فتوجهتُ اليها ودخلتها في ثاني عشري شهر ربيع الاخر، وقرّت العين برؤية احبابها:
كما قرَّ عينًا بالإياب المسافر
وحللتها وان متشوّف اليها ولا تشوّق المحبّ الى لقاء المحبوب، واقمت بها ايامًا " لا يمسّنا فيها نَصَبٌ ولا يَمَسُّنَا فيها لُغُب " وحمدنا الله تعالى ان احلَّنا دارَ الاحباب، واذهب عنا الحَزَن، وجمع شملنا بهم كروحين في بدن. واغتنمنا مصاحبةَ الاخوانِ ايامًا، وقضينا في خدمتهم لياليَ ما كنت الاَّ احلامًا، مرت لنا معهم بلذيذ المصاحبة والمسامرة، ولم يكن عيبها الاَّ انها متقاصرة:
ان اليالي للانام مناهلٌ ... تُطْوَى وَتُنْشَرُدونَها الاعمارُ
فقصارهنَّ مع الهمومِ طَويلةٌ ... وطوالهنَّ مع السرورِ قصارُ
واوقفتهم على ما كتبته في رحلتي صحبةً قاضي القضاة جوي زادَة افندي الى القاهرة المحميّة، وما اودعته فيها من الالفاظ الباقلية، فصادفتْ في سوق فصاحتهم نَفاقًا وسعرا، وشرّفوها من انشائهمبتقاريظ نظمًا ونثرا، ساكتب ان شاء الله تلك التقاريظ مع ما كاتبته لبعضها من الجواب في اواخر الرحلة الرومية اذا الت الى التمام، ليكون ذلك اخر ما يعيه السمعُ منها ويصير ذلك لها حُسْنَ الختام.
ثم اني اقمت في دمشق المحمية ايامًا اديت فيها واجبَ الصلة، واقتضى الحالُ التوجَّهَ الى القضاء لننظر المصالحَ بالعجلة. وصرت لعنان العزم الى جهة القضاء ثانيًا، واتيت الى خدمته لا متساهلًا ولا متوانيًا، واستمرَّيْتُ افصلُ الاحكامَ الشرعية على وجه المسدّد الامحكم، الى خامس شهر شعبان المكرم. وكان في اوائل شهر ربيع الاول لما ورد الخبر بانّ مولانا فخر الموالي المتبحرين محيي الدين افندي معلول زادَة ادام الله تعالى فضله زاد اسعاده، تولَّى قضاء العسكر المنصور، حصل لنا غاية الفرح والسرور، وانشدنا:
ورد البشير بما أَقَرَّ الاعينا ... وشفى النفوسَ فنلن غاياتِ المنى
وتقاسم الناسُ المسرَّةَ بينهم ... قسمًا فكان اجلَّهم قسمًا أنا
وكنا ندعو الله بذلك اناء الليل واطراف النهار، لما لنا من سابق المعرفة والعبوديّة مع جنابه لا زال عاليَ المنار، فان قاضي العسكر السابق لم يكن له معرفة بهذا العبد الفقير، بل كان حاله عنده في مقام التنكير. وأمّا مولانا حفظ الله تعالى جنابّهُ الشريف، فالعبدُ عنده في مرتبة الضمائرِ من مراتب التعريف، خصوصًا وقد كان آخر اجتماعه في طريق مصر بخدمته العليّة، صحبه مولانا جوي زادَة افندي في ذلك المجلس الخاصّ الذي ذكرناه في اوائل الرحلة المصرية. وكام العبد يترجّى في زمنه الترقي الى اسنى المراتب، والترفّل في اعلى المناصب. فلما سمعت بتوليته قلتُ لنفسي: هاليلك قد اقمر، وفجرُكِ قد اسفر. وكتبتُ بعد ايام مكاتبة وعبودية الى رفيع جنابه، وارسلتها مجرَّدة مع بعِض خواصّ أحبابه، أسأل من تفضلاته تبديلَ منصبي بمنصب هو خير، كما هو المأمول من كرمه حفظه الله تعالى من كلَّ سوءٍ وضَيْر، وكنتُ مترقبًا لما يَرِدُ عليَّ من إحسانه أدام الله تعالى فضائله، وكان بقي لي من المدة العرفية قريب من سنة كاملة. فلما كان خامس شعبان المذكور ورد الخبرُ أنه من غير بَدَلٍ وجَّهَ منصب الفقير لرجلٍ جاهل، ومن حُلَى الفضل والفضائل عاطل. فكنت كما قيل:
رفعت إليه أشتكي الجزمَ في الهوى ... واعربت عن نصبي فوقَّعَ لي الخفضا
وأضحيت منه خائب الآمال، وصار كحال أبي المرقال:
أن الغرابَ وكان يمشي مشيةً ... فيما مضى من سالفِ الآجال
حسد القطاةَ فرامَ يمشي مشيها ... فأصابه ضَرْبٌ من العقّال
فأضلَّ مشيتها وأخطأ مشيهُ ... فلذاك كنيته أبو المرقالِ
فتعجبتُ من هذا الفعل غايةَ العجب، حيث لم يكن لذلك أصلٌ ولا سبب، وصرتُ من هذا الأمر اتعجب، ثم حملته على نظائره من تلقي المخاطب بغير ما يترقَّب. وقضيةُ الحجاجِ مع القبعثري قضيةٌ مشهورة، وعند اهل البلاغة معروفةٌ وغير منكورة. فحينئذ كنت في ذلك الدعاء كالباحث عن حتفه بظلفه، والقاطع مارن أنفه بكفهّ. وظهر لي أني أصبت نفسي بسهمي وبذاتي اوهنت عظمي:
قومي همُ قتلوا أميمَ أخي ... فإذا رميتُ يصيبني سهمي
فلئن عفوتث لاعفونء جللًا ... ولئن جنيتُ لاوهنْ عظمي
وصار منّي ضرري ودائي:
1 / 32