كان عمرو يشعر بدفء الرابطة بينه وبين عبد العظيم عندما يزوره هذا في بيت القاضي، أما إذا ذهب عمرو إلى فيلا السرايات فتواتيه غربة في الجو «الإفرنجي » الذي يسود السلوك والعادات، من ذلك أن عبد العظيم باشا كان يفتح شهيته عادة بكأسين من الويسكي، أو يخاطب كريمتيه فهيمة وعفت أحيانا بالفرنسية! وكان محمود عطا المراكيبي يتودد إلى الباشا ويحب أن يوثق علاقته به رغم المنافسة الخفية بين الأسرتين. والحق أن عبد العظيم باشا لم يكن يميل إليه، ولكنه تبادل معه الزيارة إكراما لابن عمه عمرو. وقد أراد محمود بك أن يستعين بنفوذه في إحدى قضاياه الكثيرة فقطب عبد العظيم وقال بوضوح: الظاهر أنه لا فكرة لك عن نزاهة القضاء.
وكان محمود بك يؤمن - بوحي حياته العملية - بأن الشعار شيء والواقع شيء آخر، فصدمه جفاء صاحبه ولعنه في سره. ولكنه وجد نفسه معه في جبهة واحدة بعد الانقسام السياسي. وأراد أن يهون من شأن الخلاف فقال: الولاء للملك أو الإنجليز سيان.
فقال عبد العظيم باشا: لا ولاء للإنجليز ولكنها صداقة. - أليس الملك أفضل؟ - الملك ذو ولاء للإنجليز ونحن دعاة الدستور. - ولكن الدستور سيسلم الحكم لسعد. - ولعله وهم. - إنه يسحر الناس بدعوة الاستقلال التام، وبهذه المناسبة، ما رأيك في هذه الدعوة؟!
فقال الرجل وهو يهز رأسه الكبير: المجانين لا يعرفون معنى الاستقلال، الاستقلال مسئولية ضخمة، من أين لنا الإنفاق على الدفاع؟!
أليس الأفضل أن نترك ذلك للإنجليز ونتفرغ لإصلاح أحوالنا؟
فقال محمود بك بحرارة: صدقت، واستقلال زغلول خليق بأن يقود إلى ثورة عرابية جديدة.
وقد حقق لطفي البكري لأبيه أمله بخلاف غسان وحليم ولكن عبد العظيم يعتبر بصفة عامة أبا سعيدا. وكاد لطفي ينحرف عندما مال إلى مطرية بنت عمرو ولكن الله سلم، وإن أسف عبد العظيم على موقفه من ابنة حبيبه عمرو. وولي مع الأيام مناصب قضائية عظيمة ثم أحيل إلى المعاش وهو رئيس لمحكمة الاستئناف العليا. ولقوة حيويته عمل محاميا حتى الخمسينيات، ثم تقاعد بعد أن طعن في السن. ولم يقعد عن الحركة فكان يذهب كل مساء إلى مقهى لونابارك ليلعب الطاولة مع المعمرين من جيله. ولما قامت ثورة يوليو كان قد توغل في الشيخوخة للدرجة التي يهون معها الاهتمام بالأشياء. وأصابه التهاب حاد في البروستاتا فنقل إلى المستشفى ولكنه أسلم الروح بعد يومين.
عبده محمود عطا المراكيبي
ولد ونشأ في سراي ميدان خيرت، وهو الثالث في ذرية محمود بك ونازلي هانم، واتسم منذ صغره بالوسامة والنجابة. وتربى في أحضان العز، وتلقن مبادئ الأخلاق والتهذيب والتدين على يد أمه الجميلة المهذبة، ونما نفورا من الاختلاط بصفة عامة؛ فعرف أهله من آل عمرو وسرور ورشوانة، ولكنه لم يتخذ صديقا منهم. وأغرم بالرياضة وتفوق خاصة في السباحة، وعشق المطالعة، وشق طريقه في المدارس بتفوق أهله للالتحاق بكلية الهندسة. ولما تخرج التحق بسلاح المهندسين بالجيش بعد المعاهدة. وبدأ يخرج عن خط الأسرة السياسي فلم يتشيع للملك كأبيه وعمه، ولكنه انضم إلى الجيل القلق الغاضب على الجميع والمتطلع إلى الجديد مثل قريبه حكيم حسين قابيل. واقترحت عليه أمه الزواج من آل الماوردي وهم أسرة إقطاعية، فتزوج، واستأجر لعروسه شقة أنيقة في الزمالك، غير أن ذلك الزواج لم ينجب ولم يوفق، ولعل فائدته الوحيدة انحصرت في تعريفه بنفسه وأبعادها. تبين له أنه رغم يسره لا يطيق الإنفاق ويتألم لبذل قرش واحد في غير موضعه ودون حساب وتخطيط. وكانت جولستان من محبات البذخ والحياة الاجتماعية والتباهي بكافة جماليات المظاهر المبهرة، فعجز كل طرف عن النزوع عن شيء من تقاليده وعاداته، فارتطما في عنف جعل من حياتهما جحيما لا يطاق. وقالت له الفتاة بصراحة: لم نخلق لحياة مشتركة.
فقال لها متلمسا طريقه للنجاة: أوافق على ذلك دون قيد أو شرط!
Halaman tidak diketahui