Dalam Kehidupan Kita yang Rasional
في حياتنا العقلية
Genre-genre
تيارات الفكر والأدب في مصر المعاصرة
حركة المقاومة في الأدب العربي الحديث
إرادة التغيير
وحدة التفكير
يمين الفكر ويساره: ما معناهما؟
رجل الفكر ومشكلات الحياة
طراز من الفردية جديد
الفرد، والمواطن، والإنسان
من هو المثقف الثوري
ضوء على معنى الصراع الفكري
Halaman tidak diketahui
أزمة القيم في عصر الانطلاق
بأي فلسفة نسير؟
قيادات الفكر المعاصر
روح العصر من فلسفة
الماركسية منهجا
تيارات الفكر والأدب في مصر المعاصرة
حركة المقاومة في الأدب العربي الحديث
إرادة التغيير
وحدة التفكير
يمين الفكر ويساره: ما معناهما؟
Halaman tidak diketahui
رجل الفكر ومشكلات الحياة
طراز من الفردية جديد
الفرد، والمواطن، والإنسان
من هو المثقف الثوري
ضوء على معنى الصراع الفكري
أزمة القيم في عصر الانطلاق
بأي فلسفة نسير؟
قيادات الفكر المعاصر
روح العصر من فلسفة
الماركسية منهجا
Halaman tidak diketahui
في حياتنا العقلية
في حياتنا العقلية
تأليف
زكي نجيب محمود
تيارات الفكر والأدب في مصر المعاصرة
لم يكن قد بقي على ختام الحرب العالمية الأولى إلا وقت قصير، حين نظم عباس محمود العقاد قصيدته العظيمة «ترجمة الشيطان»، التي جاءت - كما يقول الشاعر نفسه عنها في مقدمة نثرية قدمها بها - لفحة من نار الحرب، وغيمة من دخانها، فكأنما جاءت هذه القصيدة - والعشرة الأعوام الثانية من هذا القرن تدنو من ختامها - لتصور حالة من اليأس، استولت على شعب ظل يطالب بحريته السياسية من الحاكم المستبد تارة، ومن المستعمر البريطاني الدخيل تارة، فجاءت الحرب العالمية الأولى لتكمم الأفواه، وتكتم الأنفاس حينا؛ إذ لم تكن الدولة المستعمرة لتأذن لمفكر أو أديب بالمضي فيما كان قد بدأه المفكرون والكتاب منذ احتلت بريطانيا مصر سنة 1882م، من حملات يشعلون بها النفوس ويحركون العقول، طلبا للحرية، ولما أن طالت أعوام الحرب، أخذ القلق يدب في أنفس الشعب الصامت إلى حين، الصابر بمطلبه حتى تزول محنة الحرب، وجاءت قصيدة العقاد تعبيرا عن هذا القلق، وهي قصيدة تستطيع أن تستبدل فيها بالمواجهة التي تمت بين الله والشيطان، مواجهة أخرى بين الحاكم والمستعمر من ناحية، والمفكر الحر من ناحية أخرى، لتتحول القصيدة بين يديك إلى ترجمة لكل مفكر حر لا يريد لحريته أن تحدها قيود.
فإذا كانت العشرة الأعوام الأولى من هذا القرن، قد شهدت طائفة من أعلام الأدب والفكر، تصوغ للناس قضية الحرية من بعض نواحيها: الإمام محمد عبده بمقالاته الإصلاحية وبدفاعه عن الإسلام، يوضح كيف يمكن أن يلتقي تراثنا الفكري والديني مع روح العصر التي يسودها العلم، وهو بهذا قد وضع أمامنا المشكلة الرئيسية في حياتنا الثقافية كلها خلال أعوام هذا القرن، وإلى يومنا هذا، وهي: كيف نوحد بين تراثنا القومي والإسلامي من جهة، وعوامل الفكر والحضارة في هذا العصر من جهة أخرى، توحيدا يدمج الجانبين معا في وحدة عضوية واحدة، تحمل الطابع المحلي والطابع العالمي في آن معا، وقاسم أمين بكتابيه «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة» يمد من نطاق الحرية المنشودة حتى تشمل مع الحرية السياسية حرية اجتماعية للمرأة المغلولة بقيد السنين، وأحمد لطفي السيد الذي أصدر صحيفة «الجريدة» سنة 1907م؛ لتكون منبرا للفكر العصري الحر، ولسانا يطالب بالاستقلال وبالدستور، وكان لطفي السيد ممن علموا على إنشاء الجامعة الأهلية سنة 1908م، إيمانا منهم بضرورة الروح العلمية الجامعية لتدعيم حركة التحرر الشامل؛ أقول إنه إذا كانت العشرة الأعوام الأولى من هذا القرن قد حفلت بطائفة من المفكرين والأدباء، ينشرون في الناس دعواتهم صريحة في الصحف والكتب، فإن العشرة الأعوام الثانية التي شهدت هول الحرب العالمية الأولى، والتي كان من نتائجها السياسية في مصر، أن أعلنت الأحكام العرفية ثم أعلنت حماية بريطانيا لمصر، قد اضطرت رجال الفكر والأدب أن يغيروا من أوجه نشاطهم: أحمد لطفي السيد يعتزل في الريف ليترجم إلى العربية كتاب الأخلاق لأرسطو، وطه حسين ينصرف إلى دراسته الأكاديمية لينجز رسالته عن «ذكرى أبي العلاء»، و«محمد حسين هيكل» يكتب أول قصة طويلة في أدبنا الحديث وهي قصة «زينب»، والعقاد ينظم القصائد المعبرة عن ذات نفسه ليبلغ بها الذروة في قصيدة «ترجمة شيطان».
دعوات إلى الحرية السياسية والحرية الاجتماعية لبثت تنبعث من أقلام المفكرين والأدباء، منذ القرن التاسع عشر، وأخذت آثارها تتراكم في النفوس ، حتى انفجرت ثورة سياسية عقب الحرب العالمية الأولى مباشرة سنة 1919م، ثم لم تلبث هذه الثورة إلا قليلا، حتى اتسعت رقعتها لتصبح ثورة تتعدى حدود السياسة والحرية السياسية والاستقلال عن بريطانيا، وتكون ثورة فكرية عامة، تشمل الأدب بكل فنونه، والنقد، والفلسفة، والتعليم، وغير ذلك من جوانب الحياة العقلية، وحسبنا في هذا البعث الشامل، أن نلتمس على الطريق معالمه الرئيسية، متمثلة في مؤلفات أو في حركات تشير إلى الاتجاه الجديد.
وأول ما نصادفه من معالم الطريق، في العشرة الأعوام الثالثة من هذا القرن، كتاب «الديوان في الأدب والنقد» الذي أخرجه العقاد مع صديقه إبراهيم عبد القادر المازني سنة 1921م، ليوجها به حملة نقدية في مجال الشعر، يبغيان بها التحرر من قيود التقليد، والدعوة إلى شعر جديد، يكفل لصاحبه التعبير الحر عن ذات نفسه الفريدة؛ حتى لا تنطمس معالمها في سواها فينمحي وجودها، وإن الشاعر بتقريره لوجوده الفردي المتميز، ليضع حجر الأساس في بناء الحرية الإنسانية المنشودة.
ولكي نرى الصورة في مجال الشعر على حقيقتها، ينبغي أن نذكر حالة الضعف الشديد التي ألمت به في النصف الأول من القرن التاسع عشر، نتيجة لعصور الظلمة إبان الحكم التركي، وهي عصور امتدت ثلاثة قرون، إذا عددنا الحملة الفرنسية على مصر، واستيلاء محمد علي على حكم البلاد، نهاية حقيقية - إن لم تكن نهاية شرعية - للعهد التركي، فلما انسلخ من القرن التاسع عشر ثلثاه، ونكبت البلاد بالاحتلال البريطاني فوق نكبتها بالأسرة الحاكمة، اشتدت الرغبة عند المصريين في أن يلتمسوا ملامح شخصيتهم الضائعة، وكانت أولى خطواتهم نحو هذا الهدف أن يعيدوا إلى الأذهان كل ما يذكرهم بمجدهم الماضي؛ ومن ثم نشأت حركة في الشعر، يتخلص بها أصحابها من ركاكة العهد التركي، ويعودون إلى النماذج العربية القديمة في قوتها ورصانتها، وساعدهم على ذلك ما كانت المطبعة العربية قد أخرجته خلال القرن الماضي من دواوين الشعراء القدامى، فرأوا أمامهم نماذج تحتذى، ذلك فضلا عن أساتذة للأدب في الأزهر تولوا حركة الإحياء الأدبي ونخص منهم بالذكر الشيخ حسين المرصفي بكتابه «الوسيلة الأدبية » الذي أوضح فيه بأسلوب جديد قواعد اللغة والنحو والبلاغة والعروض، وعرض هذه القواعد في نماذج مختارة من الأدب القديم.
