Hadith Isa bin Hisham
حديث عيسى بن هشام
Genre-genre
وفيها إذا ما ضيع النكس غيرة
تصان بها المستصحبات الكرائم
2
ثم وصلنا إلى قاعة مشيدة البنيان، فسيحة الأركان، في أحد جوانبها سلسبيل، يسيل ماؤه من أفواه التماثيل، والأرض مفروشة بالبسط الفارسية، وبجلود الضواري الوحشية، والحيطان مستورة بأنواع السلاح، من خناجر وسيوف ورماح، وفوقها عدة صفوف، من الرفوف، تحمل الطرائف الكريمة، والأواني الصينية القديمة، مع عيدان للتدخين، من أغصان الياسمين، فخلعنا نعالنا، وتقدمنا أمامنا، فوجدنا الأمير ومن معه جلوسا متربعين، منصتين مستمعين، يضيء في وجوههم نور الشيب والوقار، وتزدهيهم هيئة العزة والاستكبار، فانقطع الحديث عند دخولنا، برد سلامنا، ولكن ما لبث أن اتصل ما انقطع من الكلام، بعد رجع التحية ورد السلام.
ولما استقر بنا المكان همست في أذن البيطار أن ينبئ بأسماء الحاضرين، فقال لي: هذا المتصدر فيهم هو الأمير فلان رب الدار وهو رفيق مولانا الباشا في البيت الكريم الخديوي، وقد اعتزل الأعمال واعتكف في آخر عمره يتعبد ويتهجد ويسلك طريق النسك والزهد ويتقرب إلى الله بدوام القيام والقعود، وطول القنوت والسجود، وله أموال عريضة ينفق منها فيما ينفق على قعدة المشايخ وقوام أهل الطريقة وطواف الآفاق من سكان الأماكن المقدسة؛ رجاء أن يغفر الله له ما تقدم من الذنوب، وأن يلحقه بالصالحين من أوليائه، وأما الذي عن يمينه فهو فلان باشا كان عضوا من الأعضاء الكرام، في «مجلس الأحكام»، والذي عن جانبه عالم من جلة العلماء الأعلام، والمشايخ العظام، وأما الجالس عن شماله فهو فلان الفريق الجهادي المشهور في الوقائع والفتوح، والذي بعده هو فلان من كبار المديرين السابقين، وأما الذي تراه في أخريات المجلس فهو فلان التاجر من تجار خان الخليلي.
قال عيسى بن هشام: ولما وقفت من البيطار على معرفة ما عرفنيه نظرت إلى الباشا، فأدركت أنه لا يبغي المبادرة إلى كشف أمره قبل انتهاء الحاضرين من حديثهم، فأنصت مع المنصتين فإذا الفريق الجهادي يقول في اتصال حكايته وروايته:
الفريق :
وكان «جنتمكان» محمد علي باشا الكبير معجزة دهره وآية عصره في الدهاء وعلو الهمة وبعد النظر، وإحكام عقدة التدبير واجتذاب القلوب، وتربية النفوس على الوفاء والأمانة لخدمته، فكان له من الكفاة من خدموه بالصدق وافتدوه بالأرواح، وأذكر منهم المرحوم «محمد بك لاظ أوغلي»، فهو الذي دبر له قطع دابر المماليك في ساعة واحدة، وقد حكى لي المرحوم أخي، وكان حاضرا في تلك الواقعة الهائلة، أن المماليك لما رأوا أن المكيدة في استئصالهم قد استحكم عقدها واشتد رباطها، وأنهم أحيط بهم من كل مكان تقدموا للبحث عن محمد علي في كل حجرة وزاوية من زوايا القصر للفتك به والتخلص منه، فلم يقفوا له على أثر وأعياهم البحث والتنقيب؛ لأن «لاظ أوغلي» أخفاه عنهم شديد الإخفاء، وقام له في ذلك الوقت - إن جاز التشبيه والتمثيل - قيام علي بن أبي طالب مقام الرسول - عليه السلام - ليلة الهجرة.
عضو الأحكام :
نعم وكان المرحوم محمد علي فوق ما يقال وما يتصور في دقة سياسته لتربية الرجال في خدمته، فكانوا كلهم طرازا واحدا في حسن الولاء وجميل الإخلاص، وربما كان يجذب الرجل منهم بكلمة واحدة تطبعه له على الصدق في خدمته طول حياته، ومن ذلك ما حكاه لي صديقنا المرحوم راغب باشا قال: «كنت أقرأ بين يدي المغفور له أوراقا وأنا يومئذ كاتب من كتبة معيته، فدخل علينا سامي باشا في أثناء القراءة، ووقف معنا، فسأله محمد علي عما يريده، فتلعثم تلعثم المتطلع لخروجي حتى ينفرد به فيعرض عليه ما عنده، فقال له: «قل ما عندك في الحال فإني لا أخفي عن «راغب» سرا من أسراري، ولا فرق عندي في المنزلة بين نسلي وذريتي وبين كتبة معيتي.»
Halaman tidak diketahui