حصل على رتبة الباشوية ورسخت مكانته الرسمية والعلمية. وقيض له أن يوفق بين شخصيتيه المتنافرتين توفيقا ناجحا فكان في عمله الطبي خير رسول لحضارة جديدة، له رؤيته المستقبلية الوطنية التي يحفزها شعور أليم بما ينقص وطنه في مجاله، وله صداقاته الوطيدة بأقرانه من المصريين والأجانب، وإلى جانب ذلك توافق مع زوجة - رغم جمالها ودرجتها الاجتماعية وتعليمها الأولي الساذج - لم تكن تختلف اختلافا جوهريا عن أمه فرجة السماك، ولا عن زوجة أخيه الأكبر نعمة المراكيبي ... بل إنه لم يتحرر من تقاليد الأسرة والبيئة، فكان يزور بيت الغورية بدافع الحب والواجب معا، وهناك ينسى شخصيته المكتسبة تماما فيجلس إلى الطبلية ويأكل بشراهة السمك والطعمية وثريد العدس والفسيخ والبصل الأخضر، ويتابع بعين العطف والمودة النامية بين عبد العظيم من ناحية وبين رشوانة وعمرو وسرور من ناحية أخرى، ويزور الحسين ويجول في الباب الأخضر، ويتعرف إلى أصهار أخيه عطا المراكيبي ثم ابنيه محمود وأحمد، وصديقه الشيخ معاوية القليوبي الذي يصير حما لابن أخيه عمرو. في تلك الأوقات كان يرتد إلى داود الأول ابن يزيد المصري وفرجة الصياد، ابن الغورية وروائحها الذكية النافذة ومآذنها السامقة ومشربياتها المسربلة بالتاريخ، وقد تمنى أن يجعل من ابنه عبد العظيم طبيبا مثله ليعيد سيرته، ولكن الشاب اتجه إلى دراسة الحقوق، مدرسة الصفوة والوزراء، ثم مارس حياة قانونية فخيمة وناجحة. ولما بلغ الدكتور الباشا الخمسين عشق جارية سوداء، وتزوج منها، محدثا في الأسرة دهشة ومثيرا أقوالا. وقد اختار لها مسكنا خاصا في السيدة، وخصص لها قبرا في حوش الأسرة الذي شيده يزيد المصري على كثب من ضريح سيدي نجم الدين عقب حلم رآه. وقد امتد به العمر حتى عصر الاحتلال وعاصر مع أخيه الثورة العرابية، وأيداها بالقلب، وتجرعا مرارة سقوطها، ورحل الشقيقان في عامين متعاقبين في أوائل عهد الاحتلال، ودفنا جنبا إلى جنب في القبر الذي افتتحه يزيد المصري، وسرعان ما حلت بجناحه الحريمي فرجة الصياد، ونعمة عطا المراكيبي وسنية الوراق، والجارية آدم في قبرها الخاص.

دلال حمادة القناوي

ولدت ونشأت في بيت والديها بخان جعفر، وهي صغرى ذرية صدرية وحمادة القناوي، ومسكنها على مبعدة يسيرة جدا من بيت جدها عمرة، وكانت تألف عمرو وراضية كما تألف والديها. ومثل جميع الأحفاد تحب راضية وتسحر بغرائبها، خاصة أن الجدة لا تكف أبدا عن نشر ثقافتها الفطرية المسربلة بالخوارق في جميع الأجيال. وتقول لابنتها صدرية: دلال جميلة، ولكن كيف تسللت لذريتك القاهرية هذه النبرة الصعيدية؟

فتقول صدرية ساخرة: من البغل!

مشيرة إلى زوجها الذي أنفقت حياتها في ترويضه، وتضحك راضية قائلة: إنه غبي كالحجر، ولكنه رجل كريم.

وكعادته لم يسمح لدلال - كنهاد ووردة - بأكثر من عامين في الكتاب ثم تولت صدرية تربيتها وتدريبها. وراحت صدرية تستعرض فتيان الأسرة من أبناء أخواتها وأخويها وعمها وآل المراكيبي وداود. ولكن بنات القناوي كن يجيئهن العرسان من قنا وما حولها باسم آل قناوي، تقدم لها عمدة شاب يدعى زهران المراسيني يملك أرضا مجاورة لأرض أبيها وأعمامه.

وقالت صدرية: قضي علي بأن يفرق القطار بيني وبين بناتي.

وأجلت مأساة شقيقتها وردة الزواج عاما، ثم زفت إليه في القاهرة، وبعد أسبوع واحد حملها إلى وطنه، واستقرت دلال بالكرنك بصفة نهائية، وأنجبت أربع بنات وثلاثة صبيان، ولم تكن تزور القاهرة إلا في المناسبات.

دنانير صادق بركات

هي الابنة الوحيدة لرشوانة - الشقيقة الكبرى لعمرو وسرور - وصادق بركات تاجر الدقيق بالخرنفش. ولدت في بين القصرين ببيت يملكه أبوها، ونشأت في أحضان نعمة لا بأس بها وتبشر بالمزيد، ولم تنجب رشوانة غير وحيدتها لعيب فيها. ولكن لحسن حظ الأسرة أن صادق بركات كان سبق له الزواج مرتين دون إنجاب، فعد العيب مشتركا. وترعرعت دنانير بين أم متدينة لحد المشيخة وأب ينتمي لأسرة تعتبر رائدة في تعليم البنات. وكانت على قدر من الجمال لا بأس به واستعداد للبدانة، وكانت تعد من المزايا، وإلى ذلك فقد أبدت نشاطا يبشر في المدرسة بكل خير. ونالت الشهادة الابتدائية فألحقت بالثانوية، الأمر الذي لفت انتباه خال رشوانة محمود بك عطا المراكيبي فسأل عمرو: أأنت راض عن ذلك؟

فقال عمرو: أبوها راض.

وزار الرجل بين القصرين واجتمع بالأسرة، وقال: إني لم أسمح لشكيرة بتجاوز الابتدائية.

فقال صادق بركات: الزمن تقدم يا محمود بك والبكالوريا مناسبة لهذا الزمن.

وقالت رشوانة: إني واثقة من أخلاق ابنتي.

وكان محمود بك لا يخلو من دعابة ولو بأسلوبه الفظ فقال: ربما قالت أم ريا وسكينة، عنهما يوما، ما تقولين.

وغادرهما ساخطا. وفرحت دنانير بقرار أبيها، ستصير بالبكالوريا قريبة من مستوى فهيمة وعفت ابنتي عبد العظيم داود. وسترتفع درجات على جميع بنات خاليها عمرو وسرور، ولها أن تحلم بعد ذلك بعريس لائق. وكانت رشوانة تستصحبها لزيارة الأصول والفروع فترى الشجرة مثقلة بالثمار، عامر وحامد ولبيب وحسن وغسان وحليم، وهي في نظر نفسها على الأقل لا تقل جمالا عن أجمل بنات الأسرة. ولما قاربت الختام حدث شيء كالمصادفة أقنعها بأن المصادفة مأساة المآسي في حياة البشر. سقط أبوها في الدكان مشلولا وحمل إلى البيت ليرقد على فراشه بلا حول حتى النهاية. صفيت التجارة بإشراف عمرو وسرور ومحمود بك، وقبض الرجل خمسمائة جنيه هي كل ما بقي له للعلاج وحياة الأسرة. ورأت دنانير أنه لم يعد أمامها إلا مواصلة التعليم والتطلع إلى العمل. لم يكن متاحا لها إلا مدرسة المعلمات وكان على المعلمات وقتذاك أن يمضين حياتهن بلا زواج ما أردن الاحتفاظ بالوظيفة. وتوكدت هذه الخطة عقب وفاة صادق بركات. أجل رأى محمود بك رأيا آخر، قال: لتتزوج دنانير ... وأنا أتكفل بك يا رشوانة.

ومالت رشوانة للموافقة، ولكن دنانير - وبدافع من كبريائها - أبت ذلك وأصرت على اختيار مصيرها. لم تكن سعيدة باختيارها، زهدت فجأة في حلم الزواج الذي صاحبها منذ الصبا، كانت أتعس أهل الأرض ولكنها اختارت تعاستها بنفسها. وقالت لها رشوانة: إنك تضحين بنفسك من أجلي.

فقالت بثبات: بل اخترت ما يسعدني.

وأصبحت معلمة وعانسا إلى الأبد. تعزت عن خيبتها بإتقان العمل والإفراط في الطعام. وتمضي في الحياة متسائلة أين كان يختبئ لي هذا الحظ الأسود؟! ما أكثر الأعين التي ترمقها بنهم، من شباب الأسرة والأغراب، كأنهم يتساءلون! هذه الفتاة الممنوعة من الزواج ألا تحلم بالحب؟! جميع قريباتها مستقرات في بيوت الزوجية، حتى الدميمة المذكرة، وهي لا تعبرها النظرات دون أثر يبقى ويستفحل. وما تأوي إلى فراشها بعد يوم مليء بالسخرة إلا وتتأبط معها خيالا ليؤنس وحدتها. إنها دائبة على تعويض لهفاتها وحسراتها بالأخيلة المحمومة الفاجرة والسقوط الوهمي، والصداقات الحميمية العقيمة مع الزميلات المحرومات في مجال عملها الرهباني. مكاتب حياة سرية في عالم الحلم تتناقض تماما مع حياتها الظاهرة القائمة على عمل جاد استوجب الثناء، والتزام بالفرائض الدينية استحق الاحترام، وسلوك رصين أيأس منها الطامعين وحاز تقديرهم. وفي تلك الفترة الصاعدة من شبابها ونشاطها عرض لها ابن خالها لبيب بشبابه وجماله ووظيفته القضائية اللامعة، وكان سبيل الغزو له ممهدا لولا أنانيته القبيحة. دعاها إلى حديقة الأسماك الهادئة ليعرض عليها علاقة سرية تناسب في تصوره حالهما. قال: أنت ممنوعة من الزواج وأنا مضرب عنه.

وقالت لنفسها حانقة أنه يريدها خليلة ولا يراها أهلا للزوجية. وقالت بامتعاض وازدراء: عرض جدير بامرأة ساقطة!

وتلقى اللطمة ببروده الطبيعي الموروث عن ست زينب أمه، ورجعت هي إلى بين القصرين مفعمة حنقا على آلها جميعا ... إنهم حقراء، أغنياؤهم وفقراؤهم على السواء؛ يبيعون أنفسهم بلا كرامة، من أجل ذلك تزوج عامر من عفت بنت عبد العظيم، وتزوج حامد من شكيرة رغم قبحها. وعندما ترنو عين شاب من آل المراكيبي أو آل داود إلى بنت من بنات عمرو أو سرور تقوم القيامة وتثور الكرامة. حقراء حقراء ... آل المراكيبي باعوا أنفسهم للملك ضمانا للمصالح، وآل داود انضموا للأحرار الدستوريين متوهمين أنهم يتبعون طريق الأسر الكريمة وأصلهم الحقيقي نابع من التراب، وما كان داود باشا إلا الشقيق الأصغر لعزيز ناظر السبيل! ما من شاب منهم من سنها أو أكثر إلا وطمع في عرضها، ولم يفكر أحدهم في الزواج منها، وأطيبهم جميعا مجذوب من مجاذيب الحسين. على أن فترة الشباب الخضراء لم تخل من فرصة عريقة، أتاحها لها ناظر المدرسة الذي اقترح عليها الاستقالة والزواج منه، ولكنها بقدر ما سعدت باقتراحه لم تتردد في رفضه حفاظا على أمها أن تعيش تحت رحمة أحد من هذه الأسرة الحقيرة التي تعبد المال والجاه وتستبيح في سبيلهما كل جليل. وواصلت حياتها الشاقة القاحلة، تربي بنات الناس وتعدهن للأزواج، منقسمة بين سلوك خيالي فاجر، وواقع متسم بالجدية والتقوى والاحترام. وهامت شجرة الشباب في ربيع تعلوه كآبة الوحدة وآلام الحرمان وعبث الأخيلة المحرومة، ثم مضت أوراقها تتساقط ورقة بعد ورقة، تاركة آثارها في بدانة تتمادى وقسمات تغلظ، وعضلات تترهل، ومرارة تستفحل. وفي أثناء ذلك رحل عمرو وسرور وأحمد ومحمود، وتنكرت أشياء كثيرة، ثم مرضت أمها بداء القلب ولزمت الفراش. وكانت تقول لها: لن أغفر لنفسي ما حل بك.

فتجيبها باسمة متظاهرة بالمرح: لقد اخترت ما يناسبني.

فتتوسل إليها قائلة: تزوجي عند أول فرصة.

فتكذب قائلة: سيحدث ذلك قريبا جدا.

رغم أنها لم تعد تلفت نظر أحد. واحتضرت رشوانة وهي تقدم لها تفاحة للعشاء. وأدركت دنانير الموقف على عدم خبرتها به فهتفت: لا تتركيني وحدي.

ولفظت المرأة أنفاسها الأخيرة وهي تسندها إلى حضنها. وأجهشت في البكاء، وأرسلت الخادم العجوز لإحضار راضية من بيت القاضي. وبرحيل الأم ... عانت وحدة مطلقة في بين القصرين. وباتت مثالا للبدانة والكآبة. ولما قامت ثورة يوليو وجدت فيها انتقاما أيضا من الجبارين والمنحلين والانتهازيين، وعاشرتها بارتياح فاتر، وكان الفتور قد أدرك كل شيء حتى حياتها السرية وعبثها العقيم، وبفضل الراديو ثم التليفزيون اقتحمت أعاصير الثورة وأحداثها وحدتها، ونفخت قبسات من الروح في فتورها، ولكن ذلك عبرها بسرعة، حتى أحيلت على المعاش وأوت إلى ظلمة ظلمات الوحدة. ولم يعد لها من عزاء في هذه الدنيا سوى العبادة وتلاوة القرآن. ومات زعيم وتولى زعيم، وانفجرت أحداث جديدة، ثم جاء الانفتاح، وبدأت تعاني مع الوحدة والكبر الغلاء المتصاعد، وأخذت تعيد حسابها وتتساءل: أكتب علي أن أقاسي متاعب المعيشة من جديد؟! ... وهل حقا يخفي الغد ما هو أسوأ؟!

حرف الراء

راضية معاوية القليوبي

بكرية الشيخ معاوية القليوبي وجليلة الطرابيشية، ولدت ونشأت في البيت القديم بسوق الزلط، وتبعتها شهيرة وصديقة وبليغ. وكانت صديقة أجمل الأخوات الثلاث أما راضية فأقواهن شخصية وأحدهن ذكاء، وإلى ذلك فجمالها لا بأس به. كانت طويلة القامة ممشوقة القوام عالية الجبين ذات أنف مستقيم وعينين لوزيتين سوداوين وبشرة قمحية، وكأنها صورة من أمها. وقد عني الشيخ بتربية ذريته تربية دينية فكانت الأكثر استجابة رغم أن حصيلتها من الناحية النظرية لم تجاوز معرفة الصلاة والصوم وحفظ بعض السور الصغيرة ولكن قلبها تشرب حب الله وآل البيت، على ذاك فما تلقنته عن أبيها لا يقاس بعشر معشار ما تلقنته عن أمها من الغيبيات والخوارق وسير الأولياء وكراماتهم وأسرار السحر والعفاريت. والأرواح الساكنة في القطط والطيور والزواحف، والأحلام وتأويلها، وقراءة الطالع، والطب الشعبي وبركات الأديرة والقديسين والقديسات. ورسخ من إيمانها بأمها ما شهدته من ركون أبيها نفسه - العالم الأزهري - إلى وصفاتها الطبية ورقاها وتعاويذها، واحتفاظه بالحجاب الذي أهدته إليه فوق صدره. وكانت راضية عصبية المزاج ، تمارس الحب والكراهية في اليوم الواحد عشرات المرات، وقد شهد مدخل البيت - حيث الفرن والبئر وركن المعيشة اليومية - تسلطها على أختيها، وتحيز الأم لها، مما أثار ضغينتهما عليها. وما كادت تبلغ الرابعة عشرة حتى خطبها عزيز يزيد المصري صديق الشيخ معاوية لابنه عمرو أفندي الموظف بنظارة المعارف. وكان الشيخ في ذلك الوقت معتزلا في بيته عقب خروجه من السجن الذي قضى عليه به بسبب اشتراكه في الثورة العرابية، فتلقى أول فرحة في حياة لم تعد تبشر بخير في ظل الاحتلال. ولكن الحظ لم يمهله فتوفي قبل أن يجهز ابنته، وحمل نيشان العروس إلى بيته في نفس يوم الوفاة، الأمر الذي أغرى جليلة بأن تزغرد وتصوت في لحظتين متعاقبتين وتصير بذلك نادرة في الحي كله. وخلا زفاف راضية من الأفراح المعهودة، وانتقلت إلى البيت الذي أعده عمرو لحياته الزوجية بميدان بيت القاضي، وكان عمرو في العشرين من عمره، طويل القامة متوسط القد، ذا شارب غزير وقسمات واضحة، واستعداد كامل للحياة الزوجية. وسرعان ما ربط الزوجين حب زوجي متين صمد لتقلبات الحياة وتضارب العادات والأمزجة، ومع الحب عرفت راضية أول صداقة مع رشوانة أخت زوجها بخلاف نعمة المراكيبي حماتها، وكأنما حدست ما دار من ورائها عندما ذهبت المرأتان لخطبتها، إذ قالت نعمة لابنتها رشوانة وهما في طريق العودة: أجمل البنات الصغرى!

فقالت رشوانة: العروس مناسبة جدا، وعلى خيرة الله.

فقالت نعمة بارتياب: أخاف أن تكون أطول من عمرو.

فقالت رشوانة بيقين: كلا، عمرو أطول يا نينة.

على أي حال حدست راضية بشفافيتها تحفظ نعمة حيالها وتوثبت من أول يوم للدفاع أو الهجوم إن اقتضى الأمر، ولكن الله سلم دائما فلم يقع بينهما ما يصلح للقيل والقال. وأقبل رجال الأسرة ونساؤها للتعارف والتوادد؛ سرور شقيق زوجها، وعزيز حموها، والدكتور داود، وحرمه سنية هانم الوراق وابنهما عبد العظيم، ومحمود عطا المراكيبي، ونازلي هانم وأحمد عطا المراكيبي، وفوزية هانم. اعتقدت أنها ستعرف نساء على شاكلتها أو لعلها تتفوق عليهن كما تفوقت على شقيقتيها، ولكنها وجدت نفسها حيال هوانم من طبقة عالية. ربما هون من وطأة الفوارق دماثة أخلاقهن وما طبعن عليه من أدب فائق، ولتقارب العقلية رغم تفاوت المظهر والمنظر. واشتد الإحساس بالفوارق أكثر عندما ردت الزيارات بصحبة عمرو، فرأت بيت الدكتور بالسيدة، ثم تاهت في سراي ميدان خيرت بأبهتها الأسطورية. هناك فقط تنبهت إلى أن جهازها لا شيء، لا شيء ألبتة، وكم توهمت أن فراشها ذا العمد الأربعة والسلم الخشبي، ومرآة حجرة الاستقبال ذات الحواف المرشوقة بالورد الاصطناعي والكنبة الإسطمبولية الطويلة، كم توهمت أن ذلك الأثاث من التحف المبهرات، وانكسرت نفسها، وقالت لأمها بنبرة المعترف: سأحدثك عما رأيت.

وأصغت جليلة إليها صامتة، ثم تساءلت باستهانة: هل يوجد بينهم بطل من أبطال عرابي باشا كالشيخ معاوية؟

وسرعان ما استردت راضية ثقتها بنفسها، وراحت تحدث الهوانم عن تراثها من الغيبيات والكرامات. ولكن العلاقة الجديدة تعطرت بماء الورد بفضل أخلاق الهوانم، ونشأت مودة حقيقية بين الجميع، وكان لأطوار راضية الغريبة فضل في ذلك بما تميزت به من إثارة لا تقاوم. واحتدم صراع بين الزوجين على السيادة، فقد أراد عمرو أن تنطوي زوجة في البيت، فلا تعبر عتبته إلا بصحبته، ورأت هي أن علمها الغيبي يطالبها بزيارات دورية لآل البيت وأضرحة الأولياء. وحذرته من أن يقف عثرة في ذلك السبيل. وكان عمرو من أتباع الطريقة الدمرداشية ويؤمن بأفكار راضية وتراثها ويخشى عواقب التمادي والمغالاة، فأذن لها بالحركة مستوهبا من ورائها خيرا وبركة، مطمئنا إلى خلقها، راضيا بمهارتها الفائقة في إدارة بيته وتفانيها في توفير أسباب الفرحة له. وسارت الأمور سيرا حسنا، وما من نزاع بينهما دام أكثر من ساعات، فكانت إذا غضب حلمت، وإذا انفجرت عصبيتها تغاضى وتسامح. وتوطدت مكانتها بين فروع الأسرة الباسقة حتى قبل أن تتوثق بالمصاهرة، فشاركت سنية الوراق في الخطبة لعبد العظيم، كما شاركت نعمة المراكيبي في الخطبة لسرور أفندي، وأنجبت مع الأيام صدرية وعامر ومطرية وسميرة وحبيبة وحامد وختمت بقاسم. ولم تكف يوما عن بث رسالتها التراثية في ذريتها أسوة بفروع الأسرة والجيران ، حتى تبلورت شخصيتها في الحي كله كسيدة الأسرار الغيبية، وأضافت إليها الفخر ببطولة أبيها الذي بفضله جعلت من عرابي وثورته أسطورة ذات كرامات وخوارق تداخلت في كرامات البدوي وأبي العباس وأبي السعود والشعراني وامتزجت بعنترة ودياب وإناث الجن وذكورهم والسحر والتمائم والأحجبة والبخور والرقى. ولم تتردد عن مصارحة داود باشا قائلة: طبك هذا لا جدوى منه ولا خير فيه.

أو تقول له: يوجد طبيب واحد لا شريك له هو الله عز وجل.

وكان الباشا يحب حديثها ويجاريها على قد عقلها، ويداعبها أحيانا فيقول: ولكنك يا ست أم عامر تجعلين مع الله آلهة أخرى من الأولياء والعفاريت.

فتقول بإيمان: أبدا ... إرادته وراء كل شيء ... لولاه ما أمكن سيدي النقشبندي أن يوجد في مكة وبغداد والقاهرة في وقت واحد!

وكان يجمعها وعمرو تصورات متقاربة فوجدا دائما الحديث المشترك والتفاهم الدائم. وقد شاهدت ثورة 1919 من مشربية بيتها العتيق، وسجلت في قاموسها الخالد وليا جديدا، اسمه سعد زغلول.

ولما اشترك عمرو في إضراب الموظفين تساءلت بقلق: هل يسجنونه كما سجنوا الشيخ معاوية؟

واخترقت الشوارع المليئة بالفتن وزارت ضريح سيدي يحيى بن عقب، ودعت على الإنجليز وملكتهم - كانت تعتقد أن الملكة ما زالت على قيد الحياة - بالهلاك الأبدي. وساورها القلق لاشتراك عامر في المظاهرات، والعقاب الذي حل بحامد لاتهامه بالتحريض على الإضراب في مدرسة البوليس.

وأمام ضريح الحسين هتفت من قلب معذب: اللهم نجنا من شر هذه الأيام ... اللهم انصر المظلومين.

كانت تربي ذريتها بتراثها وإذا بالجميع يتكلمون عن الوطن وسعد، اتسع مجال الوجدان وأصبحت الحوادث هي المربى الأول. وصمدت راضية وعمرت مثل أمها حتى جاوزت المائة سنة. في أثناء ذلك تحول الأبناء إلى أسر، وشب أحفاد جدد. وسمعت بولي آخر اسمه مصطفى النحاس، وأخيرا آخر الأولياء الذين عاصرتهم جمال عبد الناصر الذي رفع أحفادا لها حتى السماء وخفض أعزة منهم إلى الحضيض أو السجن، فراوحت بين الدعاء له والدعاء عليه. وقد انقرضت من أسرتها في حياتها الأم والأخوات، وأحمد عطا وعمرو وسرور ومحمود عطا ، وآخرون لم تدر بهم. ولكن قلبها لم يعرف الرعب أكثر مما عرفه في زمانين ... وفاة عمرو الذي حزنت عليه عمرا كاملا. ومأساة قاسم وخاصة في أول العهد بها. غير أنها صمدت بقوة خارقة، وهزمت همومها بحيوية نادرة المثال، ولم تتقاعد في بيت إلا وهي تشارف المائة، وواظبت على الحركة في مداخله، ولم تعجز عن الحركة إلا في عامها الأخير، ولما حم القضاء طرقها الموت بلطف ودماثة. كانت صدرية متربعة على الفراش عند قدميها، وإذا بها تسمعها تغني بصوت ضعيف:

عودي يا ليالي العز عودي.

فضحكت صدرية وتساءلت: أتغنين يا نينة؟

فقالت: كنت أغني هذه الأغنية وأنا أرقص بين البئر والفرن.

ومال رأسها الناحية اليسرى لائذا بالصمت الأبدي.

رشوانة عزيز يزيد المصري

هي بكرية عزيز أفندي ونعمة عطا المراكيبي. ولدت ونشأت في مسكن الأسرة بالغورية حيث أقام يزيد المصري بالدور الأول وسكن الثاني عطا المراكيبي جد رشوانة لأمها. ولما ولد عمرو وسرور تبين أن الولدين أجمل من البنت، ولكنها كانت مقبولة ذات جسم ممتاز. وألقاها أبوها على أخيها ولكنها دربت خير تدريب على فنون البيت ومالت بطبعها وتأثرها بأمها إلى التدين فعرفت على مدى عمرها بالتقوى والورع. ولما بلغت الخامسة عشرة رغب في الزواج منها المعلم صادق بركات تاجر الدقيق بالخرنفش ... كان من المتعاملين مع عطا المراكيبي، ومنه عرف عزيز ناظر السبيل وزوج ابنته ... فطلب منه يد بكريته، وزفت إليه في بيت يملكه في بين القصرين على كثب من سبيل أبيها ... وكان صادق بركات قد سبق له الزواج مرتين ولم ينجب، ومرت أعوام على رشوانة دون حمل، ثم أنجبت ابنتها الوحيدة دنانير، فسر الجميع لذلك وخاصة صادق بركات نفسه. وكان مستوى الرجل المالي حسنا، وأفضل بكثير من عطا المراكيبي وعزيز يزيد المصري، فتمتعت رشوانة بحياة طيبة، مطبخها عامر وعروس برقعها من الذهب الخالص. وتزور والديها في الغورية أو أخويها عمرو وسرور في بيت القاضي محملة بالهدايا. واستوت دنانير على مثال أمها مقبولة أو أحسن درجة، وأثبتت نجابة في المدرسة فشجعها أبوها على الاستمرار رغم اعتراض محمود بك عطا المراكيبي. وأيدت رشوانة خطة زوجها لتتساوى ابنتها مع فهيمة وعفت كريمتي عبد العظيم داود ابن عمها، ولكنها كانت راسمة الزواج كنهاية سعيدة يقف عندها التعليم؛ ولذلك دربت ابنتها على فنون البيت في العطلة المدرسية الطويلة، وانتظرت على لهف ابن الحلال. ولما لزم صادق بركات الفراش نتيجة لمأساة مرضه سلمت باستمرار دنانير في التعليم كضرورة لا مفر منها، على الأقل حتى يتيسر لها الزواج، واشتدت الحاجة إلى ذلك عقب وفاة صادق بركات، وبعد أن أصبحت بلا مورد، ولم تجد بأسا في أن تتزوج دنانير على أن تعتمد هي في معاشها على خالها محمود بك لولا إباء دنانير وإصرارها على العمل حتى مع الحرمان من حقها المشروع في الزواج. وقد مات أبوها عزيز دون أن يترك لها شيئا تركن إليه، وماتت أمها نعمة فقيرة، إذ إن ثراء عطا المراكيبي جاءه من زوجته الجديدة التي تزوج منها بعد وفاة زوجه الأولى أم نعمة؛ وكانت تدعى سكينة وهي ابنة صاحب دكان المراكيبي الذي ورثه عطا عنه أو أداره نيابة عن سكينة صاحبته الأصلية، وقد صفى الدكان بعد وفاة سكينة. كرهت رشوانة فكرة التضحية بدنانير من أجلها هي، وحاولت إقناعها عبثا بعرض خالها محمود الكريم، والذي أبدى أخوه أحمد المشاركة فيه حبا وكرامة، ولكن دنانير أبت ذلك، وقالت لأمها: سنعيش بكرامتنا مهما كلفنا ذلك.

ولم تخف عنها انتقادها الثابت لخالها ولسائر أسرتها، قالت: إنهم يعبدون المال والجاه ولا كرامة لهم.

فقالت لها رشوانة بارتياع: ما أقساك في حكمك، إنهم أناس طيبون ويتقون ربهم.

فقالت لها برقة: أنت طيبة وتحكمين عليهم بطيبتك، ومن هنا الخطأ.

وراحت تبث قلقها للجميع ... لأخيها عمرو، وراضية، ولنازلي هانم وفوزية هانم، وفريدة هانم حسام حرم عبد العظيم داود، فلم يوافق أحد على كبرياء البنت، وتنبئوا لها بالندم حيث لا ينفع الندم، أما راضية فتساءلت: ومن الكافر الذي حرم الزواج على المعلمات؟!

وكانت رشوانة تلاحظ ابنتها بقلق، محاولة النفاذ إلى أعماقها، متسائلة عن أفكارها وعواطفها وعن المخبأ لها في زوايا حياتها الغريبة التي تشبه حياة الرجال.