Halaman tidak diketahui
وكان محمود سامي البارودي هو الرائد الأول في حركة الإحياء الشعري ثم تبعه أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وخليل مطران الذي وفد من سوريا ليقيم في مصر، وعلى أيدي هؤلاء جميعا عاد الشعر العربي إلى سابق مجده، مع تغذيته بغذاء من الثقافة الأوروبية التي اكتسبها بعض هؤلاء الشعراء من صلتهم بالغرب وثقافته.
لكن هذه الحركة - برغم قوتها - كانت حركة «إحياء» للقديم، ولم تكن في صميمها «تجديدا» يساير العصر الحديث؛ ولهذا سرعان ما جاء جيل جديد يتهمها بالقصور عن بلوغ ما ينبغي للشعر الجديد أن يبلغه، ومن أهم الخصائص التي كانت تنقص شعر هؤلاء في نظر الجيل الجديد، وحدة القصيدة من حيث الشكل، وذاتية التعبير من حيث المضمون، بعد أن كانت القصيدة العربية تجعل لكل بيت منها كيانا مستقلا، ولا تهتم بأن تنسكب أبيات القصيدة الواحدة في تجربة شعورية واحدة، وكذلك بعد أن كان الشاعر العربي يعبر عن الجماعة قبل أن يعبر عن ذات نفسه الفريدة، أو يدفعه طغيان الحكم واستبداد المال أن ينفق جهده الشعري في مدح وهجاء وفي تهنئة ورثاء، بحسب ما تقتضيه المناسبات.
وكان رواد الحركة الجديدة التي لم ترد أن يقف التجديد عند حد إحياء القديم، بل أرادت أن تضيف قيما جديدة من شأنها أن تئول بالمجتمع إلى التحرر من قيوده جميعا، لا فرق في هذه القيود بين ما يجيء مع إحياء التراث، وما يجيء عن ضعف الحياة في عصورها المتأخرة؛ أقول إن رواد حركة التجديد هذه، كانوا ثلاثة هم: عبد الرحمن شكري، والعقاد، والمازني، الذين أخذوا ينظمون الشعر خلال العشرة الأعوام الثانية من القرن، على النهج الذي كانوا يروجون له، لكن أنصار الإحياء - برغم هذا - لبثوا يسدون أمامهم الفضاء، فكان لا بد من زلزلة عنيفة تهد البناء القائم، فكان أن صدر الكتاب الذي ذكرناه: «الديوان في الأدب والنقد» يوجه به صاحباه (العقاد والمازني ) حملة مدمرة نحو أمير الشعراء عندئذ «أحمد شوقي» لعلهما بذلك أن يزيلا عن الوجود الأدبي صفحة، ليفتحا للناس صفحة جديدة.
وكأنما سنة الحركات الفكرية أن تسير في خطوات مثلثة، فمن طرف إلى نقيضه إلى مرحلة تجمع بين النقيضين، فرأينا رواد المدرسة الجديدة في الشعر يقفون موقفا عنيدا من شعراء البعث، لكن العقد الرابع من هذا القرن لم يكد يبدأ، حتى ظهرت جماعة أطلقت على نفسها «جماعة أبولو»، وكان صاحب فكرتها والداعي لها أحمد زكي أبو شادي، وقد تألفت هذه الجماعة الأدبية في خريف عام 1932م، لتجمع بين أعضائها كل من أراد من الشعراء، فلا تفرقة هنا بين مذهب ومذهب من مذاهب الشعر، فرأينا من أعضائها من يجري مع التقليد في شعره - مثل رجال حركة البعث أنفسهم: شوقي، ومطران - كما رأينا من أعضائها كذلك من انتحوا بالشعر منحى جديدا متأثرين بما قرءوه لشعراء الغرب - والرومانسيين منهم بصفة خاصة - وعلى رأس هؤلاء إبراهيم ناجي (وهو طبيب) وعلي محمود طه (وهو مهندس)، ولم تكن هذه آخر الحركات في تطور الشعر، لكننا سنرجئ المرحلة الجديدة التالية إلى موضع آخر من هذا المقال.
ومن معالم الطريق فيما بين الحربين، حركة عقلانية، نزع أصحابها نحو الاحتكام إلى منطق العقل قبل أي شيء آخر، وقد تمثلت هذه الحركة في كثير من البحوث والكتب والمواقف، منها كتاب «الإسلام وأصول الحكم» لمؤلفه علي عبد الرازق (1924م) فقد كادت مصر حينئذ أن تتورط بدافع من أطماع حاكمها (الملك أحمد فؤاد) في أن يجتمع في شخص ذلك الحاكم لقب «الخليفة» - خليفة المسلمين - إلى جانب لقب «الملك»، وذلك بعد أن ألغت تركيا الخلافة من عندها - وكان سلاطين تركيا هما أيضا خلفاء المسلمين - على أثر ثورتها السياسية الاجتماعية بزعامة مصطفى كمال، وإنما أراد ملك مصر أن يرث الخلافة بعد زوالها عن الأتراك؛ لتجتمع في يديه رياسة الدين ورياسة الدولة معا، وفي هذا الجمع خطورة كبرى على حركة التقدم الذي كانت مصر قد أخذت بأسبابه؛ لأن تستر الحاكم وراء قناع من الدين، من شأنه أن يطلق يده في فرض ما شاء من قيود، بحجة أنها قيود تفرضها مبادئ الإسلام، فكان لا بد أن يظهر منا مفكر باحث، ليقول للناس عن دراسة وتحقيق، إن الإسلام لا يحتم أن يكون للدولة خليفة، وما أغنانا عن الوقوع في مشكلات كالتي وقعت فيها أوروبا حين جمعت الدين والدولة في يد واحدة.
وفي سنة 1925م أنشئت جامعة القاهرة، وأدمجت فيها الجامعة الأهلية التي كانت قد نشأت سنة 1908م، كما أدمجت فيها كذلك مجموعة المعاهد العليا التي كانت تتفاوت أعمارها بين قرن كامل لبعضها - مثل كلية الطب - وبعض القرن لبعضها الآخر، فجاء إنشاء جامعة القاهرة علامة من أبرز العلامات الدالة على نهوض الشعب بثورة عقلية تتمم الثورة السياسية، ولم يكد يمضي عام على إنشائها، حتى أخرجت المطبعة للدكتور طه حسين كتابه في «الأدب الجاهلي»، الذي ظهر وكأنه إعلان بقيام منهج علمي جديد، يترسم خطوات المنهج الديكارتي في البحث، فيفرض الخطأ فيما توارثناه من معرفة، حتى يثبت صوابه بالبرهان العلمي، صوابا لا يرتكز على تحيز سابق لفكرة معينة، فإذا كان المعلوم الشائع المتوارث هو أن الشاعر الفلاني قد عاش في العصر الفلاني ونظم القصائد الفلانية، فلنفرض بادئ ذي بدء أن لم يكن لهذا الشاعر وجود، ومن ثم لا يكون هو ناظم القصائد المنحولة له، ثم نمضي في البحث على هذا الأساس الحر، لننتهي إلى ما يؤدي إليه السير المنهجي من نتائج ... وإنها لقفزة طويلة نحو البعث الفكري، أن تدعو الناس إلى ضرورة الشك في صحة النصوص الموروثة، قبل أن تعيد إليها الصواب عن طريق البحث العقلي المجرد.
وإنه لمما يدل على سريان الروح العقلية إبان الفترة التي نتحدث عنها أن نظرية التطور الداروينية، وما يتشعب عنها من فروع بعد أن كان الجهر بها في نهايات القرن التاسع عشر، يستدعي من رجال الفكر يقظة ليردوا على ما كان يظن أنه خطر على العقيدة الدينية - كما حدث عندما نشر جمال الدين الأفغاني كتابه في «الرد على الدهريين» - أصبحت الآن مادة شائعة بين طبقات المثقفين، ففي سنة 1924م أصدر إسماعيل مظهر كتابه «ملقى السبيل » (وكان مظهر قد ترجم إلى العربية قبل ذلك كتاب أصل الأنواع لداروين)؛ ليكون هذا الكتاب الجديد تطبيقا للنظرية على موضوعات عامة مما كان يعنى به الكتاب المصلحون عندئذ، وهو يقول في مقدمته لهذا الكتاب «إن لمذهب النشوء والارتقاء من الأثر في فروع العلوم الحديثة، ما يجعلني أعتقد تمام الاعتقاد بأن هذا المذهب جدير بأن يقف الإنسان أكبر شطر من حياته وجهوده في سبيل درسه ونقله إلى العربية، وأبناء الضاد على أبواب انقلاب علمي أدبي، أخذت معاوله تهدم في بناء أساليبنا القديمة، لتحل محلها أساليب حديثة للتفكير» ويهمنا من هذا النص هذه الجملة الأخيرة لأنها تؤيد ما نصف به فترة ما بين الحربين في مصر، من الناحية الفكرية، وهو أنها فترة انقلاب علمي وأدبي، تهدم أسلوبا قديما لتحل محلها أسلوبا جديدا، هو الأسلوب العلمي العقلاني القائم على الدرس والتمحيص.
