هذا، ثم أقمت في مصر المحمية إلى أواسط شهر رمضان المعظم قدره، وبرزت الأوامر الشريفة بعمارة قلعة في القصير. فأمرني حضرة الباشا بسرعة التوجّه إلى القضاء، فلزم أن يطاع أمره، فودّعنا قاضي القضاة - لا زال وابل انعامه صيّبا - وتيممنا عند ذلك " صعيدًا طيبًا "، ووصلنا إلى محمية قنا في سادس عشري الشهر المذكور، وهو نظير اليوم الذي وصلنا فيه إلى مصر في سنة ثمان، فيكون ما بين دخولنا إلى مصر وقنا عامًا كاملًا بلا زيادة ولا نقصان. فلما كان أواسط شهر ذي القعدة الحرام ورد الخبر بأنّ مولانا قاضي تولَّى قضاءَ محمّية بروسة وكان في تلك الأيام ورد على العبد حكم بتحرير الرزق في بلاد الصعيد فلم يبلغه الخبر إلاّ بعد توجّه ذاته المأنوسة، ولم يمكنه المجيء لوداع حضرته الكريمة لا برحتْ عاليةَ المنار، وشقَّ علينا بعد جنابه الشريف عن هذه الديار. وكان إذ ذاك صاحبنا فخر القضاة المدققين، مولانا القاضي تقي الدين، عيّن من جانب الباشا إلى قضاء دجرجا لجمع الغلال، وبينها وبين قضائنا يوم أو بعض يوم لمبتغي الترحال، فأرسل لنا مكاتبةً شريفةً، ومراسلةً بديعة لطيفة، ذكر فيها ما عبارته: وأما قُطْبُ فَلَكِ الوجود، ونيّر ذرى معاقدِ السعود، مولانا أفندي قاضي بروسا لا زال عالي المقام. فأن الفقير فارقه وهو يتلو عليكم رسائل التحيات المعطرة، ووسائلَ التسليمات المعنبرة، بلّغه الله تعالى أقصى الآمال، وخلَّد أيام سعادته ما دامت الليالي والأيام، انتهى.
ثم إن هذا العبد بَعْدَ جناب مولانا قاضي القضاة " ضاقت عليه الأرضُ بما رحبت " وعاين " سوط عذاب " طعمُ الصبرِ أطيبُ منه وأعذب:
ولو لم يكنْ في مصرَ ما سِرْتُ نحوها ... بقلبش المشوقِ المستهامِ المتَيَّمِ
لاسيما إذا تذكر تلك الأوقات التي مضت في التمتع بمشاهدة ذاته العلية الشان، وما مرَّ له من حلاوة العيش في غضون تلك الليالي التي خطفناهن من ايدي الزمان:
وكانت بالعراق لنا ليالٍ ... خطفناهُن من أيدي الزمان
جعلناهن تاريخَ الليالي ... وعنوانَ المسَّرةِ والأمانِ
ولعمري إن هذه الليالي هي المعنية بقول الشاعر:
واهًا لها من ليال لوٍ تعودُ كما ... كانت وأيّ ليالٍ عاد ماضيها
لم أنسها مذ نأتْ عنِّي ببهجتها ... وأيُّ أنسٍ من الأيام ينسيها
وبينما العبد يتجرّع غُصَصَ الفراق بعد بُعْدِ جنابه، ويتمنى القربَ إلى الأوطان وينشد تشوقًا إلى أحبابه:
يا جيرةَ الشامِ هل من نحوكم خبرُ ... فإن قلبي بنار الشوقِ يستعرُ
بعدتُ عنكم فلا والله بعدكمُ ... ما لذَّ للعين لا نومٌ ولا سهر
إذا تذكرتُ أوقاتًا نأت ومضتُ ... بقربكم كادتِ الأحشاءُ تنفطر
كأنني لم أكن بالنيربي ضحىً ... والغيمُ يبكي ومنه يضحكُ الزَّهَر
والورقُ تنشدُ والأغصانُ راقصةٌ ... والدوحُ يطربُ بالتصفيقِ والزهر
والسفح أين عشيّاتي التي ذهبتْ ... لي فيه فهيَ لعمري عنديَ العمر
سقاك يا سفحُ سفحُ العين منهملًا ... وقلَّ ذاك له أن أعوزَ المطر
إذا ألقي إليه من حضرة قاضي العساكر المنصورة كتابٌ كريم بتبديل قضاء أسنا وابريم فأنشدت عند ذلك:
ربَّ يومِ بكيتُ منه فلمَّا ... صرتُ في غيرهِ بكيتث عليه
واشتد به حينئذٍ التذكارث والحنين إلى الأوطان، وتضاعف ما عنده من الشوق إلى الأحباب والأخوان، وتمثل بقول القائل:
من السعادة أن لا تبعدَ الدارُ ... وأن يَبُلَّ غليلَ الشوق تذكار
ليت المنازلَ بالجرعاءِ دانيةٌ ... منّا وذاك الذي نهوى لنا جار
ثم أرسل العبد إلى مولانا قاضي القضاة لابَرِحَ مرفوعَ الجناب، ليرتِّبَ المقدمات في تبديل منصبه بمنصب قريبِ من الأحباب، لا زالت سواكنُ الآمالِ متحركةً بعوائد صلاته، جازمةً بحصول روائع احسانه وهباته، وكتبت رسائل الأشواق إلى حضرته السعيدة، وأودعت في صدرها هذه القصيدة، صورتها:
ما مصرُ بعدك منزلًا يُستَطْيَبُ ... يا مطلبًا ما لي سواهُ مَطْلَبُ
أضحى لها من بعد أُنْسِكَ وحشيةٌ ... ولقد علاها من فراقِكَ غَيْهَبُ
ورياضها حلفت يمينًا أنها ... مذ فات فَيْضُ نداكمُ لا تُعْشَبُ
1 / 27