وكلما توترت لها أعصاب أو شكت شأنا من شئون العمل فسرت رشوانة الحال بدواع أخرى مستقرة في أعماق تلك الحياة الشاذة السقيمة، وتراها وهي تزداد بدانة وتفقد طلاوة شبابها وجمالها يوما بعد يوم، وتتطبع بطابع الجدية والخشونة كأنما يحولها العمل - وهي لا تدري - إلى رجل. وتخلو إلى أخيها سرور أفندي في بيته بميدان بيت القاضي وتقول له: فيك الخير يا أخي، لماذا لا تخطب دنانير لابنك لبيب؟

فيقول سرور متهربا: لكنها لا تريد أن تتركك تحت رحمة الغير. - أستطيع أن أقنعها إذا سعدت بعريس لقطة كابنك.

فقال لها بصراحة: الحق أني لا أرحب بزواج لبيب حتى تتزوج جميلة وبهيجة وزينة؛ أنا رجل لا أملك سوى مرتبي الصغير ولا غنى عن مساعدته لتجهيز البنات.

وترجع بغصة لتجتر همومها التي لا تتخلى عنها إلا أويقات صلاتها. وتنظر فترى الشباب يختفي تماما وتحل محله صورة كئيبة موسومة بالخشونة والجفاف، فلا يشك أحد أنه خيال عانس تعكر لها الدهر، وتتراكم الهموم برحيل الأحبة واحد في إثر آخر، ذهب أحمد وعمرو ومحمود وسرور، وإذا بقلبها يخونها بالمرض بعد أن خانها بالحزن الدائم. وتستوطن الفراش على كره، وتسهر ليالي من الألم، وتشعر بأن الموت يأخذ أهبته ... ويعودها آل المراكيبي وآل داود ويتردد عليها آل عمرو وسرور، وتوصي كل فرد بدنانير، وقالت لابنتها وكأنما تلقي إليها بوصيتها الأخيرة: تزوجي في أقرب فرصة!

وساعة الاحتضار وثبت دنانير إلى الفراش، وأسندتها إلى صدرها، وراحت تتلو ما تيسر لها من الآيات، حتى لفظت المرأة أنفاسها، وأصبحت هي وحيدة بكل معنى الكلمة.

حرف الزاي

زينب عبد الحليم النجار

ولدت ونشأت في عطفة الكردي بالحسينية لأب مصري يدعى عبد الحليم النجار - صاحب دكان نجارة صغير بالحسينية - وأم سورية.

وقد تزوجت من سرور أفندي بعد زواج شقيقه الأكبر عمرو بثلاثة أعوام. وكان عزيز يؤمن بالزواج المبكر فلم يلق بالا لاعتراض سرور وقال له: الزواج لأمثالك دواء ناجع.

وقال له أخوه عمرو: أنت صاحب مزاج وعلى قد حالك، والزواج أرخص وسيلة!

واستعانوا بخاطبة فدلتهم على بيت عبد الحليم. وكان الرجل ذا سمعة طيبة وميسور الحال لدرجة لا بأس بها. أجل اعترض عليه بصفة صاحب حرفة ولكن الخاطبة قالت: البنت أدب وجمال.

وذهبت نعمة وراضية للزيارة التقليدية. انبهرتا حقا بجمال العروس. وكانت بيضاء فاحمة الشعر ذات عينين خضراوين وجسم لدن ونظرة عميقة الهدوء. وقالت نعمة وهما في طريق العودة: آية في الجمال.

فأشعلت غيرة راضية وقالت كأنما تؤيد وتدافع: أما الأصل فكلنا أولاد حواء وآدم!

وزفت زينب إلى سرور في بيت مجاور لبيت عمرو بميدان بيت القاضي، وحال رفع النقاب عن وجهها وقع في غرامها، أما هي فقد أحبته حتى آخر عهدها بالحياة. وقد أنجبت له من الذرية: لبيب وجميلة وبهيجة وزينة وأمير وحازم، وكان جمالها جواز المرور إلى احتفاء الأسرة وفروعها بها، ورسخ الأثر بأدبها ودماثتها وهدوء طبعها. أجل شعرت بغريزة ما بغيرة راضية منها ولكن لم ينجم عن ذلك أي مضاعفات بفضل هدوء طبعها المتمادي لحد البرود. طالما احترمتها وجاملتها وقدمتها على نفسها بوصفها حرم الشقيق الأكبر. وطالما أملت أن يكون أبناؤها أزواجا لبناتها، وكلما اتجه أحدهم إلى قبلة أخرى اتهمت راضية بأنها وراء انحرافه عن قبلته المشروعة وصاحبة الحق الأول فيه. ولكن ذلك لم يفسد الود بين الأسرتين، ولا ظهر فيه أثر فوق السطح. متاعبها الحقيقية بدأت مع اقتراب سرور من الكهولة، فلم يغب عن إحساسها اليقظ تململه ولا تطلعه التلقائي لكل من هبت ودبت من حسان الحي. وبسبب ذلك قام النزاع بينهما على كبر. من ناحيته دفع عن نفسه التهم بحدة وعصبية، ومن ناحيتها عاتبت واشتكت بصوتها المهموس ودماثتها الصامدة، ولما فرغ صبرها شكته إلى أخيه الأكبر عمرو أفندي، وقال عمرو لأخيه: الناس تكبر تعقل.

فأكد له أن الأوهام لا تريح زوجته، فقال عمرو: أولادك كبروا أيضا.

وعلمت راضية بالمشكلة فراحت تقول لسلفتها: وأين يجد جمالا كجمالك؟!

ولكنها سرت في باطنها وقالت لنفسها إن المرأة لا تحيا بجمالها وحده!

ولم تنج من عواقب الحزن فأصابها مرض السكر والضغط وتناوبتها الوعكات وزحف الشحوب على رونقها المتألق ليطفئه رويدا رويدا قبل الأوان. وقرأت دواما أحلام الجشع في نظرات سرور، وعاشت في جو ملبد بسحب المخاوف. وتناوبتها هواجس محضة بأنه لولا الفقر لتزوج مرة أخرى، وهل يبعد أن يظفر بامرأة غنية تحبه كما جرى حظ عطا المراكيبي قديما؟! وطالما غبطت راضية على قناعة زوجها وعلو مكانتها في الأسرة نتيجة لمصاهرتها لآل المراكيبي وآل داود. وتقول لزوجها: انظر كيف يحبون أخاك ويغدقون عليه الهدايا، أما أنت فقد أثرت نفورهم بحدة لسانك!

وجاءت الحرب العظمى الثانية بإظلامها وغاراتها، ولكن أفظع غارة انقضت من القدر على سرور نفسه فأتلفت صحته وسلمته ليد الموت قبل الأوان وهو في عامه الأخير من الخدمة. ضربة قاضية نزلت بها بغياب الرجل الذي لم يفتر حبها له ساعة واحدة من عمرها رغم فتور رغبته وركود حبه. وعقب عام واحد من وفاته أصابها نزيف في المخ فراحت في غيبوبة امتدت ثلاثة أيام، ثم أسلمت الروح في صباح اليوم الرابع بين يدي راضية.

زينة سرور عزيز

هي صغرى بنات سرور أفندي والرابعة في ذريته، اشتهرت بعينين خضراوين واسعتين وجسم سريع النضج يوحي بأنه جسم امرأة لا بنت عذراء. وحجزت في البيت في سن مبكرة بعد فك الخط في الكتاب، ومضت نحو المراهقة في محطة انتظار ابن الحلال. وذهبت جميلة إلى بيت الزوجية، وبقيت هي مع بهيجة في محطة الانتظار. تفتح شبابها على أسرتها حين دهمها الغروب والتوتر في جو الإظلام والغارات، ولحظت من وقت مبكر مناورات القلوب التي تدور بين بهيجة وقاسم، وفطنت بغريزة متوقدة إلى أن سنهما المتماثل لا يرشحهما للزواج، وأنه أولى بالفتى أن ينتبه إليها هي. ودأبت ست زينب على اصطحابها - هي وبهيجة - في زياراتها لبيوت الأسرة. شد ما تلتهمها الأعين ولكن يبدو أن أحدا لا يراهما أهلا للزواج. إنها أسرة تستأهل ما يردده أبوها عنها وأكثر ... وحل المرض بقاسم فلاذ بعالمه الجديد، وتلقت أختها الطعنة في صمت وصبر وتسليم . ورحل أبوها ثم تبعته أمها، فوجدت نفسها مع أختها وحيدتين، يلم بهما أخوها لبيب كلما سمح له عمله خارج القاهرة. وقالت لهما راضية: الله لا ينسى عباده ومن توكل على الله فلا يحزن.

وذات يوم، وكان لبيب يجالسهما في جلبابه، قال: جاءني أحدهم يطلب يدك يا زينة.

خفق قلبها، ونظرت نحو بهيجة نظرة مفعمة بالذنب. فقال لبيب: لكل إنسان حظه، وفي وقت لا يتقدم ولا يتأخر.

فقالت بهيجة رغم غرقها في اليأس: صدقت تماما يا أخي ... مبارك عليها.

فقال الرجل: من ناحيتي لا أستطيع أن أهمل فرصة.

وساد صمت ثقيل، ثم قال - وكان ذا قدرة على مواجهة أحرج المواقف: اسمه صبري المقلد، موظف بشركة الكيماويات.

فتمتمت زينة بريبة: شركة! - أفضل من الحكومة ... الدنيا تتغير.

ثم وهو يهز رأسه الكبير: سمعت أنه سكير، وهو نفسه اعترف بذلك، ولكنه أكد لي أنه تاب وأنه يؤهل نفسه للزواج بجدية ... ما رأيك؟

قالت باستسلام: الرأي رأيك. - هذا الكلام لا ينفع اليوم ... سوف ترينه بنفسك.

وجاء صبري المقلد فاستقبله لبيب في حجرة الاستقبال القديمة. وتزينت زينة وارتدت أحسن ما عندها من ملابس، ودخلت للقاء حظها. لم تستطع أن تتفرس في وجهه، ولكن لمحة كفت لإعطاء صورة عنه. كان نحيلا بدرجة ملحوظة هائل الأنف كبير الشدقين طويل الوجه. ولما ذهب قال لبيب: لا يعيب الرجل قبحه ... مرتبه محترم ... أسرته طيبة ... والرأي الأخير لك.

تبين لها أنها تريد زوجا بأي ثمن: لا صبر لها على تلك الحياة الكئيبة، وليكن الله مع بهيجة. وزفت إليه في بيت تملكه أمه ب «بين الجناين» ... وبدت سعيدة بزواجها تماما، وأنجبت له خليل وأميرة. وماتت أميرة طفلة مخلفة جرحا غائرا في قلب الأم الشابة. وكان صبري يكبرها بعشرين عاما، ولكنها نعمت في كنفه بحياة طيبة، فرفلت في أجمل الثياب وتناولت أشهى الأطعمة حتى تمادت في السمانة وشابهت عوالم الزمان الأول. وقد صدمها زواج ابنها خليل من أرملة في مثل سنها، ولكنها عبرت محنتها بسرعة ودون أزمة حقيقية. ولم يكدر صفوها إلا الزمن الذي قطع ما بينها وبين أهلها جميعا حتى تخايلت لعينيها القبيلة القديمة المتداخلة باللقاءات المتواصلة مثل حلم لا ظل له عن الواقع. وقد جاء الزمن بالراديو والتلفزيون، وراحت القاهرة تتضخم وتنهمر عليها الأحداث والحروب والعلل. وكأن بين الجناين أصبحت مثل غيرها من الأحياء مملكة مستقلة لا تعبر حدودها إلا في الملمات.

حرف السين

سرور عزيز يزيد المصري

ولد ونشأ في بيت الغورية على مرأى من بوابة المتولي، مع شقيقه الأكبر عمرو وأختهما الكبرى رشوانة. وترامى مراح طفولتهم ما بين البوابة وسبيل بين القصرين حيث يجلس الأب عزيز على عرشه المائي. وكان سرور يشبه أخاه في طوله ووضوح ملامحه، ولكن وجهه أنبأ عن تناسق ألطف كما مال جسمه إلى البدانة. وكانت جدته نعمة المراكيبي تخصه بحب لا يحظى بمثله عمرو أو رشوانة، وتدلله رغم احتجاج عزيز وتحذيراته. ونشأ طبعا مؤمنا ولكن بلا قيود بخلاف أسرته جميعا، فلم يؤد الصلاة، ولا الصيام حتى بلغ الخمسين من عمره، وستنطبع أسرته الخاصة بطابعه فيما بعد، وبدا كسولا كارها للتعلم فتعثرت خطواته ... أما في معابثة البنات ومطاوعة الغريزة فقد أنذر سلوكه بالمتاعب، وحاول جر أخيه عمرو معه ولكنه لم يجد منه استجابة تذكر، ووجد على العكس صدا وملامة. وقد تبادلا حبا أخويا متينا وصمد في النهاية أمام ما شاب علاقتهما مع الزمن من خلافات. ومضى في مدرسته الابتدائية بصعوبة، ولم يكن حظ عمرو أوفر منه؛ ولذلك ما كاد يحصل على الابتدائية حتى ألقى سلاحه، وسعد بوظيفة في السكك الحديدية. كانت الابتدائية شهادة ذات شأن فارتاح بال عزيز وحمد الله. أجل تمنى المزيد لابنيه متأثرا بمثال أخيه داود باشا وابنه عبد العظيم، ولكنه قال لنفسه «القناعة كنز». بل راح يفكر في الخطوة التالية المهمة وهي الزواج ... ولما حادثه أبوه في الأمر وجد منه فتورا، فصارحه بأنه لا يبارك سلوكه، وأنه يرى في الزواج خير علاج له ... وانضم عمرو إلى رأي والده بحماس، وسرعان ما أذعن سرور احتراما لهما وتطلعا لسحر الزواج أيضا ... ودلتهم الخاطبة على بيت زينب ، وذهبت قافلة من نعمة ورشوانة وراضية لخطبة زينب. وزفت إليه في البيت المجاور لبيت أخيه بميدان بيت القاضي، وبهر سرور بجمال زوجته وطبعها الهادئ وخلقها الدمث، ووجد بين يديها الحب والشفاء، وأنجبت له في حياة موفقة لبيب وجميلة وبهيجة وزينة وأمير وحازم، كان لسرور من وظيفته الرسمية وزوجته الممتازة وذريته الجميلة ما يؤهله لطمأنينة النفس، ولكنه كان دائما يحوم حول ما يفتقده فخسر كثيرا من الأحلام، وأحد الحسد قلبه ولسانه. جمع بينه وبين زينب حال واحدة، توارت عند زوجه وراء طبعها الدمث، وتجلت مع فحولته غير المبالية. عرف - كان لا بد أن يعرف - ماذا كان جده عطا المراكيبي، وماذا صار، وكيف ابتسم له الحظ، كما عرف الأصل الذي صدرت عنه باشوية عمه داود، واحتج على ثراء جده وفقر أمه، واتهم جده بالدناءة والقسوة، ولسعته الغيرة من أخيه المحبوب عمرو، لإغداق الجميع عليه بالحب والهدايا وتجاهله هو كأنه ليس بشقيق عمرو، متغافلا عن حدة لسانه التي نفرت القلوب منه. وضاعف من تأزمه أن عمرو تخطى ابنتيه وزوج ابنيه من آل داود وآل المراكيبي. أجل لم تطف عواطف السخط إلى السطح فيما بين الشقيقين أو الأسرتين، وغلب الحب دائما، ولكن الباطن ماج كثيرا بالانفعالات المتضاربة. حتى ما بين راضية وزينب، فقد غطاه السلام دائما وحسن المعاشرة، وشد ما بكى سرور يوم وفاة عمرو كما احتضرت زينب تحت مظلة حانية من تلاوة راضية ودموعها. وكما كان سرور دون أخيه في تقواه كان كذلك في وطنيته، ولكن ثورة 1919. أودعت قلبه المتمرد قدرا من الدفء لم يتلاش حتى النفس الأخير. وظل يفاخر باشتراكه في إضراب الموظفين كما لو كان المضرب الوحيد، وظلت ذكريات مظاهراتها عالقة بخياله كأفتن الطيبات التي عشقها في حياته. تلك الموجة العاتية الهادرة بأناشيد المجد التي جرفت الآباء والأبناء واقتحمت قلوب النساء وراء المشربيات؛ ولذلك وجد في ارتداد آل المراكيبي وآل داود عن زعامتها المقدسة مجالا يضرب فيه لسانه بغير تحفظ يقول لأخيه: لنا خال لا يعبد في الدنيا إلا مصالحه .

أو يقول: وبيت عمنا الجليل المنضم لعدلي توهما أنه حقا من العائلات!

ومع الكهولة تفجرت ثورة أخرى في أعماق سرور تمرد بها على حب زوجته، وانطلقت عيناه وغرائزه وراء أحلام المراهقة من جديد. ونشب الشقاق بينه وبين زينب الوديعة المحبة الحزينة، وتعاتبه بصوتها المهموس: ماذا نصنع لو شكتك جارتنا إلى زوجها؟

فيقول بحدة: لا يوجد أصلا موضوع للشكوى.

ولما شكته هي إلى عمرو صب غضبه عليها وهددها بأنه سيتزوج ثانية وقتما يشاء. وكان الزواج مرة أخرى أمنية يعجز عن تحقيقها. والحق أنه لم يخن زوجته إلا مرتين؛ واحدة في بيت من بيوت البغاء، والأخرى علاقة عابرة لم تدم أكثر من أسبوع. وحنق أكثر على فقره، وأكثر وأكثر على جده الفظ، ودأب على شراء أوراق اليانصيب لعل وعسى، ولكنه لم يجن من ذلك كله إلا العتاب الصامت يلوح في أعين بكريه لبيب وبناته، خاصة عندما تدهورت صحة زينب. ولما رحل عمرو دهمه شعور بالوحدة والكآبة، وجاءت الحرب والإظلام والغارات فأعلن أن الحياة صفقة خاسرة، ولم يجد من سلوى في الحياة إلا في عظمة ابنه لبيب الذي تاه بها مع الجميع، الأمر الذي زاده ثقلا على قلوب الأهل. وفي الفترة الأخيرة من حياته انقطع عن زيارة آل المراكيبي وآل داود، ولكنه كان يزور كثيرا أبناء عمرو وبناته ويشارك في أفراحهم وأحزانهم، كذلك بيت أخيه، وكانوا يحبونه منذ صغرهم وتضاعف حبهم له عقب وفاة أبيهم، وفي العام الأخير من خدمته الحكومية، أصابته أزمة قلبية وهو جالس في المشربية في ليلة خريف يرنو إلى الظلام الجاثم فوق البيوت والمآذن، متوقعا بين ساعة وأخرى نذير الغارة المعتاد، وقد فارق الحياة في أقل من دقيقة واحدة.

سليم حسين قابيل

آخر ذرية سميرة عمرو وحسين قابيل، ولد ونشأ في شارع ابن خلدون، وتوفي أبوه وسنه عام واحد، فترعرع في حياة منضبطة غير الحياة الرخية التي تقلبت فيها أسرته وهو خاطرة في عالم الغيب. وكان وسيما كأمه، فارع العود كأبيه، كبير الرأس والعقل كأخيه حكيم. ومنذ صغره تجلت صلابته وعناده كما تجلى تفوقه الدراسي. وعدته أخته هنومة بتدينها وصرامتها الأخلاقية، وظن عهدا طويلا أنه يتلقى حقائق الغيب عن لسان جدته راضية. وكان يحب كرة القدم ويجيدها، ويحب مخالطة البنات في حديقة الظاهر بيبرس، ويكره الإنجليز، ودائما تداعب خياله أحلام الإصلاح والمدينة الفاضلة. ولم يمل إلى حزب من الأحزاب، صده عن ذلك أخوه حكيم الذي رفض الجميع بدون استثناء. وسمع حكيم يقول مرة: نريد شيئا جديدا.

فقال بتلقائية: مثل سيدنا عمر بن الخطاب.

واتجه بدافع من مزاجه وبتأثير من هنومة على الكتب الدينية في مكتبة أخيه. كان حلم المدينة الفاضلة يغلب عليه الكرة والبنات. ولما قامت ثورة يوليو كان في المرحلة الثانوية فرحب بها بكل حماس كمنقذ من الضياع، وشد من ارتباطه بها الدور الذي لعبه شقيقه حكيم فيها. لأول مرة خيل إليه أن المدينة الفاضلة تبني حجرا بعد حجر. وظن أنه بانضمامه إلى الإخوان إنما يندمج أكثر في الثورة، فلما وقع أول تناقض بين الثورة والإخوان أبقاه قلبه مع الإخوان، ومضى يختلف مع شقيقه. وقال له حكيم: الحذر.

فقال: الحذر لا ينجي من القدر.

والتحق بالحقوق ونشاطه السياسي - أو الديني - في تصاعد. ولكن أحدا من أهله لم يتصور أنه سيكون بين المتهمين في قضية الإخوان الكبرى. وتحير حكيم وقال لأمه الجزعة: لا حيلة لمخلوق!

وحكم عليه بعشر سنوات؛ فترنحت سميرة تحت وطأة الضربة، ووجدت أن تألق نجم حكيم لا يعزيها شيئا عن سجن سليم، فأضمرت الكراهية للثورة وراحت راضية تدعو على الثورة ورجالها، وخرج سليم من السجن قبل 5 يونيو بعام فأتم المتبقي له من الدراسة وحصل على الليسانس، وعمل في مكتب محام إخواني كبير. ولما وقعت الهزيمة الكبرى اعتبرها عقابا إلهيا على حكم كافر. ولم تنقطع صلاته بالزملاء ولكنها مضت في تكتم شديد وحذر، ووجد متنفسا في الكتابة فوهب لها سنوات من عمره تمخضت عن ثمرة جيدة في كتاب «العصر الذهبي للإسلام» ثم أتبعه بكتاب «أهل العزم والتقوى». وفي الوقت نفسه أحرز نجاحا لا بأس به كمحام، وتحسنت أحواله المالية من رواج كتابيه خاصة بعد أن ابتاعت السعودية منهما كمية موفورة. ولما رحل زعيم الثورة داخله شيء من الطمأنينة، فقالت له سميرة: آن لك أن تفكر في الزواج.

فاستجاب لصوتها استجابة ملهوف فقالت: عليك أن ترى هدية بنت أمانة بنت خالتك مطرية.

هي صغرى ذرية أمانة وكانت قد رجعت توا من الخليج بعد اشتغالها بالتدريس هناك عامين واشترت شقة في منشية البكري. وزار بصحبة سميرة بيت عبد الرحمن أمين وأمانة في الأزهر ورأى هدية، مدرسة جميلة في ريعان الشباب تمت بجمالها إلى جمال جدتها مطرية قمة جمال الأسرة. وخطبتها سميرة وزفت إليه واستقر بها في شقتها بمنشية البكري، وحظي سليم بزوجة طيبة وحياة عملية آخذة في الازدهار، وآنس في حكم السادات مودة ورحمة، ولم يقلقه إلا التيارات الدينية الجديدة التي انبثقت من الإخوان، ثم شقت لنفسها مجاري جديدة محفوفة بالتطرف والغموض. وكان يقول لأخيه حكيم: ثمة صحوة إسلامية شاملة لا شك فيها، ولكنها بعثت فيما بعثت خلافات قديمة تستنفد قواها فيما لا يجدي.

ولكن حكيم كان يهيم في واد آخر، وكان رغم عواطفه الشخصية يعتبر ما حل بالنظام في 5 يونيو كارثة محققة، وأن الوطن يمضي إلى مجهول. ومضت الأيام فتلقى سليم من ربه عهد الأبوة والوفرة في الرزق، والرضوان يوم النصر، ولا شيء من ذلك كله يزحم في نفسه إيمانه الراسخ وحلمه الأبدي بالمدينة الإلهية الفاضلة، وجرف معه في تياره العارم هدية حتى قالت: كنت ضالة فهديت والحمد لله.

وأصبح سليم من كتاب الدعوة في مجلة الإخوان، ودهمه ما دهم زمرته من غضب لمغامرة السادات الكبرى في سبيل السلام، وارتد مرة أخرى إلى عنفوان السخط والتمرد، حتى صدرت قرارات سبتمبر 1981، ورمي به في السجن من جديد. ولما وقع حادث المنصة قال: عقاب إلهي لحكم كافر.

وتنفس الحرية في جو جديد، ولكنه كان قد فقد الثقة في كل شيء إلا حلمه، فمن أجله يعمل ومن أجله يعيش.

سميرة عمرو عزيز

هي الرابعة في ذرية عمرو والثانية في الجمال بعد مطرية ، ومن خلال لعبها فوق السطح وتحت شجرة البلخ في الميدان، أو دراستها في الكتاب تبلورت لها شخصية رزينة وطبع هادئ وذكاء وقاد. نادرا ما التحمت في «نقار» مع إخوتها، وعند احتدام العنف كانت تنزوي في ركن قانعة بمشاهدة ما يجري مما ستدعى للشهادة عليه فيما بعد. ورغم أنها فاقت أمها بجمالها، إلا أنها كانت تمت إليها في الهيئة العامة - عدا الطول - الأمر الذي جعل راضية تخصها بإعجاب شديد. وبخلاف أخواتها حفظت المبادئ التي لقنتها في الكتاب ونمتها بالاجتهاد، فكانت الوحيدة بينهن التي تواظب على قراءة الصحف والمجلات في الكبر ... وفي زياراتها لآل المراكيبي بسراي ميدان خيرت أو آل داود بالعباسية الشرقية كانت تسجل في وعيها ما تراه من أناقة الترتيب وآداب المائدة وإيقاع الحديث وجمال الموضة وتحاول اكتسابه والتطبع به ما وسعتها الحيلة وسمحت الظروف، وكان محمود بك عطا يقول بمزاحه الخشن: أنتم أسرة بلدي، ولكن فيكم بنت من بنات الفرنجة!

وأدركتها المراهقة ولكنها لم تعاشر طويلا أحلام العواطف الدفينة، إذ سرعان ما تقدم لخطبتها صديق لأخيها عامر يدعى حسين قابيل صاحب دكان تحف في خان الخليلي. زامل أخاها حتى البكالوريا ثم خلف أباه في الدكان عقب وفاته، وكان رغم شبابه ذا سمات فحلة وثبت به إلى الرجولة قبل الأوان، ضخم الجسم، كبير الرأس، حاد البصر. وعلى خلق كريم وثراء لا بأس به، وبخلاف صدرية ومطرية زفت سميرة إلى زوجها في حي الظاهر، بشقة في عمارة جديدة بشارع ابن خلدون، وجاء ذلك مناسبا لها تماما، فصادفت كثرة من الأسر اليهودية، وتعلمت العزف على البيانو، وربت كلبة لولي كانت تصحبها في نزهاتها بحديقة الظاهر بيبرس. ولما علم عمرو بذلك قال محتجا ومسلما بالأمر الواقع في آن ... ما شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وكان حسين قابيل ميسور الحال وكريما، فتفجرت ينابيع الحياة الرغيدة في مسكنه، وأشبعت سميرة هواها الكامن إلى الموضة والمعيشة الأنيقة، وضاعف من سرورها ما طبع عليه زوجها من جميل المعاشرة وأدب المعاملة، وأمام الآخرين كان يخاطبها بقوله: «يا سميرة هانم.» وتناديه بقولها: «يا حسين بك.» وكان الرجل يجمع في قلبه بين الوطنية الصادقة والتدين العميق، وينشرهما فيمن حوله؛ لذلك نفذت ثورة 1919 إلى عمق قلب سميرة لم تصل إلى مثله في قلب أي من أخواتها، كذلك كان تدينها أسلم من الشوائب إذ كانت أقل أخواتها تأثرا بغيبيات راضية. وقد أنجبت له بدرية وصفاء وحكيم وفاروق وهنومة وسليم، وجميعهم حظوا بنصيب موفور من الجمال والذكاء، وتعاون الوالدان على تربيتهم تربية سليمة في كنف الدين والمبادئ. ومن أول يوم قالت له: سنعلم البنات كالصبيان.

فوافق بحماس، واستطاعت سميرة بتألقها أن تحرك شيئا من الغيرة عند آل المراكيبي وآل داود أنفسهم، غير أن حياتها لم تخل من أحزان كثيرة ففقدت بدرية وحكيم وأسرته، وانشق قلبها قلقا على سليم في شتى أطوار حياته. ومن العجيب أنها كانت تلقى المصائب بإرادة مؤمنة صابرة قوية، قادرة على تلقي المصائب وهضمها، ومعايشة الحزن الباقي بحكمة جعلتها غرضا سهلا للاتهام بالبرود. وتقول لها راضية: إنك لا تؤمنين كما يجب بالحجاب والرقى والبخور والأضرحة، ولا علم إلا علم الأولين.

وتتساءل سميرة في نفسها دون أن تبين: هل أجدت هذه الوسائل في دفع المصائب عن صدرية ومطرية؟! وحم القضاء فتوفي حسين قابيل بعد مولد سليم بعام واحد وأربعة أعوام خلت على وفاة أبيها. ولم ترث عنه إلا مخزنا من التحف، دبرت أمورها على عوائد بيعها عند الحاجة، وقد رحل الأب، وذريته ماضية في مراحل التعليم ما بين الثانوية والجامعة.

وسألتها راضية: ماذا تبقى لك يا سميرة؟

فأجابت: مخزن من التحف.

فقالت المرأة: بل يبقى لك خالق السماوات والأرض.