وهنا نذكر كاتبا آخر أصدر سنة 1925م كتابا آخر عن «نظرية التطور» - مما يدل على أن الفكرة كانت عندئذ تشعل الأذهان - لكن هذا الكتاب من هذا الكاتب لم يكن عرضا طارئا في حياته الفكرية؛ بل كان جزءا لا يتجزأ من طريق واحد عاشه الكاتب ليبلغ به هدفا واحدا جعله نصب عينه، وأما هذا الكاتب فهو سلامة موسى، وأما طريق حياته الفكرية فهو الإيمان بالعلم الحديث وما يقتضيه من ضرورة تطوير الأدب والحياة بأسرها، وأما الهدف المقصود بهذا كله فهو أن يقيم بناء جديدا على أنقاض بناء قديم، فلم يأل سلامة موسى جهدا في كل ما كتب، ليقاوم الأسلوب القديم في التفكير وفي الكتابة، فإذا كان التقليديون يعنون بصقل العبارة اللفظية عناية تستنفد كل طاقتهم بحيث لا يبقى شيء منها لأي معنى ينقلونه إلى القارئ، فقد أراد هو بما أسماه «الأسلوب التلغرافي» في الكتابة أن تجيء العبارة خادمة للمعنى المراد نقله، بحيث لا تحشر فيها لفظة واحدة لا تخدم المعنى المقصود.
لقد تميزت فترة ما بين الحربين بكثير من القلق الفكري، الناتج عن إحساس المثقفين بضرورة الجمع بين طرفين كانا ما يزالان يبدوان وكأنهما نقيضان لا يجتمعان، وهما: الثقافة التقليدية الموروثة من جهة، والثقافة الأوروبية المنقولة من جهة أخرى، وكان السؤال قد بدأ يطرح نفسه على رجال الفكر، وهو: هل من سبيل إلى الجمع بين الثقافتين في وحدة عضوية واحدة، لا تتخلى عن الطابع المحلي المميز، ولا تقصر في مسايرة العالم المعاصر؟ هنا كنت تجد ثلاث إجابات تصدر عن ثلاث فئات من المفكرين، وتستتبع ثلاث أساليب في الكتابة: فإجابة يتمسك بها أصحابها بالقديم الموروث فكرا وأسلوبا، ومن هؤلاء مصطفى صادق الرافعي، وإجابة يريد بها أصحابها القضاء الكامل على القديم الموروث والأخذ عن الثقافة الأوروبية - علما وأدبا وأسلوب كتابة وطريقة حياة - أخذا مطلقا غير مشروط بشرط ولا مقيد بقيود، ومن هؤلاء: سلامة موسى؛ وإجابة ثالثة يحاول بها أصحابها أن يجدوا موقفا وسطا يجمع بين الطرفين، فهم إذا كتبوا جاءت عبارتهم ملتزمة قواعد الأسلوب العربي المتين، وهم إذا فكروا حاولوا المزج بين موضوعات القديم وموضوعات الجديد، وكان من حسن الطالع أن وقعت في هذه الطائفة جمهرة الأعلام من رجال الفكر والأدب: العقاد، طه حسين، هيكل، المازني ... وغيرهم، فلهؤلاء جميعا مجموعات من مقالات كتبوها خلال الفترة التي نتحدث عنها، ثم جمعوها في كتب يكفي أن تطالع أي كتاب منها، لتجد ثقافة الغرب قد جاورت ثقافة العرب الأقدمين في تآلف وانسجام، إذ قد تجد فصلا عن هومر أو شكسبير أو شلي، يعقبه فصل عن امرئ القيس أو ابن الرومي أو المتنبي، وهكذا.
للعقاد في هذه الفترة «مطالعات في الأدب والحياة» (1924م)، و«ساعات بين الكتب» (1929م) وللمازني «حصاد الهشيم» (1924م) و«قبض الريح» (1927م) و«صندوق الدنيا» (1929م) وإن القارئ ليدرك من مجرد المقارنة بين عنوانات الكتب عند الأول وعنوانات الكتب عند الثاني، أن هذين الزميلين الصديقين، وإن يكونا قد اتفقا على الهدف (وهو الجمع بين الثقافتين) فقد اختلفا في طريقة التناول: الأول جاد إلى درجة التزمت فكرا وأسلوبا، والثاني جاد في فكرته ساخر تملؤه روح الفكاهة في طريقة عرضه، ولهيكل من أمثال هذه المجموعات الجامعة بين الثقافتين «في أوقات الفراغ» (1925م) سبقه كتاب من جزأين عن جان جاك روسو (1921-1923م) أسهم به في إثراء الفكر السياسي الذي صاحب الثورة السياسية، ليكون الفعل مقرونا بالنظر، وهو في طريقة كتابته وسط بين العقاد والمازني، فهو لا يبلغ من الأسلوب العابس مبلغ العقاد، ولا من الأسلوب الضاحك مبلغ المازني، ويكتفي بروح سمحة منبسطة الأسارير تسري بين أسطره.
Halaman tidak diketahui
وأما طه حسين فقد كانت طريقته في الجمع بين الثقافتين، أن يعالج موضوعا عربيا قديما بأسلوب غربي جديد، وأن يكون مع الدعوة إلى العقل العلمي مرة، ومع الدعوة إلى وجدان القلب مرة، فانظر إليه كيف فجر قنبلته الفكرية العقلانية سنة 1926م بكتابه عن الأدب الجاهلي، ليعود سنة 1933م، فيصدر رائعته الأدبية «على هامش السيرة» فيقول في مقدمته: «أنا أعلم أن قوما سيضيقون بهذا الكتاب؛ لأنهم محدثون يكبرون العقل، ولا يثقون إلا به، ولا يطمئنون إلا إليه، وهم لذلك يضيقون بكثير من الأخبار والأحاديث التي لا يسيغها العقل ولا يرضاها ... وأحب أن يعلم هؤلاء أن العقل ليس كل شيء، وأن للناس ملكات أخرى ليست أقل حاجة إلى الغذاء والرضى من العقل.»
لا عجب أن رأينا النقاد من زملائه يتصدون له بالتحليل والمقارنة، فهذا هيكل يكتب فور صدور «على هامش السيرة» فيقول: «إنه (أي طه حسين) إلى حين وضع كتابه هذا، كان من أولئك الذين يكبرون العقل ولا يثقون إلا به، فهذا الكتاب تطور عظيم في نفسية طه وفي نظرته للحياة، تطور واضح صارخ يكفي لتبيينه أن نقرأ معا مقدمتين: مقدمة «على هامش السيرة» ومقدمة «في الأدب الجاهلي» ... إن بين «في الأدب الجاهلي» و«على هامش السيرة» موضعا للمقارنة، فكلاهما يتحدث عن العصر الجاهلي الذي سبق مولد النبي عليه السلام، والذي عاصر هذا المولد، والكتاب الأول يهدم ما جاءت به الأساطير عن الجاهلية، بل يهدم الكثير مما ينسب للجاهلية من شعر ونثر، ويراه من وضع المتأخرين لأغراض دينية أو مخالفة للدين، والكتاب الأخير يجلو هذه الأساطير وينمقها، ويرى في ذلك غذاء لما سوى العقل من ملكات الناس.»
تلك كانت طريقة طه حسين في الجمع بين الثقافتين، فهو «لم يتطور في نفسيته ولا في نظرته للحياة» كما يعلل هيكل لهذا الجمع، بل إن الثقافتين كلتيهما قد اجتمعتا فيه على نحو يجسد لنا في رجل واحد، ما كنا وما نزال نأمل أن نبلغه من وحدة ثقافية تجمع لنا الطرفين، ولعل الدكتور محمد عوض محمد كان أصدق تصويرا في تعليقه على كتاب «على هامش السيرة» حين قال عن طه حسين - بطريقته الفكهة: «إن ثقافته الحقيقية هي ثقافة أزهرية متينة قوية الأسس ... وأن ليست ثقافة الغربيين ... إلا رواء وطلاء، إن يبهر العين منظره، فإنه لا يذهب إلى غور بعيد، وقديما قال نابليون في الروس: إنك إذا حككت الروسي بدا لك التتري، وفي وسعنا أن نقول إذا حككت طه حسين برفق، بدا لك الأزهري القح الصميم بكل ما تحمله هذه الكلمة من فضل وعلم.»
