فإذا كان ما نطلبه من الدولة قوانين رادعة تزجر أصحاب الضمير الميت، فالقوانين هناك، ولكنها - كما قال شكسبير على لسان «الأمير» في مسرحية «دقة بدقة» - كالليث الهرم، رابضا في عرينه، لا يبرحه في سبيل صيده، ومع ذلك فالقانون لا يغني عن الضمير؛ فالإنسان بالقانون «يخشى» ولكنه بالضمير «يختشي»؛ القانون صوت زاجر يأتي إلى الإنسان من خارجه وأما الضمير فصوت زاجر من الداخل، القانون يفرض نفسه على الإنسان فرضا، بقوة الشرطة والتهديد بالسجن أو التغريم؛ فأما الضمير فينبع تشريعه من نبع باطني في الإنسان نفسه، وعقابه عذاب التأنيب، وثوابه الطمأنينة بالرضا، الإنسان أمام ضواغط القانون هو كالجماد أو الحيوان أمام ضواغط السنن التي خلقت عليها، وأما أمام الضمير وأوامره فالإنسان ينفرد في الكون سيدا يرتفع إلى رتبة الملائكة، ومع ذلك كله، فما أكثر ما يجد الإنسان في قوانين الدولة ثغرات للمراوغة والهرب، وأما الضمير إذا رصد صاحبه، فأين منه الفرار والنجاة؟ ونشدتك الله يا صاحبي مرة ثالثة، لا تلق بهمومنا على «الظروف»! إن حفر الطريق، وما ألقي على قارعته من أكوام الحديد والرمل والزلط، ليست مبررا للكفر بالوطن، لأن الوطن - وأقولها وأعيدها - هو أنت وأنا وهم وهن، الوطن هو نحن، وهل يكفر الإنسان بنفسه ثم يحق له أن يعيش؟ لا، يا صاحبي، إننا نعيب زماننا والعيب فينا، كما قال أبو العلاء، وليس الخطأ، أي عزيزي بروتس كائنا في طوالع نجومنا، بل الخطأ كامن في جوانحنا. كما قال شكسبير أيضا في مسرحية «يوليوس قيصر».
عد ببصرك إلى السطرين الأخيرين من المقطوعة التي نقلتها إليك من «دقة بدقة»، تجد شكسبير يفتح أعيننا على حقيقة هامة، وهي أن «العدالة» أصل، و«الحرية» فرع من فروعها، فإذا قامت قائمة العدالة - كما قال - شدت وراءها الحرية شدا رغم أنفها، وذلك صحيح وواضح لو تأملت قليلا؛ لأن العدالة أيا ما كان معناها (ويمكن فهمها بمعان كثيرة) تتضمن وجود «الآخر»، وإلا فبين من تقيم التعادل الذي يوازن بين شتى الأطراف؟ إن «العدل» هو اسم من أسماء الله الحسنى، وهو الذي يتضمن معنى التوازن بين قوى الكون التي كانت لتصطرع ويهدم بعضها بعضا لولا أن «العدل» سبحانه وتعالى يقيم لها موازينها، وما دامت العدالة تتضمن وجود «الآخر» فإن الحرية بعد ذلك إذا ما ظفر بها الإنسان، كانت حرية مقيدة بوجود الآخرين، ولقد قلت في مناسبة أخرى، إن العلة التي ينتهي إليها التحليل آخر المطاف، والتي تفسر ما أصابنا، وأصاب العالم كله بدرجات، هو أن كلا منا يتصرف وكأنه وحده في هذا البلد الكريم، وكأنه ليس إلى جانبه «آخرون»، واللحظة التي يتبين وجود الآخرين معه، هي نفسها اللحظة التي تقام فيها دعائم العدالة، ثم هي اللحظة كذلك التي يستقيم له فيها ضمير، ويصدق هذا القول على مستوى الأفراد داخل الوطن الواحد، وعلى الدول داخل العالم الواحد، على حد سواء.
