Dalam Kehidupan Kita yang Rasional
في حياتنا العقلية
Genre-genre
أما الفن والأدب فلعلهما أن يكونا مجالا خصبا لاختلاف النظر بين يمين ويسار؛ وذلك لأنه إذا كان العلم هو العلم بغض النظر عن أشخاص منتجيه، فالعلاقة وثيقة في الفن والأدب بين الآثار ومنتجيها، فلم ينتج قصة «كارامازوف»، إلا دستويفسكي، وقصة «الحرب والسلام» إلا تولستوي، وقصيدة «الأرض اليباب» إلا إليوت، و«الأناشيد» إلا إزراباوند، وهكذا، إن أستاذ الكيمياء في جامعة القاهرة قد يصل إلى النتائج نفسها التي وصل إليها أستاذ الكيمياء في جامعة لندن أو هارفارد أو موسكو، لكن شخصا واحدا فقط هو الذي أنتج أو سوف ينتج مسرحية «يا طالع الشجرة» وذلك هو توفيق الحكيم، وإذا كانت الصلة وثيقة العرى إلى كل هذا الحد بين الفن والفنان، وبين الأدب والأديب، فإن سؤالنا عن العلاقة بين اليمين واليسار في الفن والأدب يزداد أهمية؛ لأنه يجوز أن يصاغ على هذا النحو: إن الأديب أو الفنان ما دام شخصا بعينه متفردا متميزا، ثم ما دام هذا الشخص المعين لا بد أن يكون ذا نظرة معينة في دنيا الاقتصاد والاجتماع، تجعله اشتراكيا أو غير اشتراكي، أي تجعله - بحسب الاصطلاح الجاري - من أهل اليسار أو من أهل اليمين، فهل يتحتم بناء على ذلك أن يجيء أدبه أو فنه مصطبغا بما يدل على وجهة نظره الاقتصادية والاجتماعية؟ إن الأمر هنا مختلف عنه في حالة العلم والعالم؛ لأنك لا تستنتج شخصية العالم من علمه، وأما في الفن والأدب، فالمفروض أن تكون ثمة رابطة بين صاحب الأثر وأثره بحيث نستطيع أن نستنتج شخصه من أثره.
أحسب أن الطريق تتضح أمامنا معالمه إذا نحن حللنا الفن والأدب إلى شكل ومضمون - كما قد اعتاد رجال النقد أن يحللوهما - لأننا لا نكاد نفصل بين الشكل الفني أو الأدبي ومضمونه، حتى ندرك على الفور ألا علاقة بين الشكل من جهة وكون الفنان والأديب يساريا أو يمينيا في الاقتصاد والاجتماع من جهة أخرى، فللشاعر أن يختار أي القوالب شاء، وللمسرحي أو القصاص أن يختار الطريقة التي يبني عليها مسرحيته أو قصته، دون أن يكون لذلك أدنى علاقة بمذهبه في الاقتصاد والاجتماع، وإذن يكون الفرق كله كامنا في المضمون الذي يسوقه الفنان أو الأديب في إنتاجه، فالشاعر العمودي - مثلا - قد يكون اشتراكيا أو غير اشتراكي، وكذلك الشاعر غير العمودي قد يكون هذا أو ذاك، بحسب ما نستشفه من ميوله ونزعاته في مضمون القصيدة، وكذلك قل في القصة والمسرحية، غير أن الفن التشكيلي هو الذي يحتاج إلى شيء من الروية قبل الوصول إلى حكم صحيح؛ وذلك لأن المصور التجريدي أو التكعيبي أو ما يجري مجراه من المدارس الحديثة الكثيرة يحاول إسقاط «الموضوع» ليصب اهتمامه كله على اللون والخط والتكوين، كأنما قد أصبحت اللوحة على يديه محايدة حيادا تاما بالنسبة إلى المذاهب الفكرية من سياسة واقتصاد واجتماع، ومن ثم ينشأ السؤال: هل يجوز للفنان اليساري أن يحايد في لوحاته وتماثيله؟ إنه إذا كان الجواب بالنفي (وليس من الضروري أن يكون)، تحتم إذن على الفنان التشكيلي ألا يتبع هذه التيارات الفنية الكثيرة التي تلتقي كلها في تنحية «الموضوع» عن النشاط الفني، ولعل هذا هو ما يميل برجال الفن في البلاد الاشتراكية إلى النفور من الفن التجريدي بكل أنواعه، والتمسك بأن يكون التمثال أو اللوحة ذات «موضوع» يمكن تمييزه وإدراكه.