ولو كان طه حسين حين كتب «على هامش السيرة» قد تطور في نفسيته وفي نظرته للحياة - كما قال هيكل عنه - لما رأيناه بعد «على هامش السيرة» يعود مرة أخرى فيصدر كتابه الهام «مستقبل الثقافة في مصر» (1939م) ليقول به للناس إنه لا بد لنا من الأخذ عن الأصول الثقافية اليونانية، استمرارا لما كان آباؤنا الأقدمون قد فعلوا في نهضتهم الفكرية، حين طفقوا ينقلون ثقافة اليونان العلمية والفلسفية بغير حرج ولا تردد، ولا نترك الحديث عن طه حسين في هذا الموضع من المقال، دون أن نذكر ترجمة حياته الرائعة التي كتبها سنة 1929م بعنوان «الأيام»، فجاءت هذه الترجمة الذاتية من أجمل الثمار الأدبية في تلك الفترة، التي اجتمعت فيها روافد الثقافة كلها من شرق ومن غرب.
هكذا قضينا أعوام العقدين الثالث والرابع من هذا القرن، نمد ذراعا إلى تراثنا فنحييه، وذراعا إلى الثقافة الأوروبية فننقلها، وإنه لجدير بالذكر في هذه المناسبة، أن نشير إلى عدد من المجلات التي ظهرت عندئذ وشاعت شيوعا واسعا، وكانت من أفعل الأدوات الثقافية التي هيأت النفوس والعقول لتقبل نهار جديد في تاريخنا الثقافي، ستظهر بوادره بعد الحرب العالمية الثانية، ويبلغ النضج بعد ثورة 23 يوليو 1952م - وأما هذه المجلات التي نشير إليها، فهي «السياسة الأسبوعية» التي كان يرأس تحريرها محمد حسين هيكل، و«البلاغ الأسبوعي» الذي كان يكتب فيه العقاد، و«المجلة الجديدة» التي أصدرها وكان يرأس تحريرها سلامة موسى، و«الرسالة» التي أصدرها، وكان يرأس تحريرها أحمد حسن الزيات و«الثقافة» التي كان يشرف عليها أحمد أمين، وأصدرتها لجنة التأليف والترجمة والنشر، وهي لجنة تتألف من جماعة من رواد الثقافة الجديدة، أنشئت سنة 1914م لتدل باسمها وبنوع جهودها على اتجاهات الحركة الثقافية في هذا القرن العشرين كله، إذ هي حركة تقوم على «الترجمة» عن الفكر والأدب الأوروبيين، و«النشر» لذخائر التراث القديم، لتخرجها إلى النور من خزائن الكتب، و«التأليف» الجديد الذي يحمل طابعنا الحديث بما فيه من أصالة تستمد غذاءها من المادة المترجمة والمادة المنشورة على السواء.
لا أحسب الحركة الثقافية التي عاشتها مصر فيما بين الحربين، تحاول فيها الجمع بين ثقافتين، لا أحسب تلك الحركة تتضح معالمها بأنصع ما تتضح به في أمثلة نسوقها لبعض الموضوعات التي كانت تشتجر فيها الأقلام خلال تلك الفترة، خصوصا إذا تذكرنا حقيقة هامة جدا في هذا الصدد، هي أن الكاتب الواحد قد يأخذ بهذا الرأي مرة وبذلك الرأي مرة أخرى، مما يدل على أن فوران الآراء والمذاهب لم يأذن لأحد عندئذ بالاستقرار على فكرة واحدة أمدا طويلا، ما دامت هذه الفكرة ماسة بأركان البناء الفكري الجديد الذي كان المصريون عندئذ في سبيل إقامته، ومما يدل كذلك على إخلاص المفكرين حينئذ لبلوغ غايتهم في بعث الأمة بعثا فكريا شاملا، إخلاصهم لذلك إخلاصا لم يسمحوا لأنفسهم معه أن يتعصبوا لفكرة أو لأخرى، إذا أثبت تطور الأحداث خطأها وتعويقها لمجرى التاريخ.
وأول موضوع نسوقه مثلا للصراعات الفكرية في عشرينات هذا القرن وثلاثيناته، هذا الموضوع الأساسي بالنسبة إلى إقامة البناء الثقافي الجديد: ما هي الأصول الأولى التي نرد المصريين إليها؟ أهي أصول فرعونية أم هي أصول عربية لا نجاوزها إلى ما وراءها في التاريخ؟ وقد ناصر الفرعونية سلامة موسى ومحمد حسين هيكل وغيرهما إلا أن هيكلا عاد فتبين وجه الخطأ فيما بدأ بالدفاع عنه، فقد بدأ هيكل - بمناسبة صدور كتاب عن «قصص البردي» لعالم أثري عصري (1926م) - بدأ هيكل في ربط الصلة بين مصر القديمة ومصر الحديثة مؤكدا أن بين الحالتين «اتصالا نفسيا وثيقا ينساه كثيرون ويحسبون أن ما طرأ على مصر منذ عصور الفراعنة من تطورات في نظم الحكم وفي العقائد الدينية وفي اللغة وفي غير ذلك من مقومات الحياة، قد فصل بين هذه الأمة الحاضرة وبين الأمة المصرية القديمة، فصلا حاسما، جعلنا إلى العرب أو إلى الرومان أقرب منا إلى أولئك الذين عمروا وادي النيل في ألوف السنين التي سبقت المسيحية.»
فيرد على هذه النزعة الفرعونية كتاب يؤمنون بأن جذورنا عربية، وبأنه من العبث أن نردها إلى أبعد من ذلك في التاريخ، لتضل في متاهات القرون، ومن هؤلاء أحمد حسن الزيات حين قال: «اشتهر بالرأي الفرعوني اثنان أو ثلاثة من رجال الجدل وساسة الكلام، فبسطوه في المقالات ... حتى خال بنو الأعمام في العراق والشام أن الأمر جد، وأن الفكرة عقيدة وأن ثلاثة من الكتاب أمة، وأن مصر - رأس البلاد العربية - قد جعلت المآذن مسلات، والمساجد معابد، والكنائس هياكل، والعلماء كهنة.» وبعد أن يمضي الزيات بأسلوبه العربي البليغ في التهكم من الفكرة الفرعونية وأصحابها يلخص الموقف بعبارة، فيقول: «وبعد، فإن ثقافتنا الحديثة إنما تقوم في روحها على الإسلام والمسيحية، وفي آدابها على الآداب العربية والغربية، وفي علمها على القرائح الأوروبية الخاصة، أما ثقافة البردي فليس يربطها بمصر العربية رباط، لا بالمسلمين ولا بالأقباط.» •••
ونسوق مثلا ثانيا للموضوعات التي اختلف فيها رجال الفكر في الفترة التي نحللها، وكيف جاء اختلافهم في موضوع الخصائص الأصلية التي يتميز بها المصريون، وهل هي أقرب إلى خصائص اليونان، أو إلى خصائص العرب، ومرة أخرى ننبه إلى نقطة هامة، وهي أن المتعارضين لم يثبتوا على آرائهم فيما كانوا يعرضون بالرأي فيه، ومبادلة الرأي هذه المرة كانت بين توفيق الحكيم وطه حسين، فيطرح الحكيم المشكلة بقوله: إنما الأمر الذي يحتاج إلى كلام هو معرفة مميزات الفكر المصري، معرفة أنفسنا، حتى تتبين لجيلنا مهمته: هذه هي المسألة (وليلاحظ قارئ اليوم أن هذه نفسها ما زالت هي المسألة المطروحة أمام المفكرين، وقد دنونا من ختام العقد السابع من القرن العشرين) ... ويمضي الحكيم في حديثه ليؤكد أن الروح المصرية والروح العربية مختلفتان، ولقد اختلطت إحداهما بالأخرى على نحو يصعب معه فصلهما، لنميز الواحدة من الأخرى، لكن هذا الفصل أمر لا بد منه، إذا أردنا أن نتبين أنفسنا، ويعرض الحكيم تحليله هو على قرائه، فيبين - أولا - أن دراسة الفن المصري والفن الإغريقي كفيلة بأن تبرز الفرق بين العقليتين: «ما بال تماثيل الآدميين عند المصريين مستورة الأجساد، وعند الإغريق عارية الأجساد؟ هذه الملاحظة الصغيرة تطوي تحتها الفرق كله، نعم، كل شيء مستتر خفي عند المصريين، عار جلي عند الإغريق، كل شيء في مصر خفي كالروح، وكل شيء عند الإغريق عار كالمادة، كل شيء عند المصريين مستتر كالنفس، وكل شيء عند الإغريق جلي كالمنطق، في مصر الروح والنفس، وفي اليونان المادة والعقل»، وبعد هذه المقارنة يجري الحكيم مقارنة أخرى لتتم له المقدمات، مقارنة بين اليونان والعرب، فيقول إن خط الإغريق مماثل لخط العرب: «كل تفكير العرب وكل فن العرب في لذة الحس والمادة، عند الإغريق الحركة، أي الحياة، وعند العرب السرعة.» والخلاصة هي أنه «من المستحيل أن نرى في الحضارة العربية كلها أي ميل لشئون الروح والفكر بالمعنى الذي تفهمه مصر والهند من كلمتي الروح والفكر.» و«لا ريب عندي أن مصر والعرب طرفا نقيض: مصر هي الروح، هي السكون، هي الاستقرار، هي البناء، والعرب هي المادة، هي السرعة، هي الطعن، هي الزخرف، مقابلة عجيبة: مصر والعرب وجها الدرهم، وعنصرا الوجود، أي أدب عظيم يخرج من هذا التلقيح؟ إني أتمنى للأدب المصري الحديث هذا المصير: زواج الروح بالمادة والسكون بالحركة، والاستقرار بالقلق، والبناء بالزخرف.»
