صلى الله عليه وسلم
يقول: «ينبغي أن نزيد في مسجدنا.» ما زدت.
ودعا عمر كل من كان له إلى جوار المسجد دار فقال لهم: اختاروا مني بين ثلاث خصال: إما البيع فأثمن، وإما الهدية فأشكر، وإما الصدقة على مسجد رسول الله، فأجاب الناس، وكان للعباس بن عبد المطلب دار عن يمين المسجد، فلما خيره عمر بين هذه الخصال الثلاث رفض أن يجيبه إلى شيء منها، قال عمر: إذن أهدمها، قال العباس: ما لك ذلك، فاحتكما إلى أبي بن كعب وانطلقا إليه فقصا عليه القصة، فقال لهما: إن شئتما حدثتكما بحديث عن رسول الله، وذكر أنه سمعه
صلى الله عليه وسلم
يقول: «إن الله أوحى إلى داود أن ابن لي بيتا أذكر فيه، فخط داود خطة بيت المقدس، فإذا تربيعها ببيت رجل من بني إسرائيل، فسأله داود أن يبيعه إياها فأبى، فحدثت داود نفسه أن يأخذها، فأوحى الله إليه أن يا داود أمرتك أن تبني لي بيتا أذكر فيه فأردت أن تدخل في بيتي الغصب وليس من شأني الغصب، إن عقوبتك ألا تبنيه، قال: يا رب فمن ولدي؟ قال: فمن ولدك، وبناه سليمان بن داود.» فلما سمع عمر حديث أبي أخذ بمجامعه وسار به حتى دخل المسجد فوقفه على حلقة من أصحاب رسول الله فناشد أبي الحاضرين أن يذكر منهم من سمع هذا الحديث، فشهد بعضهم أنه سمعه، فأرسل عمر أبيا؛ فالتفت إليه وقال : يا عمر! أتتهمني على حديث رسول الله؟ قال عمر: والله يا أبا المنذر ما اتهمتك، ولكني أردت أن يكون الحديث عن رسول الله ظاهرا، وقال للعباس: اذهب فلا أعرض لك في دارك، قال العباس: أما إذ قلت فإني قد تصدقت بها على المسلمين أوسع عليهم في مسجدهم، فأما وأنت تخاصمني فلا، وبنى له عمر دارا بدلها من بيت مال المسلمين.
بدأ عمر توسيع المسجد في السنة السابعة عشرة للهجرة، فزاد فيه خمسة أمتار من الناحية الجنوبية ونقل القبلة إليها، وزاد نحو ذلك من الناحية الغربية، وزاد خمسة عشر مترا من الناحية الشمالية، ولم يزد شيئا من الناحية الشرقية، إذ كانت بها بيوت أمهات المؤمنين، وكن ما يزلن يقمن فيها، وفي بيت عائشة منها كان قبرا النبي وأبي بكر، وقد دخلت دار أبي بكر في هذه الزيادة لوقوعها في ناحية المسجد الغربية، ويقال: إن هذه الدار خرجت من ملك أبي بكر في حياته حين احتاج إلى شيء يعطيه بعض من وفد عليه فباعها حفصة بنت عمر أم المؤمنين بأربعة آلاف درهم، وإن جزءا منها أدخل في زيادة المسجد أيام عمر، وأدخل جزء منها في زيادة عثمان.
لم يحدث عمر حين أنشأ هذه الزيادة في عمارة المسجد أكثر من أنه زاد في رقعته وزاد في عدد أبوابه، فقد بنى الجدر كما بناها رسول الله من قبله، جعل الأساس من الحجارة، وما فوقه من اللبن، والعمد من الخشب، والسقف من الجريد، وجعل للمسجد ستة أبواب: اثنين منها في الجهة الغربية يحاذيان باب الرحمة وباب السلام الحاليين، واثنين في الجهة الشرقية يحاذيان باب جبريل وباب النساء، وبابين في الجهة الشمالية غيرا من بعد في الزيادات التي حدثت.
لم يكن بناء عمر المسجد على هذا النحو حرصا منه على احتذاء سنة الرسول في العمارة وكفى؛ بل كان كذلك لأن الفكرة في فن العمارة عند هؤلاء العرب الصميمين كانت مستمدة من الحاجة أكثر مما كانت مستمدة من المتانة أو الزخرف، وحاجة هؤلاء المسلمين الأولين كانت إلى سعة المسجد كي يجمعهم للصلاة، فلم يكن يدور بخلد عمر أمر وراء ذلك.
هذا، ثم إن الصلاة عندهم كانت توجها خالصا إلى الله يطهر الإنسان له بالوضوء ويأخذ زينته عند كل مسجد، من غير أن يجعل منه وسيلة تأنق أو سبيلا إلى فخر أو كبرياء؛ لذلك لم يكن الزخرف معروفا في العمارة العربية قبل الإسلام ولا في الصدر الأول منه، كان بناء الكعبة قبل عهد النبي وقبل بعثه أبسط صورة للبناء، وكان مسجد النبي بالمدينة كما كانت مساكنه ومساكن المسلمين جامعة إلى النظافة التقشف، وإلى الطهر الرغبة عن الحياة الدنيا وباطل غرورها، فإذا كان الفتح الإسلامي قد امتد في عهد عمر وكانت غنائم المسلمين قد ملأت بيت المال بما سهل معه بناء بيت للعبادة له من الفخامة ما لكنائس الشام في ذلك العهد، فما كان الذهن العربي ليتجه يوم ذاك إلى هذه الناحية، ولا كان عمر ليبني المسجد إلا في هذه الصورة البسيطة البالغة في تقشفها والتي جعلها الرسول رمز المودة الجامع للمسلمين في تحابهم بنور الله بينهم حين قيامهم وركوعهم وسجودهم في حضرة ذي الجلال والإكرام.
على أن تطورا حدث يومئذ لا ينبغي أن نغفله، ذلك أن عمر اتخذ مكانا إلى جانب المسجد يدعى البطيحاء وقال: «من أراد أن يلغط أو يرفع صوتا أو ينشد شعرا فليخرج إليه.» وسبب ذلك أن عمر سمع ناسا من التجار يذكرون تجارتهم والدنيا في المسجد فقال لهم: «إنا بنينا هذه المساجد لذكر الله، فإذا ذكرتم تجاراتكم ودنياكم فاخرجوا إلى البقيع.» وسمع عمر رجلا يرفع الصوت في المسجد فقال له مغضبا: أتدري أين أنت؟! كأنه كره الصوت، وتلاحى رجلان في المسجد فقال عمر: أفي مسجد رسول الله تقولان الهجر وما لا يصح من القول ... وبينما هو في المسجد عشاء إذ سمع رجلا يضحك، فأرسل إليه فقال: من أنت؟ قال: رجل من ثقيف من أهل الطائف، فتوعده قائلا: لو كنت من أهل البلد لنكلت بك! إن مسجدنا هذا لا ترفع فيه الأصوات، ومر بحسان بن ثابت وهو ينشد في المسجد فلحظ إليه، فقال حسان: قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك، فانصرف عمر وقد عرف أنه يريد النبي، وكان ما قال حسان حقا، روت عائشة أن رسول الله كان ينصب له منبرا في المسجد يقوم عليه فيهجو الكفار، وذلك أن رسول الله حين نهى عن تناشد الأشعار في المساجد لم ينه عما لا يشغل من فيها مما يتصل بالإسلام ويزيد الشعور به قوة، وفي المسجد أنشد كعب بن زهير رسول الله قصيدته: «بانت سعاد».
Halaman tidak diketahui