فإذا صح هذا، انتهينا إلى ما يحدد معنى اليمين ومعنى اليسار في الفكر، وفي الأدب والفن، إذ جعلنا التفرقة منصبة على مذاهب الاقتصاد والاجتماع، ثم على مضمون الأدب دون الشكل، ثم على مضمون الفن التشكيلي وشكله معا عند من يطالبون الفنان بأن يحمل فنه رسالة في الاقتصاد والاجتماع، وأما عند غيرهم، فيجوز للفنان التشكيلي أن يكون يساريا في اقتصاده واجتماعه، دون أن يتأثر فنه بذلك لا شكلا ولا مضمونا، وأما ما عدا ذلك من «علم»، و«علمية»، و«فلسفة» تجعل النشاط التحليلي مدارها، فلست أراه مما يتغير بين يسار ويمين.
على أنني أتصور تشكيلات من الفكر كثيرة، كلها جائز الحدوث، فأتصور أن يكون الرجل اشتراكيا في نظرته الاقتصادية والاجتماعية، فردانيا في أدبه وفنه، مثاليا أو تجريبيا في فلسفته، إذ ماذا يمنع أن يكون المواطن الواحد اشتراكيا في نظرته الأولى، ثم يحدث أن يكون شاعرا ينظم القصيد - أو لا ينظمه - في الحياة والموت، في الزوال والخلود، في حياة الملائكة أو حياة الشياطين؟ أو أن يكون المواطن اشتراكيا في نظرته الأولى، ثم يحدث أن يكون مصورا تجريديا أو سيرياليا أو تكعيبيا أو ما شئت أن يكون؟ هل هناك من تناقض في أن أصحو مع الناس مشاركا إياهم في زراعة وصناعة، وفي إنتاج وتوزيع، ثم أنفرد وحدي في حلم أشطح به مع خيال مبدع خلاق؟ ... تشكيلات من الحياة الفكرية تجعلنا نتردد مرتين قبل أن نطلق الأحكام في الناس إطلاقا لا حيطة فيه ولا تحفظ.
رجل الفكر ومشكلات الحياة
هنالك نفر من الشباب الكاتب، لا يعجبهم العجب ولا الصوم في رجب، إلا أن تكتب لهم على نحو ما يكتبون، وأن تذهب معهم في مذاهب الفكر كما يذهبون، ولست أدري كيف تصطدم الفكرة بالفكرة ليولد الصدام فكرة أعلى وأكمل، إذا لم تختلف في الرأي وجهات النظر؟ إن كل ما يطالب به الكاتب هو أن يكون مخلصا لنفسه أمينا على فكرته، وقصاراه أن يبسط الفكرة بكل ما وسعه من وضوح وإيضاح وفهم وإفهام، ولا عليه بعد ذلك أن تقع الفكرة من قارئها موقع القبول، بل لا على هذا القارئ نفسه إذا هو لم يقرأ ما يتفق مع هواه، وإلا لما أحدثت القراءة في نفسه حوارا داخليا وفاعلية منتجة، شريطة ألا يكون مصدر الاختلاف بين الكاتب والقارئ اختلافا في معاني الألفاظ التي يستخدمانها؛ لأنه لو حدث ذلك لكان أحدهما في واد والآخر في واد، لا يلتقيان ولا يتصادمان، إذا قال أولهما: هذا ثور، أجابه الثاني: إذن فاحلبوه! لأن الثور عنده يعني البقرة، فلا المتكلم الأول قد أفهم ولا السامع قد فهم عنه، أما أن يتفق المتحدثان - أو الكاتب وقارئه - على أن اللفظة الفلانية تعني كذا وكذا من العناصر التي تدخل في مكونات الشيء الذي جاءت تلك اللفظة لتسميه، ثم أن يختلفا بعدئذ على الحكم الذي ينتهيان إليه بالنسبة إلى ذلك الشيء المطروح أمامهما للبحث والنظر، فليس في مثل هذا الاختلاف بأس ولا ضرر، بل إن فيه لخيرا ونماء، لأنه اختلاف قمين - مع المحاورة والجدل - أن يجمع المختلفين على رأي مشترك.