ويرد طه حسين على الحكيم، رافضا أن تنسب الروح المصرية إلى أصول تبعد بها عن العرب وعن اليونان، ذلك أن الغوص بالروح المصرية الحديثة إلى الأصول الفرعونية مضطر إلى الضرب في مجاهل التخمين، على أن النسبة إلى العرب أمر قائم مشهود: «نحن - إذن - أمام أمرين، أحدهما عرضة للشك الشديد، لا تكاد تعرف منه شيئا، والآخر لا سبيل إلى الشك فيه، أحدهما حياة مصر القديمة وحضارتها العقلية - إن صح هذا التعبير - والآخر حياة العرب وحضارتهم، فإلى أي الأمرين نفزع لنقيم عليه بناء أدبنا الجديد؟ أإلى الشك أم إلى اليقين؟» ويمضي الدكتور طه حسين في رده على الحكيم ليخلص إلى جوهر الموضوع، وهو: مم تتكون روح مصر منذ استعربت؟ ويجيب بأنها تتكون من عناصر ثلاثة، أولها العنصر المصري الخالص الذي ورثناه من المصريين القدماء، وثانيها هو العنصر العربي الذي يأتينا من اللغة ومن الدين ومن الحضارة، وثالثها هو العنصر الأجنبي الذي أثر في الحياة المصرية دائما، والذي سيؤثر فيها دائما، وهو هذا الذي يأتيها من اتصالها بالأمم المتحضرة في الشرق والغرب، جاءها من اليونان والرومان واليهود والفينيقيين في العصر القديم، وجاءها من العرب والترك والفرنجة في القرون الوسطى، ويجيئها من أوروبا وأمريكا في العصر الحديث (راجع مجلة الرسالة، أعداد شهر يونيو 1933م).
Halaman tidak diketahui
ونسوق مثلا ثالثا مما كان يدور فيه القول بين الأدباء والمفكرين في فترة ما بين الحربين، موضوع القديم والجديد في تصور الناس للأدب، فهنالك من ينصرفون باهتمامهم إلى صقل اللغة وتجويدها دون أن تكون هنالك الفكرة التي ينقلونها بتلك اللغة، وهؤلاء هم أنصار القديم، وهنالك من يهتمون بالفكرة أول ما يهتمون، وهؤلاء هم أنصار الجديد - بتعبير أبناء الفترة التي نعرضها هنا - ونستطيع أن نتخذ سلامة موسى مثلا متطرفا لفريق المجددين، ومصطفى صادق الرافعي مثلا متطرفا لفريق المتشيعين للقديم. كتب سلامة موسى - مهاجما يقول: «أدباء الصنعة يكتبون وكل همهم محصور في تأليف استعارة خلابة أو مجاز جميل، أو كناية بارعة، أو غير ذلك من الفقاقيع، فإذا أراد أحدهم أن يؤلف كتابا أو يضع مقالة، لم يعن أقل عناية بالموضوع الذي يكتب فيه، وإنما يعمد إلى الفقاقيع، فيؤلف منها عبارة خلابة، فيتوبل بها إنشاءه، أو يرصها رصا، وكثير ما يعجز أمثاله عن تأليف عبارة من إنشائهم الخاص» ... وكتب كذلك في موضع آخر يقول: «في مصر وسوريا طبقة من الأدباء لها عيون من خلف رءوسها، فإذا نظرت لم تر سوى الماضي ثم هي مع ذلك لا ترى كل الماضي، وهي لو استطاعت أن تفعل ذلك، لكان لها من ذلك بصيرة بالحاضر والمستقبل، أجل، لو كانت هذه الطبقة تنظر إلى الماضي خلال تلسكوب العلوم الحديثة لاستطاعت أن تقرأ لغة الطبيعة، وتدرك أن روح العالم هي روح نشوء وتطور.»
ويرد الرافعي على هذا الهجوم، فيؤكد أن علته الحقيقية ترجع إلى التمكن من لغة العرب وأدبهم، فمن لم يجد في حياته الفرصة لهذه الدراسة، وشاءت له ظروفه أن يدرس لغة أجنبية، راح يتهم اتهامات مصدرها عجزه عن التعبير بلغة العرب، وهنا يتدخل الدكتور طه حسين، فيناصر سلامة موسى بعض المناصرة، ويصحح الرافعي فيما ذهب إليه، فيقول: «نعتقد أن الأستاذ الرافعي يسرف في هذا الحكم، ولعل مصدر إسرافه ... أنه أخطأ فهم ما يكتب أنصار المذاهب الغربية، وهو إنما أخطأ الفهم لأنه أخطأ الذوق وإنما أخطأ الذوق لأنه أخطأ الفهم، إن بعض أنصار المذهب الجديد ... قد أخذوا من اللغة العربية وآدابها بحظ لا بأس به، وإن قوتهم في اللغة الأجنبية وآدابها لم تحملهم على أن يضيعوا حظهم في اللغة العربية وآدابها، إذن فانتصار هؤلاء لمذهب جديد ليس ضعفا، وليس اعتذارا لأنفسهم وليس تعصبا للأدب الأجنبي الذي تفوقوا فيه.»
وهذا مثل رابع نقدمه لما كان يشغل الأدباء والمفكرين في مصر إبان الفترة التي نتحدث الآن عنها - فترة ما بين الحربين - فلم يكن يكفي أن يختلف المختلفون على أي الثقافتين يجب علينا الانتماء إليها في نهضتنا الأدبية: العربية القديمة أم الأوروبية الحديثة؟ بل حدث خلاف فرعي بين أنصار الثقافة الأوروبية الحديثة أنفسهم، كان السؤال هذه المرة هو: أي الثقافتين الأوروبيتين يجب الأخذ بها قبل أختها؟ أهي ثقافة اللاتين أم ثقافة السكسون؟ وبدأ الحوار في هذا الموضوع بمقالة نشرها العقاد تعليقا على كتاب أصدره أنطون الجميل عن «شوقي شاعر الأمراء»، فجاءت في هذا التعليق موازنة بين طريقة اللاتينيين في النقد الأدبي وطريقة السكسونيين، خلاصتها أن الأولين ينقدون الأدب، وكأنهم يتحدثون حديثا ظريفا في صالون، وأن الآخرين ينقدون الأدب نقدا موضوعيا يضرب في لباب الموضوع بغير اصطناع الظرف الاجتماعي الواجب اصطناعه في ندوات الأصدقاء، وكان العقاد فيما كتب على اعتقاد بأن ثمة فرقا بين الثقافتين ينبثق من الفرق بين المزاجين، وأن هذا الفرق واضح في مفكرينا وأدبائنا أنفسهم، فمن درس منهم الثقافة اللاتينية وجدته أقرب إلى أن يكون مؤرخا للأدب أو شارحا له، ومن درس منهم الثقافة السكسونية وجدته أقرب إلى أن يكون هو نفسه كاتبا أديبا أو شاعرا.
وهنا تصدى الدكتور طه حسين للرد والتصحيح، زاعما أن «ليس هناك نقد لاتيني ونقد سكسوني، وإنما هناك نقد فحسب، نقد يعتمد على هذا الذوق الفني العالي الذي أحدثته الثقافة اليونانية واللاتينية، وورثته عنهما الأمم الحديثة على اختلاف أجناسها وبيئاتها، فكل النقاد من الفرنسيين والإيطاليين والألمانيين والإنجليز قد قرءوا آيات البيان اليوناني واللاتيني، وذاقوا آيات الفن اليوناني والروماني لأنفسهم، أو كونت لهم هذه القراءة ذوقا عاما مشتركا بينهم جميعا يختلف في ظاهره ولكنه لا يختلف في جوهره؛ لأن هذا الجوهر واحد مستمد من هوميروس وبندار وسوفوكل وأرستوفان وأفلاطون.»