حرف الشين

شاذلي محمد إبراهيم

الابن الثاني لمطرية ومحمد إبراهيم، وقد ولد ونشأ في بيت والديه بحارة الوطاويط؛ كان جميلا ولكن دون أخيه أحمد المتوفى درجة، وحل محل أخيه الراحل في زمالة خاله قاسم، ولكنه لم يفز بالمنزلة الأسطورية التي فاز بها أحمد. ومن صغره خالط بيت جده عمرو، وآل سرور، والمراكيبي وداود، وثابر على ذلك في سائر أطوار حياته ناهجا سبيل أمه في حب الناس والإكثار من معاشرتهم. ومن صغره أيضا تجلت له مواهب سوف تصحبه في حياته؛ كخفة روحه، وميله للهو، وتطلعه للمعرفة، وحبه البنات، وتوفيقه في ذلك كله، رغم أنه لم يحرز في حياته التعليمية إلا درجة وسطى. ولعله ورث عن أبيه حب الاطلاع ووجد زاده في الكتب والمجلات التي يقتنيها. وأضاف إلى معارفه من الأهل أصدقاء جددا من قادة الفكر المعاصر، أيقظوه من سباته وألهبوه بالتساؤلات التي لم ينقطع عنها طيلة عمره. ورغم ثقافته الإنسانية المتنامية وجد استعداده في دراسة العلوم الرياضية فالتحق بكلية العلوم، ثم اشتغل مدرسا كأبيه، واستقر في القاهرة بوساطة آل المراكيبي وآل داود. وواصل حياته مشغولا بثقافته ولهوه عن المستقبل حتى قال له أبوه: إنك مدرس، ومهنة التدريس ذات تقاليد، وأرى أن تفكر في الزواج.

وقالت مطرية: البنات في أسرتنا كثيرات، بنات خالاتك، وبنت عمنا زينة!

وكان قد غازل الكثيرات دون جدية، ولم يشعر نحو إحداهن بحب حقيقي، فقال: سأتزوج بالأسلوب الذي أقتنع به.

فقال أبوه محذرا: المدرس يجب أن يكون حسن السمعة.

حسن السمعة؟! كان يعبر فترة من الحياة يتساءل فيها عن معنى كل شيء حتى حسن السمعة! وكان كلما خلا إلى نفسه طرح هذا السؤال: من أنا؟! كان ظمؤه إلى تحديد علاقته بالكون جنونيا مضنيا. وكان لا يكف عن مناقشة الجميع، خاصة من يأنس فيهم ميلا للمناقشة، كابن خالته حكيم، وغيره من شباب آل المراكيبي وآل داود وآل سرور. وتجرأ بعد ذلك على مقابلة طه حسين والعقاد والمازني وهيكل وسلامة موسى والشيخ مصطفى عبد الرازق، ولم يكن الدين موضع رفضه ولكنه أراد أن يعتمد على عقله حتى آخر المدى، وكل يوم كان له شأن. حتى خاله قاسم كان يحاوره ويناجيه، وحتى الثاوون في مقابرهم من أهله كان يسائلهم في مواسم القرافة. ولما حمل جده عمرو إلى فراشه وهو يودع الحياة، جيء بممرضة تدعى سهير لتحقنه، فأعجب بها شاذلي رغم تسلط الحزن. وراح يساعدها في تسخين الماء تحت مراقبة خفية من عيني عفت زوجة خاله عامر اللتين ندت عنهما نظرة خبيثة ماكرة. وتوطدت علاقة حب بين الاثنين قبل حلول الأربعين. وتبين له أنه جاد هذه المرة أكثر مما تصور، فأعلن رغبته في الزواج منها، وصارحته مطرية قائلة: لك وجه جميل وذوق رديء!

وكان يرد على العتاب بالضحك. وقالت مطرية: أصلها واطي، وجمالها مبتذل.

فقال لها: استعدي للفرح.

وسلم محمد إبراهيم بالأمر الواقع دون اكتراث، ولم تفكر مطرية في إغضاب ابنها أكثر مما قالت، واختار شاذلي شقة في عمارة جديدة بشارع أبو خوده واستقبل حياة الحب والزوجية. واستقالت سهير من عملها وتفرغت لحياتها الزوجية، وأثبتت أنها فتاة لبقة وطيبة، وسرعان ما حازت رضا حماتها. وكان شاذلي سيئ الحظ في ذريته، توفي له خمسة في سن الرضاعة، وعاش محمد وحده، وصار ضابطا في الجيش، ولكنه استشهد في الاعتداء الثلاثي، وعاش شاذلي حياته منقبا عن ذاته، يقرأ ويناقش ويتساءل ثم يصطدم بجدار اللاأدرية فيبدأ الشوط من جديد. ولم يهتم بالسياسة إلا باعتبارها حوادث تدعو للتأمل والمعرفة، فلم يقع تحت سحر الوفد، وتابع تقلبات ثورة يوليو كما يتابع فيلما سينمائيا مثيرا، ولكنه حزن على ضياع محمد حزنا لم يبرأ منه طيلة عمره. وقال مرة لشقيقته أمانة: كلانا لم يخلق للسعادة الصافية.

ووجد شيئا من العزاء في حب ذريتها، أما سليم ابن خالته وزوج هدية بنت أخته فكان يخيفه بصرامته وحدته. لم يجد في حواره متاعا ولا لذة.

وقال له سليم: حيرتك مستوردة ولا يجوز لمسلم أن يقع فيها.

وظل على وده لقاسم رغم ما طرأ عليه، وكان يصطحبه أحيانا إلى الكلوب المصري حيث تنهمر عليهما ذكريات الآباء والأجداد، وكمعلم راح يراقب الأجيال المتعاقبة بذهول، وقال مرة يحادث نفسه: لا أحد يشغل باله إلا بلقمة العيش والهجرة، فما جدوى العذاب؟!

شاكر عامر عمرو

ولد ونشأ في «بين الجناين» وهو شارع تقوم على جانبيه بيوت حديثة، وتمتد شرقيه وغربيه الحقول المزروعة بالخضراوات وأشجار الحناء. وهو بكري عامر وعفت وحفيد عمرو أفندي من ناحية، وعبد العظيم باشا داود من ناحية أخرى. وكان دخل أبيه من مرتبه ودروسه الخصوصية، بالإضافة إلى ملكية أمه للبيت الصغير الأنيق ذي الحديقة الخلفية بتكعيبة العنب وشجرة الجوافة وشجيرات القرنفل، كل أولئك هيأ معيشة حسنة المستوى للأسرة، كما وفر لشاكر البكري مظهرا جميلا وتدليلا لا يفتقر للإرشاد القويم. وبالرغم من تفوقه الرياضي شق طريقه في المدارس بنجاح. ولما لحق به في الوجود أخواه قدري وفايد لعبت الغيرة دورها بين الإخوة، ولم تخل من معارك، ونزاع مع الوالدين، ولكنها اعتبرت رغم ذلك أسرة متماسكة يغلب عليها الوفاق. وكان للحب المتبادل بين الزوجين نفحاته الزكية في إضفاء جو السلام ونشر المحبة، وبقدر ما تجلى الأب صديقا أبدت الأم محاولاتها في التسلط. وأحب شاكر جده عمرو وجدته راضية وتظاهر دائما باحترام غيبياتها، كما أحب جده عبد العظيم باشا وجدته فريدة هانم حسام. وتلقى عن آل داود احتقارهم التقليدي لآل المراكيبي الذي اشتد بعد أن صارت شكيرة سلفة لعفت أم شاكر. ونشأ شاكر، وانتماؤه لأسرته وذاته يغلب فيه أي انتماء لوطن أو لحزب من الأحزاب. ورث ذلك عن أمه التي كانت غير منتمية بحكم تربيتها وإن أعلنت في المناسبات ولاءها للعدليين متابعة لأبيها، أما الأب فلم يعد له من وفديته القديمة - في بيت الزوجية - إلا عاطفة باهتة أخفاها في أعماقه فلم يمتد تأثيرها إلى أولاده، والتحق شاكر بكلية الطب، وخاض أول تجربة عاطفية جادة في حياته بحبه صفاء بنت عمته سميرة. وكانت لهما قصة ترامت أنباؤها إلى عفت أمه فجن جنونها. لم يكن في صفاء ما يعيب، فهي جميلة وطالبة في الآداب، وقريبته. ولكن عفت، رغم علاقتها الطيبة بآل عمرو ابن عم أبيها، إلا أنها كانت تراهم دون مستواهم، وأن عروس ابنها يجب أن تكون من درجة أعلى بمراحل. وثار غضبها ولم تخفه، وعلمت به سميرة وآل عمرو، وأحدث ما أحدث من استياء، وفي الوقت نفسه لم يبد شاكر مقاومة جدية لأمه. فنصحت سميرة ابنتها صفاء بقطع علاقتها بابن خالها. وغضبت الفتاة لكرامة أسرتها وقطعت العلاقة بعد اقتناع بعدم جدية شاكر، لم يخرج شاكر من تلك التجربة مهيض الجناح ولكنه لم يخل من حنق على أمه. وقد تخرج طبيبا، وبفضل خاله الدكتور لطفي باشا عبد العظيم عين في وظيفة بالمعامل بوزارة الصحة، ثم أمكنه فتح عيادة خاصة لأمراض الدم بعد بضع سنين. وراحت أمه ترسم خطة لتحقق حلم الزواج الجدير به في نظرها. وكان هو يتردد على ملاهي الهرم القديمة فأحب راقصة هنغارية، واكترى لها شقة في الهرم، وتحولت العلاقة إلى حب حقيقي فتزوج منها سرا، ولم يجرؤ على مكاشفة أمه بالحقيقة ولكنه كاشف بها أباه. وصعقت عفت، وثارت ثورة علم بها القاصي والداني وكثر الشامتون. وانتقل الدكتور إلى مأواه الجديد وأنذر الحال بالانفصال الكلي عن أسرته. وقالت راضية لعفت: لا يجوز أن تخسري ابنك والزواج في النهاية قسمة ونصيب.

ومع الزمن رجعت العلاقات في أضيق الحدود. وقامت ثورة يوليو وانقلب المجتمع رأسا على عقب، وطارت الباشوية من آل داود، وهبطت قيمة الأطباء والقضاة، فحقد شاكر على العهد الجديد حقدا أفسد عليه أعصابه. ودبر أمره للهرب، فانتهز فرصة حضور مؤتمر طبي في شيكاغو، وهاجر إلى الولايات المتحدة وأقام بها قاطعا علاقته بوطنه وأهله. وقد رجع في منتصف الثمانينيات مصطحبا زوجته وأولاده فزار والديه وأخويه وجدته راضية كضيف أجنبي، ثم سرعان ما رجع إلى وطنه الجديد.

شكيرة محمود عطا المراكيبي

فتحت عينيها على سراي ميدان خيرت برياشها وتحفها وحديقتها الغناء، من سوء حظها أنها اقتبست أهم معالمها من أبيها محمود بك متجاهلة أصل أمها نازلي هانم المترع بالجمال والعذوبة، ربعة قوية الجسم، كبيرة الرأس، خشنة القسمات، عنيدة متطرفة في أحكامها متعصبة لرأيها، لا تتزحزح عن عاطفة، مع تدين قوي وأخلاق متينة وعادات مهذبة رفيعة. لولا ذلك ما خطب أبوها حامد عمرو لها بنفسه وقاية لها من الانتهازيين. ورغم الفارق الشاسع بين الأسرتين فلم يتحمس للزواج أحد من آل عمرو سوى عمرو نفسه. وأطلقوا على شكيرة منذ إعلان الخطبة «شكير بك عطا.» وبكل أمانة أحبت شكيرة زوجها الشاب من أول يوم، وكانت على أتم استعداد لفتح قلبها لآله جميعا. أجل لم يغب عنها ما يحمل في طياته من ذوق وتقاليد ومعاملة بعيدة بشعبيتها كل البعد عن تربيتها الرفيعة المهذبة، ولكنها قالت لنفسها: كل شيء قابل للتغيير!

ولكنها لاحظت أيضا أن عاطفته كانت نهما عابرا، وأن طلائع الفتور لاحت في شهر العسل نفسه، ودهمها ذلك كصاعقة فآلمها أشد الألم وطعن برأسه السام المسنون حبها وكبرياءها، ولم تكن تخفي عن أمها شيئا؛ فقالت نازلي هانم: هذه أحوال تمر، كوني لبقة كيسة.

وحدثتها حديث الهوانم المجربات طاوية قلقها في قلبها. وقالت لها أيضا: إنه من بيئة شعبية، وبحكم عمله كضابط شرطة لا يتعامل إلا مع الساقطين!

وكان حامد يعمل حسابا لجبروت حميه ولإقامته بين أفراد قبيلته فلم يرتفع له صوت، ولكنه كان يدس بداوته دسا رفيقا ومؤذيا في آن. وغضبت مرة فقالت له: كثيرون لا يعرفون النعمة إلا بعد زوالها!

فقهقه ساخرا وقال: إن زواجك مني هو النعمة حقا لك أنت! - إذن، لماذا رضيت؟! - الزواج قسمة ونصيب. - وطمع وجشع أيضا.

هكذا بدأ عراك لم ينقطع على مدى السنين حتى حسمه الطلاق فيما بعد. وارتفع درجة في حرارته فصاحت به مرة: إنك تنضح بالقذارة.

فسألها متهكما: ألم يحدثوك عن جدك بياع المراكيب؟!

ولكن شكيرة رغم غضبها وصلابتها لم تخل من حكمة، فظلت أسرار حياتها الزوجية التعسة خافية في أضيق الحدود، حتى نازلي هانم لم تعلم بكل تفاصيلها ... بل يمكن القول بأنها لم تنضب من حب له رغم كل شيء حتى وفاة أبيها، وأنجبت له وحيدة وصالح، وأملت كثيرا أن يستقيم حاله مع الزمن ولكن دون جدوى. ولم تكن علاقتها مع أسرته بأحسن من علاقتها معه؛ كانت تعتبر راضية - قبل زواجها - امرأة غريبة الأطوار، ثم حكمت بعد ذلك بجنونها، وتبادلا كراهية ماحقة رغم الصداقة الجميلة بين راضية ونازلي. وقالت نازلي: حذار أن تغضبي حماتك، إنها مؤاخية للجان!

فقالت شكيرة: اعتمادي على الله وحده.

كذلك تبادلت كراهية مع عفت زوجة عامر ضاعفت ما بين آل عطا وآل داود من غيرة ومنافرة. ولما رحل جيل الكبار تنفس حامد وتطاير سخطه في الهواء بلا ضابط، وانتهى الأمر بالطلاق. وقد كرهت شكيرة حامد وأهله كراهية عميقة لم تخف حدتها أبدا. وواظبت على لعنه وتشريحه حتى بعد موته. وفي وحدتها استغرقها التدين وحجت أكثر من مرة، وكانت تحرص على الفرائض من صلاة وصوم وزكاة، كما تحرص على لعن أعدائها والدعاء عليهم في الدنيا والآخرة.

شهيرة معاوية القليوبي

هي الابنة الثانية للشيخ معاوية وجليلة الطرابيشية، ولدت ونشأت ببيت الأسرة القديم بسوق الزلط بباب الشعرية، وملعبهن كان مدخل البيت ما بين الفرن والبئر وكنبة المعيشة، هو الذي جمع بين راضية وشهيرة وصديقة وبليغ. وفيه سمعت وصايا الشيخ الأب، وجرت كلمات جليلة محملة بغيبيات العصور الخوالي. ومن بادئ الأمر لم تستجب شهيرة للدين وفرائضه ولكنها استقبلت التراث الغيبي بحماس وأضافت إليه من خيالها الكثير، وكانت تشبه راضية جسما ووجها مع ميل أكثر إلى البياض وتفوق في العنف وسلاطة اللسان وتماد في غرابة الأطوار التي تماس حافة الجنون. وعقب وفاة أبيها بعامين خطبها أحد تلاميذه من قراء القرآن الكريم، ذو صوت عذب ومنظر وجيه ورزق موفور، فزفت إليه في مسكنه بباب البحر غير بعيد من بيت الأسرة. وأنجبت منه ولدا جميل الصورة، أسماه أبوه عبده تيمنا باسم سي عبده الحامولي الذي كان مولعا بصوته. ومضت حياتها الزوجية في توفيق رغم حدة طبعها وسلاطة لسانها، ولكن الشيخ علي بلال - الزوج - كان يعلق على ذلك بدعابة قائلا: هذه توابل الحياة الزوجية.

وقد توطدت مودته لعمرو أفندي وآله، وكلما زار بيت ميدان بيت القاضي رجاه عمرو أن يبارك البيت بتلاوة منه فيتربع في حجرة الاستقبال عقب الغداء واحتساء القهوة ويقرأ ما تيسر من القرآن الكريم بصوته العذب، وأغراه صوته وأصدقاؤه بإنشاد المدائح النبوية في المواسم، فاتسع مجال رزقه وكثر المعجبون به حتى دعي لإحياء بعض الأفراح بإنشاد المدائح، وفي ذلك الجو المعبق بالأفراح، والليالي الملاح جرت رجله لتدخين الحشيش. وأخيرا اقترح عليه أحد الملحنين أن يتحول إلى مطرب متنبئا له بمستقبل وردي، واستجاب للدعوة بقلب طروب، ولم يجد بأسا في هجر السور الشريفة ليغني: «اوع تكلمني بابا جي ورايا.» و«ارخي الستار اللي في ريحنا.» و«الهف يا لا بف يا سمك مقلي.» ونجح في ذلك نجاحا مرموقا وسجل أسطوانات راجت في السوق وأذاعت اسمه على الألسنة، وضرب عمرو أفندي كفا بكف وقال: يا للخسارة.

وبدأت شهيرة تخاف على مكانتها الزوجية من إغراءات الوسط الجديد فقالت له: تزوجتك شيخا مباركا فانقلبت إلى عالمة!

وثمل الرجل بنجاحه وصار واسطة العقد في كثير من جلسات الحشيش، ولم يتورع بعد ذلك عن معاقرة الخمر وتبخير بيته آخر الليل برائحتها الكريهة النفاذة مذكرا شهيرة بمأساة أخيها بليغ، فغطى صوتها على مؤذن الفجر في زجره وسلقه بلسانها الحاد. ثم ترامى إليها أنه بدأ يغازل العوالم فانقضت عليه بوحشية فتحت له أبواب الجحيم على مصاريعها؛ فقر عزمه على تطليقها، ولكنه قبل أن ينفذ عزمه أفرط ليلة في البلبعة فكبست على قلبه وأسلم الروح في مجلس أنس وهو يداعب أوتار عوده. وأدت شهيرة طقوس الحزن بلا مشاركة وجدانية، وأجرت البيت ودكانين أسفله، وحملت عبده راجعة إلى بيتها القديم لتشارك أمها وحدتها.

وقالت لها راضية: ليكن عبده لك قرة عين.

ولكن عبده انخطف في حمى كحلم بعد أن عرفت أمه في الحي بأم عبده، والتصق بها اللقب حتى آخر عهدها بالحياة. وولعت بتربية القطط، وكرست حياتها للعناية بها حتى ملأت عليها فراغ حياتها، وزحمت البيت القديم ... وراحت تؤكد أنها باتت خبيرة بلغتها وبالأرواح التي تسكن أجسادها، وأنها عن طريقهن تتصل بعالم الغيب. ووجدت في راضية خير صديقة لها، وكان اجتماعهما سواء في بيت القاضي أم في سوق الزلط تمهيدا طبيعيا لعقد جلسة غريبة تتبادل فيها الخبرات عن عوالم الجان والغيب وأبناء الأسرار الخفية، كانتا في ذلك قلبا واحدا وعقلا واحدا رغم سوء ظن راضية بها واتهامها لها بحسدها على ذريتها وزواجها الموفق. واشتهرت في حي سوق الزلط بشخصيتها الغامضة المرهوبة ولسانها السليط، ولم يعرف عنها أنها أدت فريضة، وكانت تجهر بإفطارها في رمضان وتقول: الواصل ليس في حاجة إلى فريضة تقربه من الله.

ولما رحلت أمها غرقت في وحدتها وانغمست في دنيا القطط حتى قمة رأسها الأشيب، وكان أخوها بليغ يتعهدها برعايته، ويدعوها لزيارة قصره المنيف ولكنها كرهت زوجته بلا سبب، ولم تكن تغادر القطط إلا لزيارة سيدي الشعراني أو زيارة راضية ... وفي عام 1947 أصابها وباء الكوليرا فنقلت إلى مستشفى الحميات بعد أن أوصت جارة بالذهاب إلى راضية للعناية بالقطط. وماتت في المستشفى مخلفة حوالي أربعين قطة وقطا. وبكى أبناء وبنات راضية الخالة التي كانت تثير ضحكهم في حياتها.

حرف الصاد

صالح حامد عمرو

نشأ في سراي ميدان خيرت في الجناح المخصص لحامد وشكيرة. وهو وأخته وحيدة يمثلان أول جيل للأحفاد في آل المراكيبي؛ ولذلك حظيا بتكريم خاص من الجدود والأخوال. وكانت الحديقة الكبيرة ملعبه وحلمه، أحبها في الربيع وهي تجود بأخلاط روائحها الزكية، كما أحبها في الشتاء إذا غسلتها مياه الأمطار النادرة. وارتبط بأمه أكثر من أبيه لانشغال أبيه بعمله، وارتبط بها أكثر كلما لمس آثار محنتها مع أبيه، وكان قوي الجسم كأبيه حسن الملامح كجده، ولكن أمه ربته تربية دينية أرستقراطية رفيعة فنشأ ذا ضمير ومبادئ تقوى، وكان عنيدا كأمه مما أضفى عليه شبهة غباء هو في الحقيقة أبعد ما يكون عنه. وأكد ذلك تشدده في الحكم على الناس، بالقرآن والسنة، دون تسامح أو لين. وربما كان أبوه أولى ضحاياه رغم حب الرجل الشديد له، هو أيضا كان يحب أباه ولكنه رآه مبتذلا ووضعه في خانة واحدة مع الخطأة والساقطين مع إيلائه حقه الكامل من البر والولاء. ولم يغب موقفه عن غريزة حامد، وشكا أمره إلى أخيه عامر قائلا: شكيرة أنشأتهم على النفور مني.

ومن أجل ذلك قال عامر لصالح مرة: أنت رجل صالح يا صالح فلا تنس البر بأبيك.

فقال صالح: ما أهملت له حقا أبدا. - لعله لا يقنع بالرسميات.

فقال بصراحته الحادة: إنه يظلم ماما يا عمي.

وقرب ذلك الخلق بينه وبين سليم ابن عمته، مع فارق وهو أن سليم كان يقرن العاطفة بالعمل، أما صالح فكان يقول لنفسه: حسبي القلب، وهو أضعف الإيمان.

لذلك أحب الإخوان دون أن ينخرط في سلكهم، وأدان ولاء آله - آل المراكيبي - للملك كما أدان الأحزاب جميعا، وبمتابعة الصراع الدائم بين والديه نفر نفورا عاما من آل أبيه، آل عمرو وسرور، كما احتقر آل داود، وآمن مع أمه بأن جدته راضية ما هي إلا امرأة مخبولة! وبنجاحه المتواصل في المدارس قال له حامد: عليك بالطب وأنت أهل لذلك!

ولكن شكيرة قالت: بل الزراعة ولك أرضي بعد ذلك تعمل بها.

وطابت له فكرة أمه فلعنهما حامد في سره. وبعد تخرجه في الزراعة سافر إلى بني سويف مصمما على خلق مزرعة حديثة من أرض أمه التي ورثتها بعد وفاة جده الجبار. وخطب إحدى قريبات جدته نازلي هانم وتدعى جلفدان، وتوفر للعمل في الأرض بهمة عالية، كما ربى العجول وأقام منحلا للعسل، وارتدى ملابس أعيان الريف. ولم يكن يرتدي البدلة إلا حين زيارة القاهرة. ولما قامت ثورة يوليو عاداها بقلبه رغم أنها لم تمسه بسوء، ورغم أنه وجد خاليه عبده وماهر من رجالها. وفي عهد الانفتاح اتسع رزقه وكثرت ذريته وظل على ولائه لمبادئه، وازداد استياء من أبيه بعد تطليقه أمه وزواجه الثاني، ولكنه لم يخل من حزن صادق لدى وفاته. وتأقلم بالريف وأحبه وعشق عمله ونجاحه وأصبح يطلق على القاهرة «مدينة العذاب».

صدرية عمرو عزيز

قيل عنها بحق: نحلة آل عمرو. كالآخرين ولدت ونشأت في البيت القديم بميدان بيت القاضي، بلون ضارب لسمرة أعمق، وقامة أميل للقصر، وجسم نحيل حسن التكوين، وقسمات مقبولة، استقبلت بفرحة يشوبها فتور إذ انعقد الأمل بمولد ولد، ولكنها بحكم سنها مارست الأمومة لإخوتها وأخواتها منذ الصبا. وكانت نجية أمها ووريثة تراثها، ولم تخل أيضا من قدر من الدين الصحيح. أما براعتها في فنون البيت من طهي وتنظيف وشغل الإبرة فكان مضرب الأمثال، وتعلمت في الكتاب أشياء وفكت الخط ولو أنها ردت إلى الأمية لعدم الاستعمال. ولم تكن تكف عن العمل ولا عن الغناء رغم أنها لم ترزق أي ميزة في حنجرتها، ترى في المطبخ مساعدة لأمها أو حالة محلها، أو جالسة إلى ماكينة الخياطة، أو فوق السطح تتفقد أحوال الدجاج والأرانب. وعندما اكتظ البيت بعامر ومطرية وسميرة وحبيبة وحامد وقاسم، لعبت دور نائبة الأم وأسهمت في اللعب والسرور والصراخ والعراك وتفوقت في كل. وقد اكتسبت منزلة لم يشاركها فيها أحد، وحافظت عليها حتى آخر العمر، وقاسمت الجميع همومهم رغم ثقل همومها، وآمنت بأمها واعتبرتها من صاحبات الكرامات. وما كادت تبلغ الخامسة عشرة حتى تقدم لطلب يدها صعيدي من الأعيان يدعى حمادة القناوي فتحقق الحلم الذي راودها منذ جاوزت العاشرة! وكان ذهابها يمثل أول فراق في الأسرة وأول فرح لها. وكان حمادة من معارف عمرو، وكان من عشاق القاهرة فأقام بها مع أمه - عقب وفاة أبيه - مؤجرا أرضه البالغة ثلاثين فدانا لعمه في قنا. وقد زارت رشوانة وراضية وزينب حرم سرور بيت الرجل بدرب القزازين، وقالت رشوانة لأخيها عمرو: أم حمادة امرأة تقية لا تفوتها فريضة.

وفي مجلس ببيت عمرو جمع بينه وبين سرور ومحمود بك عطا قال سرور أفندي: العريس عاطل لا عمل له وهذا شيء رديء.

فقال عمرو: إنه يملك ثلاثين فدانا.

فقال سرور بغروره الخاوي: ولو ... إنه لا يكاد يفك الخط.

فقال محمود عطا: قيمة الرجل في ماله.

وقال عمرو: وأسرته محافظة طيبة.

وارتاحت صدرية إلى منظره ذي الطول والقوة، وأناقة جبته وقفطانه، ورجولة ملامحه، كما تراءى لها من وراء خصاص المشربية. وزفت إليه في بيت اكتراه في خان جعفر من أملاك الدهل الحلواني. وقد أهداها محمود عطا حجرة الاستقبال كما أهداها أحمد بك عطا حليا وثيابا، وأهداها عبد العظيم داود ثوب العرس. وبدأت صدرية حياتها الزوجية مع حمادة القناوي معتمدة على وصايا أمها وبركاتها ومهارتها الفائقة كست بيت. وكان حمادة مشكلة متعددة الأطراف. أجل تبادلا استجابة مفعمة بالمودة، وشعر كلاهما بأنه في حاجة متينة إلى الآخر، ولكن صدرية كانت ذات حساسية وحدة في الطبع والعناد لا يستهان به، وكان الرجل ثرثارا ضيق الذهن محبا للفخر والسيطرة، وهيأ له فراغه غير المحدود التدخل فيما يعنيه وما لا يعنيه. لم تعتد أن رجلا يغط في نومه حتى الضحى، ويستيقظ فيوقف نشاطها المنزلي ليحدثها حديثا لا أول له ولا آخر عن أسرته وأمجادها وأمجاده هو الخيالية، ويلاحقها بملاحظاته الغبية عن عملها الذي لا يفقه فيه شيئا. ولم يكن يعرف من دينه إلا اسمه، فلا يصلي ولا يصوم، ولا تكاد تمضي ليلة دون أن يسهر في البارزيانا فيشرب النبيذ ويتعشى بالمزة. لم يكفا عن الزوجية والإنجاب؛ فأنجبت له «نهاد وعقل ووردة ودلال» ولم ينقطعا عن الجدل العقيم، فيفاخر بأسرته من الملاك، وتساق إلى المفاخرة بآل عطا وداود والشيخ معاوية بطل الثورة العرابية، وأحيانا تحتد المناقشة فيتبادلان أقسى الكلمات.

وكانت صدرية حريصة على كتم بخار حلتها تحت غطائها المحكم، وعلى حل مشاكلها بنفسها دون إشراك أهلها فيها. ولكن راضية كانت تفطن إلى أشياء بوحي غريزتها، وأيضا بما لمسته في الرجل من ثرثرة موجعة للرأس. وقالت لابنتها: الزوجة يجب أن تكون طبيبة!

فقالت صدرية: عليك بزيارة الأضرحة المفيدة لهذه الحال.

