في خضم ذلك الاضطراب أنجبت له وحيدة وصالح وحظيت من حياتها المتوترة بشيء من العزاء، رغم أنها حياة لم تعرف الحب ولا السلام، كما أن منغصاتها انحصرت في أضيق الحدود. ولما وقع الشقاق بين الشقيقين محمود وأحمد، وتمزقت وحدة الأسرة، خشي عمرو أن يجرف ابنه تيار عداوة لا شأن له بها. وكان عمرو يسعى لإصلاح ذات البين، ويحافظ على علاقته الطيبة بخاليه فنصح حامد بأن يلتزم بموقفه هو - عمرو - وألا يقطع صلته بأحمد بك، وسعى لدى محمود حتى انتزع منه موافقته على ذلك، وارتاح حامد لذلك إذ كان يميل في أعماقه إلى خاله أحمد ويؤمن بعدالة مطلبه. وفي الفترة السابقة للحرب العظمى الثانية وما تلاها من أعوام، رحل عن الدنيا أحمد وعمرو ومحمود فشعر حامد بتحرره من الرقباء، وبلغت علاقته بزوجه الغاية من السوء. وقد أشقى ذلك فيمن أشقى وحيدة وصالح فتمزقا بين والديهما. أجل كانت شكيرة صاحبة الأثر الأكبر في تربيتهما؛ فنشآ نشأة مهذبة، وعرفا بالاجتهاد والتدين، ولم يعفيا والدهما قط من الاتهام وأدانا معاملته الفظة لأمهمها وإن حافظا ما استطاعا أمامه على الحياد والأدب. ولكنه تلقى نجواهما من نظرات عينيهما، وشعر بالغربة والغضب. وظل حامد على إيلاء حماته بما تستحقه من احترام ومجاملة، ولكنها اضطرت أن تقول له: لقد أدميت قلبي بسوء معاملتك لشكيرة.
وكان يحقد على شكيرة ويتصور أنها التهمت خير سني حياته بغير حق. وتلاحيا مرة وتبادلا كالعادة كلمات قاسية، وإذا بها تصرخ في وجهه، وهي تبكي: إني أكرهك أكثر من الموت.
وأقدم على الحلم الذي راوده طويلا فطلقها، وقال معتذرا لقريبه وصديقه وزميله حسن شقيقها: معذرة، لم أعد أحتمل، وكل شيء بمشيئة الله.
ولم يعد إلى البيت القديم في بيت القاضي إلا شهرا واحدا. ولخصت راضية موقفها قائلة: ما كان يجب أن يتم ذلك الزواج، ولكن ما كان يحق لك الطلاق إكراما لوحيدة وصالح.
رغم أنها اتهمت في السراي بأن سحرها كان وراء الطلاق كما كان وراء فشل الزواج من أول يوم.
وانتقل حامد إلى شقة في عمارة جديدة بشارع المنيل دله عليها قريبه حليم بن عبد العظيم باشا داود حيث كان يسكن شقة أخرى بها. وفي الخمسينيات وهو يقترب من الخمسين أعجبته أرملة في الأربعين تدعى عصمت الأورفلي فتزوج منها وجاء بها إلى شقته بادئا حياة جديدة. ووهنت علاقته بوحيدة وصالح وإن لم تنقطع. ولما قامت ثورة يوليو أحالته إلى المعاش ضمن ضباط الشرطة الذين اعتبرتهم أعداء للشعب، علما بأنه حافظ على وفديته في قلبه دائما، ولكن الثورة عدت الوفديين أعداء للشعب أيضا. وانطوى على نفسه حينا في مسكنه مع عصمت حتى تبين له أن حكيم ابن شقيقته سميرة من المقربين ومن أصحاب النفوذ، فطلب إليه أن يفعل شيئا من أجله، وفعلا تعين مدير علاقات عامة بعمر أفندي بخمسين جنيها شهريا إلى معاشه. وطابت له الحياة نوعا ما، ووجد في الزوجة الجديدة امرأة محنكة تعاملت بمكر حسن مع نزواته وابتذالاته وهيأت له حياة مستقرة ... لا انفصام لها فيما بدا. ولم ينقطع أبدا عن زيارة البيت القديم والتودد الصادق لأمه وأخيه قاسم، وكان يجد في غرابة أطوارهما ما يسره ولا يكف عن ممازحتهما. يترك جبينه لأمه تلثمه بحنان، ويسلم رأسه لها لترقيه وتتلو عليه الصمدية وبعض محفوظاتها من الأوراد، ويسأل أخاه