هكذا كنا في فترة ما بين الحربين، نحاول العثور على الجذور العميقة التي يمكن أن ننبت منها شجرة الحياة المصرية الجديدة، نحاول ذلك في الشعر، وفي النقد الأدبي وفي الفكر النظري، لكن هذه المحاولة جاوزت ذلك كله، جاوزته إلى مجال الخلق الأدبي الجديد في القصة والمسرحية، فلئن كان الشعر صورة مألوفة في الأدب العربي منذ أقدم العصور فلم تكن القصة - بمعناها الفني الحديث - ولا المسرحية مألوفتين معروفتين، فماذا لو أجرينا عليهما المحاولات، لنتخذ منهما وسيلتين جديدتين في البحث عن أنفسنا؟ لقد بحثنا عن هذه النفس في القصيدة وفي المقالة، وبقي أن نلجأ إلى طريقتين أخريين في التحليل والتجسيد، التحليل الذي يتعقب سلوك الناس إلى أصوله الأولى، والتجسيد الذي يبلور روح المجموع في أشخاص يصورهم كاتب القصة أو كاتب المسرحية.
وكانت أولى محاولاتنا الجادة في القصة - كما ذكرنا - هي «زينب» وهي القصة التي كتبها محمد حسين هيكل في منتصف العقد الثاني من القرن، كتبها ليجسد فيها دعوة قاسم أمين إلى حرية المرأة، وليعرض في حوادثها عيوب المجتمع التقليدي الذي يحول دون امرأة ورجل متحابين لا لشيء إلا لأنهما من طبقتين متفاوتتين من حيث الغنى والفقر.
ونمضي إلى العقد الثالث من القرن، فنرى «المقالة» قد ملأت الفراغ الأدبي كله سواء في ذلك المقالة السياسية التي اشتعلت حرارة من نار الثورة، والمقالة الأدبية والفكرية التي انتقل إليها الخلاف السياسي المذهبي بين الكتاب ليصبح خلافا فكريا فلسفيا - حتى إذا ما بلغنا أواخر العقد الثالث هذا، صادفتنا ألوان أدبية جديدة: صادفتنا «الأيام» للدكتور طه حسين، و«عودة الروح» لتوفيق الحكيم، وبعض المسرحيات الشعرية لأحمد شوقي، وهي كلها - بمعنى من المعاني - محاولات في سبيل العثور على حقيقة أنفسنا: أهي تغوص بنا إلى جذور فرعونية كما يذهب توفيق الحكيم في عودة الروح؟ أم هي جمع بين الثقافة العربية الأصيلة والروح الغربية، كما يتمثل هذا الجمع في ترجمة طه حسين لحياته، وفي مسرحيات شوقي الشرقية المضمون الغربية الشكل؟
لقد جاءت قصة «عودة الروح» في موضعها الزمني من تاريخنا الفكري الحديث، شاهدا قويا على رغبة المصري - إذ يرى نفسه في دوامة التيارات الثقافية الوافدة إليه من كل صوب - في أن يثبت ذاته إثباتا يجعلها «مصرية» خالصة تتميز بطابع خاص، وهي ذات تصارع الزمن لتخلد وتستعصي على الفناء، ثم هي في هذا الصراع لا تجمد ولا تخمد إلا لكي تثور حين يظهر لها من أصلابها زعيم قائد، ولئن جرت الأسطورة المصرية القديمة برواية عن إيزيس وكيف طفقت تجمع أوصال أخيها أوزريس الممزقة المبعثرة حتى أعادته كائنا سويا تدب فيه الروح من جديد، فهكذا تجري الحياة في مصر أبدا على مر التاريخ الطويل: يمزق أشلاءها من يمزق، لكن ذلك لا يطول طويلا حتى يتولاها زعيم من أبنائها فيجمع شملها ويعيدها أمة سوية ممتلئة بدوافع الحياة.
ونمضي مع الزمن إلى العقد الرابع من هذا القرن - الثلاثينيات - لنجد أنفسنا أمام حصاد غني من ثمار القريحة الأدبية في القصة والمسرحية، لكن المحاولة الرئيسية لم تزل هي هي، وأعني محاولة البحث عن حقيقة أنفسنا فيما نحلله من شخصيات نصورها بوحي من الواقع الملموس، كل كاتب بحسب استعداده وطريقته في الخلق الفني، فإذا كان توفيق الحكيم قد لمس الصراع العنيف بين المصري وتيار الزمن، لمسه في قصته «عودة الروح»، فقد عاد إليه بصورة أصرح - وأقوى - في مسرحيته «أهل الكهف» (1933م) التي بناها على القصة الواردة في الكتاب المقدس وفي القرآن الكريم، إلا أن الكاتب هنا قد جعل فعل الزمن أقوى من عواطف الإنسان، فهؤلاء هم أهل الكهف بعد أن استغرقوا في نوم طويل، أبعدهم عن مجرى الحوادث مئات السنين، عادوا إلى الحياة من جديد، وانطلقوا يبحثون عما كان يربطهم بها من روابط: الوالد يبحث عن ولده فيعلم أنه مات منذ قرن كامل، فلا يطيق العيش بعد أن انفصمت روابطه بالناس من حوله، وهذا حبيب يلتمس حبيبته، فيلتقي بحفيدة لها، شبيهة بها، فيحسبها الحبيبة القديمة، ويحدث أن تحبه هذه الحفيدة، لكن ما إن اكتشف كلاهما حقيقة الواقع، حتى تصعقهما هذه الحقيقة، فلا يحتملانها، وهكذا قل في سائرهم، كل منهم تفجؤه الفجوة بين حقيقته هو، والحقيقة الخارجية فيؤثر الموت على حياة لا روابط فيها بينه وبين أهلها.
إن كاتبنا المسرحي العظيم، يؤمن في أعماق نفسه بوجود قوة غيبية لا قبل للإنسان بردها، فإن أوهمه خياله - أو أوهمه العقل المحدود - بأنه قادر على أن يفرض سلطانه، حدثت الفاجعة ونزلت المأساة؛ ولذلك لا مفر للإنسان إذا أراد لنفسه عيشا سعيدا، من أن يحيا في ظل إيمانه وعلى دفء عاطفته، وأن يحصر المعرفة العلمية في حدودها مهما ضاقت تلك الحدود، ولعل هذا هو الفارق الرئيسي بين ما يسمى بالشرق وما يسمى بالغرب - في التقسيم الثقافي لمجموعات البشر - وهو أن الغرب يدعي بعلمه العقلي أكثر مما يستطيع، وأكثر مما يوفر للحياة الإنسانية هناءتها، وأما الشرق، فلو ترك لطبيعته، آثر أن يستمع إلى صوت وجدانه، حتى وإن لم يعد له بالعلم الكثير من هذا الكون الكبير، وإذا شئت عبارة موجزة تلخص هذا الفارق بين الثقافتين، فقل إن في الغرب علما وفي الشرق تصوفا، وإن التصوف أعلى مرتبة من العلم.
Halaman tidak diketahui
هذا وهو في مسرحية أخرى له، مسرحية «شهرزاد» يجعل بطلها شهريار يبلغ من المتعة الحسية الجسدية أقصى مداها، لكنه بعد ذلك لم يسترح ولم يطمئن، يريد معرفة سر الكون، لكن هذا السر يستغلق على فهمه العقلي، ولم يكن له بد - إذا أراد الوصول - من أن يلجأ إلى بصيرته التي تنفذ به خلال العالم المنظور، وإلا فهذا العالم المنظور ضارب حوله بنطاقه، لا يجد له منه مهربا، لو جعل أدواته هي الحواس التي تشتهي، والعقل الذي يفسر ... ومن هذه الزاوية نفسها - زاوية الإيمان بقصور العقل والعلم، يكتب الحكيم قصة «عصفور من الشرق» ليرد بها على غرور الغرب بعلمه وآلاته: «فماذا صنع لنا العلم؟ وماذا أفدنا منه؟ الآلات التي أتاحت لنا السرعة؟ وماذا أفدنا من هذه السرعة؟ البطالة التي تلم بعمالنا، وإضاعة ما يزيد من وقت فراغنا فيما لا ينفع» ... ولا نترك توفيق الحكيم في ثلاثينيات هذا القرن، دون أن نذكر كتابه «يوميات نائب في الأرياف» الذي يقدم صورة نضرة للحياة في الريف المصري، ومدى ما كان يفصم أهل الريف عن التشريعات والقوانين، فهم لا يفهمونها ولا يدركونها، وهي لا تراعي حقائق معاشهم ومدى إدراكهم.
