مستقبل الأدب
نشرت سنة ١٩٤٧
تزدحم المساجد قبيل الامتحان بجماعات الطلاب، يتحلقون فيها حلقًا، يطالعون ويقرؤون، وقد مررت مرة بحلقة فيها نفر فهمت من كلامهم أنهم من طلبة العربية والأدب، في المدارس العالية، فقعدت قريبًا منهم أستمع إليهم، وكان واحد منهم يقرأ في كتاب، فما رأيته سلمتْ له خمسةُ أسطر متتابعات، وما مرّ على خمسة أسطر إلا رفع فيها منخفضًا، وخفض مرتفعًا وحرف الكلم عن مواضعها، وأزالها عن منازلها، ولم يدع لغويًا ولا نحويًا ولا عالمًا بالعربية من لَدُنْ أبي عمرو إلى الأشموني، إلا نبش قبره وبعثر عظمه، ولعن بجهله أباه وأمه، أما الطلاب الحاضرون فكان منهم من يتنبه لِلحنة الظاهرة، فيردّه عنها، ويغفل عن الخفية، وسائرهم (١) في عمى عن ظاهرها وخفيها، ودقيقها وجليلها، فضاق صدري، حتى خفت أن يتفجر بغضبة للعربية، لا أدري ما عاقبتها فحملت نعلي وخرجت هاربًا أسعى.
وذهبت فسألت المدرسين فعلمت أن هذا القارىء ليس بدعًا في الطلاب وليس المتفرد في هذه (العبقرية) في الجهل، وهذا (التبريز ...) فيه، وإنما هو النموذج الصادق لأكثر طلاب المدارس في هذه الأيام، واجتمعت بعد ذلك بكثير من طلاب المدارس العالية، فما كدت أجد في أكثرهم من يشبه أو يداني أصحابنا يوم كنا في أوائل الدراسة الثانوية، لا أقول هذا فخرًا بأصحابنا، ولكن تذكرة لهؤلاء، وحثًا لهم على الجد في طلب العلم، وبيانًا لما هبطوا إليه، وما رضوه لأنفسهم من ترك العلم اعتمادًا على شهادات ينالونها، أو كراسي يركبونها،
_________
(١) سائرهم أي باقيهم.
1 / 33