إنني لو سئلت: ماذا ترى من الفوارق التي تميز كاتب اليوم من كاتب الأمس؟ لجاءتني الإجابة مسرعة بأن أول ما يميزهما من فوارق هو أن كاتب اليوم ألصق من زميله بالخبرة الحية، كأنما هو قد وضع أصابعه على عروق الحياة ليتحسس نبضها، ولا عجب أن رأينا كاتب اليوم يلجأ إلى القوالب الأدبية التي من شأنها أن تجسد الحياة بشخوصها الناطقة المتحركة، وأعني القصة والمسرحية، على حين أن كاتب الأمس كاد يقصر نفسه على «المقالة» لأن بضاعته التي يعرضها «أفكار» على شيء من التجريد قليل أو كثير، وكل ما تتطلبه الأفكار من باسطها هو أن يتناولها بالتحليل والتوليد حتى ينكشف مضمونها وفحواها، فلئن رأى كاتب اليوم نفسه مضطرا إلى الخوض في مواكب الناس الأحياء ليرى ويسمع ويحس ويتأثر، ثم يخلو إلى نفسه ساعة ليصور ما قد رأى وسمع وأحس، فإن كاتب الأمس كان في مستطاعه ألا يبرح غرفة مكتبه، مراجعه على رفوفها، والمصباح أمامه، فيأخذ في القراءة والمراجعة، حتى إذا ما وقع على شيء يستحق أن يعرض على الناس، كانت له القدرة على عرضه في مقالة يكتبها أو سلسلة مقالات تستوعب الموضوع إذا اتسعت رقعته وتباعدت أطرافه.
فإذا قلنا عن رجل اليوم: إنه «كاتب» بالمعنى الأدبي الخالص لهذه الكلمة، كان الصواب أن نقول عن رجل الأمس إنه «قارئ» ما دامت كتابته عرضا لمادة قرأها وأراد لغيره أن يقرأها معه.
لكن هذه التفرقة لا تنصب إلا على أديب القصة والمسرحية من جهة، وكاتب المقالات التحليلية العقلية من جهة أخرى، على أساس أن الأول له السيادة اليوم، والثاني كانت له السيادة أمس، فها هنا يجوز القول عن أديب اليوم أنه - في المحل الأول - ينصت إلى أحاديث الدار والدوار والمصنع والطريق، في الوقت الذي كان فيه كاتب الأمس يرجع إلى الكتاب والندوة وقاعة الدرس وعزلة التأمل، كما يجوز كذلك أن نقول عن أديب اليوم إنه يمس «مشكلات الحياة» في حضورها المباشر؛ لأنها مشكلات عملية تجري من حولنا يوما بعد يوم وساعة إثر ساعة، وعن كاتب الأمس إنه كان يتعرض لمشكلات فكرية مجردة بعدت صلتها المباشرة عن واقع الحياة الجارية، بل إن رواد الأدب القصصي والمسرحي في جيلنا الماضي - وهم أنفسهم الذين ما تزال لهم الريادة في القصة وفي المسرحية بين أدباء اليوم - كانوا بالأمس يكتبون القصة أو المسرحية فيما لم يكن يتصل بالحياة الجارية من قريب، ثم أصبحوا اليوم يكتبون وفي أذهانهم مشكلات الحياة اليومية كما تلمسها الأصابع وتبصرها العيون.
لكن هل يعني هذا كله أن يوم الناس هذا قد خلا من كاتب المقالة العقلية التحليلية التي تتناول موضوعاتها تناولا مجردا، يعمم القول ولا يخصصه، ويبعد بالتجريد وبالتعميم عن المشكلات الحية كما تقع في المنزل والمصنع والطريق؟ كلا بل مثل هذا الكاتب موجود - كما كان موجودا بالأمس - لأن وجوده محتوم بحكم وجود «الأفكار» التي تريد التحليل والتوضيح.
Halaman tidak diketahui