وسرعان ما تم بناء المسجد، فقد كان بسيطا، جدره من اللبن، وسقفه من الجريد، وعمده من خشب النخل، وقيل: إنهم صنعوا من النخل قبلة له إلى ناحية المسجد الأقصى، وبقيت كذلك حتى عدل بها إلى ناحية الكعبة.
وكان هذا المسجد الأول كافيا على بساطته للغاية التي قصد إليها من بنائه، فقد كان الإسلام كما دعا إليه الرسول دين قوة على الحياة وزهد فيها مع السعي للرزق وجني ثمراته؛ لكيلا ينسى الإنسان نصيبه من الدنيا، وكان المسلمون يومئذ يدركون هذه المعاني إدراكا دقيقا أن كان لهم في رسول الله أسوة حسنة، وأين يكون الزهد في الحياة الدنيا وزخرفها إذا لم يكن في مساجد الله ودور عبادته؟! وكيف يقتل المرء غرور النفس إذا لم يشعر ساعة وقوفه مصليا بين يدي ربه أنه يتصل بخلق الله لا حائل بينه وبينه، تشرق الشمس ويصفو الهواء، فينعم من هذا ومن ذاك بفضل الله، ويقصف الرعد ويهتن المطر، فيحتمل هذا وذاك ساعة عبادته صابرا شاكرا؛ لهذا لم يكن في مسجد النبي شيء من الزخرف، ولم يكن فيه وقاية من قسوة الجو وانهيار السيل، وكثيرا ما هتنت السماء والنبي يصلي في المسجد والمسلمون من ورائه، فلم يصدهم هتنها ولا صدهم ما بالمسجد من طين عن صلاتهم؛ بل لقد رئي
صلى الله عليه وسلم
وبه من طين المسجد أثر كان يسرع بعد الصلاة إلى إزالته وتنظيفه.
وبقي المسجد على هذه الحال وجدرانه من اللبن وسقفه من الجريد، وأكثره غير مسقوف، وعمده من جذوع النخل ست سنوات تباعا، لم يغير منه ما كان من انتشار الإسلام ولا غير منه ازدياد الرخاء بالمدينة وما أفاء الله على أهلها من بسطة الرزق، فلما غزا المسلمون خيبر في السنة السابعة للهجرة وفتحها الله عليهم كانت المدينة قد أصبحت خالصة للمسلمين وكان أهلها قد ازداد عددهم بمن سكنها ممن هداهم الله للإسلام، فلم يكن من توسيع رقعة المسجد بد، عند ذلك زاد النبي في مساحته مائة متر مربع، فقد كان إلى يومئذ خمسا وثلاثين مترا في ثلاثين، فجعله النبي مربعا، وفي رواية أنه جعله خمسين مترا في خمسين، لكنه لم يفعل أكثر من ذلك، ولم يغير من عمارته باللبن والجريد وجذوع النخل شيئا.
وهذا المنبر الذي صار من بعد آية في الفن وإتقانه على ما رأيت، والذي يسمى منبر رسول الله لم يفكر النبي حين وسع المسجد في تغييره ولا في زخرفته، وما حاجته
صلى الله عليه وسلم
إلى هذا الزخرف المادي وكل دعوته إلى كمال الروح وسموها ودأبها للقربى من بارئها؟! وهو لم يتخذ لنفسه منبرا أول الأمر، وما كان ليتخذه لولا أنه شعر بالحاجة إليه، فقد كان يخطب الناس إلى جذع في المسجد حتى شعر بأن القيام قد شق عليه، فلما عرف أصحابه ذلك منه قال تميم الداري: أنا أعمل لك منبرا كما رأيت يصنع بالشام، وقال العباس بن عبد المطلب: إن لي غلاما يقال له: كلاب أعمل الناس، قال النبي: مره يعمل، فأرسله العباس إلى أثلة بالغابة فقطعها ثم عملها درجتين ومجلسا.
وقد جعل النبي للمسجد حين بناه ثلاثة أبواب؛ باب بالجهة الغربية دعي باب عاتكة - وهو باب الرحمة الآن، وباب بالجهة الشرقية دعي باب آل عثمان - وهو باب جبريل الآن، وباب بالجهة الجنوبية بقي سبعة عشر شهرا حين كانت قبلة المسجد في جداره الشمالي لتواجه المسجد الأقصى؛ فلما تحولت القبلة إلى الكعبة سد الباب الجنوبي ووضعت القبلة مكانه، وفتح في الجدار الشمالي باب مكان القبلة الأولى.
وبقي بناء المسجد على ذلك حتى اختار النبي الرفيق الأعلى، ولم يحدث في خلافة أبي بكر إلا ما روي من أن سواري المسجد نخرت فبناها، فلما كان عهد عمر بن الخطاب واطردت الزيادة في عدد المسلمين لم يكن من توسيع المسجد كرة أخرى بد، ولقد كان الشعور بضرورة الزيادة واضحا منذ دانت للإسلام بلاد العرب كلها في عهد الرسول، حتى لكان يقول: «ينبغي أن نزيد في المسجد.» ولقد اعتمد عمر إلى هذا الحديث حين استقر عزمه على الزيادة فكان يقول: لولا أني سمعت رسول الله
Halaman tidak diketahui