فقالت راضية: وما جدوى زيارة الأضرحة في هذه الحال؟ ... العلاج الناجع في قطع لسانه!

والواقع أن أذى ثرثرته لم يقتصر على زوجته ولكنه جاوزها - بزياراته - إلى آل عمرو وسرور والمراكيبي وداود حتى صار نادرة في الأسرة كلها. وتبين لها بعد ذلك أن عينه لا تعرف الحياء، فهي تمتد إلى أي امرأة جميلة ذاهبة أو آئبة فتنغص عليها صفوها أكثر وأكثر. وتسأله مستنكرة: أليس عندك حياء؟

فيقول ساخرا: لا ضرر من النظر.

ولكنها ضبطت إشارات متبادلة بينه وبين أرملة حسناء تقيم في البيت المواجه لها. واشتعلت بها نار طيرت النوم من عينيها فظلت متيقظة حتى ميعاد عودته من سهرة البارزيانا. وغادرت بيتها إلى الطريق متلفعة بالظلام وبيدها وعاء مملوء بالماء، وجاء الرجل يشق الظلماء فأحست بباب بيت الأرملة وهو يفتح وشبحها يتخايل في مدخله، وتوقف الرجل ، ثم مال نحوها، وتقدمت هي بسرعة إلى منتصف الطريق وقذفت بالماء على شبح المرأة فصرخت وتهاوت في الداخل. وذهل الرجل ونظر نحوها متسائلا: من؟

فقالت بصوت محتدم: إلى بيتك يا قليل الحياء.

وكان تلك الليلة يترنح. ودخل صامتا، وهتف غاضبا: سأثبت لك أني رجل متوحش عند اللزوم.

ولكن الضحك غلبه في سكره فارتمى على الكنبة وهو يقول: أنت امرأة مجنونة مثل أمك!

وخاصمته زمنا، ثم رجعا إلى المعاشرة والمناقرة، ولم يحسم الأمر بينهما إلا المرض؛ أصابه ضغط دم أثر في سلامة قلبه فاضطر إلى الامتناع عن الشرب وحل به خمول عام يشبه - في بعض مظاهره - الحكمة. ووفدت الأحزان، ففقدت صدرية ابنتها وردة في عز شبابها، ثم أباها، وأختها مطرية، وأخيرا مات حمادة وهو في زيارة لأهله في قنا، وبقيت صدرية وحيدة في خان جعفر رافضة الانتقال إلى بيت ابنها عقل رغم بره الشديد بها، ولما شعرت راضية بتدهور صحتها قالت لصدرية: أريد أن تكوني إلى جانبي حتى تغمضي عيني.

فأغلقت بيتها راجعة إلى البيت الذي شهد مولدها لتكون إلى جانب الأم التي فضلتها على الجميع؛ كانت الأم قد جاوزت المائة بسنوات والابنة قد اقتربت من التسعين رغم تماسكها ونشاطها. وتقضت تلك الأيام الأخيرة في حومة الذكريات، ورددت الأم أغنية كانت ترددها في أواخر الربع الأول من القرن التاسع عشر ثم أسلمت الروح، فأغمضت صدرية عينيها وهي تود أن تبكي فلا تستطيع.

صديقة معاوية القليوبي

ثالثة بنات الشيخ معاوية وجليلة الطرابيشية، وجاء مولدها بالبيت القديم بسوق الزلط بعد سجن الشيخ بنصف عام، وفاقت شقيقتيها راضية وشهيرة بجمالها، بل كانت بوجهها المائل للبياض وخديها الموردتين وقسماتها المتناسقة وشعرها الأسود الغزير وقدها الطري الرشيق مثالا للحسن بغير منازع في الحي كله، ولم يفقها في الأسرة سوى مطرية بنت عمرو وراضية التي شابهتها في الأصول وتجاوزتها في الخفة والتهذيب. وكانت الوحيدة التي لم تنل حظها من تربية الشيخ الدينية، فنشأت ثمرة خالصة لتراث جليلة، مع عذوبة في المعاملة وحب للغناء تزكيه حنجرة لا تخلو من جودة في الأداء؛ ولجمالها وعذوبتها حظيت بأكبر قسط من حب أبناء راضية وبناتها، وتقدم لها بعد وفاة أبيها بأعوام وبعد زواج شهيرة بعام واحد طبيب أسنان شامي من سكان الحي فزفت إليه، وأقاما في عمارة جديدة بالفجالة. وسرعان ما دهمتها الخطوب فمات زوجها قبل أن تحبل، ومرضت بالسل، ورجعت إلى حضن جليلة تنشد الأنس والشفاء. واهتزت قلوب الأسرة لفجيعتها، وذوى جمالها وتغير حالها وتكالبت عليها الآلام دون أي أمل في الشفاء، وشعرت بأنها تنحدر نحو الهاوية، وضاقت باليأس والألم والأرق والسعال، وفي لحظة يأس مدلهمة رمت بنفسها في البئر. وصوتت جليلة فهرع إليها أهل النجدة من الجيران، وانتشلوا صديقة وهي في الرمق الأخير. وقضت ساعات عذاب من ليل طويل محموم، يحيط بها أمها وأختاها راضية وشهيرة، وقد اكتظ المدخل بالرجال من الأسرة والجيران، وفاضت روحها بعد نضال معذب قبيل الفجر، وهي في عز الشباب واليأس والألم. وحزنت جليلة عليها طويلا، وأمرت بتغطية البئر بغطاء متين من الخشب والاستغناء عنها كلية. وكانت تحلم بها من حين لآخر وقالت مرة لراضية: في ليلة سيدي الشعراني رأيت صديقة على مقربة من البئر واقفة في سحابة بيضاء مشرقة الوجه بابتسامة.

فصدقتها راضية بإيمان عميق وسألتها: هل حدثتك يا أمي؟

فقالت جليلة: سألتها عن حالها فقالت لي: إن الله غفر لها انتحارها، وإنها تخبرني بذلك ليطمئن قلبي.

فهتفت راضية: الحمد لله الرحمن الرحيم.

فقالت جليلة: رأيتها في غاية من الجمال كالأيام الماضية.

صفاء حسين قابيل

هي الثانية في ذرية سميرة وحسين قابيل، ولدت ونشأت في بيت ابن خلدون، ورضعت في مهدها اليسر والهناء مستظلة بأيام العز والهناء وخمائل حديقة الظاهر بيبرس. ومع أن جميع أبناء سميرة عرفوا بالجمال والصحة والنجابة؛ فإن صفاء كانت أوفرهن جمالا ومرحا. كم لاعبت جدتها راضية ورقصت بين يديها ونفثت حرارتها الزكية في كل مكان تحل فيه. ونمت بسيطة ومتسامحة، تحب الحياة أكثر من المبادئ التي توزعت إخوتها وأخواتها. وهام بها حسين قابيل هياما واعتدها تحفة أجمل من جميع التحف التي يتاجر بها. ومضت في الدراسة بنجاح حسن، والتحقت بكلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية، ومات حسين قابيل تاركا في قلبها جرحا عميقا، وشعرت بعناء أمها وهي تعد الأسرة لمستوى جديد من المعيشة، فخيم على مرحها ظلام أشد من ظلام ليالي الحرب والغارات. وتلاقت في تجوالها بشباب الأسرة ما بين آل سرور، والمراكيبي، وداود، ولكن شاكر ابن خالها عامر كان الذي ألقى عليها شباك اهتمامه وإعجابه؛ كان طالبا بالطب فأمكنهما أن يلتقيا كثيرا بعيدا عن تقاليد الأسرة، وبلغ قلبها فطامه على يديه، فاعتقدت بأنه فتى المستقبل المأمول لإسعادها. ولم يغب عنها حرصه على إحاطة علاقتهما بالسرية، ولم تدرك لذلك مغزى، فسألته مرة: مم تخاف؟

فأجاب بصراحة وسخط: ماما!

فعجبت لشأنه وشأنها وحدست أنه ليس الرجل كما ينبغي له. ورجعت ذات يوم من كليتها فوجدت أمها واجمة متجهمة فأدركت لسابق معرفتها بقوة انضباطها أن حدثا قد حدث.

وقالت سميرة باستياء: عفت زوجة خالك!

وخنق قلبها وشعرت بتلاشي أملها. وقالت سميرة: صارحتني بلا حياء بأن علي أن أمنعك عن ابنها.

فهتفت صفاء بغضب: ولكني لا أطارده.

فقالت سميرة بأسى: أغلقي هذا الباب بالضبة والمفتاح.

أجل. لا مفر من ذلك. ولا نجاة من الألم، ولكن لماذا؟ وواصلت سميرة: ينظرون إلينا من فوق، وقديما حصل ذلك مع خالتك مطرية!

تساءلت بحنق: كيف يتصورون أنفسهم؟! - ما علينا، أريد أن أطمئن عليك.

فقالت باستهانة: اطمئني تماما.

وقد تجرعت ألما ومهانة ولكنها لم تخل من بعض سجايا أمها الفريدة، وهي القدرة على التصدي للكوارث. وانقطعت العلاقة مشفوعة بالازدراء. وتخرجت، وتعينت مترجمة إدارة الجامعة بوساطة الأكابر من أهل أمها! ورآها السكرتير المساعد للإدارة فرغب في الزواج منها؛ كان يكبرها بحوالي عشرين عاما ولكنه ذو درجة عالية ودخل لا بأس به، ووزنت العرض فوجدته مناسبا لحالها تماما، وتبين لها أنها «عملية» أكثر مما ظنت. وزفت إلى صبري بك القاضي بفيلته بحدائق القبة. ووهبتها حياتها الجديدة ما تحب من عيشة رغدة وزوج محب كريم وأمومة قنعت بولدين علي وعمرو. ولما قامت ثورة يوليو لعبت بأسرتها كما شاءت فرفعت شقيقها حكيم وضيعت سليم، ومن حسن حظها هي أن صبري القاضي كان قريبا لضابط مهم فترقى في مدة قصيرة حتى شغل وظيفة وكيل وزارة التربية، وأحيل إلى المعاش لبلوغه السن، ولكنه دفعها مرات حتى وصلت إلى درجة مدير عام. وأشرفت بنفسها على تربية علي وعمرو حتى التحقا بالسلك السياسي. هكذا تألق هذا الفرع في عقد البيروقراطية الماسي ونجا من شر العواصف.

حرف العين

عامر عمرو عزيز

أول هدية من عالم الغيب تغمر قلبي عمرو وراضية بالفرحة والرضا والفخر، وتؤكد الحقيقة التي يؤمن بها ميدان بيت القاضي وهي أن ليس الذكر كالأنثى. وجاء مشرقا بوجه مليح، يقتبس ملاحته من خير ما حظيت به راضية من استقامة الأنف وعلو الجبهة، وما ستعرف به سميرة فيما بعد من دقة القسمات وتناسقها، ومن أبيه أخذ هدوء الطبع والتقوى ونزعة القيادة والرعاية. طالما جمع أخواته فوق السطح ليقوم بينهن بدور شيخ الكتاب، وبيده عصا منعه من استعمالها الحياء والعذوبة. ونشأ نظيفا أنيقا يطوف بالأحياء باسما متأملا ويتربع أمام ضريح الحسين لاهجا بالدعاء، ونجح دائما في كسب الأصدقاء من الجيران، من طبقته ومن الطبقة الأعلى. ولم يستطع الأدنون أن يتحرشوا به أبدا، وفاز بالحظوة أيضا في سراي ميدان خيرت وعند آل داود. وشق طريقه التعليمي بالنجاح وتفوق في العلوم والرياضة، وبفضل كبراء الأسرة نال امتياز المجانية فتخفف أبوه من عبء لم يكن ليتحمله وهو في حومة تزويج صدرية ومطرية وسميرة ... ومنذ صباه حدث الميل المتبادل بينه وبين عفت بنت عبد العظيم باشا داود. حدث فوق السطح في ظل الغسيل المنشور، ونما مع الأيام والزيارات المتبادلة حتى صار حبا وحلما للمستقبل. وكانت تلك الأمور تقع سرا ولكن رائحتها تفوح كالوردة، وانتصر الحب أول ما انتصر على البنت المترفعة التي كانت تنظر إلى أسرته من عل، كأن الله لم يخلق للنبل إلا أسرتها. وقالت فريدة هانم حسان لعبد العظيم باشا: نحن نربي بناتنا في المدارس الإفرنجية ليكن صالحات لطبيب أو وكيل نيابة من أسرة.

فقال الباشا: عمرو ابن عمي ولا أعدل به أحدا.

وكانت الهانم تشاركه عواطفه، وتحب راضية، وتحب عامرا بصفة خاصة فسرعان ما استجابت. وسر عمرو وراضية بذلك، وكان عمرو تياها فخورا بأقاربه العظام فاعتبر ارتباطه بهم بالمصاهرة فوزا كبيرا. وكان محمود عطا بك يفكر في عامر كزوج لشكيرة، فلما سقط الفتى في أيدي منافسيه قال لعمرو: سيكون حامد لشكيرة.

وتمت بذلك سعادة عمرو، الأمر الذي عرضه لملامة شقيقه سرور، فأخذ عليه تجاهله لبناته، ودافع عمرو عن موقفه متعللا بجمال بنات أخيه اللاتي لا يخشى عليهن من البوار، وبفقر أولاده الذين في حاجة إلى دعامة. فقال سرور بمرارة: إنهم يضنون عليك بالذكور.

فتألم عمرو، ولكنه قال مستوحيا طبيعته المتواضعة: رحم الله امرأ عرف قدر نفسه.

فقال سرور وهو يداري غضبه: أصبحت يا أخي درويشا لا تغضب!

وود عامر أن يلتحق بمدرسة الطب معتمدا على تفوقه العلمي، ليكون أهلا بكل معنى الكلمة لعفت، ولكن أباه اختار له مدرسة المعلمين لامتيازها بالمجانية، قائلا لابنه المحبوب: المجانية في الطب متعذرة، والعين بصيرة واليد قصيرة.

وكان عامر مثالا في الطاعة والتجاوب مع الحقائق مهما تكن مرارتها، فقال لأبيه متظاهرا بالرضا: المعلمين مدرسة عليا على أي حال.

وتسامحت عفت وآلها، وقالت عفت لنفسها إن معلما تحبه خير من طبيب لا تحبه. وهضم عامر خيبة أمله العسيرة ومضى في طريقه مكللا بالنجاح والرضا. ولما قامت ثورة 1919 دخل معبدها مع أسرته، واشترك في المظاهرات، من قلبه الصافي يحيا سعد. وكان في السنة النهائية فسرعان ما ابتعد عن النشاط المباشر بممارسة حياته العملية. وقد اتفق على الزواج بعد عام واحد من ذلك التاريخ. أصبح ضيفا في أسرته التي لم يخلف في صدور أبنائها إلا كل طيب، باستثناء المشاحنات التي كانت تقوم بينه وبين أخيه حامد بسبب طبيعة حامد المتمردة وسلوكه الجامح ... وكم بذلت راضية من تعاويذها وتمائمها لطرد روح الشر من بين الشقيقين، ولكن ما إن بدآ حياتهما العملية حتى حل الصفاء مكان الكدر. وكان عبد العظيم داود قد شيد لابنته بيتا في بين الجناين، دخلته الكهرباء والماء والمجاري، وتحلى في خلفيته بحديقة صغيرة، فانتقل عامر مع عروسه المتفرنجة إلى البيت الجديد ليستهل حياة زوجية سعيدة طويلة. وقد هز الزواج أسرة آل عمرو من أول يوم. وضح تماما أن العروس الجديدة من طراز مخالف لأخوات عامر، فهي متخرجة في الميردي دييه، ترطن بأكثر من لغة، وتتقن اللعب بالبيانو، وتعرف معلومات عن فرنسا وتاريخها وديانتها ولا تكاد تعرف شيئا عن بلدها تاريخا أو عقيدة، وتفاخر بذلك دون خفاء، برغم تفشي الروح التي أطلقتها الثورة الوطنية. وكانت ذات شخصية قوية متسلطة فالتهمت شخصية زوجها الوديعة الدمثة، فلم يجرؤ الشاب على تذكيرها بأن الصوم واجب في رمضان، وصام وحده معتمدا على نفسه في إعداد سحوره، وإلى ذلك فقد بهر برطانتها ومهارتها في العزف. ولما خرج العدليون على سعد زغلول وجد عامر نفسه غريبا في آل داود، وتجنب تكدير الصفو بالدفاع عن وفديته الكامنة فطواها في صدره. ولم تكن عفت تهتم بالسياسة أي اهتمام جدي، ولكنها جارت أباها تعصبا له ليس إلا، وكانت تقول لزوجها: لا وجه للمقارنة بين عدلي باشا النبيل وبين زعيمك الأزهري!

فيبتسم عامر متحاشيا الجدل، ومرة سأله عبد العظيم داود: هل تعتقد حقا أننا نستطيع تحمل أعباء الاستقلال؟

فتساءل عامر: لم لا؟

فأجاب الرجل: حسبنا استقلال ذاتي ولكننا بدون حماية الإنجليز نضيع بلا رحمة.

أيضا فإن راضية غضبت من تعالي عفت واستسلام عامر رغم صداقتها الوطيدة مع فريدة هانم، ورغم إعجابها بجمال عفت، وقالت لابنها: الرجل يجب أن يكون سيدا في بيته.

وقالت لعمرو: عفت تتوهم أنها أميرة.

فقال لها الرجل: لا تحرضي على ما يفسد سعادته.

واقتنعت بذلك آخر الأمر، خاصة بعد أن أنجبت عفت شاكر وقدري وفايد الذين أحبتهم راضية بمجامع قلبها. واستوعب الحب المكين كافة التناقضات، واستوت زيجة عامر وعفت مثلا نادرا في الزيجات الموفقة. زواج لم يعرف الملل أو الانتكاس أو الفكر وأثار الغيرة والحسد، قال حامد عنه: سر سعادة أخي أنه ذاب في إرادة زوجته، يا له من ثمن.

وعلى عادة سرور أفندي في النقد المر قال يوما لزينب زوجته: لقد تزوج حامد برجل كما تزوجت عفت بامرأة.

ووفق عامر في حياته المهنية توفيقه في حياته الزوجية، فكان من أحب المعلمين إلى تلاميذه وأعظمهم تأثيرا فيهم، ومن القلة التي تعيش ذكراها مع الأجيال التي تربيها حتى آخر العمر. وقد انتفع بذلك في زيادة إيراده بفضل الدروس الخصوصية، وفي تذليل كثير من الصعوبات بفضل ذوي النفوذ من تلاميذه السابقين، أما أعلى درجة سجلها حظه فقد حدثت بعد قيام ثورة يوليو ووجدان اثنين من تلاميذه في مجلس قيادة ثورتها. أما عفت فقد مقتت الثورة لإلغائها باشوية شقيقها ولم تغفر لها استهانتها بالمهن الرفيعة كالطب والقضاء، ولكن عامر شعر بأنه - بفضل تلميذيه - من رجالها رغم وفديته المكبوتة بين جدران آل داود. ولم تكن سعادة عامر بأبنائه دون سعادته بزواجه. لتفوقهم ونجاحهم، ولكنهم أحدثوا له ولأمهم متاعب، لم تجر لهم على بال، سواء كان ذلك بسبب السلوك الشخصي أم بسبب السياسة، ثم عرف كل أمر مستقره، واستقبل عامر حياة معاش امتد ربع قرن في بيت صار مثالا لرفقة الشيخوخة كما كان مثالا لسعادة الحب. وحافظ الرجل على صحته وحيويته، يقرأ الصحف والمجلات، ويسمع الأغاني، ويشاهد التلفزيون، ولتفوقه في الصحة وتدهور زوجته راح يقدم لها الخدمات ويشرف بنفسه على الخادم والطاهية، ويلاعب الأحفاد، أو يخزه الحنين فيمضي مع أحد أبنائه في سيارته إلى الحي العتيق، فيزور البيت القديم حيث يقيم قاسم، ويصلي في الحسين، ويجلس ساعة في الفيشاوي، ويتناول غداءه عند الدهان، ثم يرجع إلى بين الجناين منتشيا مغرد الروح. وعاش حتى قارب التسعين، فطرب لأمجاد يوليو، وانكوى بخمسة يونيو، وأفاق في 15 مايو، وطرب مرة أخرى في 6 أكتوبر المجلجلة، وانقبض في 6 أكتوبر الدامية، وفارق الدنيا بهدوء يغبط عليه كختام حسن. استيقظ صباحا في ميعاده، مضى إلى المطبخ ليعد الشاي لنفسه ولعفت، وعاد به ليحسواه في الفراش ولما فرغ من قدحه قال: قلبي ليس على ما يرام .

واستلقى على ظهره ليستريح، وسرعان ما مال رأسه على الوسادة وكأنما قد غفا.

عبد العظيم داود يزيد

الابن الوحيد الذي بقي من ذرية داود باشا وسنية الوراق، نشأ في بيت السيدة، وتلقى تربية رفيعة من أم هانم وأب يعتبر من الرجال المعدودين في عصره. ومنذ صغره خالط أهله في الحي العتيق، وأحب بصفة خاصة ابن عمه عمرو، ولكنه خالط أيضا نوعا آخر من البشر هم الأجانب من أقران أبيه الذين كثيرا ما تناولوا عشاءهم على مائدته وتبادلوا الأنخاب. تقلب بين التراث والمعاصرة ولكن الدين لم يلعب في حياته عشر معشار دوره في حياة صديق روحه عمرو. وكان نحيلا أسمر وسيم الطلعة كبير الرأس راجح العقل كبير الطموح. وشق طريقه الدراسي بتفوق ثم التحق بكلية الحقوق. كان أمل أبيه أن يجعل منه طبيبا ولكنه عشق البلاغة والآداب وتخصص في القانون المناسب لأمثاله من أبناء الكبراء. وتعين في النيابة دون حاجة إلى وساطة أبيه العظيم، واستحق من أول يوم احترام رؤسائه وخاصة الإنجليز. ولعله أول من اختار زوجة برؤية عينيه في أسرته. لمح فريدة في حنطور الأسرة، فسره لونها الأبيض وقسماتها الأنيقة، ثم عرف اسم الأسرة. وذهبت سنية الوراق وراضية ورشوانة لزيارة الأسرة الكريمة، ورفع التقرير عنها. وكان حسام تاجر حرير سوريا وذا مال، وزفت إليه فريدة في فيلا شارع السرايات مصطحبة معها جمالا جديدا ومالا واستعدادا طيبا للمعاشرة الزوجية. وأنجبت له مع الأيام لطفي وغسان وحليم وفهيمة وعفت. وكان عبد العظيم ممتازا في عمله وذا اهتمام بالسياسة. وكان من أنصار حزب الأمة، وصديقا لبعض رجاله المبرزين وممن يؤمنون بتهريج الحزب الوطني. وتوهج فؤاده بالحماس لثورة 1919، ولكن ما إن انقسمت الجبهة حتى مال بعقله وقلبه إلى عدلي يكن وصحبه. وكان يرمق انزعاج ابن عمه عمرو مقهقها ويقول: سحرك المهرج الكبير.

فيقول عمرو: إنه زعيم الأمة وأملها.

كان عمرو يشعر بدفء الرابطة بينه وبين عبد العظيم عندما يزوره هذا في بيت القاضي، أما إذا ذهب عمرو إلى فيلا السرايات فتواتيه غربة في الجو «الإفرنجي » الذي يسود السلوك والعادات، من ذلك أن عبد العظيم باشا كان يفتح شهيته عادة بكأسين من الويسكي، أو يخاطب كريمتيه فهيمة وعفت أحيانا بالفرنسية! وكان محمود عطا المراكيبي يتودد إلى الباشا ويحب أن يوثق علاقته به رغم المنافسة الخفية بين الأسرتين. والحق أن عبد العظيم باشا لم يكن يميل إليه، ولكنه تبادل معه الزيارة إكراما لابن عمه عمرو. وقد أراد محمود بك أن يستعين بنفوذه في إحدى قضاياه الكثيرة فقطب عبد العظيم وقال بوضوح: الظاهر أنه لا فكرة لك عن نزاهة القضاء.

وكان محمود بك يؤمن - بوحي حياته العملية - بأن الشعار شيء والواقع شيء آخر، فصدمه جفاء صاحبه ولعنه في سره. ولكنه وجد نفسه معه في جبهة واحدة بعد الانقسام السياسي. وأراد أن يهون من شأن الخلاف فقال: الولاء للملك أو الإنجليز سيان.

فقال عبد العظيم باشا: لا ولاء للإنجليز ولكنها صداقة. - أليس الملك أفضل؟ - الملك ذو ولاء للإنجليز ونحن دعاة الدستور. - ولكن الدستور سيسلم الحكم لسعد. - ولعله وهم. - إنه يسحر الناس بدعوة الاستقلال التام، وبهذه المناسبة، ما رأيك في هذه الدعوة؟!

فقال الرجل وهو يهز رأسه الكبير: المجانين لا يعرفون معنى الاستقلال، الاستقلال مسئولية ضخمة، من أين لنا الإنفاق على الدفاع؟!

أليس الأفضل أن نترك ذلك للإنجليز ونتفرغ لإصلاح أحوالنا؟

فقال محمود بك بحرارة: صدقت، واستقلال زغلول خليق بأن يقود إلى ثورة عرابية جديدة.

وقد حقق لطفي البكري لأبيه أمله بخلاف غسان وحليم ولكن عبد العظيم يعتبر بصفة عامة أبا سعيدا. وكاد لطفي ينحرف عندما مال إلى مطرية بنت عمرو ولكن الله سلم، وإن أسف عبد العظيم على موقفه من ابنة حبيبه عمرو. وولي مع الأيام مناصب قضائية عظيمة ثم أحيل إلى المعاش وهو رئيس لمحكمة الاستئناف العليا. ولقوة حيويته عمل محاميا حتى الخمسينيات، ثم تقاعد بعد أن طعن في السن. ولم يقعد عن الحركة فكان يذهب كل مساء إلى مقهى لونابارك ليلعب الطاولة مع المعمرين من جيله. ولما قامت ثورة يوليو كان قد توغل في الشيخوخة للدرجة التي يهون معها الاهتمام بالأشياء. وأصابه التهاب حاد في البروستاتا فنقل إلى المستشفى ولكنه أسلم الروح بعد يومين.

عبده محمود عطا المراكيبي

ولد ونشأ في سراي ميدان خيرت، وهو الثالث في ذرية محمود بك ونازلي هانم، واتسم منذ صغره بالوسامة والنجابة. وتربى في أحضان العز، وتلقن مبادئ الأخلاق والتهذيب والتدين على يد أمه الجميلة المهذبة، ونما نفورا من الاختلاط بصفة عامة؛ فعرف أهله من آل عمرو وسرور ورشوانة، ولكنه لم يتخذ صديقا منهم. وأغرم بالرياضة وتفوق خاصة في السباحة، وعشق المطالعة، وشق طريقه في المدارس بتفوق أهله للالتحاق بكلية الهندسة. ولما تخرج التحق بسلاح المهندسين بالجيش بعد المعاهدة. وبدأ يخرج عن خط الأسرة السياسي فلم يتشيع للملك كأبيه وعمه، ولكنه انضم إلى الجيل القلق الغاضب على الجميع والمتطلع إلى الجديد مثل قريبه حكيم حسين قابيل. واقترحت عليه أمه الزواج من آل الماوردي وهم أسرة إقطاعية، فتزوج، واستأجر لعروسه شقة أنيقة في الزمالك، غير أن ذلك الزواج لم ينجب ولم يوفق، ولعل فائدته الوحيدة انحصرت في تعريفه بنفسه وأبعادها. تبين له أنه رغم يسره لا يطيق الإنفاق ويتألم لبذل قرش واحد في غير موضعه ودون حساب وتخطيط. وكانت جولستان من محبات البذخ والحياة الاجتماعية والتباهي بكافة جماليات المظاهر المبهرة، فعجز كل طرف عن النزوع عن شيء من تقاليده وعاداته، فارتطما في عنف جعل من حياتهما جحيما لا يطاق. وقالت له الفتاة بصراحة: لم نخلق لحياة مشتركة.

فقال لها متلمسا طريقه للنجاة: أوافق على ذلك دون قيد أو شرط!

وهجرت بيت الزوجية انتظارا للطلاق، ودرست المسألة على أعلى المستويات، فوجد عبده من والديه تأييدا لموقفه أو على الأقل معارضة صريحة لأسلوب جولستان في الحياة. وقال محمود بك: أنا لا أحب الطلاق ولكنه ضرورة لا مهرب منها في بعض الظروف.

ووقع الطلاق جارا وراءه خسائر مادية لا يستهان بها ما بين مؤخر الصداق والنفقة؛ مما حمل الشاب على اتخاذ قرار من الزواج التزم به بقية عمره. وعاد إلى حجرته الجميلة بالطابق الثاني من سراي ميدان خيرت، مكرسا نشاطه لعمله ومطالعاته المتنوعة. وألف المزاج بينه وبين أخته نادرة وأخيه ماهر، وانضم الأخوان في الوقت المناسب إلى الضباط الأحرار. ولما قامت ثورة يوليو وجدا نفسيهما بين رجال الصف الثاني، وكان محمود بك قد توفي قبل ذلك فنجا الورثة من قبضة الإصلاح الزراعي. وتقلد عبده مركزا قياديا في سلاح المهندسين، وعقب النكسة تولى رياسة شركة المعادن جزاء ولائه المستمر لعبد الناصر. ورغم تأثره الشديد لهزيمة 5 يونيو إلا أنه كان ضمن الذين اعتبروا أن خسارة الأرض كارثة تهون بالقياس إلى النصر المعنوي الذي حققه البلد بالاحتفاظ بزعامة عبد الناصر والنظام الاشتراكي. وطبعا لم يكن سعيدا بطرد أخيه ماهر لولائه لعبد الحكيم عامر، كما لم يسعد من قبل بإحالة أخيه الأكبر حسن إلى المعاش، وتعزى دائما بقوله: الوطن فوق كل شيء.