إن تسلسل الحلقات يجري هكذا: عدل، فقانون وشرع، فضمير ينعكس على مرآته القانون والشرع، وبهذا الاتساق يسير الإنسان - أنى سار - وفي صدره محكمة، إنه يسير وفي صدره الرقيب والقاضي، وأما إذا تحطمت في أنفسنا تلك المرآة التي تعكس لنا على سطحها القوانين والشرائع ، غامت الرؤية أمام أبصارنا، واختلط علينا الأمر بين حق وباطل، فإذا ما اهتدينا إلى الحق فبالمصادفة نهتدي، وإذا أضلنا الباطل فبالمصادفة نضل، لا، بل إنه إذا تحطمت في أنفسنا مرآة الضمير، تحطمت معها الوحدة التي تجعل كلا منا فردا متماسك الشخصية، تماسكا يجعل سلوكه مطردا على نسق واحد، ويجعل من يعاملونه على بينة من حقيقة أمره، فيصبح كل شيء ممكنا، فلا يدري أحد بماذا يفاجئه هذا الشخص أو ذاك، وهذا الشيء أو ذاك، ولا غرابة إن لعبت هذه الفوضى بخيال السابقين، فتصوروا للجن خاتما، إذا وجدناه وحككناه على نحو أو على آخر، قدمت لنا الدنيا كل ما نريده، وتختفي كل الفوارق بين الجائز والمستحيل.
وإنه ليبدو لي أن اللحظة التي ولد فيها «الضمير» لآدم - عليه السلام - ولبنيه من بعده - هي اللحظة التي عصى فيها ربه هو وزوجه، فأكلا من الشجرة المحرمة، استجابة لوسواس الشيطان هاتفا: ... يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ؟
فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى .
وطرد مع الإنسان ضميره يفرق له بين الحق والباطل، مستلهما في ذلك الشرع والقانون اللهم إلا إذا تنكبت به الطريق فطغى عليه عصر غام فيه الأمر على ذلك الضمير فغاب.
أعجاز نخل خاوية
قلتها يوما، وأقولها اليوم مرة أخرى، وهي أن مصر في مرحلتها التاريخية الراهنة، ليست هي مصر التي عرفها التاريخ في معظم مراحله؛ كلا، ولا هي مصر التي سوف تكون - بإذن الله - بعد حين لن يطول؛ إذ هي في عصر يتوسط بها بين مصرين: مصر التي عهدناها، ومصر التي سوف نحياها، وحديثي هنا ثقافي حضاري قبل أي شيء آخر، فقد كانت مصر - من هذه الناحية - مثلا رائعا للبلد الذي يعرف كيف يحافظ على الأصول ويغير في الفروع، فقد لبثت مصر هي مصر دائما، دون أن يحول ذلك بينها وبين أن تنضو عن نفسها حضارة ذهب زمانها، لترتدي ثوب حضارة جديدة، ومع الحضارة تأتي ثقافة، أو مع الثقافة تأتي حضارة - إذا شئت - فالعلاقة بينهما هي علاقة الجسد والروح التي تحل فيه: الحضارة مجسدات والثقافة قيم وأذواق تسري في عروقها.
فما فرغت مصر من عصرها الأول، الذي كانت فيه مبدعة الحضارة لنفسها ولغيرها، حتى أخذت حضارات أخرى تتوالى عليها، فلا تكاد تتلقى حضارة منها حتى تمسك بزمامها وتنزل منها منزل الصدارة، وهذا هو جانب من معنى عبارة نرددها بحق وصدق، إذ نقول عن مصر إنها «مقبرة الغزاة»، فهؤلاء الغزاة ومعهم غزواتهم، يفنون في أرضها، لتحيا هي، وسر ذلك هو أن الغزوات غالبا ما كانت حاملات لحضارات استحدثت، فتصادف في المصري إنسانا واثقا بنفسه وبتاريخه، فيأخذ ما يتلقاه، ويتمثله، وسرعان ما يبرع فيه حتى ليحتل منه مكان الريادة، كالذي حدث في حالات اليونانية والرومانية والمسيحية والإسلامية، وكالذي أوشك أن يحدث شيء منه أمام الحضارة الحديثة وثقافتها، لولا نكسة انتكسناها، فولينا وجوهنا - من الذعر - نحو ظهورنا، وكأننا هممنا أن نجعل سيرنا إلى الوراء.
