نعم، إننا ننتقل إلى حضارة جديدة، قائمة على أسس جديدة، لم نعلم من حقيقتها وطبيعتها إلا البشائر والطلائع، ومن أراد صورة مفصلة بعض الشيء عن تلك البشائر والطلائع، فليقرأ كتابا ممتازا في ذلك أصدره الأستاذ الدكتور حازم الببلاوي بعنوان «على أبواب عصر جديد»، وفي اجتيازنا لهذه المرحلة الانتقالية بين الحضارتين، لا مندوحة لنا - في مصر وغير مصر من سائر أقطار الأرض - عن التخبط في الطريق؛ إذ انبهمت أمامنا الفواصل بين الصواب والخطأ في كل الميادين، وإلا فمن منا يستطيع القول وهو موقن بما يقوله: ما هو أفضل نظام للحكم؟ ما هو أفضل نظام في دنيا الاقتصاد؟ ما هو أفضل نظام للتعليم؟ وهكذا يمكنك المضي بأسئلة كهذه عن كل وجه من وجوه الحياة الإنسانية، فإذا بك أمام عشرات الإجابات المتضاربة، والسبب واضح، وهو أن الإنسان لم يعرف بعد طبيعة العصر الذي نحن في حالة انتقال إليه، فكأننا نعيش على تجارب نجريها كل يوم تفشل تجربة فنجرب أخرى.
في هذا الضباب الحضاري - ويلحق به ضباب ثقافي - تشارك مصر بقية العالم، لكنها تعود فتنفرد وحدها بظروف جديدة خاصة بها، لا أقول إنها ظروف تضيف إلى الضباب ضبابا أكثف، بل هي ظروف فعلت بنا أكثر من ذلك؛ لأنها مالت بنا نحو أن نترك المسيرة الحضارية بضبابها وصفائها، لننكص على أعقابنا قافلين إلى مولد التاريخ.
ثم لم تكفنا تلك الردة الحضارية العامة، فزدناها تخليطا وعسرا، بأن أقمنا أمام الأبصار نموذجا جديدا للإنسان الناجح في حياته (والنجاح في قاموسنا القومي معناه منصب كبير أو مال كثير) ويتلخص ذلك النموذج الجديد في برنامج سهل على من اتسعت حيلته، وهو برنامج شعاره: أكبر ناتج ممكن، بأقل جهد ممكن، فلم يعد النجاح مكفولا لمن يحملون الأثقال، ويحطمون الصخر، ويلهثون وتتفصد أجسادهم عرقا، لا، فتلك صور من الماضي، حين كان الخبراء الحكماء يضحكون على الأبناء بقولهم: من طلب العلا سهر الليالي، أو ربما بقيت تلك الحكمة الخالدة، مع تغيير في مضمون كلمة واحدة من كلماتها، هي كلمة «سهر» وكان الذي أوحى بالشعار الجديد، أمثلة لا تعد ولا تحصى، لأفراد بلغوا ذروة الجاه، إذا قيس الجاه بالمناصب ونفوذها، أو بلغوا ذروة من الثراء لم يكن أحد يسمع قبل اليوم بمثلها، فثراء المصري حتى الأمس القريب، كان يقاس بعشرات الألوف أو بمئاتها، أما لغة الملايين فلم تكن معروفة في اللغة العربية بأسرها، فالألف هو أقصى ما استعدت له لغتنا باسم خاص، لا بل إن «الملايين» الدخيلة على حياتنا، قد كثرت حتى أهينت، فاختير لها اسم الأرانب.