واستغني عنه في عهد الرئيس السادات فأوى إلى بيته وأرضه، ولما هل عصر الانفتاح أنشأ مكتبا هندسيا مع بعض الزملاء وأثرى ثراء فاحشا. ولم يبارح السراي التي ولد فيها ولا الطبع الذي قضى عليه بالوحدة، والتزم بالحياة البسيطة رغم إيغاله ويقينه من أنه يكنز المال للآخرين.

عدنان أحمد عطا المراكيبي

ولد ونشأ بسراي آل المراكيبي بميدان خيرت، وتلقى في أحضان النعيم مبادئ التربية الرفيعة والدين. وبالرغم من أنه نما بين والد وديع دمث وأم هانم جليلة المقام والخلق (فوزية هانم شقيقة نازلي هانم)، إلا أنه كان أشبه بعمه الجبار محمود بك في صلابته وميله إلى السيطرة، وكان أكثر ذلك الجيل حبا لآله الآخرين عمرو وسرور ورشوانة، وتعلقا بالحي العتيق. ومن بادئ الأمر تمرد باطنه على عمه الجبار الذي يفرض سطوته على السراي بما فيهم أسرة شقيقه أحمد. وما كاد يناهز الحلم حتى أعلن سخطه على وصايا عمه واستئثاره بإدارة الأرض كأنه مالكها الوحيد. وسأل أمه عن سر ذلك فقالت: أبوك راض بذلك.

فانقلب إلى أبيه يحاوره، حتى نغص عليه صفوه، وقال له بصراحة: إنه لوضع مهين!

وما زال وراءه حتى أخرجه من جنته؛ فكان ما كان فبدأ الخصام الذي قسم الأسرة العريقة إلى جبهتين متعاديتين، فأنكر الأخ أخاه والأخت أختها وأبناء العم والخالة أبناء عمهم وخالتهم، وتحدى عدنان عمه فبصق هذا على وجهه، وتبادل عدنان وحسن الضرب في حديقة السراي، فأظلت الأسرة غمامة سوداء ما زالت تحجب النور والدفء عنها حتى تلاشت عند احتضار أحمد بك. وتسلم أحمد بك أرضه وهو على جهل تام بكل شيء، وحدثت خسائر لا مفر منها، حتى ختم عدنان دراسته الزراعية وهرع إلى بني سويف فتسلم العمل من أبيه وأنقذه من التلف. وكان عدنان بخلاف أخيه وأبناء عمه يعشق بنات البلد، فأحب أرملة في الخامسة والثلاثين على حين لم يكن جاوز الثلاثين، وأعلن رغبته في الزواج منها غير ملق بالا إلى جزع أمه، وحقق رغبته وجاء بست تهاني إلى السراي ثم حملها إلى سراي العزبة. وقد أنجبت له فؤاد وفاروق ثم انقطعت عن الحمل. وكانت كلما ضاقت بالريف سافرت إلى القاهرة لتنكد عيشة فوزية هانم. ولما قامت ثورة يوليو كان عدنان - لأكثر من سبب - الوحيد الذي طبق عليه قانون الإصلاح الزراعي، ولم يكن يختلف عن أبيه وعمه ولاء للعرش وكراهية للثورة، ولكن لم يند عنه قول أو فعل يعرضه للمؤاخذة. وقد نجح فؤاد في أن يصير زراعيا كأبيه ويعاونه؛ أما فاروق فلم يوفق في الدراسة واحترف الإجرام على الأسلوب الريفي حتى قتل رميا بالرصاص وهو يغادر المسجد عقب صلاة الجمعة. وقد سعد عدنان بالاعتداء الثلاثي ولكن سعادته انتكست، وسعد أكثر في 5 يونيو، وتمت سعادته في سبتمبر 1970، وبتولي السادات رجع الرجل إلى الشعور بالولاء نحو الحاكم، وشاركه بقلبه انتصاراته في 6 أكتوبر والسلام، أما الانفتاح فقد اعتبره بابا من أبواب الجنة، وعمل في تربية العجول والدجاج والبيض وربح أرباحا خيالية، ولم يكتف بذلك فانضم إلى الحزب الوطني وانتخب عضوا في مجلس الشعب.

عزيز يزيد المصري

ولد ونشأ في الدور الأول من بيت الغورية في ظل بوابة المتولي، وهو بكري يزيد المصري وفرجة الصياد، وقد أنجب الزوجان ولدين وأربع بنات فماتت البنات وهن في المهد وبقي عزيز وداود، وتمتع الولدان بصحة جيدة ونمو يبشر بالقوة مع وسامة في الخلق ووضوح في الملامح، واتخذوا من الطريق العامر بالناس والحوانيت وعربات اليد، المحفوف بالجوامع والمآذن ملعبا ما بين البوابة ووكالة الوراق في الجمالية حيث كان يشتغل أبوهما خازنا بوكالة الوراق. وجاءت الحملة الفرنسية وذهبت قبل أن يبلغ الشقيقان الوعي فمر بهما نابليون بونابرت كما يمر بياع الفجل أو بياع الدوم. ولما استوى عزيز طفلا ناضجا قال عمر يزيد المصري بلكنته الإسكندرية: آن أوان الكتاب.

فاعترضت فرجة الصياد قائلة: بل أرسله إلى أمي في السوق.

فقال: فك الخط هو الذي يسر لي عملي في وكالة الوراق.

وكانت فرجة تؤمن بالسوق التي جاءت منها، ولكنها لم تستطع أن تثنيه عن رأيه. وبارك رأيه فضيلة الشيخ القليوبي في قهوة الشربيني، فقال: نعم الرأي ... وبعد الكتاب إلى الأزهر.

ولاذ الصديق الثالث عطا المراكيبي بالصمت؛ وعطا المراكيبي كان ساكن الدور الثاني ببيت الغورية هو وزوجه سكينة الفرارجي وابنته الوليدة نعمة. وقد تم التعارف بين الرجال الثلاثة في دكان عطا المراكيبي في الصالحية، ثم صارت تجمعهم قهوة الشربيني بالدرب الأحمر فيشربون الزنجبيل ويدخنون الحشيش. وكان الشيخ القليوبي مدرسا في الأزهر وقد دعاهما على الغداء أكثر من مرة في بيته بسوق الزلط. رأوا وليده معاوية وهو يلعب بين البئر والفرن، وتساءل عطا المراكيبي: هل تدخله الأزهر بعد الكتاب؟

فقال يزيد: يفعل الله ما يشاء.

لكنه كان يقنع من الدين بالفرائض المتاحة كصديقه عطا ولا طموح له بعد ذلك. والتحق عزيز بالكتاب ثم لحق به داود فحفظا أجزاء من القرآن وتعلما مبادئ القراءة والكتابة والحساب. وفي تلك الأثناء وقع داود في مصيدة التعليم ونجا عزيز بمعجزة ظل يحمد الله عليها حتى آخر عمره. وكان من حياة داود ما كان، أما عزيز فلما بلغ سن العمل سعى له الشيخ القليوبي في ديوان الأوقاف فتعين ناظرا لسبيل بين القصرين. ارتدى الجلباب والمركوب وشملة من الكتان صيفا وأخرى من الصوف شتاء، ولكنه استبدل بالعمامة الطربوش فعرف في الحي بعزيز أفندي على سبيل الفكاهة، ثم التصقت به على مدى العمر. وتقرر له مليم على كل قربة فقال له يزيد: من الله عليك بوظيفة مهمة.

لم يكن يحزنه في تلك الأيام السعيدة سوى عثرة حظ أخيه، وتضاعف حزنه حين تقرر إرساله إلى فرنسا. وسأل صديقه الشيخ معاوية الذي حل محل أبيه في الأزهر بعد تقاعد الرجل لكبره: ما ذنب داود يا شيخ معاوية؟

فأجاب الشاب: ليس كل علوم الكفار بكفر ولا الإقامة في بلاد الكفار، وليحفظه الله.

ودخل عزيز في فرن المراهقة، وتسلل إليه - رغم تقواه - الخطأ فقال يزيد لفرجة: علينا أن نزوجه!

فقالت فرجة: نعمة بنت صديقك عطا مليحة ومناسبة.

وزفت إليه البنت في بيت أبيه بالغورية، وعقب عامين تزوج صديقه الشيخ معاوية من جليلة الطرابيشية في بيت سوق الزلط. وعاش يزيد المصري وفرجة حتى شهدا مولد رشوانة وعمرو وسرور، ثم مات يزيد في أثناء عمله بالوكالة ودفن بحوشه الذي بناه على كثب من ضريح سيدي نجم الدين، بعد حلم رأى فيه الشيخ وهو يدعوه إلى جواره، ولحقت به فرجة الصياد بعد عام واحد من وفاته. وحدثت أمور ذوات شأن؛ فقد ماتت سكينة أم نعمة، وتزوج عطا المراكيبي من أرملة غنية كانت تقيم في الدور الأعلى للبيت المواجه لدكانه، وانتقل الرجل فجأة إلى طبقة عالية، فشيد سراياه بميدان خيرت، وابتاع عزبة ببني سويف، وأنجب على كبر محمود وأحمد، واستهل حياة جديدة كأنما هي حلم من الأحلام. ووجد عزيز أفندي نفسه صهرا لرجل عظيم من الأعيان كما وجدت نعمة زوجته نفسها ابنه لذلك الرجل العظيم. ولهجت الألسنة بقصة عطا المراكيبي وحظه وذوبان الزوجة الغنية تحت جناحه، ولكن نعمة لم يصبها من ذلك كله خير، لا هي ولا أسرتها، فيما عدا بعض الهبات في المواسم. وقال الشيخ معاوية لصديقه عزيز: إذا سبقت الزوجة زوجها في الوفاة ورثها مع ابنيه، فترثه زوجتك، أما إذا سبق هو فلا حظ لحرمك!

وكان آل عطا وآل عزيز يتبادلون الزيارات، ويختلط عمرو وسرور ورشوانة بمحمود وأحمد ، ويقلب عزيز عينيه في الحديقة والتحف ويغمغم في نفسه: سبحان المنعم الوهاب!

ويقول لصديقه الشيخ معاوية: إنه جلف لا يستحق النعمة.

فيقول الشيخ: لله في خلقه شئون!

وفي أثناء ذلك، رجع داود من فرنسا طبيبا، ثم تزوج من حفيدة الوراق وأقام في بيت السيدة وأنجب عبد العظيم. وعلم عزيز أفندي ابنيه عمرو وسرور فتعين عمرو في نظارة المعارف كما تعين سرور في السكك الحديدية، وتزوجت رشوانة من صادق بركات تاجر الدقيق بالخرنفش وزفت إليه في بيته ب «بين القصرين»، وتزوج عمرو من راضية كبرى بنات الشيخ معاوية، كما تزوج سرور من زينب النجار، وانتقل الأخوان إلى بيتين متجاورين في ميدان بيت القاضي. ولما قامت الثورة العرابية اشترك فيها عزيز بقلبه ولكن الشيخ معاوية أسهم بقلبه ولسانه، وحكم عليه بالسجن بعد تصفية الثورة.

وقد تم زواج عمرو من راضية في الفترة التي أعقبت الإفراج عن الشيخ، ولكن لم يتسن للشيخ شهود الزفاف، فقد وافاه الأجل بعد أسبوع من إعلان الخطبة وقراءة الفاتحة. وحظي عزيز أفندي بالصحة وطول العمر والراحة الزوجية ولم يعان الفقر أو الحرمان، وتمتع بدفء الوشائج العائلية ما بين ميدان خيرت والسيدة وسوق الزلط، وتقدست منزلته عند ذريته كما فرح بتعليمهم وانتسابهم إلى الحكومة وخطرانهم في البدلة والطربوش. ولم يخل مع الأيام من اعتزاز بمنزلة شقيقه الأصغر ورتبته، خاصة بعد أن اطمأن إلى إيمانه ومحافظته على الفرائض وولائه الودود له، وجلوس الأسرتين حول الطبلية، كما آنسه بالزيارة وطوافه معه بالحسين والقرافة. ومن الله عليه فشهد مولد أحفاده، وأكرمه أخيرا بميتة طاهرة، فأسلم الروح وهو ساجد فوق سجادة الصلاة في صباح يوم من أيام الخريف في بيت الغورية ... ودفن إلى جوار أبيه في حوش الأسرة الذي أصبح يعرف بحوش نجم الدين.

عفت عبد العظيم داود

ولدت ونشأت بفيلا الأسرة بشارع السرايات بالعباسية الشرقية. وبها ختم عبد العظيم باشا داود وفريدة حسام ذريتهما المكونة من لطفي وغسان وحليم وفهيمة وعفت. ولدت عفت على وسامة لا يستهان بها، امتزج في وجنتيها بياض أمها الشامية وسمرة أبيها فأسفرا عن لون قمحي مورد وعينين لوزيتين سوداوين لا تخلو نظرتهما من تسلط ومكر، وتقلبت في نعيم في فيلا أنيقة تحدق بها الرتب والنياشين فنهضت - كسائر أعضاء أسرتها - على قوائم راسخة من الكبرياء والتعالي والغرور ... ومن بادئ الأمر لم يرض الأب لكريمتيه الأمية أو شبه الأمية كبنات الفروع الأخرى، كما لم يفكر في تعليمهما تمهيدا للعمل، الأمر الذي رآه أولى ببنات الفقراء من عامة الشعب، فاختار لهما التعليم التهذيبي في نظره الذي يعدهما للزواج من الكبراء. ووجد بغيته في المدارس الأجنبية والميردي دييه بصفة خاصة. وتعلمت عفت الفرنسية والإنجليزية والآداب وفن البيت والموسيقى، وتشربت روحها بتراث غريب حتى ليخيل للرائي أنها إفرنجية ذوقا وعقلا وتراثا. ومع أنها لم تنطق بكلمة تخدش إيمانها إلا أنها عاشت حياتها وهي تجهل دينها وتراثها جهلا تاما، ولا تجد في ذاتها أي انتماء إلى وطنها رغم معايشتها لثورة 1919، لولا تعصب سطحي لموقف أبيها السياسي انطلقت إليه من منطلق الكبرياء والأسرة. ولكن الغريزة تمردت على ذلك كله فأمالت قلبها منذ الصغر نحو عامر قريب أبيها. في ذلك الزمان كانت رابطة الأسرة أقوى من الطبقة والرتبة والجاه والثروة، وكانت زيارة بيت القاضي تعد في وجدان آل داود من الرحلات الممتعة، بمناظرها الطريفة وأغذيتها البلدي وغيبيات راضية، رغم أن شعورهم بالتعالي لا يمكن أن يفارقهم. ولم يجد الميل المتبادل بين عامر وعفت معارضة في بيت عبد العظيم، بل لعله وجد ترحيبا. وعلى أي حال فالنظرة إلى البنت تختلف عن النظرة إلى الولد، فإهداء بنتهم إلى ولد من آل عمرو لا بأس من قبوله، أما أن يرغب ولد من آل داود في بنت من بنات عمرو أو سرور فانحراف خطير يجب أن يكبح بكل حزم. ودماثة أخلاق عمرو هونت عليه التسامح مع ذلك الموقف وتلمس الأعذار له، أما سرور فلم يعفه من لسانه الحاد الذي أبعده درجات عن قلوب آل المراكيبي وآل داود جميعا. كان عند الضرورة يقول متهكما: لماذا ينسى آل عطا العظام المراكيب ودكان الصالحية؟ ... ولماذا ينسى آل داود عم يزيد وفرجة السماك؟

ولما آن لعفت أن تتزوج شيد لها الباشا بيتا جميلا في بين الجناين استقبلت فيه حياتها الزوجية السعيدة التي حطمت منطق أعداء الزواج. أجل فمنذ اليوم الأول سلكت عفت سلوك أميرة وضعتها الظروف بين الرعية، فلم تخل الحياة الجديدة من توترات بين عفت وأخوات عامر، أو بنات سرور، أو شكيرة عندما صارت سلفة لها، بل حتى راضية نفسها على ما بينها وبين فريدة حسام من مودة، ولكن لم ينعقد الخصام لحد القطيعة أو العداوة، وغلب دائما هوى المودة القديمة الراسخة، أما ما بين الزوجين فقد مضى في عذوبة وسلام، وتسليم كلي من جانب عامر لإرادة محبوبته القوية فلم يرتفع له صوت غضب أكثر من مرات معدودات، ولم يبيتا أبدا على خصام. وقد أنجبت له شاكر وقدري وفايد، ولم تستطع أن تمد فوقهم مظلة سطوتها، فجرح شاكر كبرياءها، وحرك قدري مخاوفها وإشفاقها، ولكن ثلاثتهم كانوا أمثلة طيبة للنجابة والنجاح. وقامت ثورة يوليو وتعاقبت الهزائم ثم هل النصر والسلام وتجمعت سحب الفتن والجريمة، وهي لائذة بحصن المتفرج لا يعنيها شيء إلا بقدر أثره المباشر على أسرتها أو أبنائها. وتقدم بها العمر وهدأت نوازع كبريائها ونعمت رغم جريان الأحداث برفقة حبيب العمر والأبناء والأحفاد، حتى غاب عامر عن دنياها في غمضة عين وهو يحادثها، ومن ثم استقبلت حياة صامتة تعلوها كآبة دائمة.

عطا المراكيبي

في الأصل كان صبيا في دكان الصالحية لصاحبها المغربي جلعاد المغاوري، التقطه الرجل يتيما ورباه وأذن له بالبيات في دكانه، وأثبت الصبي جدارة وأمانة، ولزم صاحبه حتى صار شابا يافعا قوي الجسم ربعة غليظ القسمات ضخم الرأس، فزوجه من ابنته الوحيدة سكينة وجعله نائبه في الدكان. وأقام معه في مسكن الغورية جارا للمعلم يزيد وابنه عزيز. ولما رحل جلعاد وزوجه، ورثت سكينة الدكان شرعا وورثها عطا فعلا، وكان متحليا بأخلاق التجار الدمثة يغطي بها خشونة سجاياه، فأمكنه أن يكون صديقا ليزيد والشيخ القليوبي. أما سكينة فكانت على قدر من الوسامة وبنيان هلهله الضعف، فتلكأ إنجابها فترة، ثم أنجبت نعمة عقب ولادة عسيرة كادت تبذل فيها حياتها. وورثت نعمة عن أمها عينيها السوداوين النجلاوين ونعومة بشرتها السمراء، وغزارة شعرها الكستنائي مع صحة جيدة. وكانت سكينة جارة حسنة الجوار ففازت بقلب فرجة السماك ومهدت بذلك الطريق لزواج نعمة من عزيز في الوقت المناسب. وجمع مقهى الشربيني بالدرب الأحمر بين الشيخ القليوبي ويزيد وعطا ليلة بعد أخرى، وشهد الرجال نابليون بونابرت على جواده وهو يسير على رأس جنوده أمام المشهد الحسيني، وعاصروا تقلبات حملته، وخاصة ثورتي القاهرة، وكاد يزيد يهلك في الثورة الثانية، وعاصروا بعد ذلك ولاية محمد علي ومذبحة المماليك. والثورة التي أحدثها الوالي في البلد وأهله. ورغم أن الشيخ القليوبي كان يمتاز بثقافته الدينية إلا أن الوشائج الشعبية والتراثية كانت تقربه من وجدان صاحبيه، ولم يغب عنه ما طبعا عليه من حرص وجهل، ولكنه كان يأخذ الناس على علاتها ويقنع منها بالجانب الأليف والمودة المتاحة. وقد دعاهما مرات إلى بيت سوق الزلط في مقابل مرة يتيمة دعي فيها إلى بيت الغورية، وكان يزيد أحب إليه من عطا، ولمس فيه أركانا من الرجولة والشهامة والتقوى افتقدها في الآخر، ومع ذلك لم يضق أبدا بعطا ولا فكر في نبذه. وظل عطا على حاله من القناعة والرقة حتى توفيت امرأته سكينة بعد عام من زواج ابنتها نعمة من عزيز أفندي ابن المعلم يزيد. وإذا بالحي كله يفاجأ بزواجه من الأرملة الثرية هدى الألوزي. كانت تقيم في بيتها العتيق على الجانب المواجه لدكان المراكيبي فهل كان للقصة تمهيد قديم لم يفطن إليه أحد؟ وقال القليوبي ليزيد: ستحدث أمور، لا يمكن أن توافق هدى هانم على بقاء زوجها في دكانه.

وراح عطا يفكر بعقل مدبر لم يجد من قبل الفرصة المناسبة لاستغلال مواهبه. وشاور في أمره أهل الحل والعقد في تلك الشئون من جيرانه الأغنياء واليهود المدربين. وفي الحال اقتنى أراضي فضاء، وشرع في تشييد السراي الكبرى بميدان خيرت، وعقب مرور زمن اشترى عزبته في بني سويف وأقام فيها السراي الريفية. وأنجبت له هدى هانم الألوزي محمود وأحمد، ومضى يدرس الزراعة ويوثق علاقاته بجيرانه الجدد، والحق أن الثروة كشفت عن مواهبه الكامنة وقوة شخصيته، كما هتكت حرصه وشحه وجشعه اللانهائي إلى الثراء. وبخلاف الظنون فرض سيطرته الكاملة على امرأته والمتعاملين معه حتى شبهه الشيخ القليوبي بالوالي الذي جاء مصر جنديا بسيطا ثم تعملق فوق هامة إمبراطورية مترامية، بل كانت نهاية إمبراطور بني سويف خيرا من نهاية الوالي ألف مرة. ووهنت علاقته بأصدقائه القدامى، ولكنه لم ينقطع من زيارة نعمة وعزيز في الغورية، يغزو الحي في حنطوره طاويا نظرات الحسد تحت حذائه، مقدما الهدايا العابرة في المناسبات، ويدعو الأسرة إلى سراي ميدان خيرت، الأمر الذي ربط بالمحبة قلوب رشوانة وعمرو وسرور ومحمود وأحمد. ولكن نوبات كرمه تلك لم تجاوز حدودها أبدا، بل بدا أن ابنيه أحن على أختهما الفقيرة نعمة منه هو. وطبعا دفع بابنيه إلى المدارس ولكن أنفاسهما انقطعت بعد الابتدائية كابني أختهما عمرو وسرور، ولم يأبه لذلك وراح يعدهما للزراعة إلى جانبه، أما محمود فقد شرح صدره بقوة استجابته وصلابة شخصيته، وأما أحمد فقد خاب أمله فيه حتى تركه يائسا لحياته الوادعة. وكان بكري العرشي رب أسرة مملوكية تجاور عزبته وكانت له بنتان، نازلي وفوزية، مثالان في الجمال والتهذيب، فخطبهما لابنيه محمود وأحمد، واحتفل بزواجهما في فرح واحد أحياه عبده الحامولي وألمز. وعمر عطا في الوجود حتى أدرك الثورة العرابية، ولم تغز وجدانه من مدخل وطني ولكن من زاوية أملاكه وأمواله، فلما صعدت موجتها حتى ظن لها النصر المبين أعلن تأييده لها، وتبرع بشيء من المال طاويا آلامه في صدره، ولما تكالبت عليها القوى المعادية ولاح فشلها في الأفق أعلن ولاءه للخديو. وجاء عصر الاحتلال البريطاني فساوره القلق مرة أخرى من تلك الأحداث التي لا يدري ما عقباها على أرضه. وقال له نسيبه بكري العرشي: لن يغادر الإنجليز هذا القطر، ولن نخرج ما حيينا من الإمبراطورية البريطانية.

ولما شعر بأنه يمضي نحو النهاية قال لابنه محمود: سأترك لك نصيحة هي أغلى من المال، اعتبر العزبة وطنك وهبها كل نقطة إخلاص في قلبك، وحذار من الخطب والشعر.

ومات الرجل بالشيخوخة وحدها، ولحقت به زوجته بعد أشهر، فورث الثروة كلها محمود وأحمد، وانطفأ أمل عزيز ونعمة إلى الأبد.

عقل حمادة القناوي

في خان جعفر ولد، وفيما بين بيت القاضي وبين القصرين وحارة الوطاويط وابن خلدون والعباسية الشرقية وبين الجناين وميدان خيرت، لعب وطاف وساح وصادق وأحب. وهو الثاني في ذرية صدرية وحمادة القناوي، اقتبس من أمه عينيها الجميلتين، ومن أبيه أنفه الأفطس وقوة جسده مع ميل شديد إلى القصر. وعشقه أبوه وكرسه بكل فخار وليا للعهد. وتابع نجاحه في التعليم بسعادة وزهو، فعوضه عن جهله وأميته خيرا وأي خير. وعشق منذ صباه الدين والهندسة، والتحق بكلية الهندسة، ولم ينقطع عن القراءات الدينية، ومال إلى الفلسفة الدينية أيضا، ثم جرفه تيار من الأفكار المتضاربة فاستقر عمرا في مقام الحيرة. وفي تجواله في فروع أسرته أعجبته هنومة بنت خالته سميرة فأراد أن يحجزها لنفسه ولكن البنت قالت لأمها: أنا أطول منه بصورة واضحة فهو غير مناسب!

وصدمه ذلك وأشعل في جوارحه الغضب. وظل مواظبا على الصلاة والصوم رغم شكوكه؛ لم يستطع أن يؤمن ورفض أن يكفر، ولاذ بالفرائض. وتفشى الشك في خلاياه فلم يستطع أن ينتمي. انتبه إلى الوفد في عصر هبوطه، وكره انغلاق الماركسيين، واحتقر تهريج مصر الفتاة، ولما قامت ثورة يوليو نفر منها رغم عدم مساسها له؛ لشعوره بعداوتها لطبقة الملاك التي ينتسب في النهاية إليها. وحزن كثيرا على أخته وردة كما حزن على أبيه. ولما تخرج توظف في مكتب هندسي وفكر جادا في الزواج لعله ينتشله من الخواء الذي يخنقه. وأعجبته أخت لزوج أخته نهاد فخطبها وتزوج منها، وأقام معها في شقة في عمارة صغيرة مجاورة لبيت خاله عامر ب «بين الجناين». وكانت لهفته على الإنجاب حارة كآل أبيه، ولكن تبين له أنه عقيم لا ينجب، وشد ما أحزنه ذلك وأوجعه. وقالت له جدته راضية : لا تصدق الأطباء ولا تيأس من رحمة الله.

وتبدت له الحياة في صورة رغائب مستحيلة، دائما حبيبة ومستحيلة. ولما خلا بيت أمه من الأنيس وانفردت صدرية بوحدتها قال لها: تعلمين كم أحبك، أقيمي معنا في بين الجناين.

فقالت باسمة: لا أترك الحسين ولا جدتك.

وحرص أكثر على أداء الفرائض وعلى جني أرباح موهبته المعمارية. وذات يوم قال لحكمت زوجته: لا أحب أن تبقي معي يوما واحدا دون رغبة حقيقية.

فتجهمت دقيقة ثم قالت: إني راضية تماما والحمد لله.

فالشك أخذ يساوره في مستقبل علاقته بزوجته، كما مضى يملك عليه تفكيره بالنسبة لمستقبل وطنه الذي يتزحزح من مأزق إلى مأزق. ولم يعاوده تنفسه الطبيعي إلا في عهد السادات. ووجد في الانفتاح فرصة لأعمال كبيرة تنسيه الوساوس والهواجس. واختار الشقق ميدانا لتجارته مستفيدا من مدخراته وبيع نصيبه من ميراث أبيه. وربح أموالا طائلة، وعمل بنشاط فائق حتى عبر الستين، وعند ذاك تساءل: وبعد؟!

وفكر طويلا ثم قال لحكمت: مللت العمل وآن لنا أن نستمتع بأموالنا.

فتساءلت ببراءة: ماذا ينقصك؟

فضحك ساخرا وقال: السياحة، علينا بالسياحة، سنرى الدنيا ونذوق أجمل ما فيها.

فارتبكت. إنها لم تعرف من دنياها إلا قرية أبيها وبين الجناين ولا رغبة لها في المزيد.

ولما لمس حيرتها قال: لن تحتاجي معي إلى ترجمان.

وقال لنفسه: إذا كرهت الفكرة مضيت لها وحدي. ولكنها كالعادة طاوعته ومضت تجهز الحقائب. وانطلقت من جوفه شرارة شك فتأمل ما حوله قليلا ثم قال لنفسه: لا يبعد أن تحترق بنا الطائرة، إني خبير بمنطق الحوادث!

ولكن الطيارة لم تحترق والوساوس لم تخمد.

