فسجدت لله تعالى شكرًا، وحمدته على هذه النعمة الكبرى. ثم ان سيدي محمد المذكور تخلف بعد الفقير في طرابلس المحمية لقضاء الوطر من التنزه والسير، ووعد ان يجبيءَ الينا بعد عشرة ايام لا غير، فمضى له اربعون يومًا وهو مقيمٌفي البلد المذكور، مستغرقٌ في السير والحبور، فكتبتُ له للمبادرةِ بالمجيء مكاتبةً وجهزتها مع الرسول، وضمَّنتها اشياءَ من مصطلحاهل الدخول. واخترعتُ احد ضربي الاستخدام في لفظ النوى على وجهٍ تشكره الاسماع، واوقعته فيه مع تسمية النوع احسنَ ايقاع، صورتها:
يا من سما في سماءِ اللطف فوقَ سِماَ ... كِ الافقِ محيي ذوي الالبابِ بالطَّرب
نَقَّلْ مقامَكَ ايقاعًا على رَمَلِ ... وان تشأ دارجاَ تسعى على خبب
ينهي سلامًا لا يُحَدّ، وثناء لا يعدّ، ويشرحُ ما عنده من الشوق الذي يعجز عن حصره الطوق، ويشكو من نواك الذي يشكوه سَمْعُ اهلِ الذوق، ويستخدمُ في ابلاغ سلامة اليكم نسيمً الصَّبا، وكلما سار ركبٌ من العشاق هام قَلبُهُ اليكم وصبا، ولم يزلْ يذكرُ انسكم في كلَّ مقام، وان سكن ما عنده من الشوقِ تحركه عواملُ الغرام، وانه لا قدرة للمخلصِ على هذا النوى، وبيننا وبينك موعدٌ لن نخلفه نحن ولا انت مكانًا سوى، ولم نزلْ نعلَّلُ النفسَ بعدكم من حينٍ الى حين ولا يخفاكم انّ مدَّةَ الوعدِ كانت عشرًا وقد جاوزت الآن حَدَّ الاربعين. وقد أترسل الفقير اليكم حاملها ليكونَ لكم كارفيق، وعينه ليجيءَ في خدمتكم وعينُهُ نحو الطريق. فانعم يا مولانا بالدارِ، فانَّ ساعاتِ السرورِ قصار، والسلامُ في المبدأ والختام.
ثم ان المشار اليه قدم علينا بعد ايام، وهو ينشدُ في هذا المقام:
كتبتَ اليَّ ترغبوا في حضوري ... وربُّ الفضلِ دعوتُهُ تُجابُ
فقبَّلْتُ الكتابَ وقلتُ طوعًا ... لأمركَ سيدي وأنا الجوابُ
ثم عرضت عوارضُ اقتضت اقامة الفقير في القضاء بعض ايام، وعنده الى حماته ما لا يُحْصَى من الشوق والغرام. فان الفقيرَ لم يبن عنها مثلَ هذه البينونة الكبرى ولم يفارقها مثلَ هذا الفراق، ولم يطلّقها ثلاثة اعوامٍ الاّ هذا الطلاق. ثم اني اقمتُ في القدموس مدة، وراجعتُ حماتي بعداد مضى لي ما يزيد على ثلاث سنين في العِدَّة، ودخلتها في سنة احدى وثمانين في غرّةِ ربيع الثاني، وطربتُ عند هذا الدخول ولا كطرب المثالي، وقرَّتِ العينٌ منّى برؤيةِ حماتي واحبابي، وجَمْعِ شملي باخواني واصحابي، وحمدت الله على طول الاعمار، والتردد الى الآثار، وطويتُ شُقَّة البينِ والقيتُ عصا التسيار:
والقت عصاها واستقرَّ بها النوى ... كما قرَّ عينًا بالايابِ المسافرُ
واقمتُ في المحروسة المذكورة بعضَ ايام، وانا بفرط الاشواقِ الى الاحباب بدمشق الشام:
وانّ امرءًا في بلدةٍ نصفُ قلبِهِ ... ونصفٌ باخرى انه لصبورُ
وكنتُ في ذلك الحال، اتمثَّلُ بقولِ من قال:
أأحببنا واللهِ مذْ غِبتُ عنكمُ ... سهادي سميري والمدامعُ مدْرارُ
والله ما اخترتُ الفراقَ وانما ... برغمٍ ولي من ذلك الامرِ اعتذار
اذا شامَ برقِ الشامِ طرفي تدافَعَتْ ... سحائبُ جفني والفؤادُ به نار
الا ليت شعري هل يعودن شملنا ... جميعًا وتحويلنا ربوعٌ واقطار
ثم غلبني الشوق، وكاد يجذبني الى احبابها بالطوق، ولله درُّ القائل:
لي نحو ربعكِ دائمًا يا جلَّقُ ... شوقٌ اكادُ به جوىً اتمزّق
اشتاقُ منكِ منازلًا لم انسها ... انَّي وقلبي في ربوعك مُوثَقُ
وقفُ عليك لذا التاسفِوالبكا ... قلبي الاسير ودمعُ عيني المطلق
ادمشقُ لابعدت ديارُكِ عن فتىً ... ابدًا اليكِ فوادُهُ يتشوَّقُ
انفقتُ في ديارك ايامَ الصبا ... حبًّا وذاك اعز شيءٍ ينفق
ورحلتُ عنكِ ولي اليكِ تلفُّتٌ ... ولكلِّ جَمْعٍ صدْعَةٌ وتفرق
فاعتضتُ عن أُنسي بظلكِ وحشةً ... منهاغ وَهي جَلَدي وشابَ المفرق
فلبستُ ثوبَ الشيبِ وهو مُشَهَّرٌ ... ونزعتُ توبَ الشرخِ وهو مُعَتق
ولكم اسكِّنُ عنكِ قلبًا طامعًا ... بوعودِ قربك وهو شوقًا يخفق
ولكم احدّثُ عنكِ من لياقَتُهُ ... وجميعوا من سمع الحديثَ يُصَدِّقُ
1 / 31