عن الطالع والمستقبل، ثم يجول في ربوع الصبا ويزور الحسين قارئا الفاتحة، وكان ذلك يمثل الغاية والنهاية في حياته الدينية. وكان أيضا يزور بيوت أخواته وبيت أخيه عامر وآل داود. وفي تلك الفترة من حياته توثقت علاقته بحليم بن عبد العظيم باشا، وقد جمع بينهما نفس المصير على يد الثورة، كما توثقت صلته أكثر بابن عمه لبيب، وكان يشارك الأول في تدخين الحشيش، وكان يشارك الأخير في السكر، ثم يؤاخي بين أرواحهم نقد الثورة والسخرية برجالها وتذكر أيام العز الماضية. لم ينغص عليه صفوه إلا شعوره المطارد بأن وحيدة وصالح لا يكنان له من الحب ربع ما يكنه لهما منه، وأنهما يؤثران أمهما عليه بلا حدود. وشهد بكل وجدانه مآسي وطنه. ومآسي أسرته، وشهد أيضا وثبة أكتوبر 1973، وفي العام التالي شعر بضعف، شخص أولا بأنه فقر دم، ثم عرفت زوجته من نتيجة التحاليل أنه سرطان دم، وأن النهاية واقفة أمام الباب. ولم يدر ما أصابه، ونقل إلى المستشفى وهو يجهله، وشهد ساعاته الأخيرة الممزقة بنزع الألم زوجته ووحيدة وصالح، وفي اللحظات الأخيرة طلب رؤية راضية ولكن تعذر ذلك بطبيعة الحال لأنها من ناحية كانت قد جاوزت المائة، ومن ناحية أخرى لم تعلم بمرض ابنها، وظلت على جهلها به حتى وفاتها. وأسلم الرجل الروح بعد عذاب، وودعته دموع زوجته ووحيدة وصالح. أما شكيرة فلم يخفف الموت من كراهيتها العميقة له.
حبيبة عمرو عزيز
إن يكن لميدان بيت القاضي والحواري التي تصب فيه وأشجار البلخ السامقة أثر في قلوب آل عمرو وآل سرور، إن يكن للمآذن والدراويش والفتوات والأفراح والمآتم أثر، إن يكن للحكايات والأساطير والعفاريت أثر، فهي حياة تجري مع الدم وتكمن في جذور البسمات والدموع والأحلام في قلب حبيبة - الخامسة في ذرية عمرو أفندي - لم تطق مغادرة الحي على سنوح الفرص الباهرة، ولم يحب الأب أو الأم أحد كحبها لهما، ولا الإخوة ولا الأخوات ولا أبناء العم ولا بناته، حتى الجيران والقطط. بكت كل راحل وراحلة حتى عرفت بالنائحة، وحفظت الذكريات والعهود، وثملت دائما بالماضي وأيامه الحلوة. كادت في الجمال أن تماثل سميرة لولا سحابة تعلو عينها اليسرى، ووقف حظها من التعليم عند محو الأمية، وسرعان ما استردت أميتها لإهمالها. ولم تعرف من الدين إلا دين أمها الشعبي، ولكنها اقتنعت بأن عشق الحسين هو خير وسيلة إلى الآخرة. وفي سن السادسة عشرة خطبها مدرس لغة عربية يدعى الشيخ عارف المنياوي من زملاء أخيها عامر وزفت إليه في الدرب الأحمر، وبعد عام من حياة سعيدة أنجبت له «نادر»، وبعد عام ثان سقط الرجل في قبضة السرطان ومضى قبل الأوان. وهتفت راضية من قلب مكلوم: ما أسوأ حظك يا ابنتي!
وعاشت حبيبة مع حماتها على دخل دكانين بالمغربلين، مكرسة حياتها لوليدها، أرملة دون العشرين من عمرها. وأحبت نادر حب الأمومة المعتاد بالإضافة إلى حب قلب كأنما تخصص في الحب. ولما أنهى نادر مرحلة الكتاب في أوائل الثلاثينيات أراد محمود بك عطا أن يزوجها من عمدة ببني سويف. وقد رحبت الأسرة بذلك، وكان عليها أن تسلم نادر إلى عمه، ولكنها رفضت بقوة، أبت أن تسلم ابنها كما كرهت أن تغادر الحي. وقال لها حامد أخوها: أنت مجنونة، ولا تدرين ماذا تفعلين!
فقالت: بل أدري ما أفعل تماما.
Halaman tidak diketahui