وظهرت في الثلاثينيات قصتان للصديقين المازني والعقاد، فقصة المازني عنوانها «إبراهيم الكاتب» (1932م) وهي بمثابة ترجمة ذاتية للكاتب، تحلل ظاهرة الحب التي تربط بين الرجل والمرأة، كما تشير إلى صفة رئيسية في الكاتب، وهي انحصاره في ذاته، وأما قصة العقاد فعنوانها «سارة» (1938م) وهي - كزميلتها - تحليل لظاهرة الحب بين الرجل والمرأة، لكن التحليل هنا مأخوذ من زاوية جديدة، هي الزاوية التي يكون فيها المحب عقلا كله، والحبيبة حيوية جسدية كلها ... ترى هل شغل الكاتبان في قصتيهما هاتين بتحليل الحب، نتيجة لظفر المرأة بحريتها عندئذ على نطاق ملحوظ؟ وبهذا تكون هاتان القصتان مكملتين - من حيث الوظيفة الاجتماعية التي تؤديانها - لقصة «زينب» التي أخرجها هيكل سنة 1914م، فكلها تجسيد للنتائج التي تترتب على دعوة قاسم أمين إلى حرية المرأة: في «زينب» لم تكن المرأة قد ظفرت من حريتها إلا بقبس ضئيل يتيح لها أن تحب، دون أن تجهر بحبها، وفي «إبراهيم الكاتب» تتعدد المحبوبات للحبيب، وفي «سارة» تلعب المحبوبة بعقل حبيبها، كأنما في هذا إشارة إلى أن الحرية للمرأة قد زادت على حدها المأمول.
وتنشب الحرب العالمية الثانية سنة 1939م، لتدوم حتى سنة 1945م، فتكون نتيجتها على تيارنا الفكري شبيهة من بعض الوجوه بنتيجة قيام الحرب العالمية الأولى 1914-1918م، ففي أعوام الحرب الثانية - كما هي الحال في أعوام الحرب العالمية الأولى - ينطوي الكتاب على أنفسهم، لكن انطواءهم هذه المرة كان معناه العودة إلى ماضي الأمة العربية يجترونه، ويحيون أبطاله إحياء قد يقيم أمام الجيل الصاعد صورة مجدهم الذي لم يكن ينبغي لفيضان الثقافة الغربية أن يطغى عليه، لقد رأينا خلال الصفحات السابقة كيف تلازم خطان ثقافيان في حياتنا، فسارا جنبا إلى جنب، تكون الغلبة آنا لهذا الخط، وآنا آخر لذاك، وأعني بهما الثقافة العربية القديمة في ناحية، والثقافة الغربية في كل عصورها، من اليونان فنازلا، في ناحية أخرى، وكثيرا ما وفق رجال الفكر والأدب إلى ضفر هذين الخطين ليجعلا منهما كيانا واحدا كما هي الحال في بعض أعمال العقاد، وفي طه حسين، وتوفيق الحكيم وغيرهم، لكن قيام الحرب جاء مذكرا لنا بوجوب الجد عن أنفسنا، لنخلق لأنفسنا شخصية جديدة نستعد بها للحياة الجديدة التي لا بد أن تتمخض عنها الحرب العالمية.
وفي سبيل هذا البحث، طفق كتابنا ينكتون الماضي وينقبون في حناياه وخفاياه ويرسمون لنا صورا قوية مشرقة لأعلام ذلك الماضي ومواقفه: هذا هو العقاد يخرج سلسلة متعاقبة الحلقات من «العبقريات» الإسلامية، فيخرج «عبقرية عمر» و«عبقرية الإمام» (على) سنة 1942م، و«عبقرية محمد» و«عبقرية الصديق» (أبي بكر) سنة 1943م، ثم يتابع الحلقات حتى تشمل السلسلة عددا غير قليل من شخصيات الإسلام في عصره الأول الزاهر، ويكتب محمد حسين هيكل عن أبي بكر وعن عمر من خلفاء المسلمين، وكان قبل ذاك قد كتب عن محمد عليه السلام، ويكتب توفيق الحكيم عن محمد، ويكتب كثيرون آخرون عن بطولات الإسلام، إما مقالات في المجلات الأدبية، أو كتبا كاملة ... وسيظل هذا الاتجاه قائما في حياتنا الأدبية عبر الخمسينيات والستينيات، ليضيف طه حسين روائع من روائعه عن صدر الإسلام متمثلا في تضحياته وبطولاته، ومما نذكره له في ذلك كتابه «الشيخان».
وقد كانت التكملة الطبيعية لهذه العودة إلى الماضي في صور أبطاله ومواقفه، أن تنصرف بعض الجهود إلى تحليل العقيدة الإسلامية نفسها، وفلسفتها، وإلى بحوث علمية في تأصيل الفكر الإسلامي على اختلاف عصوره وأطواره، ففي تحليل العقيدة الإسلامية يصدر العقاد عددا من الكتب ويكتب مقالات كثيرة، ومن أهم كتبه في ذلك: «الله، كتاب في نشأة العقيدة الإلهية» (1947م) و«الفلسفة القرآنية» (1947م)، حتى إذا ما جاءت خمسينيات القرن، أكثر من تأليفه في هذا الاتجاه، ومن أهم ما أخرجه «التفكير فريضة إسلامية» (1957م) و«حقائق الإسلام وأباطيل خصومه» (1957م).
كثرت الدراسات الإسلامية والعربية فيما بعد الحرب العالمية الثانية، وتفسير ذلك - فيما أظن - أنه كان تمهيدا قويا لولادة جديدة، تولد فيها أمة تتعرف على سماتها العربية الإسلامية، بعد أن كادت تضيع هذه المعالم في غمرة النقل عن ثقافة الغرب، فإذا كان الكتاب خلال العشرينيات والثلاثينيات، قد وجدوا أحيانا ما يبرر تساؤلهم: من نحن؟ أنحن فرعونيون أم عرب؟ وما إلى هذه الأسئلة من أسئلة، فهم اليوم قد باتوا على يقين لا يفسح المجال حتى للسؤال، هم اليوم على يقين من أنهم أمة عربية، أو هم بتعبير أدق جزء من الأمة العربية، التي تربط أجزاءها روابط قوية من لغة ودين وتاريخ ومصير ، إذن فلنحلل كل هذه الروابط في دراسات علمية أحيانا، وفي مقالات شعبية أحيانا أخرى، نعم لنحلل عناصر الدين وعناصر اللغة وحوادث التاريخ وأهداف المصير ... تلك كلها دراسات شغلتنا بعد الحرب الثانية.
وقد شغل الناس بموضوعين عن اللغة دارت حولهما معارك فكرية هادئة حينا عنيفة أحيانا، أولهما هو: أنكتب بالعامية أم نكتب بالفصحى؟ وثانيهما: أنكتب بأحرف عربية أم نكتب بأحرف لاتينية؟ فأما أول الموضوعين فما زال إلى هذه الساعة قائما تدور فيه المساجلات، يدافع عن الكتابة العامية فريق يضع جماهير الشعب نصب عينيه، ويدافع عن الكتابة بالفصحى فريق آخر يجعل الأولوية للوحدة العربية التي تقتضي أن يكون اللسان واحدا مفهوما في مصر والعراق وسوريا وتونس والجزائر وسائر أقطار الأمة العربية، ذلك فضلا عن الحفاظ على التراث المشترك، ومنه القرآن الكريم.
وأما ثاني الموضوعين فقد ثار في الأربعينيات حينا، ثم مات ولم تقم له بعد ذلك قيامة، وكان بطل الكتابة بأحرف لاتينية عبد العزيز فهمي في تقرير قدمه سنة 1944م إلى المجمع اللغوي، مبينا فيه صعوبة التعلم باللغة العربية كتابة وقراءة، ومستشهدا بما حدث في تركيا من تسهيل في عملية التعلم نتيجة لاستخدامهم أحرفا لاتينية بدل الأحرف العربية التي كانوا من قبل يستخدمونها في كتابة اللغة التركية، ثم اقترح طرائق مفصلة لتنفيذ اقتراحه.