وإذا لم يكن العمل المنتج هو الذي يصل بصاحبه إلى «النجاح» بالمعنى الذي نعرفه له، وهو مناصب النفوذ والثراء، فما هي الوسيلة في ظل الشعار الجديد؟ إنها وسيلة غاية في البساطة، تتلخص في: الكلمة المناسبة، تقولها في اللحظة المناسبة، للشخص المناسب، فإذا وفقت في ذلك، وجدت نفسك بين غمضة عين وانتباهتها، صاحب النفوذ الذي يهيمن ويسيطر ويكسب المال، وما دام هذا هو النموذج القائم أمام الأبصار، فلا بديل أمام الشباب الساعي إلى حياة ناجحة (بمعنى النجاح في قاموسنا القومي) سوى أن يتجه بمعظم جهده لا نحو مزيد من كد وكدح وعناء في دنيا العمل، بل إلى البحث عن تلك «المناسبات الثلاث» التي هي: الكلمة المناسبة، في اللحظة المناسبة، للشخص المناسب، وهو طريق يؤدي بنا حتما إلى اختلال العدالة من جهة، وإلى ضعف الإنتاج (المادي والعلمي) من جهة أخرى، أما اختلال العدل، فلأن من لا يستحق ستكون له السيادة على من يستحق، وأما ضعف الإنتاج بكل أنواعه، فلأن الزمام حين تمسك به أيد غير قادرة، ضلت سواء السبيل، وأضلت، ثم هي فوق ذلك تحدث في نفوس العاملين مرارة ويأسا واستهتارا وتراخيا.
كان ذلك أو ما يشبهه هو ما كنت أقدمه جوابا على السؤال المطروح، الذي نسأل به: ماذا أصابنا؟ وهل يمكن أن نعود بالمصري إلى حيث كان. لكنني - في الحق - حين كنت أقول شيئا كهذا، لم أكن أخلو من قلق باطني؛ لأنني لم أكن أجده قولا يشمل فئات الشعب جميعا، فهنالك ملايين ممن لا يزالون يعملون «مصريين» كما كانوا، أو «مصريات» كما كن، فانظر إلى المرأة المصرية، زوجة وأما، سواء أكانت في الريف أم كانت في المدينة، وقل لي كم منهن قد انحرفن عن الجادة بمغريات المناصب والثراء. إن الأم المصرية في رعاية أبنائها لا تعرف إلا شيئا واحدا، هو التضحية بكل ما يتعلق بشخصها في سبيل أطفالها ، وإذا قصرت في التماس الطرق الصحيحة لقصور في تعليمها ودرجة وعيها، فليس الذنب ذنبها، ولا هو وليد الظروف الجديدة بشعارها الجديد، ونسبة ضخمة من الرجال العاملين، لا يزالون على إخلاصهم المعهود، وإذن فلعلها فئة لا تبلغ ربع السكان، هي التي أصابها السوء، ومع ذلك فهي حقيقة لا ريب فيها، سواء أكان السوء مقتصرا على الربع أو ينقص عن ذلك أو يزيد، وتلك الحقيقة هي أننا نشعر جميعا بأن مناخا جديدا يسودنا في حياتنا، هو ذلك الذي أشرنا إليه، فما يزال السؤال قائما: لماذا؟ وكيف؟
وخطرت لي خاطرة، مرت كلمعة البرق حتى كادت تفلت وتختفي مع أنها خاطرة تحمل إلي فكرة جديدة، تزيل عني كثيرا من القلق الذي كان ينتابني كلما أجبت بإجابتي تلك عن السؤال المطروح، لشعوري الغامض بأنها إجابة ناقصة، وخلاصة الفكرة الجديدة، هي أن المصري في هذه المرحلة الزمنية من حياته قد أصابه انقسام فصل جانب «الفرد» من كيانه عن جانب «المواطن»، وكان الناتج هو أنه ظل كما كان دائما «فردا» يتميز بما يتميز به من حسنات، لكنه أصيب في جانب «المواطن» من شخصيته، فلم يعد ذلك المواطن الصالح الذي كان، ومعنى هذا التحليل هو أن موضع الشكوى لا يشمل «المصري» بكل وجوده، بل يشمل المصري بجزء من ذلك الوجود، وهو الجزء الذي «يواطن» به الآخرين من أبناء الوطن الواحد.