عمرو عزيز يزيد المصري

ولد ونشأ في بيت الغورية، بين رشوانة وسرور، وتشرب قلبه رحيق الحي بحب وشغف، فاختالت في نفسه تقاليد أهل البلد، وانتشر من أردانه عبير الروح والدين. ولعله كان أحب الثلاثة إلى عزيز ونعمة لشبهه بأبيه بجسمه المليء في اعتدال وبشرته القمحية وعينيه الواسعتين الصافيتين. وكان العقل المدبر الكابح لرشوانة وسرور في لعبهم وتجوالهم بين بوابة المتولي وسبيل بين القصرين ، وعرف فيما بعد بالحكيم الذي يرجع إلى رأيه في شتى الأمور. وحظي بنفس المنزلة بين خاليه محمود وأحمد وابن عمه عبد العظيم. وقد أخلص لفرائض الدين منذ صغره، ولعب دور الشرطي في حياة سرور المحفوفة بالنزوات. ودخل الكتاب فحفظ ما تيسر له من القرآن الكريم، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، ثم دخل المدرسة الابتدائية في الثانية عشرة من عمره فحصل على الابتدائية بعد بذل أقصى ما يملك للتعلم. وبسعي من داود باشا عين في حسابات نظارة المعارف. وحاز دائما تقدير الرؤساء والزملاء، وأثرى حياته بصداقة الأصدقاء، ونورها بقراءة القرآن وكتب الأولياء، ونوع مجال حركته بأريحية معطرة بحب الدين والدنيا، فكان يشهد الأذكار في الصنادقية، ويسمع الحامولي في الأفراح، ويجالس الأحباب في الكلوب المصري. وكان هادئ الطبع، ينال بالحلم ما لا يناله بالقوة والغضب، وما كان أبوه يزكي له فكرة الزواج حتى رحب بها ترحيب شاب قوي تقي. وتم اختيار راضية له، كبرى بنات الشيخ معاوية صديق أبيه، فزفت إليه في بيت حديث البناء بميدان بيت القاضي، حيث استهل حياة زوجية موفقة مثمرة، وجد في راضية شخصية مناقضة لذاته، بعصبيتها وعنادها، وغيبياتها التي لا ضابط لها، ولولا هدوء طبعه وحلمه ما جرت الأمور في مجراها الآمن مع عدم إهدار شيء من مهابته في بيته. ولكنه لم ينج من تأثيرها فآمن بتراثها وطبها الشعبي، واضطر إلى أن يسمح لها بزيارة أضرحة الأولياء، رغم أنه كان يفضل أن تستكن في بيتها أسوة بزينب امرأة أخيه والهوانم زوجات محمود وأحمد وعبد العظيم. قالت له في اختيال: كلهن هوانم طيبات، ولكنهن جاهلات لا شأن لهن بأمور الغيب.

وفي مقابل ذلك جعلت له من بيته مستقر رحمة ومودة، وأنجبت له صدرية وعامر ومطرية وسميرة وحبيبة وحامد وقاسم. وكان عمرو - بخلاف سرور - فخورا بأهله، بسراي ميدان خيرت وفيلا شارع السرايات والأراضي والأملاك والرتب؛ ولذلك حظي بيته بعطف الجميع، وطاف به الحنطور تلو الحنطور، يحمل إليه أعيان بني سويف وهوانمهم وآل داود وهوانمهم، يجلسون حول طبليته، ويغمرونه بالهدايا، ويستمعون إلى نوادر راضية وتراثها منوهين ببطولة أبيها بطل الثورة العرابية. وتلك المودة العميقة هي التي فتحت باب المصاهرة إلى آل عطا وآل داود فزادت منزلته رفعة وقوة، وأثارت من سوء التفاهم بينه وبين سرور ما كان خليقا بأن يفسد العلاقة بينهما لولا متانة الأساس وعمق الذكريات. وطالما قال سرور بحسرة: لو ماتت هدى الألوزي قبل عطا المراكيبي لكنا من الوارثين!

فيقول: لا اعتراض على المشيئة الإلهية.

تغلب على تلك الوخزة بسماحة إيمانه، وكان دأبه إذا ناوشته نقمة أن يذكر نفسه بالنعم الكثيرة المتاحة كالصحة والأولاد. أجل تفجر غضبه يوم وأد آل داود ميل لطفي لمطرية وترك راضية تهدر قاذفة لعناتها وقال لنفسه: صدق من قال إن الأقارب عقارب!

ولكنها كانت غمامة ما لبثت أن تلاشت تحت أشعة شمس دائمة واتسع قلبه أيضا للعواطف الوطنية. فاته أن يشارك أباه خيبته لنكسة الثورة العرابية، ولكنه كثيرا ما رأى جنود الاحتلال وهم يطوفون بالحي العتيق كالسائحين. وأفعم وجدانه فيما بعد بكلمات مصطفى كامل ومحمد فريد، ثم بلغ قمة انفعاله في ثورة 1919، وعشق زعيمها، واشترك في إضراب الموظفين، وحافظ على ولائه للزعيم رغم انشقاق أهله العظام محمود وأحمد وعبد العظيم عليه. وتابع خليفة الزعيم - مصطفى النحاس - بكل وجدانه، ووزع الشربات يوم عقد المعاهدة. وأيد الزعيم بقلبه ضد الملك الجديد، وغضب مع الغاضبين لإقالته من الحكم رغم أنه كان يعاني ضعف القلب الذي أودى به بعد ذلك بقليل، وقد تحمل عبء الأولاد وهم في رعايته، وشارك في همومهم بعد أن استقل كل ببيته. وكان يقول: نحن نحلم بالراحة دائما ولكن لا راحة مع الحياة.

ثم يلوذ بإيمانه تاركا الخلق للخالق. وكم ناط بقاسم من آمال، وماذا كان المصير؟! ولما أحيل إلى المعاش غشيته وحشة لم يكن يفيق منها أبدا، ثم دهمه مرض القلب من حيث لم يحتسب فحدد حركته ومسراته الحميمة وغاص به إلى قعر الكآبة. وذات مساء وهو جالس في الكلوب المصري أغمي عليه، فحمل إلى فراشه في حال احتضار، وأسلم الروح قبيل الفجر على صدر راضية.

حرف الغين

غسان عبد العظيم داود

ولد ونشأ في فيلا شارع السرايات وهو الثاني في ذرية عبد العظيم باشا داود. ولعله الوحيد من أبناء عبد العظيم باشا الذي لم يقتبس من رواء أمه فريدة هانم حسام شيئا. كان مائلا للقصر، نحيفا، غامق السمرة، متجهم الوجه غالبا، وغالبا يحمل طابع المتقزز كأن ليمونة تعصر في فيه! وكأنما خلق ليشمئز من الدنيا ومن عليها، فهو في الفيلا منفرد بنفسه في حجرته، أو يتمشى في الشوارع الشرقية الصامتة تحت ظل أشجارها الفارعة، أو يتوغل في الصحراء الخالية، لم يعرف له صديق واحد من الجيران، ولا نمت بينه وبين أخويه لطفي وحليم أو حتى فهيمة وعفت وشيجة أخوية، وفي المرات النادرة التي لاعب فيها أخاه حليم سواء في حديقة الفيلا أم في الشارع انتهت بسوء تفاهم وخصام، وختمت مرة بمشاجرة هزم فيها رغم أنه الأكبر. واصطحبه أبوه معه لزيارة أهله خاصة آل عمرو، ودعي مرة مع الأسرة إلى سراي آل عطا بميدان خيرت، فكان يشاهد بعينيه ولا يكاد ينبس بكلمة ولم يفز بصديق واحد. وأطلقوا عليه «عدو البشر»، وتهكموا بوجهه الصامت المشمئز، وعوده النحيل، ونفوره الدائم، وكبريائه المتوحد. أجل كانت عيناه تعكسان شعاع النهم وهما تنظران إلى البنات الجميلات من قريباته، ولكنه لم يصل النظرة بابتسامة ولا بأي إشارة. ويقول له أبوه: يجب أن تخرج من عزلتك.

فيقول بنبرة قاطعة: إني أعرف أين توجد راحتي ولا أهمية لشيء وراء ذلك. - وماذا تفعل في حجرتك المغلقة؟ - أسمع أسطوانات ... أو أقرأ.

ولكنه لم يكشف عن أي موهبة ذوقية أو فكرية. وقد تابع رؤية أبيه السياسية ربما لأنها وافقت تعاليه واحتقاره الطبيعي للعامة، واعتبر المطالب الوطنية والزعامة الشعبية ألوانا من التهريج المبتذل. ولم يغب عن حاسته تدني صورته الكئيبة بين صور أسرته الرائقة، وتحدى عزة نفسه قدر من الغباء أعجزه عن بلوغ التفوق الجدير في نظره بمركزه الاجتماعي وكبريائه الطبقي. وقد قسا على نفسه وكلفها من الاجتهاد ما لا تطيق، وسهر الليالي في المذاكرة فلم يظفر إلا بالنجاح العادي الذي بالكاد ينقله من مرحلة إلى مرحلة في ذيل الناجحين. سام نفسه العذاب ليتفوق دون جدوى، ورمق المتفوقين بالحقد والاحترام، وأترع قلبه بالأسى لعجزه. كيف يعاشر هذا العجز على حين أن جده باشا وأباه باشا وشقيقه الأكبر باشا؟! وتراءى له المستقبل كخصومة عارية مفعمة بالتحدي والاستفزاز. ولم يجد في الدين أي عزاء؛ لأنه كسائر إخوته لم يعرفوا الدين إلا عنوان هوية بلا مضمون، فعبد العمل عبادة ووهبه نفسه كلها ليقنع في النهاية مرغما بأقل ثمرة تنبتها أرضه القاحلة. ولما التحق بالحقوق وجد هناك قريبه لبيب بن سرور أفندي محاطا بهالة من الإعجاب لتفوقه وحداثة سنه فضاعف ذلك من كآبته وتعاسته، واحتج على الأقدار التي ميزت قريبه الفقير ابن الفقير بالموهبة وحرمته منها هو سليل الباشوات والمهن القضائية والطبية الرفيعة. ولعل من أسباب احتقاره للوطنية كان حماس أهله الفقراء - وآل عمرو وآل سرور - لها، فلم يتحمس لثورة 1919 في إبانها وسرعان ما لاذ بجناح الخارجين عليها مع أبيه وأسرته. وعند التخرج رأى قريبه يتعين في النيابة، ووجد نفسه رغم العرق والسهر في الذيل. وبسعي من أبيه المستشار الكبير عين في قضايا الحكومة بوزارة المعارف فالتحق بالعمل ساخطا متبرما رغم أنه لا يستحقه. واشتهر في حياته العملية بالانطواء والاجتهاد والغباء، ولدى كل حركة ترقيات كان أبوه يسعفه، ومضى في عزلته ما بين الديوان والفيلا، بلا صديق ولا حبيبة، لا يكاد يبرح مكتبته التي كونها عاما بعد عام إلا حين الضرورة القصوى. وربما رؤي وحيدا في حديقة عامة أو في النادي، وربما تسلل في حذر تام إلى بيت راق من بيوت الدعارة السرية. وقالت له فريدة هانم حسام: آن لك أن تفكر في الزواج.

فرمقها بدهشة وامتعاض وتمتم: لم يبق إلا هذا.

أكثر من سبب كره إليه فكرة الزواج؛ في مقدمتها انغماسه في وحدته المقدسة وعجزه عن الخروج منها، وخوفه أن ترفضه الفتاة اللائقة بمركزه وأسرته للمآخذ الكثيرة التي لا تغيب عن وجدانه. ولم تكف فريدة هانم عن القلق عليه ، خاصة بعد وفاة عبد العظيم باشا وشعورها بدنو الأجل، وبأنها ستتركه في فيلا كبيرة خالية. يضاف إلى ذلك ما صبته عليه ثورة يوليو من أحزان جديدة لم تخطر له على بال من قبل. تساءل في جزع: أيبلغ بنا التدهور أن تحكمنا مجموعة من العساكر الأميين؟!

وراقب ما حاق برتب أسرته وقيمها القانونية والطبية بفزع، وتساءل: هل أبكي اليوم رعاع الوفد؟!

وقالت له فريدة: غدا ألحق بأبيك، يلزمك زوجة وأبناء.

فقال لها بخشونة: العقم هو العزاء المتبقي لنا!

وأصر على عناده الحقود، ولم يتزعزع تصميمه بعد وفاة أمه، وأحيل على المعاش في أوائل السبعينيات فواصل حياته في وحدته كالشبح، وكأنما لم يحظ من دنياه إلا بصحة متينة صامدة قانعا من مسرات الدنيا بالطعام والكتب ثم بالتلفزيون والخادمة الجديدة.

حرف الفاء

فاروق حسين قابيل

الخامس في ذرية سميرة وحسين قابيل، ولد ونشأ في شارع ابن خلدون، واستقبل الدنيا بجسم رشيق قوي ووجه وسيم مثل إخوته وأخواته، وذكاء وقاد يبشر بكل خير، ولكنه نما في مناخ الانضباط الذي ساد الأسرة بعد وفاة حسين قابيل. ومنذ صغره حلم بأن يكون طبيبا وبعزيمة قوية حقق حلمه عابرا عقبات التنسيق. وقد توزع قلبه الحماس لثورة يوليو بحكم مولده وميلا مع أخيه حكيم، والنفور منها أحيانا عطفا على الإخوان وحبا في أخيه سليم الذي قذف به في السجن. ووجد الخلاص من التناقضات في الاهتمام بمهنته، فحصل على الدكتوراه، وفتح عيادة خاصة إلى جانب عمله في المستشفى، وجمع الحب بينه وبين زميلة هي الدكتورة عقيلة ثابت، فتزوجا وأقاما في شقة حديثة بمصر الجديدة. وشد ما حزن فاروق على مصير شقيقه حكيم، وغربة شقيقه سليم، فقد عرف أبناء سميرة بقوة تماسكهم، كما عرفوا أيضا - كأمهم - بالصمود حيال المصائب. ولكنه تجنب الجهر بآرائه السياسية خارج محيط أسرته اتعاظا بما أصاب أخويه حكيم وسليم، متفرغا لمهنته. وفي هذا المجال أحرز منزلة فريدة كجراح، كما وليت زوجته مناصب رفيعة كمولدة، وقد أنجبت له بنتين توجهتا بكفاءة نحو الطب أيضا. وكان فاروق من القلة التي آمنت بسياسة السادات فيما عدا الانفتاح غير المنضبط الذي فتح أبوابه باندفاع جر على البلد ويلات اقتصادية لا يستهان بها. ولم يكن ضمن القطاع الذي سر لمصرعه، وقال مرة لخاله عامر: لقد ولي السادات نيابة عن عبد الناصر ثم قتل كذلك نيابة عنه!

ومما يذكر له كطبيب معدود ومقصود أنه لم يتهاون في جانب المبادئ، فلم تجاوز تسعيرة أتعابه حدود المعقول أبدا.

فايد عامر عمرو

الابن الثالث لعامر وعفت، ولد ونشأ كأخويه في بيت بين الجناين، وكان كثير الشبه بجدته فريدة حسام في بياض البشرة وجمال العينين، ورشاقة القد. وقد رضع غير قليل من تراث راضية وعمرو والحي العتيق، ولكنه تشبع بتقاليد جدته فريدة وجده عبد العظيم باشا داود. ومنذ صباه عشق القانون والمجد القضائي، كما عشق الثقافة الحديثة، ثقافة السينما والراديو ثم التلفزيون، ورغم حبه لجديه عمرو وعبد العظيم فلم يكترث لا للوفد ولا للأحزاب الأخرى، ولما تخرج في الكلية كان من المتفوقين، وبفضل تفوقه ومنزلة عبد العظيم باشا تعين من فوره في النيابة. ولعله الوحيد من أبناء عفت وعامر الذي لم يكدر صفوهما بسلوكه أو فكره مثل أخويه شاكر وقدري، ولما أعلن ذات يوم أنه يحب بنتا تدعى ماجدة العرشي طالبة بكلية الحقوق اضطربت عفت لمرارة التجارب الماضية، ولكنها سعدت عندما توكدت من أن البنت كريمة لطبيب وحفيدة لطبيب أيضا، وأن الأسرة على مستوى طيب جدا ومناسب جدا. وقالت عفت لعامر: أول زيجة تبل الريق!

وتزوج فايد ودخل في شقة بمصر الجديدة. ولما قامت الثورة لم ينفر منها رغم إهدارها لرتب جده وخاله، بل ربما مال إليها ولم يخف ذلك عن أمه وأبيه ... قال: جاءت في وقتها تماما.

وترقى فايد في درجاته المعهودة حتى درجة المستشار، ولم يتغير موقفه من الثورة وزعيمها، حتى محنة 5 يونيو لم تغيره وإن مزقت قلبه تمزيقا. أما السادات فقد أيده في حربه وفتحه صفحة الديموقراطية من جديد، وشك كثيرا في خطوة السلام، ثم لعنه بسبب الانفتاح والنكسة الديموقراطية، ومع أنه لم يوافق على الاغتيال إلا أنه لم يحزن عليه، واعتقد أنه نال ما يستحقه تماما. ولم ينجب فايد سوى بنت وحيدة، وقد تخصصت في الكيمياء، ودعتها عفت باسم أمها فريدة.

فرجة الصياد

عرفتها الغورية في الرابعة عشرة؛ قوية الجسم، مليحة الوجه، تجول في جلباب أزرق، وعلى رأسها مقطف فيه سمك وميزان. اضطرت إلى الخروج من مسكنها في السكرية بعد وفاة أبيها وعجز أمها عن الحركة، ورعتها تقاليد الجيرة والتقى. وذات يوم ناداها رجل قوي ذو لهجة غير قاهرية ليبتاع سمكا فأنزلت المقطف إلى الأرض وقرفصت وراءه وراحت تزن له رطلا. ونظر إليها مليا ثم قال: أنت حلوة يا شابة.

فقالت له بخشونة: تريد السمك أم الميزان يحطم وجهك؟

فشخر الرجل بعفوية فانتصبت واقفة مستعدية أهل المروءة. وانقض على الرجل الغريب رجال وتحرج الموقف، ولكن برز من الجمع رجل يعرفونه هو عطا المراكيبي وهتف: صلوا على النبي.

وضحك قائلا: إنه إسكندري، جاري في بيتي، لا يعرف عادات البلد، والشخر عندهم كالتنفس عندنا.

وأنقذ جاره ومضى به إلى دكانه.

وعطا نفسه تشاءم من مقدم الرجل؛ لأنه جر وراءه جيش الكفار، جيش نابليون، وقد سأله: ماذا جاء بك؟

فأجاب: قتل الوباء أهلي فعزمت على هجر الإسكندرية.

وتغير الحال عندما تزوج عطا من سكينة ابنة معلمه فتفاءل بمقدمه وأحبه وقال له: قدم خير يا عم يزيد!

ولم ينس يزيد المصري فرجة الصياد فقال لصاحبه: أريد أن أكمل نصف ديني ببياعة السمك.

وخطبها عطا المراكيبي من أمها ثم زفت إليه في شقته ببيت الغورية. ويقول عطا المراكيبي إنه بمجرد أن أغلق الباب على العروسين سمع المدعوون في الصالة الخارجية شخرة تنفذ من ثقب الباب مثل قرقرة الماء في النارجيلة!

وقد وفق يزيد المصري في زواجه وأنجبت له فرجة ذرية كثيرة لم يبق منها إلا عزيز وداود. وامتد العمر بالزوجين حتى شهدا مولد الأحفاد. وفي ليلة رأى يزيد رجلا في المنام قال له: إنه نجم الدين الذي يصلي أحيانا في ضريحه ونصحه قائلا: شيد قبرك جنب ضريحي لنتلاقى كما يتلاقى المحبون.

ولم يتردد الرجل فبنى حوشه الذي دفن فيه، وما زال حتى اليوم يستقبل الراحلين من ذريته المنتشرة في أنحاء القاهرة.

فهيمة عبد العظيم داود

كانت تدعى بعاشقة الورد من طول مكثها في حديقة الفيلا بشارع بين السرايات. وكانت أجمل ذرية عبد العظيم باشا داود، وفي الجمال فاقت فريدة هانم حسام. وربما كانت في الذكاء دون عفت ولكنها كانت أطيب قلبا وأصفى روحا. وقد تربت معها في الميردي دييه، ولنفس الهدف أي إعدادها للحياة الزوجية الرفيعة. وجاء زواجها تقليديا رغم ذلك فخطبت - عن طريق جارة - لوكيل نيابة يدعى علي طلعت. وشيد عبد العظيم باشا داود لها بيتا في بين الجناين كما فعل لعفت وزفت فيه إلى العريس. وكانت الزيجة في غاية من التوفيق، وأنجبت له داود وعبد العظيم وفريدة، ولكن سوء البخت الذي تربص بالأسرة بعد ذلك صار مضربا للأمثال. فقدت فهيمة ذريتها بعد أن اكتمل لها الشباب وأضاء الأمل؛ مات داود بالتيفود وهو طالب في السنة الثالثة بكلية الحقوق، ومات عبد العظيم بالكوليرا بعد تخرجه من العلوم بأشهر، وماتت فريدة بروماتيزم القلب وهي في الثانوية العامة. وأذهل الأسى العميق الوالدين لدرجة الزهد في الحياة، فطلب علي طلعت الإحالة إلى المعاش وهو مستشار في استئناف القاهرة وتفرغ للعبادة والقراءات الدينية في عزلة دائمة ما بين بيته والقرافة، أما فهيمة - وهي من أسرة يقبع الدين فيها منزويا على هامش حياتها - فقد بدأت تتساءل عن المصير، وعن اليوم الذي تجتمع فيه بذريتها الهالكة مرة أخرى، وراحت تقتني من السوق جميع ما فيها من كتب الأرواح وتحضيرها والقوى الخفية، وآمنت أخيرا براضية وتراثها الذي كانت تتابعه فيما مضى بابتسامة وسخرية. وقال لها أبوها عبد العظيم باشا: الصبر يا بنتي، وددت لو كنت الفداء لأبنائك.

فقالت له: أنت الخير والبركة يا بابا، ربنا يطول لنا في عمرك.

وكان كلما شيع جنازة شاب من أبنائها فتقدم المشيعين بشيخوخته الطاعنة شعر بحرج وما يشبه الذنب، وتضايق من النظرات المحدقة به في إجلال صامت . وما لبث علي طلعت أن انتقل إلى رحمة الله مصابا بأنفلونزا حادة فوجدت فهيمة نفسها وحيدة في ملكوت أرواحها، وقد عمرت طويلا بعد وفاة والديها وأقاربها من ذلك الجيل العريق المقدس للتقاليد ووشائج القربى، فباتت نسيا منسيا فيما عدا كلمة تتبادلها في التليفون مع شقيقتها عفت.

حرف القاف

قاسم عمرو وعزيز

آخر عنقود ذرية عمرو وراضية، ولد ونشأ في بيت ميدان بيت القاضي، وهو الوحيد من الأبناء الذي لم يبارحه. وبدا من مطلعه نحيلا متحركا، ولم يكن به شبه واضح لوالديه، ولكنه إذا ضحك استحضر صورة أبيه الضاحكة، وإذا انفعل ذكر الملاحظ براضية. وكان السطح ملعبه والميدان بأشجاره الفارعة، وعاش بكل وجدانه في أمطار الشتاء ورياح الخماسين. ولم يتح له أن يتخذ من أحد من إخوته أو أخواته رفيقا فما كاد يشب حتى كانوا قد تفرقوا في بيوت الزوجية، ولكنه وجد العوض في أبناء عمه سرور وأبناء الجيران، كما وجد مراحه في بيوت المتزوجين وعند آل عطا وآل داود. وكان أخلص المستمعين لأمه وأصدق التابعين لها في أحلامها وجولاتها الروحية بين الجوامع والأضرحة. وكلما جمح به الخيال وجد عندها الأذن الصاغية والقلب المصدق، ففي إحدى ليالي رمضان أخبرها أنه رأى ليلة القدر كطاقة من نور مشع انداحت لحظات في السماء، وأنه اطلع في ليلة أخرى من وراء خصاص المشربية على زفة من العفاريت. ومنذ صباه وهو يتطلع إلى بنات الأسرة بحب استطلاع موسوم بشهوة مستوفزة قبل أوانها، وحام بصفة خاصة حول دنانير وجميلة وبهيجة، وإلى بنات الجيران وفتياتهم، ولم يعتق سيداتهم من رغباته الغامضة الآثمة، مع تدين مبكر وصلاة وصيام. ودخل الكتاب على رغمه وتلقى فيه المبادئ بقلب نفور وعقل متمرد، ولم يستطع أبدا أن يفرق بين المدرسة وسجن قسم الجمالية الذي رأى الوجوه التعيسة تلوح وراء قضبان نافذته. ويسأله عمرو في مجلس الليل بعد العشاء: ألا تريد أن تكون كأخويك؟

فيقول بصراحة: كلا.

فيقطب الرجل ويقول منذرا: لا تضطرني إلى تغيير معاملتي لك.

اهتزت صورة أبيه في عينيه من عجز عن دفع الموت عن ابن أخته أحمد، حين ترك لدموعه غير المجدية. يريد الآن أن ينعم بحضن جميلة رغم ما يعقبه من ألم يقبض على قلبه عندما يقبل على صلاته. دائما تعذب بين الحب والعبادة، وأعين الرقباء أيضا مثل بهيجة وأمه، بين الدجاج والأرانب والقطط فوق السطح؛ ضبطتهما راضية مرة، لدى ظهورها انفك الاشتباك فطارت جميلة كالحمامة والدم ينبثق من وجنتيها من شدة الحياء، وقطبت راضية، ثم أشارت بيدها المعروقة إلى السماء الحانية فوق السطح وقالت: من هناك يرى الله كل شيء.

وتوارت جميلة عندما جاء ابن الحلال، وألحق قاسم جرح الحب بجرح الموت، وراح يراقب رءوس الأرانب المطلة من فوهة البلاص المقلوب. وسرعان ما وجد نفسه حيال أوهامه وجها لوجه، ودروس المدرسة الثقيلة، وابتسامة لا ترى بالعين المجردة آتية من عيني بهيجة الجميلتين. وظن الأخت مثل أختها ولكنه وجد قلبا عذبا وإرادة صلبة. أي فائدة ترجى من ذلك الحوار الصامت؟! حتى ست زينب أمها قالت لها: إنكما متماثلان في السن فهو غير مناسب.

وقالت له راضية: المهم أن تشد حيلك في المدرسة.

وبسط عمرو راحتيه داعيا: اللهم اجبر بخاطري في هذا الولد.

ومن شدة الحصار بكى قاسم، كان بمجلس والديه الليلي فسأله أبوه عما يبكيه فقال: تذكرت أحمد!

فقطب عمرو وهتف: ذاك تاريخ قديم، حتى أمه نسيته!

ومضى ينظر إلى الأشياء بحزن ويبكي. وقالت راضية لعمرو وهما منفردان: عين أصابت الولد.

فقال عمرو بغيظ: يحسدونه على خيبته!

وبخرته، وجعل يتشمم الشذا الغامض ثم سقط مغشيا عليه. ومضى به أبوه إلى الطبيب فقرر أنها حالة صرع خفيف لا خوف منه ولكن يلزمه راحة وتغيير هواء. وتذكروا مأساة بدرية بنت سميرة. ونظر مرة إلى الفراغ بحضور والديه وقال: سأفعل جميع ما تريدون.

وتساءل عمرو: أهو هذيان مرض؟

فقالت راضية بيقين: بل هو اتصال بأهل الغيب.

وعلم الأهل بحاله؛ فتقاطروا على بيت القاضي يعودونه، وحدجوه بنظرات مليئة بحب الاستطلاع والتوجس، وجرى التهامس في سراي آل عطا فقالت شكيرة لأمها: ما هو إلا عرق الجنون النابض من قديم في أسرة راضية.

وقالت مثل ذلك ست زينب لسرور في بيتها. أما راضية فوكدت لعمرو علمها بتلك الحال وقالت له بثقة ويقين: لا تخف ولا تحزن وكن مع الله.

ودارت بابنها على الأضرحة، وحرقت البخور في أركان البيت من بابه إلى سطحه. أما قاسم فهجر المدرسة باستهانة، وراح يتجول في الحواري، أو يطوف ببيوت إخوته وأخواته وأقربائه في ميدان خيرت وشارع السرايات وبين الجناين، وفي كل موقع يتناول المشروبات وينثر كلماته الغامضة تنبؤا عن المستقبل كما يتراءى له، وتجيء الحوادث مصدقة لنبوءاته حتى عرف بينهم بالشيخ، ولم يعد أحد منهم يجرؤ على السخرية منه. وقال محمود بك عطا لعمرو المحزون: إنها مشيئة الله، وأنت رجل مؤمن، والولد فيه سر لا يعلمه إلا الله، إنه يقرأ خواطري حتى بت أعمل له ألف حساب.

فتساءل عمرو: ولكن مستقبله ورزقه؟

فقالت خالته شهيرة وكانت حاضرة: الله لا ينسى مخلوقا من مخلوقاته، فما بالكم بواحد من أوليائه؟

والواقع أن سمعته انتشرت في صورة أساطير فأخذ يقصده أصحاب الآمال المعذبة محملين بالهدايا ثم النقود، حتى اضطرت الأسرة لإعداد حجرة المعيشة بالدور الأول لاستقبال زواره، وحتى ذهل عمرو عندما وجد رزقه ينمو ويفوق رزق أخويه مجتمعين. وتلاشت مشكلته بحكم العادة، وكأنما خلق لهذه الولاية، وبدل قاسم بملابسه الإفرنجية الجلباب والعباءة والعمامة، وأرسل لحيته، وقسم وقته بين استقبال زواره وبين العبادة فوق السطح، وحتى أمه - الأستاذة العريقة - أصبحت من تلامذته ومريديه. وفتح صدره لأحزان أسرته وانغمس في مآسيهم، وشيع أمواتهم، وصلى عليهم في جوف مقابرهم. وذات يوم - وكان قد بلغ الثلاثين من عمره - خفق قلبه خفقة أعادت إليه ذكريات قديمة مبللة بماء الورد، وناداه صوت ناعم للخروج من بيته فاشتمل بعباءته وخرج، ومن توه توجه نحو بيت عمه المجاور. واستقبلته بهيجة بذهول وهي تسائل نفسها عما جعله يقتحم وحدتها اليائسة. راحا يتبادلان النظرات كالأيام الخالية، ثم قال: رأيتك في المنام تلوحين لي.