والسؤال مطروح أمامنا جميعا، نسأل به: ماذا أصابنا؟ وهل يمكن أن نعود بالمصري إلى حيث كان؟ إنه سؤال طرحته هيئات علمية، وطرحه أفراد، وحاول الجميع - مخلصين - أن يجدوا الجواب، وكان السؤال يوضع - عادة - في هذه العبارة: كيف نحقق إعادة بناء الإنسان المصري؟ وهي عبارة تتضمن أن خللا ما قد أصاب بناء المصري في شخصيته، فما هو؟ وكيف نعالجه ليعود المصري سيرته الأولى؟ وكنت بين من حاولوا الإجابة أكثر من مرة، في أكثر من مناسبة وكانت الإجابة في كل مرة تدور حول محور أساسي، هو أن مصر تجتاز اليوم مرحلة، هي نفسها المرحلة التي يجتازها العالم كله، فتتعرض خلالها لما يتعرض له العالم كله، من جهة، ثم تنفرد وحدها بظروف خاصة بها، من جهة أخرى، فأما الجانب الذي تشارك فيه سائر أقطار الأرض، متقدمها ومتخلفها على السواء، فهو ذلك القلق الذي يسببه السير في طريق مجهول، فعصرنا هذا - منذ ختام الحرب العالمية الثانية بصفة خاصة - هو عصر انتقال بين حضارتين، عرفنا إحداهما؛ لأنها هي التي سادت الدنيا خلال القرن الماضي وأوائل هذا القرن، وأما الحضارة الأخرى التي ننتقل إليها فلا نعرف عنها إلا بشائر ومقدمات، لكن تفصيلاتها لم تزل مجهولة، انتقلنا من حضارة انعقدت فيها السيادة بلا منازع، للرجل الأبيض الأوروبي والأمريكي، إلى حضارة بدأت كتابها بصفحة جديدة من حيث تلك السيادة اللونية، ولم يعد أحد يجادل الآن في إزالة الفوارق بين الألوان، اللهم إلا أن تكون تلك الفوارق مكتومة في الصدور، ونتج عن هذه الثورة اللونية ثورة أخرى حققت الحرية للشعوب الملونة وغير الملونة، التي كانت مغلوبة على أمرها، وأصبح الجميع سواسية في عضوية الأمم المتحدة، اللهم إلا بقية هامة ما زالت باقية في امتياز للدول الكبرى في مجلس الأمن، وانتقلنا من حضارة تصنع الآلة ليستخدمها الإنسان في النقل وفي الانتقال، وفي الصناعة والزراعة والحرب ... إلخ، إلى حضارة أخرى تصنع آلات أمهات تلدن آلات، وكان بين «الفراخ» المتولدة ما حقق المذهلات، وماذا تقول في أجهزة تقوم بمعظم ما كان يتميز به العقل البشري دون سائر كائنات الأرض والسماء؟ ثم ماذا تقول في أجهزة تغزو أجواز الفلك؟ لقد كان بعض المشتغلين بالفكر الفلسفي (في بريطانيا على وجه الخصوص) إلى عهد قريب جدا، إذا ما تناولوا موضوع «الممكن» و«المستحيل» ليروا خصائص كل من الحالتين، يضربون أمثلة لما هو مستحيل، كان منها رؤية الإنسان للوجه الآخر من القمر، إذ من المعلوم أن القمر يواجه الأرض بأحد نصفيه دون نصفه الآخر الذي يظل دائما مختفيا عن الأرض وسكانها، ولم يكن يخطر لأحد منهم أن الإنسان على وشك أن يدور بمركبته حول القمر نفسه - فضلا عن نزوله ليطأه بقدميه - فيرى بعينيه ذلك النصف الذي كان خافيا عن أبصارنا منذ كان في العالمين قمر وأبصار.
Halaman tidak diketahui