انظر إلى المصريين «أفرادا» في حياتهم الخاصة، بين ذويهم ومع أصدقائهم، تجدهم كما تريد لهم أن يكونوا، وكعهدك بهم، أوفياء متعاونين يخلصون الود ويصدقون النصيحة، ثم انظر إلى كثرة منهم في ميادين العمل والتعامل، تجدهم قد تهاونوا فيما عرفوا به من صفات من تواد وتراحم وتعاون وإخلاص؛ العامل يريد الأجر الفادح بلا عمل، والزميل يراوغ ويخادع، لا يزال المصريون على امتلائهم بالقيم المصرية الأصيلة وهم فرادى، أعني وهم في دنياهم الخاصة، لكنهم في «المواطنة» قد أصبحوا وكأنهم أعجاز نخل خاوية، أو قل في اختصار: إن المصري في حياته الراهنة «صادق» وهو فرد، «كاذب» وهو مواطن.
فإذا أجريت الحديث بلغة النقد الفني، قلت إن قصيدة الشعر التي كانت محكمة البناء مبنى ومعنى ووزنا وقافية (والقصيدة هنا رمز للمجتمع المصري) قد انهار بناؤها، وفصلت الشكل عن مضمونه، حتى أصبحت مجموعة مفردات وجمل لا نجد الوحدة العضوية التي تربطها معا في وجود مشترك. هنا همست لنفسي: إننا لو عرفنا متى يكون الشاعر «صادقا» عرفنا بالتالي متى يصدق المصري، لا في حياته الخاصة فحسب، بل كذلك في حياته التي يجتمع بها مع سائر الأفراد، وأحسب أننا لا نبعد عن الصواب إذا قلنا إن الغاية التي يتعلق بها الشعر ويتعلق بها الأدب بصفة عامة هي «الإنسان»، فالشاعر في حقيقته كشاف لطبيعة الإنسان التي قد تخفى عن العين العابرة، وحتى حين يتعلق الشاعر بالطبيعة الجامدة، كالجبل، والنهر، وأنجم السماء، فهو لا يتركها جمادا كما هي بل يبث فيها حياة مثل حياته، ليبادلها الحديث، وليضفي عليها مشاعره وكأنها من الأناسي، حتى إذا ما تكاملت للشاعر العلاقة العاطفية التي تربطه بما حوله، كان مطالبا بالصدق في التعبير، وليس الصدق المقصود هنا هو الصدق العلمي الذي يحلل الشيء الواقعي إلى مقوماته وتفاعلاته الحقيقية كما تقع في دنيا الأشياء، بل المطلوب هو صدق التعبير عما يجده في نفسه فعلا إزاء ما يجعله محورا لشعره.
فهنالك ثلاثة مواقف مختلفة نحو أي شيء نريد التحدث عنه، وليكن هو «النيل» مثلا، الموقف الأول هو موقف الجغرافي الذي يصف المجرى والمنبع والمصب وكمية الماء والبلدان التي يمر عليها ... إلخ ... إلخ، وهذا هو موقف «العلم»، والموقف الثاني هو موقف الشاعر الرديء الذي تراه ينعت النهر بأي صفة يراها هو جذابة، إلا أن يقول عنه إنه نهر وفيه ماء، فقد يقول عنه إنه عسل أو لبن، يجري على أرض من زمرد وعقيق، فكل ما هو في الأسواق أغلى ثمنا من الطين والماء، يكون عند الشاعر الضعيف الكاذب، أجدر بأن يصف به نهر النيل، من أن يصفه بما هو على حقيقته من حيث هو ماء يجري على أرض من صخر وتراب. وأما الموقف الثالث فهو موقف الشاعر الجيد الصادق، فالنيل أمامه مجرى ماء ينساب على الأرض، لكنه - كأي شاعر حق - لا يدعه جمادا مواتا، بل يؤنسنه، أعني أنه ينفخ فيه من خياله حياة الإنسان، ليحبه أو ليكرهه، ليزامله أو لينفر منه، أي إنه يصل نفسه به بروابط مشاعره الحقيقية نحوه.
ولسنا نقول عن الشعر الجيد الصادق، ولا عن أي فن من الفنون على إطلاقها، شيئا كثيرا، إذ نحن لم نذكر شرطا أساسيا جوهريا لا يكون الفن فنا بغيره، ولا الأدب أدبا بغيره، ألا وهو «الصورة» أو «الشكل» أو «الإطار» أو «القالب» الذي يقيمه الفنان أو الأديب ليضع بين جدرانه وحول دعائمه ما يريد أن يقوله.
Halaman tidak diketahui