فابتسمت ابتسامة باهتة لا معنى لها فقال: وقال لي هاتف من الغيب آن لكما أن تتزوجا.

وقام من فوره فغادر البيت راجعا إلى بيته وقال لأمه: أريد أن أتزوج فاخطبي لي بهيجة.

وقالت راضية لنفسها إن جميع الأولياء تزوجوا وأنجبوا. وعندما جاء لبيب لزيارتها أبلغته بالخبر. وشاور لبيب ابني عمه عامر وحامد فاتفق الرأي على أن قاسم قادر على القيام بأعباء أسرة ولكن الأمر رهن بموافقة بهيجة. والعجيب أن بهيجة وافقت. قيل: إنه اليأس. وقيل: إنه الحب القديم، ومهما يكن من أمر فقد زفت إليه بعد أن تجدد البيت القديم بالأثاث الجديد. وتم الزفاف فيما يشبه الصمت بسبب الإظلام المخيم في فترة الحرب. واحتفلت به المدافع المضادة للطيارات. ومضت سنوات عقم ثم أنجبت بهيجة ابنها الوحيد النقشبندي الذي شابه في جماله خاله لبيب. وكان كامل الصحة والذكاء فتخرج مهندسا في عام النكسة، وأرسل قبيل السبعينيات في بعثة إلى ألمانيا الغربية، وكانت حال البلد قد أرهقت صحته النفسية فقرر الهجرة، والتحق بعمل هام في مصنع صلب بعد حصوله على الدكتوراه، وتزوج من ألمانيا واستقر هناك بصفة نهائية. وحزنت بهيجة لذلك حزنا شديدا، أما قاسم فلم يكن يحزن لشيء ... وودعه قلبه بغير دموع.

قدري عامر عمرو

ولد ونشأ في بيت بين الجناين وهو الابن الأوسط لعامر وعفت. من صغره كان شعلة في اللعب والجد والخيال. ومن صغره أيضا أولع بالاطلاع والاهتمام بالحياة العامة بخلاف أخويه، ثم وجد نفسه في اليسارية. وعشق الفن والأدب رغم موهبته العلمية، ووضع حجر الأساس في مكتبته الخاصة وهو في أولى سني الدراسة الثانوية. وكاد يكون صورة من أبيه غير أنه كان أفرع طولا وأقوى بنيانا، إلى طبيعة إيجابية ضاربة جرت عليه المتاعب. وكم كانت دهشة عامر كبيرة عندما قبض على ابنه ضمن نفر من اليساريين، وهرع الرجل إلى حميه عبد العظيم باشا فسعى الرجل إلى الإفراج عنه بحجة حداثته ولكن الباشا ذهل وقال لعامر وعفت: كيف تكون هذا الولد في بيتكما؟

فقال عامر في حياء: نحن لا نقصر في تربيتهم ولكن الآخرين يتسللون إلى حياتهم فيفسدونها .

ودخل قدري كلية الهندسة وهو مسجل في الصفحة السوداء في جهاز الأمن. ونبه حليم أخته إلى خطورة الوضع على مستقبله، وهذا ما فعله حامد مع شقيقه عامر. وتكرر اعتقاله والإفراج عنه وهو طالب في الهندسة. وانجذب ذات يوم إلى شاذلي ابن عمته مطرية لجامع الثقافة بينهما ولكنه وجده بلا أدريته وصوفيته العقلية نقيضا له فضاق به وهجره. ولما تخرج مهندسا تجنب التوظف في الحكومة، فاشتغل في مكتب هندسي لأحد أساتذته المحالين على المعاش. وكان مهندسا كفئا ولكنه سيئ السمعة من الناحية السياسية؛ وأرادت أمه أن تزوجه ليستقيم أمره من ناحية، وليعوضها عن خسارتها في شاكر، ورحب من ناحيته بالفكرة. وأرادت أن تزوجه من إحدى بنات خاله لطفي باشا ولكنها لم تلق الحماس الذي حلمت به وحدست ما وراء ذلك من سمعته السياسية. وتضاعف همها عندما رفضه جيران لها لشكهم في إسلامه وبالتالي في بطلان الزواج! وغضب قدري على فكرة الزواج كغضبه على البورجوازية بعامة، وآمن بحكمة خاليه غسان وحليم في إضرابهما عن الزواج. ولما قامت ثورة يوليو كان قد كف عن نشاطه العملي في السياسة ولكن ظل مبقيا على اعتقاده وأصدقائه فلم تتبدد من حوله عتمة السمعة. وتقدم في عمله تقدما ملموسا ومبشرا بالمزيد، ولكنه اعتقل للمرة الثالثة، واستنجد أبوه ببعض كبار الضباط من تلاميذه السابقين فأكرموه بالإفراج عنه. ومنذ ارتبطت الثورة بالكتلة الشرقية مال إليها ومضى يرى في خطاها ما لم يكن يراه من قبل. ولعل ذلك مما هون عليه بعض الشيء مصاب الوطن في 5 يونيو باعتباره كان مدخلا حاسما لترسيخ النفوذ السوفييتي في مصر ومقربا إلى الثورة الشاملة حين تنضج أسبابها. ولعل ذلك ما جعله يستقبل نصر 6 أكتوبر بسخط لم يستطع أن يخفيه، وبذله أقصى ما عنده من منطق ومعلومات ليفرغه من مضمونه أو تصويره في صورة التمثيلية المفتعلة، وقال لنفسه: انتصار البورجوازية يعني انتصار الرجعية!

ومن أجل ذلك ناصب السادات العداء منذ تجلى للعين خطه السياسي وأضمر له الكره حيا وقتيلا، رغم إقبال الثراء عليه بغير حساب في عصر انفتاحه. وقد اعتقل في طوفان سبتمبر 1981، وأفرج عنه مع الجميع ليواصل عمله الناجح وآماله الحبيسة، وكان ذلك قبل وفاة أبيه بأيام.

حرف اللام

لبيب سرور عزيز

هو بكري ذرية سرور وزينب، طالع الدنيا بوجه مليح مشرق شبيه بوجه أمه وقامة دون المتوسط في الطول رقيقة البنيان كأنما أعدت لتلقي أنوثة عذراء. ومن عجب أنه طبع منذ طفولته على الهدوء والرزانة وكأنما ولد بالغ الرشد. ولم يجاوز لعبة الوقوف أمام باب البيت ليشاهد الأشياء أو يتابع تحركات ابن عمه قاسم - الذي يصغره بسنوات - وهو يتعفرت كأمثاله، أو يتمشى في الميدان وهو يقزقز اللب. وكانت راضية تناديه فتقول بمحبة: يا صاحب العقل الكامل.

وكانت تقول عنه أيضا: أبوه موفور الحظ من الحماقة وأمه عبيطة، فمن أين له هذا العقل؟!

وفي الرابعة من عمره أرسله سرور أفندي إلى الكتاب متشجعا برزانته وإعراضه عن شقاوة الأطفال، ورأى أنه لن يخسر زمنا إذا انقضى عام أو عامان قبل أن يستطيع الاستيعاب والإدراك، ولكنه حصل في العامين معرفة حازت رضا سيدنا الشيخ؛ فقال لعمه عمرو أفندي: ابن أخيك لبيب ولد عجيب وعليكم أن تدخلوه المدرسة الابتدائية.

لم يكن أحد يقترب من المدرسة الابتدائية في ذلك الوقت دون الثامنة أو التاسعة فقدم له أبوه في امتحان القبول بلا اكتراث جدي، وجاء نجاحه مفاجأة، وانتظم في الدراسة وهو ابن ست سنوات. ومضى ينجح عاما بعد عام محدثا في محيط الأسرة دهشة، والأعجب من ذلك أنه واظب على المذاكرة بلا حض أو إغراء، وبلا مساعدة من أحد، حتى حصل على الابتدائية وهو ابن عشر. وأهله سنه وتفوقه لدخول إحدى مدارس الخاصة الملكية بالمجان. وشق طريقه في المدرسة الثانوية كالعهد به، ولما ناهز الحلم صد عن أي إغراء جاءه من أركان الأسرة أو الطريق، مطاوعا تحذيرات أمه، منصرفا بإرادته عما يعيق اجتهاده واستقامته، حتى حصل على البكالوريا وهو ابن ست عشرة. وكانت المعلمين العليا هي المدرسة المفضلة والمناسبة لظروف الأسرة، ولكن الفتى الطموح أعلن عن رغبته في الالتحاق بمدرسة الحقوق. وتمتم سرور وهو بين الخوف والرجاء: إنها مدرسة الحكام!

وقال عمرو: نشاور عبد العظيم.

وكان الباشا معجبا بسيرة الفتى فسعى لإلحاقه بالمدرسة وبالمجان أيضا. وفصل له أبوه بدلة ذات بنطلون طويل لأول مرة، وذهب إلى المدرسة لتحدق به الأعين بدهشة، وتحوم من حوله التعليقات الساخرة عن «مدرسة الحقوق الأولية» و«روضة الأطفال الملكية» ولم تتغير النظرة نحوه حتى أثبت تفوقه وقدراته، بل لم يتأخر عن الاشتراك في المظاهرات لما اندلعت ثورة 1919 وتوزيع المنشورات، وإن جرى تحركه غالبا في الظل والأمان. ولم يغب عنه شيء من الفوارق الطبقية بينه وبين أقرانه، وخلفت رواسب في النفس ولكنه تجاوزها بهدوء طبعه وحكمته الفطرية، لم يغتم لبدلته الوحيدة، وعدم مشاركته في أي حياة اجتماعية أو ترفيهية أو لركوبه الدرجة الثانية في الترام، وتجنب إزعاج أبيه بأي مطلب يتحدى قدراته، كان دائما صاحب العقل الكامل كما قالت راضية. وجني من صبره واجتهاده الثمرة فحصل على الليسانس وهو ابن ثماني عشرة معدودا بين العشرة الأوائل. ولم تعترض النيابة على قبوله بسبب الأصل إكراما لعبد العظيم داود، ولكنها أبت تعيين معاون نيابة قاصر! فاتفق على إلحاقه بوظيفة كتابية في محكمة حتى يبلغ سن الرشد. والتحق بعد ذلك بالنيابة رافعا رأس آل عزيز، وظافرا لهم بمركز في البيروقراطية العالية، في مواجهة آل داود وآل عطا، ومحدثا في الوقت نفسه انفعالات من الغيرة والحسد والإعجاب في فروع الأسرة جميعا حتى أقرب الناس إليه وهم أبناء عمه. وشمخ سرور أفندي برأسه عاليا كأنما أصبح النائب العمومي، فازداد لسانه حدة، وأثره سوءا في أنفس الآخرين، وبات ثقيلا لا يطاق، وبخلاف المظنون والمنطقي هبت على لبيب رياح الهموم. أجل أثبت دائما كفاءة ونزاهة كوكيل نيابة وقاض فحاز الثقة والاحترام، ولكن ظروف أسرته حتمت عليه تأجيل الزواج حتى يعاون في تربية إخوته وتزويج أخواته. من ناحية أخرى انطلقت غرائزه المكبوحة لتستعيض عما فاتها في الطفولة والصبا والمراهقة، وإذا به يولع بالخمر والنساء، فيمارس العربدة والفسق مع المحافظة على تقاليد مهنته ما وسعه ذلك. وألف تلك الحياة حتى عشقها لذاتها، ولم يفكر في تغييرها لما فرغ من واجباته العائلية، على تهديدها لسمعته وإنهاكها لصحته. ولما قامت ثورة يوليو، واهتز مركز القانون ورجاله، غزته الكآبة كوفدي قديم من ناحية، وكرجل من رجال القانون من ناحية أخرى. ولم ينقطع أبدا عن زيارة أسرته في جميع فروعها، وراح يتابع أثر الثورة فيها مع الحرص التام في الإفصاح عن ذاته. وربما كان حامد ابن عمه أقربهم لنفسه فهمس له مرة: ما الحيلة؟ ... أمامنا رجل يدعي الزعامة وبيده مسدس!

ولما رقي إلى رياسة محكمة استئناف الإسكندرية وقارب سنه المعاش تفجر تغيير في داخله في صورة طفرة عارمة فاندفع بكل قواه في طريق العبادة والزواج. مارس العبادة لحد الدروشة، وفكر أول ما فكر في الزواج من دنانير بنت عمته. لم ينس أنه حاول يوما في غيه أن يرافقها لولا رفضها الحاسم له، ولكن منظرها الذي آلت إليه أثار نفوره. فاتجه نحو امرأة من بنات الهوى عرفها مطربة من الدرجة الرابعة بملهى ليلي على عهد الشباب. ولم يقطع صلته بها على كثرة من تقلب في حبهن من النساء. وكانت في ذلك الوقت قد كفت عن الحرفة لكبر سنها، ولكنها لم تعطل تماما من الأنوثة. وسرعان ما تزوجا، وأقاما بشقة أنيقة بمصر الجديدة. وأديا معا فريضة الحج، وعاشا معا في سلام زهاء عام. وكانت الخمر قد استهلكت كبده فأصابه نزيف داخلي وهو يرأس المحكمة. وحمل من الإسكندرية إلى بيته في القاهرة حيث أسلم الروح. وغادر الحياة ومصر في عز مجدها الناصري قبيل هزيمة يونيو بأشهر.

لطفي عبد العظيم داود

هو بكري عبد العظيم داود وفريد حسام، كان في الجمال صورة من أمه وشقيقته فهيمة كما حظي بذكاء أبيه وجده داود. وفي صباه ومراهقته توثقت أسباب المودة بينه وبين آل عمرو وخاصة عامر، كما هام بالحي العتيق وأطوار راضية الغريبة الخارقة للمألوف، وفتنه جمال مطرية كما فتنها جماله، فنشأت قصة حب حيية في تقاليد ذلك الزمان. وتفتحت القلوب وربت لاستقبال أمطار الأنباء السعيدة. ولكن ما كاد لطفي يشير من بعيد إلى رغائبه حتى كأنه فجر قنبلة في فيلا آل داود بشارع السرايات. تناسوا القربى، وحب عامر وعفت، وأخوة عمرو وعبد العظيم، واعتبروا الإشارة زلة ذوق ضل الهدى وتردى في هاوية الانحطاط. وحوصر لطفي حتى خطبت مطرية وتلاشى الخطر. وغضبت راضية وصبت لعناتها على من لا أصل لهم، وتوجع قلب عمرو واحتقن وجهه بالدم، وحرض سرور أخاه قائلا: ما ينبغي لغضبك أن ينطفئ.

غير أن صداقة فريدة حسام تكفلت براضية، وأحسن عمرو - كالعادة - الحوار مع انفعالاته. وغلبت رابطة الأسرة طوارئ نزواتها. ما أكثر ما يقول بنات داود في بنات عمرو وسرور وما أكثر ما يقول بنات عمرو وسرور في بنات داود، وما أفظع ما يتهكم به آل داود على آل عطا، وما أقسى ما يتندر به آل عطا على آل داود، ولكن متانة الأساس كانت تصمد للزوابع والأعاصير التي تهب على البيت الكبير. وفي تلك الأيام الغريبة كان الحب ينسى في مواعيده المعقولة. وسرعان ما انشغل لطفي بدراسة الطب حتى حصل على إجازته. وسافر في بعثة إلى ألمانيا ثم رجع ليستهل حياته العلمية الفريدة في وزارة الصحة، وأثبت نبوغه في الإدارة والعلم، وظفر بمكانة مرموقة بين الأحزاب المتخاصمة رغم انتماء أسرته المعروف، ولكنه كان أدنى إلى الاستقلال منه إلى الحزبية، ولم يتردد في إعلان ولائه للعرش كموظف كبير أمين، وبذلك ظفر بالبكوية ثم الباشوية، وهو ما بين الشباب والكهولة، وقد لعب عمرو دورا تاريخيا في تزويج لطفي؛ ذلك أنه كان صديق صبا لرجل أصبح رئيسا للقومسيون الطبي هو بهجت بك عمر. ورأى كريمته آمال خريجة الميردي دييه، وذات الجمال الفريد، فخطر له، انسياقا مع طبيعته الدمثة، وحرصه على كسب القلوب أن يخطبها للطفي؛ فسعى سعيه الجميل بين آل عبد العظيم وآل بهجت، وتمت على يديه زيجة من أسعد الزيجات، وأصبح بها صاحب الفضل المعترف به في الأسرتين. ونشأت الأسرة الجديدة في فيلا بالدقي، ولم تتردد تلك الأسرة المصرو-أوروبية عند زيارة منشئها عمرو أفندي في بيته العتيق بميدان بيت القاضي. وفتنت آمال بالحي العريق وبراضية، وأضافت إلى زوار البيت الكبراء أمثال آل عطا وداود وآل بليغ معاوية وردة جديدة فواحة بعبير إفرنجي وسحر من نوع جديد فتن الأهل والجيران بمثل الجذبة الصوفية، وقد أنجبت له فريدة وميرفت وداود، وعاشوا - عقب المراهقة - في الخارج، فريدة وميرفت زوجتين لرجلين في السلك السياسي، وداود طبيبا في سويسرا وتزوج من سويسرية. ولما قامت ثورة يوليو كان لطفي من القلة التي لم يمسها سوء من طبقته حتى أحيل إلى المعاش وهو وكيل وزارة. ولكنه خسر جل مدخراته الموظفة في أسهم وسندات عند التأميم، وقد توفي عقب وفاة أبيه في السبعين بسرطان المعدة، وهي سن تعتبر من الشباب في أسرة عبد العظيم المعمرة.

حرف الميم

مازن أحمد عطا المراكيبي

أعذب من الورود التي تتلألأ في الحديقة الكبيرة بسراي آل المراكيبي، ازدهرت في شخصه دماثة أبيه أحمد بك وجمال أمه فوزية هانم، وكان من أحب الشخصيات إلى قلوب آل عمرو، بل وسرور وداود. ومنذ صباه أحب ابنة عمه نادرة وأحبته؛ ولذلك كان أشقى الناس جميعا بالخلاف الذي مزق الأسرة، وتعرض لذلك إلى غضب شقيقه عدنان مفجر الثورة. وكان متعثر الخطوات في دراسته، ولكنه اختار الزراعة ليستثمر دراسته في حياته العملية كي لا تتكرر المأساة مرة أخرى في المستقبل. ورغم حداثة سنه النسبية سعى سرا لدى قريبه عمرو أفندي ليبارك محاولاته للتوفيق بين الشقيقين الغاضبين، وحث خفية حبيبته وابنة عمه على حفظ حبهما بمنجاة من العاصفة حتى تهدأ. ولما مرض أبوه الطيب مرض الوفاة، وانقشعت غيوم الأحزان لم يمنعه الحزن على أبيه من الترحيب القلبي بعودة السلام إلى أركان الأسرة. وقرر أن يعلن خطبته عقب انقضاء عام الحداد، وكان يطوي العام الأخير من دراسته. وفي مطلع الربيع سافر مع بعثة من الطلبة إلى الإسكندرية في رحلة دراسية، وخطر له أن يستحم في الشاطبي مع بعض الصحاب، فخانه الموج فغرق. حقا لقد أحدث موته هزة عنيفة في الأسرة، ولكنه ترك في أعماق نادرة جرحا لم يقدر له أن يندمل أبدا. وورثه عدنان، وصار بذلك أثرى آل عطا، ولكنه كان أيضا الوحيد الذي طبق عليه قانون الإصلاح الزراعي بعد قيام ثورة يوليو.

ماهر محمود عطا المراكيبي

ولد ونشأ في سراي ميدان خيرت، وكإخوته تلقى التربية الجادة والرفيعة معا. وكان طويلا رشيقا وسيما وذا كبرياء طبقية ملموسة. ولم يكن يزور أهله إلا في المناسبات، وتجنب آل داود بصفة خاصة، ولم تكن حياته الدراسية تبشر بخير؛ فاختار الكلية الحربية هدفا لحياته التعليمية. وشغف بالحياة الأرستقراطية في جميع مظاهرها؛ من إيثار العرش على الأحزاب، ومصادقة أبناء طبقته، واستثمار جماله في عشق الغواني. وأزعج أباه بمطالبه المالية، وكان محمود بك يحب أن ينشئ أبناءه على الانضباط من غير حرمان، فأزعجه ذلك الابن الخارج عن الخط المرسوم. وفي الوقت نفسه كان يحبه ويعجب به، فتغافل عن تحيز زوجته له وإسعافه بما يحتاج إليه، وكان الكبر قد ألان عريكته، وكذلك المرض. والتحق ماهر بالكلية الحربية وتخرج في مطلع الحرب العالمية الثانية، وبحكم الصلات الشخصية وبتأثير شقيقه عبده انتظم في سلك الضباط الأحرار، مرتكزا إلى عواطف سطحية وغير مؤمن إيمانا جديا بما يقال عن آلام الشعب وصراع الطبقات. ولما قامت الثورة وجد نفسه من المقربين، ووثب دون عناء إلى منزلة لم يستطع أن يبلغها بخطواته الدراسية المتعثرة. ولم يكن مقتنعا بقانون الإصلاح الزراعي رغم أنه لم يطبق في أسرته إلا على ابن عمه عدنان، ولكن مجال الطموح انفسح أمامه إلى آفاق غير محدودة. واستأجر شقة في الزمالك لغرامياته، وعلا نجمه فعين في الحرس الخاص للزعيم. وظل في مكانه بعد النكسة وحتى وفاة عبد الناصر. وأحيل إلى المعاش بعد ذلك بقليل؛ فتفرغ لشقة الزمالك، وطيلة ذلك العمر لم يكن الزواج يخطر على باله قط. ولما هلت طلائع الانفتاح أقنعه بعض الأصحاب بالعمل في الاستيراد، فباع أرضه وانهمك في عمله الجديد، وأثرى من ورائه إثراء عظيما. وجمعت السراي عبده وماهر ونادرة على عقم من ناحية الذرية ومال يتدفق، وكأنما يعدونه للآخرين .

محمود عطا المراكيبي

أول ثمرة لزواج عطا المراكيبي من الأرملة الثرية هدى الألوزي، ولد ونشأ وترعرع في أحضان العز والفخامة، ما بين سراي ميدان خيرت وسراي العزبة في بني سويف، ودون أن يعلم شيئا عن حياة أبيه الأولى. ولكنه خالط أقاربه - أخته نعمة وذريتها رشوانة وعمرو وسرور - منذ سنيه الأولى وتشرب قلبه بحب الحي العتيق. ومنذ نشأته وضحت معالم شخصيته الإيجابية القوية وزادت معالمها بروزا بالمقارنة بشخصية أخيه الأصغر أحمد الوديعة الدمثة. غير أنهما في التعليم كانا على مستوى واحد لا يبشر بالاستمرار، فاكتفيا كابني أختهما عمرو وسرور بالابتدائية، ثم ركن أحمد إلى حياة أبناء الذوات، على حين لازم محمود أباه، تلميذا فطنا ومريدا صادقا ومساعدا قويا. وتجلى بنيانه مثالا للقوة والفظاظة بقوامه الربعة ووجهه الغليظ الحسن القسمات ورأسه الكبير القائم على عنق قصير مليء، وشفت هيئته ونظراته المقتحمة ومتانة هيكله عن التحدي والصراع والبطش. ولم يجد أبوه ما يؤاخذه عليه في شبابه الأول سوى نزوات مما يجري في الحقول، فخطب له ولأخيه شقيقتين مهذبتين من آل بكري جيرانه، فبدأ محمود حياته الزوجية الموفقة مع نازلي هانم، ولم تنحرف عينه إلى امرأة أخرى طوال حياته، ونجحت الحياة الزوجية بفضل تعلقه بإلهام، وبفضل تربية المرأة الرفيعة وتقديسها التقليدي للزوج والحياة الزوجية، وأنجبت له مع الزمن حسن وشكيرة وعبده ونادرة وماهر. ومن بادئ الأمر وبدهاء فريد قرر محمود الاستحواذ على قلب أبيه. عرف فيه البخل فمثل بين يديه دور البخيل، وإن كان في ذلك معتدلا لا هو بالبخيل ولا بالكريم. أما في العمل فقد حاز إعجابه بمثابرته ودقته وحسن تقديره مع مغالاة في العنف في معاملة الآخرين ورفض التساهل كأنما هو جريمة أو خيانة. وأبوه نفسه كان يساوره الجبن أحيانا فيقول له: من الحكمة أيضا ألا نخلق لنا عدوا كل يوم!

فيقول الابن: الجميع يحبون أخي أحمد، لا أهمية للحب، وبالقوة وحدها تصان الحقوق.

حتى قال عطا مرة: لقد أنجبت رجلا واحدا وامرأتين!

لم يبال محمود بكثرة الأعداء وتصاعد أعدادهم، وآثر دائما أن يكون مرهوبا على أن يكون محبوبا؛ سواء لدى الموظفين أم المتعاملين، ولا ضجر يوما من رفع القضايا والتردد على المحاكم بصحبة المحامين. ولما مات الأب عطا خلا محمود إلى أخيه أحمد بحضور أمهما وقال له: أصبح من حقك أن تدير نصف الأملاك.

فارتبك أحمد وبانت الحيرة في عينيه فقال محمود: إنه صراع في غابة من الوحوش، وحظ الطيب فيها الضياع!

فازداد أحمد حيرة وارتباكا؛ فقال الآخر: أتوافق على أن أقوم بالعمل وحدي؟ - بكل ارتياح، أنت أخي الأكبر وحبيبي وما عرفنا في حياتنا إلا الحب. - وأيضا فإني لم أهمل فريضة في حياتي، وأعمل وكأن الله يراني.

فقال أحمد وهو يتنهد في ارتياح: ما في ذلك شك عندي.

هكذا حل محمود محل عطا، وكان يوما أسود في حياة الموظفين والخفراء والمتعاملين، كان يمضي في الحقل أو الدائرة أو السوق مثل وابور الزلط، والأعين ترمقه بالحقد، والدعوات تنهال عليه من الرجال والنساء. وذات ليلة وهو راجع إلى السراي انقض عليه مجهولان بهراواتهم حتى تهاوى فاقد الوعي ثم قذفوه في مصرف وتلاشوا في الظلام. ومرت دورية على أثر ذلك فتهادى إلى مسامعها أنين من المصرف فهرعت إليه وأنقذته وهو على شفا الموت. ونقل إلى المستشفى، وكلما سمع سامع بالخبر ضرب جبينه غيظا ولعن سوء الحظ الذي بادر إلى إنقاذه في اللحظة الحرجة. وغادر المستشفى صحيحا معافى، بإضافات جديدة من الكدمات وآثار الجراحة في الجبين والخد والعنق ضاعفت من جهامة منظره ووحشية طلعته، ولكنها لم تغير من طبعه شيئا وإن زادته تسلحا وحذرا. وقال له ابن أخته عمرو أفندي - وكان أحب الناس إلى قلبه: لا بد من سياسة جديدة يا حبيبي!

فقال محمود: الناس لم يخلقوا إلا لسياسة واحدة، والويل للمتراجع!

وكان يزور بيت القاضي في حنطوره الفخيم محملا بالهدايا، ويطيب له الحديث مع عمرو وراضية، ثم يستغرقه الحديث عن قضاياه التي لا حصر لها. ومرة قال له عمرو ضاحكا: ستصبح من فقهاء القانون مثل عبد العظيم!

فيضحك - وكان يكثر من الضحك في بيت القاضي - ويقول: الموت أهون من التفريط في الحقوق.

فتقول راضية بحماسها المندفع: ولكن الدنيا لا تساوي هذا التعب!

فيقول مقهقها: ما خلقنا إلا للتعب يا درويشة!

وكان يزور عبد العظيم داود في العباسية الشرقية، ويسعد بإخباره عن نجاحه وأمواله، ويناقشه في القضايا، وكان عبد العظيم يقول لفريدة عقب انصرافه: المرض أحب إلي من لقاء هذا الجلف.

فتقول فريدة هانم: امرأته جوهرة ثمينة!

فيقول ساخرا: ربنا يصبرها على ما بلاها!

ولم تقصر نازلي التي تحبه أكثر من أي شيء في دنياها في نصحه بالاعتدال، ولكن شيئا لم يكن يثنيه عن خطه أبدا. وسألته أيضا: ألا يمكن أن ينفعك عبد العظيم داود في قضاياك؟

فقال ممتعضا: إنه يتظاهر بالنزاهة ليداري نذالته وانعدام مروءته، وما هو إلا كافر ومقلد للإنجليز يشرب الويسكي مع الغداء والعشاء!

ولما قامت ثورة 1919 تحرك قلبه بعاطفة جديدة لأول مرة، ومسه سحر الزعيم، وتبرع ببضعة آلاف من الجنيهات، ولأول مرة أيضا يلمس في الفلاحين البسطاء قوة مخيفة لم يعهدها من قبل. ولما حصل الخلاف، وتبين أن للعرش موقفه، وللعدليين موقفهم، وللزعيم موقفه، أخذ يعيد حساباته، واجتمع بأخيه في سراي ميدان خيرت، وسأله: ما رأيك فيما يجري اليوم؟

فقال أحمد ببراءة: لا شك أن سعد على حق.

فقال ببرود: إني أسأل عن مصلحتنا.

فقال أحمد بحيرة: لم أفكر في ذلك، هل تفكر في تأييد عدلي باشا؟ - المركز الثابت هو العرش.

فقال أحمد ببساطة: دائما الحق معك يا أخي. - ماذا يقول أصحابك من السمار؟ - كلهم سعديون. - أعلن انتماءك كي يعرف على أوسع نطاق. - وأولاد أختنا عمرو وسرور مع سعد أيضا. - هؤلاء لا مصالح لهم، لقد انتهت اللعبة، فلا تتصور أن الإنجليز سيغادرون مصر، ولا تتصور أن مصر تستطيع أن تعيش بغير الإنجليز.

وجزاء ولائه للعرش فاز هو وأخوه برتبة البيكوية، وقال لأخيه: كي يسلم آل داود أن الرتب ليست قاصرة عليهم.

غير أن ثورة من نوع آخر اندلعت في الأسرة، وكان قائدها عدنان ابن أخيه. وانشقت الأسرة نصفين متخاصمين؛ رجالا ونساء ، وشمت بها المتنافسون، كما حزن لها المحبون مثل عمرو ورشوانة. حتى سرور قال: حلت اللعنة بالأسرة الملعونة.

ولم يجتمع لها شمل إلا عند وفاة أحمد. وعقب وفاته بأشهر استفحل مرض السكر بمحمود، وكان عمرو وسرور قد رحلا عن الدنيا، فحلت بقلبه كآبة ضاعفت من تأثير المرض، ووهنت عزيمته، وزهد في العمل، وأقام أكثر وقته في سراي ميدان خيرت حتى وافته أزمة قلبية ذات صباح فأسلم الروح. ولحقت به نازلي هانم بعد عامين، وفي نفس عام وفاتها توفيت فوزية هانم. ولم يبق من ذلك الجيل إلا المعمرون مثل راضية وعبد العظيم باشا وبليغ معاوية، وهم الذين امتد بهم العمر حتى قيام ثورة يوليو.

مطرية عمرو عزيز

ولدت ونشأت في بيت القاضي، وهي الثالثة في ذرية عمرو وراضية، وكانت أشبه الجميع بخالتها المنتحرة صديقة في جمال وجهها ورشاقة قدها وعذوبتها. وكانت أجمل الأخوات، بل لعلها كانت أجمل بنات الأسرة جميعا، ومع أنها ترعرعت في عبير الدين والدروشة إلا أن السر لم ينفذ إلى أعماقها، واعتقدت أن حب الله ورسوله يعفيها من أداء الفرائض. وكان تفوقها في الجمال يحرك الغيرة في قلوب أخواتها، ثم حل الرثاء محل الغيرة مع تقلبات الزمن. وعرفت في صباها ومطلع شبابها بالظرف والمرح وحب الناس، والقدرة على كسب محبتهم فلم ينج من سحرها امرأة أو فتاة من آل سرور وعطا وعبد العظيم. أجل لم يشفع لها ذلك كله عندما أغرى سحرها شابا مثل لطفي عبد العظيم بالتفكير في الزواج منها، ذلك أن السحر نفسه له حدود في الوجدان الطبقي. بذلك تحولت أول تجربة سعيدة في حياتها إلى محنة عاطفية ذبحت قلبها الطري وأدمت كبرياءها. وهون من آلامها وقدة الغضب التي اندلعت من حولها دفاعا عنها وعن الأسرة. وهون منه أيضا أن الحب لم يكن حظي بالاعتراف بعد، فدارت المعركة حول الكبرياء وحدها، وهمدت في هاوية التقاليد العريقة. وما لبثت أن خطبتها صديقة لأمها، تم تعارفهما في ضريح سيدي يحيى بن عقب، وتفاءلت بالتعارف ومكانه، وحكمت بالطيبة على المرأة التي كانت تقيم غير بعيد في حارة الوطاويط. وكان العريس - محمد إبراهيم - مدرسا بمدرسة أم الغلام، فهو من ناحيتي الشهادة والمهنة مثل عامر، ورأته مطرية من وراء خصاص المشربية فأعجبها وجهه القمحي، وجسمه المليء، والغليون الذي يدخنه كالإنجليز! وزفت إليه في البيت الذي تملكه أمه بحارة الوطاويط، وكان من حسن الطالع أن كسبت مطرية قلب حماتها، ونعمت بحب صادق جمع بينها وبين زوجها حتى آخر يوم من حياته. وأشرقت أعوام متلاحقة بالهناءة والوفاق، وأنجبت فيها مطرية أحمد وشاذلي وأمانة، وكان ثلاثتهم كالأقمار في الوضاءة والوسامة، وحق لكل إنسان أن يعد بيت حارة الوطاويط من البيوت السعيدة بكل معنى الكلمة. وكان محمد إبراهيم ثاني رجل ينضم إلى آل عمرو بعد حمادة القناوي، ولكنه كان مهذبا دمث الأخلاق ومربيا مثقفا ذا مكتبة متنوعة المصادر، وشتان بين حديثه المنضبط وثرثرة حمادة وخيلائه القائمة على غير أساس. ولم يستطع محمد إبراهيم أن يتخذ من حمادة صديقا حقيقيا، وجامله كثيرا إكراما لصدرية التي حظيت بإعجابه ولم تخف عن فطنته مزاياها كست بيت. تلك الأعوام السعيدة خلدت في وجدان مطرية بتفاصيل حياتها اليومية، بدفء عواطف الزوج وحنان أمه وتسامحها وبريق الأبناء المبشر بالنور والانبهار. وتلقت بعد ذلك أول ضربة من ضربات القدر بوفاة أحمد وهو في الخامسة، جربت عذاب الأم الثكلى وحزنها العميق، وانبسط القبر أمام عينيها الدامعتين في هالة من العواطف الجديدة بعد أن سكنه جزء من قلبها النابض ونفحة من خيالها المحروم. وتضاعف حبها لقاسم بعد أن تجلى حزينا لا يتعزى عن فقد الراحل الصغير. وتحولت أمومتها الجريحة إلى شاذلي وأمانة. ولكن قلبها لم يسعد السعادة المأمولة بزواجهما. ورحلت حماتها في الثلاثينيات فورثت أعباء لم تعتد حملها، ثم نكبت بوفاة أبيها قبيل الحرب العالمية، ووفاة عمها سرور بعده بأعوام، فكابد قلبها آلاما حقيقية لشدة وفائه للعواطف الأسرية. واعتبرت زواج شاذلي خيبة ظالمة وضعتها في كفة حظها العاثر حتى قال لها محمد إبراهيم: ليس الأمر بالسوء الذي ترين.

فقالت متشكية: كان يستحق عروسا أفضل .

فقال الرجل: إنه أدرى بما يسعده.

وتابعت نجاح أمانة في دراستها بارتياح وأمل؛ وإذا بزوجها المحبوب يصاب بتليف في الكبد، فيلزم الفراش وتتدهور حاله، ثم يسلم الروح في العطلة الصيفية بعد نجاح أمانة في البكالوريا. تلقت مطرية أقسى ضربات حظها، ووجدت نفسها أرملة دون الخمسين. واضطرت إلى تزويج أمانة من عبد الرحمن أمين، ومكثت في بيت حارة الوطاويط مع خادمتها، وحيدة حزينة، وضاعف من همومها ما صادفته أمانة في حياتها الزوجية من متاعب. وكانت تتسلى بزيارة الأهل؛ أمها وأخواتها وإخوتها وبنات عمها وآل عطا وآل عبد العظيم داود، وفي مقدمة الجميع شاذلي وأمانة. ومضت تذبل وتجف، وتتغير معالمها، ولكنها أبقت على ميزتها الفريدة وهي تبادل الحب مع الأهل والناس. ولعلها الوحيدة من أسرتها التي لم تنقطع صلتها بشكيرة زوجة أخيها حامد بعد أن فصل الطلاق بين الزوجين. وشد ما أحزنها الموت المبكر لأبناء شاذلي، ولما نجا ابنه محمد من قدرهم دعت الله أن يبقيه لأبيه ولها، وتوسلت إلى أمها راضية أن تحميه بكل ما لديها من وسائل. وكانت ضربة قاضية لها عندما وافتها أنباء استشهاده في الاعتداء الثلاثي. واشتد بها الذبول والجفاف، وتبين أنها مصابة بسرطان. وما زالت تتدهور وتسير من سيئ إلى أسوأ حتى أسلمت الروح وهي في الستين. كانت أول من يموت من الجيل الثاني في آل عمرو، بل في الأسرة كلها. واقتضت الظروف ألا يحزن عليها كما ينبغي أحب الناس لها؛ شاذلي لم يترك له حزنه على ذريته فائضا، وراضية كانت في الثمانين وحزن الثمانين سريع الزوال، وقاسم كان قد استوى لديه الحزن والسرور ... فلم تجد أمانة من يشاركها البكاء واللطم.

معاوية القليوبي

ولد ونشأ في بيت سوق الزلط، وتربى تربية دينية خالصة، واقتبس من أبيه معلومات وسلوكا حتى قبل أن يجاور في الأزهر، وأبدى نجابة وتفوقا، وغراما خاصا بالنحو الذي راح يدرسه في الأزهر بعد حصوله على العالمية. وقبيل وفاة والده بأشهر زوجه الرجل من جليلة الطرابيشية، وهي كريمة سلمان الطرابيشي الذي كان يعمل في مصنع طرابيشي الباشا. وكان معاوية يزاول نشاطا إضافيا في جوامع حيه، مما أضفى على شخصه مهابة ومحبة. وكانت جليلة تفوقه طولا وكانت ذات أطوار غريبة، وعصبية حادة، وتراث حافل بالغرائب، فصمم الرجل على أن يلقنها مبادئ دينها الصحيحة، ونشب بينهما صراع ودي طويل، فأعطاها وأخذ منها، وكلما أصابته وعكة سلم نفسه إلى طبها الشعبي دون منازع، وذاعت شهرتها في الحي حتى كادت تغطي على شهرته. وقد ربط الحب بينهما، وبفضله استمرت الحياة الزوجية، رغم حدة طبعها وتعصبها لأفكارها، وأنجبت له مع الأيام راضية وشهيرة وصديقة وبليغ. ولما قامت الثورة العرابية تحمس لها الشيخ، ومال إلى تيارها، وأيدها بالقلب واللسان. ولما فشلت الثورة واحتل الإنجليز مصر قبض عليه فيمن قبض عليهم، وقدم للمحاكمة فقضت عليه بالسجن خمسة أعوام. وراحت جليلة تطوف بأضرحة الأولياء داعية على الخديو والإنجليز، ودبرت شئون أسرتها بشيء من المال ورثته عن أبيها. وغادر الشيخ معاوية السجن ليجد نفسه في دنيا غريبة، فلا أحد يذكر الثورة أو أحدا من رجالها، أو تذكر بعض الأسماء مصحوبة باللعنات، ولم يجد عينا تنظر إليه بعطف سوى عين يزيد المصري صديقه القديم وناظر سبيل بين القصرين. شعر الرجل بغربة وأسى وانطوى على نفسه حتى وجد وظيفة معلم بمدرسة أهلية. وقال له صديقه عزيز ذات يوم: ابني عمرو موظف في نظارة المعارف في العشرين من عمره وأود له أن يكمل نصف دينه. فأدرك الشيخ ما يرمي إليه وقال: على بركة الله.

فقال عزيز: ستتم على يديك بإذن الله ومن بيتك.

فقال الشيخ: راضية بنتي وعمرو ابني!

وذهبت نعمة عطا وابنتها رشوانة لخطبة راضية، ورجعتا مبهورتين بجمال صديقة وراضيتين عن جمال راضية ووجهها الشامخ، غير أن نعمة تساءلت: أهي أطول من عمرو؟

فقالت رشوانة باطمئنان: كلا يا أمي، هو الأطول.

ولكن الأجل عاجل الشيخ قبل أن يشهد زفاف كريمته، وصادف وصول نيشان العروس يوم الوفاة، الأمر الذي أدى بجليلة من خلال اجتهادها الشخصي مع تراثها إلى أن تطلق زغرودة من نافذة ثم تواصل صواتها على الراحل العزيز، وتصير بذلك نادرة الحي على مجرى العمر. ودفن الشيخ في حوشه القريب من حوش عزيز في رحاب سيدي نجم الدين.

حرف النون

نادر عارف المنياوي

ولد ونشأ في الدرب الأحمر، الابن الوحيد لحبيبة عمرو والشيخ عارف المنياوي لم يترك أبوه في وعيه أية ذكرى فترعرع في بحيرة ثرية بحنان أمه وجدته لأبيه، ورحلت الجدة وهو ابن ستة فوجد في قلوب عمرو وراضية وبقية الأسرة ما أنساه يتمه ووحدته. وربما كان من حسن حظه أن يعشق التفوق ويهيم في الطموح من صغره ولكنه لم يقدر التضحية الجنونية التي ضحتها أمه من أجله برفضها فرصة حسنة للزواج، وبقائها أرملة طيلة العمر عقب حياة زوجية لم تستمر سوى عامين. وشب نادر ذا رونق وفحولة، ولم تخل فترة من حياته من مغامرة عاطفية في نطاق ميزانيته المحدودة. وحصل على بكالوريوس التجارة في أثناء الحرب العظمى وألحق بوظيفة في وزارة المالية. ودأب على كره فقره والتطلع الدائم إلى أفق سامق، ومن أجل ذلك التحق بمعهد لتعليم اللغة الإنجليزية، وأتقن الكتابة على الآلة الكاتبة، ثم قدم لامتحان أعلنت عنه شركة إنجليزية للمعادن فنجح، واستقال من الحكومة ليشغل وظيفة في قسم الحسابات بالشركة. وأرعبت مغامرته أخواله وأقاربه وأمه، ولكنه قال بثقة لا عهد للأسرة بها: لا مستقبل للحكومة.

وتحسنت أحواله، ولكن طموحه لم يشبع. ولما قامت ثورة يوليو لم يأنس إلى أسلوبها كشاب طموح يحلم بالثراء، وتحققت مخاوفه عقب الاعتداء الثلاثي ومصادرة الشركات البريطانية، عندما وجد نفسه مرة أخرى موظفا في الحكومة على غير إرادته. وعند ذاك درس حال أسرته وفروعها على ضوء الوضع الثوري الجديد، فرأى في آل عطا المراكيبي وآل سميرة خالته بعض الممثلين للثورة مثل عبده عطا وماهر عطا وابن خالته حكيم. وقرر فيما بينه وبين نفسه أن يتزوج من نادرة شقيقة عبده وماهر أو من هنومة شقيقة حكيم. وشاور أمه في الأمر فقالت: هنومة أقرب لنا، وهي الأجمل.

وبإيعاز منه خطبتها له؛ وهي مذيعة في الراديو وذات مبادئ وخلق كأخيها سليم ، وكانت قد رفضت يد ابن خالتها عقل، ولكنها وافقت على الزواج من نادر، وتم الزفاف في شقة بشارع حسن صبري بالزمالك، وألح نادر على أمه أن تعيش معه ولكنها أبت أن تغادر الدرب الأحمر أو تبتعد عن بركات الحي العتيق، حيث تقيم أيضا أمها المحبوبة وكثرة من أخواتها وبنات عمها. ونعمت الأسرة الجديدة بالسعادة وأنجبت له هنومة ثلاث بنات؛ سميرة وراضية وصفاء. وتوثقت العلاقة بين نادر وحكيم، وبفضل حكيم رقي نادر رئيسا للحسابات، وكبر مرتبه فوق ما يحلم أي من أقاربه الموظفين، ولكنه كان ذا طموح لا يعرف الحدود. ولما حصلت التأميمات تعين رئيسا لمجلس إدارة الشركة دون شبع من ناحيته حتى سألته هنومة: ماذا تريد؟

فقال بغموض: إني أحتقر المرتبات الثابتة.

فقالت هنومة بوضوح: وأنا لا أكره الثراء شريطة أن يقترن بالنقاء!

فتوجس خيفة من نظرة عينيها، وقال بعجلة: طبعا.

وشعر بأن شريكة حياته ليست شريكة في طموحه. وكان يؤمن في أعماقه بأن الفارق الوحيد بين أهل السجون وأهل الخارج هو الحظ لا الخلق أو المبادئ، وأن العالم مجموعة من الأوغاد لا ينجو منها إلا القوي الشاطر. واعتبر زوجته امتدادا للرأي العام الأحمق الذي عليه أن يداريه طالما أصر على تحقيق طموحه. ومضى يوثق علاقاته ببعض الضباط وآخرين من رجال القطاع الخاص، حتى كانت هزيمة 5 يونيو، وانكشف أمره فيما انكشف المستور من أمورهم، واكتفي بإحالته إلى المعاش بفضل حكيم أيضا، ولكن هنومة ثارت عليه ثورة لم يفلح في مهادنتها إلا بالطلاق. وقالت سميرة لهنومة بهدوئها المعهود: أنت مسئولة عن نفسك فقط.

فقالت الفتاة بشدة: لا أستطيع أن أغمض عيني وأهدم بنيان حياتي كله.

واحتفظت هنومة بالشقة والبنات، وراح هو يتنقل بين الفنادق والدرب الأحمر، وفسر لأمه الساذجة الطلاق على أنه خلاف مما يفسد الحياة الزوجية. ولما تغير الحال وهلت طلائع الانفتاح تنفس من جديد، واستمد من الجو الطارئ حياة لم يحلم بها من قبل. واشتغل بكل همة في الاستيراد، وحقق لنفسه أخيرا الحلم الذي راوده من الصغر، وانفسح المجال أمامه ما بين الخارج والداخل. وفي إحدى رحلاته تعرف بأرملة أسترالية فتزوج منها، وأقام معها في فيلا في المعادي. وكثيرا ما يقول ضاحكا: إنها قسمة عادلة، فالثراء للأقوياء والأخلاق للضعفاء.

نادرة محمود عطا المراكيبي

هي الرابعة في ذرية محمود بك عطا، ولدت ونشأت في سراي ميدان خيرت، في الجو المعبق بالعز والرفاهية، وكانت على قدر من الوسامة وإن تكن دون إخوتها الذكور، وعلى مثال أختها الكبرى شكيرة في الخلق والمبادئ والتدين مع شيء كثير من المرونة والدماثة. وكانت حادة الذكاء محبة للتعليم فلم يعارض أبوها في استمرارها فيه بعد أن غزاه الزمن بمفاهيمه الجديدة. وقد توجت سعادة صباها بالحب الذي ربط بينها وبين مازن ابن عمها. استوى فارسا لأحلامها منذ مراهقتها وحتى آخر يوم في حياته، بل لعله ظل كذلك طيلة عمرها، أحبته كما لم تحب شيئا في الوجود، وناطت به أحلامها وسعادتها وأمانيها. وشد ما جزعت للخصام الذي مزق أسرتها، وشد ما خافته على سعادتها وآمالها، وقالت لأمها: بابا جاوز غضبه الحد.

ولم تنقطع الصلة بينها وبينه طوال أعوام الخصومة ... وفي أثناء ذلك حصلت على البكالوريا والتحقت بكلية الطب، ثم كانت الكارثة التي هلك فيها مازن وتلاشى من وجودها، كادت تجن من الحزن، بل والغضب، وقضت عاما في السراي أسيرة للكآبة، ثم واصلت دراستها وقد تحجر قلبها وصمم على الزهد في الدنيا. خرجت من حياتها في تلك الأيام بتجربتين مرتين؛ وفاة حبيبها، وخيبة أمل شقيقتها في حياتها الزوجية. ونزعت بكل قواها لتكريس حياتها للعمل والوحدة والقراءة الدينية. وعرضت لها فرص زواج طيبة، ولكنها كانت قد تطبعت بسوء الظن بالنوايا، وكرهت فكرة الحياة الزوجية، وتخصصت في طب الولادة، وحصلت على الدكتوراه، وأحرزت نجاحا مرموقا تزايد يوما بعد يوم. ولم تحفل بنصائح إخوتها لها بإعادة النظر في الزواج، وثابرت على عملها ووحدتها وتدينها حتى فاتها القطار دون أسف مسجلة في عالم الأحزان ظاهرة فريدة لا تتكرر. وجمعت السراي بين شكيرة وعبده ونادرة وماهر في الكبر كما جمعت بينهم في مطلع الحياة ، أمثلة حية للنجاح والفشل معا.

نعمة عطا المراكيبي

ابنة عطا المراكيبي وسكينة جلعاد المغاوري، ولدت ونشأت ببيت الغورية، وورثت عن أمها عينيها النجلاوين وشعرها الأسود الغزير بالإضافة إلى صحة جيدة لم تحظ بها الأم. ولما عزم يزيد المصري على تزويج ابنه عزيز وجد فيها الشروط المزكية؛ فهي ابنة جاره وصديقه عطا المراكيبي، وهي مصونة وجميلة، وزفت نعمة إلى عزيز منتقلة من دور إلى دور في نفس البيت بالغورية. وكانت مثالا طيبا للزوجة العاقلة المدبرة المطيعة، وأنجبت لعزيز رشوانة وعمرو وسرور، وتلقت من زواج أبيها بالأرملة الغنية صدمة، ثم تابعت ارتفاع أبيها إلى طبقة جديدة بذهول، وزارت السراي الجديدة بميدان خيرت، وسراي العزبة ببني سويف فانبهرت بما رأت أي انبهار ولم تصدق عينيها. وتوقعت أن تنهال عليها دفقات من الخير، ولكن خاب رجاؤها، وفيما عدا هدايا المناسبات فقد قبض الرجل يده عنها كأنها ليست بكريته، وليست الأخت الكبرى لمحمود وأحمد. وقال لها عزيز: إنه شحيح وممن يحبسون النعمة.

ولكنها رغم حنقها دافعت عن أبيها قائلة: بل يخاف أن تتهمه المرأة بتبديد ثروتها!

ورغم تقواها حلمت بأن تسبق الأرملة أباها إلى الآخرة فيرثها، وبالتالي ترث هي حظا من الثروة يدعم رشوانة وعمرو وسرور في حياتهم، ولكن الرجل رحل قبل زوجته بقليل، مخيبا رجاءها بموته كما خيبه بحياته. والحق أن مخالطة أخويها - محمود وأحمد - لها ولأولادها وبرهما بهم أنساها أحزانها فبادلتهما حبا بحب حتى آخر عهدها بالحياة. وامتد بها العمر حتى قرت عينا بأحفادها، ورحلت عن الدنيا بعد عزيز بعامين.

نهاد حمادة القناوي

بكرية صدرية وحمادة القناوي، ولدت ونشأت في خان جعفر، ومرحت في طفولتها في بيت القاضي، وحظيت بمنزلة طيبة لدى عمرو وراضية بوصفها طليعة الأحفاد. وكانت على جمال مقبول، وتعليم قليل سرعان ما تلاشى. ولما قاربت الخامسة عشرة خطبها عمدة متوسط العمر من أقارب أبيها، فرحب به حمادة أيما ترحيب، وأدركت صدرية بأسى عميق أن ابنتها تنفصل عنها إلى الأبد، وأنها لن تراها إلا في المناسبات، وأنها ستنتمي من الآن فصاعدا إلى الصعيد. وتأقلمت نهاد مع البيئة الجديدة؛ فتطبعت بسجايا جديدة، واكتسبت لهجة جديدة، وأنجبت للعمدة عشرا، نصفهم ذكور ونصفهم إناث، وكلما زارت القاهرة كوافدة غريبة تطلعت إليها الأبصار بغرابة، وهي تشهد حرم العمدة بجسمها المترامي، وحليها الذهبية التي تغطي الساعدين والعنق، ولكنتها الغريبة المثيرة للضحك.

حرف الهاء

هنومة حسين قابيل

صغرى بنات سميرة وحسين قابيل، ولدت ونشأت في بيت ابن خلدون، على طراز أمها في الجمال؛ طويلة القامة، رشيقة القد، حادة الذكاء، شديدة في التمسك بالأخلاق والمبادئ، وشديدة الشبه في ذلك بأخيها الأصغر سليم، وتفوقت في الدراسة والتحقت بالآداب قسم اللغة الفرنسية. وقد تحمست لثورة يوليو باعتبارها ثورة إصلاح وأخلاق، ولكنها انقلبت عليها مذ حكم علي سليم بالسجن، ولم تتردد في اتهام حكيم بالخطأ في موالاته لها. وقد تخرجت في الكلية، والتحقت بالإذاعة لتفوقها من ناحية وبفضل توصيات حكيم من ناحية أخرى، وأراد عقل ابن خالتها صدرية أن يتزوج منها ولكنها رفضته لطولها وقصره، وقالت لأمها: سيكون منظرنا مضحكا إذا سرنا معا في الطريق.

ووافقت على الزواج من نادر، لمركزه، ووسامته، وحسن ظنها بأخلاقه، وعاشت معه عمرا في شقة أنيقة بشارع حسن صبري بالزمالك وأنجبت له سميرة وراضية وصفاء، ولما تكشف لها انحرافه ثارت ثورة عنيفة لم يتوقعها الرجل من شريكة حياة. وقالت له بصراحتها الحادة: إني أرفض الاستمرار في معاشرة رجل تبين لي انحرافه.

وكانت سميرة تكره فكرة الطلاق وحاولت أن تقنعها بأنها ليست مسئولة عنه، وأنها يجب أن تزن عواقب تصميمها على بناتها، ولكن قالت لأمها: لقد سقط في نظري، ولا حيلة لي في ذلك.

وانتهى الخلاف بالطلاق، واحتفظت ببناتها معها في شقة الزمالك، وراحت تربيهن على مثالها، ولم تأسف قط على القرار الصارم الذي اتخذته. ومضت الأيام وآن للبنات أن تتزوج، وكان الزواج قد أصبح مشكلة غير قابلة للحل؛ لارتفاع تكاليفه وصعوبة الفوز بشقة، ولكن نادر ذلل كافة الصعوبات، فابتاع شقة لكل بنت وجهزهن على المستوى اللائق به. وقالت هنومة تعزي نفسها: إنه أبوهن والمسئول عنهن.

ولكنها لم تستطع أن تغفل عن الحقيقة المرة، وهي أنه لولا ماله الحرام ما تيسر لبنت منهن أن تستقر في بيت الزوجية. وتساءلت في أسى عميق: هل أصبحت الحياة الشريفة مستحيلة حقا؟!

حرف الواو

وحيدة حامد عمرو

بكرية حامد وشكيرة، ولدت ونشأت في سراي ميدان خيرت، ولعبت طفولتها في حديقتها المترامية الغناء، ووضح من الصغر ذكاؤها، إلى جمال مقبول، وروح مرحة غالتها رياح النكد. من قديم تشرب قلبها بالكآبة في مناخ الحياة الزوجية المسموم، وتمثلت أحزان أمها الدائمة حتى ترسب النفور من أبيها في أعماقها. ولم تجد في أخيها صالح أي عزاء لعنف خلقه وملاحقته الناس بأخطائهم كأنه الحسيب عليهم، ثم جاء الانشقاق بين جدها محمود وأخيه أحمد ليقضي على البقية الباقية لها من أمل في حياة يمكن أن تعد بشيء من التفاؤل أو السعادة. وترامت إليها عداوة أهل أبيها لأمها، وكلماتهم المدببة، بالإضافة إلى المآسي الكثيرة التي هصرت الفروع حتى سلمت بلا وعي منها بأن الحياة ما هي إلا سلسلة من الأحزان والانحرافات والانفعالات القاسية. ووجدت سلواها الوحيدة في الدراسة فتفوقت، والتحقت مثل خالتها نادرة بكلية الطب، وما إن وجدت فرصة للعمل في السعودية حتى ولت هاربة. وبعد أعوام الغربة كانت مفاجأة لأمها أن تتلقى منها رسالة تنبئها فيها بأنها ستتزوج من زميل باكستاني يعمل معها في نفس المستشفى.

وردة حمادة القناوي

هي الثالثة في ذرية صدرية وحمادة، ولدت ونشأت في خان جعفر، ولكنها عشقت البيت القديم بميدان بيت القاضي وتعلقت بجدتها راضية فبادلتها الجدة حبا بحب، وكانت تقول لصدرية عنها: وردة أجمل البنات، ولكن ميزتها الأولى في العقل.

وقد خطبت لابن عم أبيها الشاب وهي دون سن الزواج، ولكنها أصيبت بالملاريا، ولم تستطع المقاومة ففاضت روحها تاركة في قلب أمها جرحا لا يندمل.

حرف الياء

يزيد المصري

وصل إلى القاهرة قبل وصول الحملة الفرنسية بأيام، وكان في الإسكندرية من أسرة عطارين، ولما انتشر الوباء أهلك أفرادها فلم يبق على رجل أو امرأة سواه. وكره البلد فقرر هجرها ويمم شطر القاهرة . وكان معه شيء من المال، وميزة نادرة في ذلك الزمان وهي أنه كان يعرف القراءة والكتابة، لقنها في المعهد الديني قبل أن ينقطع عنه ليعاون أباه في دكان العطارة، وتحير في القاهرة فترة حتى وجد مأواه في بيت بالغورية، كما وجد عملا كخازن في وكالة الوراق. كان شابا قوي الجسم غامق السمرة واضح الملامح، يرتدي الجلباب والشملة والعمامة. ولتقواه ووحدته تاقت نفسه للزواج. ورأى فرجة السماك وهي تبيع السمك في الطريق فأعجبته، وبمعاونة جاره عطا المراكيبي تزوج منها. وقد أنجبت له ذرية وفيرة بقي منها على قيد الحياة عزيز وداود، وامتد به العمر حتى شهد مولد أحفاده رشوانة وعمرو وسرور. وزاره سيدي نجم الدين في المنام وأمره أن يبني قبره في جوار ضريحه، فصدع بما أمر، وشيد الحوش الذي دفن فيه، وما زال يستقبل الراحلين من ذريته المنتشرة في أنحاء القاهرة.

Halaman tidak diketahui