لكن اقتراحا كهذا لم يكن ليمضي بغير معارضة شديدة من جهات كثيرة، في مصر وفي غيرها من أقطار الأمة العربية، ومن المعارضين محمود محمد شاكر وكان مما احتج به قوله: «إن أول التضليل في رسم العربية باللاتينية أن يضيع على القارئ تبين اشتقاق اللفظ الذي يقرؤه، فإذا عسر عليه ذلك صار اللفظ عنده بمنزلة المجهول الذي لا نسب له ... نعم، وإذا ضل عن تبين الاشتقاق والتصريف، فقد ضل عن العربية كلها؛ لأنها لم تبن إلا عليهما، وهي في هذه الوجهة مخالفة لجميع اللغات التي تكتب بالحرف اللاتيني؛ لأن الاشتقاق والتصريف يعرضان لها من قبل بناء الكلمة كلها حتى تختلف الحركات على كل حرف ... إلخ» وتعرض للرد غير هذا الكاتب كتاب آخرون، كل منهم يقيم الحجة من زاوية معينة.
وربما كان من أبرز الملامح في حياتنا الثقافية في الأعوام التالية للحرب الثانية، ما أداه أساتذة الفلسفة الجامعيون، وكان ذلك ذا شقين: أولهما تأصيل الفلسفة الإسلامية على أصول إسلامية خالصة، بعد أن كان الظن أنها نقول وشروح من الفلسفة اليونانية وعليها، وثانيهما إدخال تيارين معاصرين كنا بحاجة إليهما، هما الفلسفة الوجودية توكيدا للحرية، والوضعية المنطقية توكيدا للطريقة العلمية في صياغة القول وفي فهمه على السواء.
Halaman tidak diketahui
فمن باب البحث في الفلسفة الإسلامية، أصدر الشيخ مصطفى عبد الرازق كتابه «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» (1944م) الذي وقف فيه وقفة العالم المحايد، فهو يختفي وراء نصوصه اختفاء من لا يريد أن يكون له ميل مرجح سوى ما توجبه النصوص، فالكتاب يشتمل على بيان لمنازع الغربيين والإسلاميين ومناهجهم في دراسة الفلسفة، فالباحثون الغربيون في طريقة عرضهم للموضوع تراهم وكأنما يقصدون إلى القول بأن في الفلسفة الإسلامية عناصر أجنبية، ثم يأخذون في رد تلك العناصر إلى مصادرها غير العربية وغير الإسلامية، موضحين أثرها الذي يرونه فعالا في توجيه الفكر الإسلامي، وأما الباحثون الإسلاميون فيغلب عليهم أن يزنوا الفلسفة بميزان الدين، لكن مؤلف «التمهيد» يتخذ لنفسه منهجا آخر في درسه لتاريخ الفلسفة الإسلامية، إذ هو يتوخى الرجوع إلى النظر العقلي الإسلامي في سذاجته الأولى، وتتبع مدارجه في ثنايا العصور، وأسرار تطوره والنتيجة العامة التي ينتهي إليها هذا الكتاب هي أن للمسلمين فلسفة خاصة بهم، مطبوعة بطابعهم، لها بداياتها البسيطة وأدوار نموها وازدهارها - وهي نتيجة كونت مدرسة بأسرها في البحث الفلسفي منذ ظهر هذا الكتاب وإلى يومنا هذا.
وأما التياران المعاصران اللذان أدخلا في حياتنا الثقافية، فهما - كما ذكرنا - الوجودية، والوضعية المنطقية، الأولى لتكون فلسفة حياة، والثانية لتكون فلسفة علم، وكانت حياتنا الفكرية بحاجة إلى الفلسفتين؛ ولذلك أحدث هذان التياران أصداء متفاوتة القوة، فهنا مؤيد وهناك معارض، وكان أهم من قدم لنا الوجودية من زاوية جديدة، هو عبد الرحمن بدوي في كتابه «الزمان الوجودي» (1944م) وأهم من قدم الوضعية المنطقية بتطبيق عربي هو زكي نجيب محمود في كتابه «المنطق الوضعي» (1951م) وكتابه «خرافة الميتافيزيقا» (1953م).
إن العوامل المختلفة التي أخذت تعتمل في الثقافة العربية في مصر، منذ أواخر القرن الماضي، والتي ما انفكت منذ ذلك التاريخ توسع من نطاق فعلها، فكلما امتدت إلى جانب من جوانب الحياة، جاوزته إلى جانب آخر: فمن مطالبة بالحرية السياسية، إلى مطالبة بالحرية الفكرية، وبالحرية الاجتماعية، أقول إن هذه العوامل المختلفة كلها، كانت طوال هذه الفترة تعمل في أنفس الكتاب والمفكرين، باحثة عن شخصية عربية جديدة، تحافظ على تراث الماضي، وتضيف إليه عناصر الحاضر، وكان لهذا البحث عن ذات جديدة تولد من رماد التخلف ومن أغلال المستبدين والمستعمرين، كان لهذا البحث عن ذات جديدة، لحظات مشهودة، حفزتها على سرعة الحركة وحيوية النشاط: الثورة السياسية سنة 1919م، وحرب فلسطين سنة 1948م على أثر إعلان الأمم المتحدة لقيام إسرائيل اغتصابا من الشعب العربي، ودع عنك قيام حربين عالميتين، شبت في ختام الأولى منهما ثورة سياسية تطالب بالاستقلال عن إنجلترا، وتخمرت في ختام الثانية منهما خمائر ثورة اجتماعية - تهمس ألسنتها أول الأمر، ثم تجهر - مطالبة للشعب كله - لا للفئة المحظوظة وحدها - بحق العيش وحق المشاركة الفعلية في الحياة على أرضه، ولم يكن حريق القاهرة في 26 يناير 1952م إلا اندلاعا لروح الغضب الكامن في الصدور، ثم جاءت ثورة 23 يوليو 1952م لتحول غضبة الغاضب إلى سلوك يغير الحياة الفاسدة، ويستبدل بها أوضاعا جديدة، تحقق له الآمال التي ظلت تتراكم على أقلام الكتاب وفي أذهان المفكرين.
كان الهدف الواضح الظاهر لشتى مظاهر الفكر المصري والأدب المصري هو خلق روح مصرية جديدة، تتسم بطابع مميز، فلما أن نشبت الحرب العالمية الثانية، وبلغت ختامها سنة 1945م، أخذ هذا الطابع المميز المنشود يتطلع إلى أفق أوسع، لا يقتصر أمره على أصحاب الحياة العلمية وحدهم - أعني علية المثقفين - بل يتعداهم إلى شيء يصلح أن يتسع ليشمل الشعب كله، ثم لما قامت الحرب الفلسطينية بين البلاد العربية وإسرائيل سنة 1948م، كان ذلك بمثابة أن تتحدد معالم الهدف الجديد للفكر، وللأدب، وللسياسة، ولكل وجه من أوجه النشاط الذهني، وهو أن يعمل العاملون وأن يفكر المفكرون، وأن يتغنى الشعراء بوحدة عربية وقومية عربية، تكون مصر جزءا منها.
أخذت خيوط كثيرة تتجمع، بعد أن هدأت نيران الحرب العالمية الثانية، تشير كلها إلى وجوب تغير الأوضاع من أساسها، طه حسين يكتب عن «المعذبين في الأرض» كما يكتب سواه في نفس الاتجاه، إرهاصا لثورة اجتماعية اقتصادية، وخالد محمد خالد يكتب «من هنا نبدأ» و«مواطنون لا رعايا» فتحدث كتاباته أثرا في رقعة واسعة من القراء؛ لأنه يلجأ إلى طريقة في الكتابة تجمع في يد واحدة ثنائية الثقافة الدينية التي كانت معتزلة وراء جدران الأزهر إلى حد كبير، والثقافة السياسية الاجتماعية الجديدة، هادفا إلى خلق العربي المسلم الحر المعاصر في آن معا، ويحيى حقي يكتب «قنديل أم هاشم» ليؤكد ضرورة العودة إلى تربة الثقافة العربية الإسلامية، حتى وإن أوغل المغترب في العلم الأوروبي، ومحمد فريد أبو حديد - منذ العشرينيات والثلاثينيات - يكتب بروحه السمحة وقلمه الهادئ ليشيع فينا نفحة التجديد الذي يقيم بنيانه على أسس الثقافة العربية الإسلامية الأصيلة ... خيوط أخذت كلها تتجمع لتلتقي في عزيمة واحدة، تنتظر الجذوة التي تشعلها فتحركها إلى عمل ثوري يقلب التربة قلبا، ليبذر بذورا جديدة، لتنبت لنا نباتا جديدا، وكانت هذه الجذوة هي ثورة 23 يوليو 1952م، التي سرعان ما أصبحت هي الثورة الأم، التي تلد ثورات متتابعة رأسية وأفقية، رأسية تتناول أوضاع الحياة في مصر، وأفقية تتسع لتشب في سائر أجزاء الأمة العربية.
لقد مست روح الثورة جوانب الحياة الفكرية والأدبية جميعا، وعلى صور إن تفاوتت قوتها في المجالات المختلفة، فهي روح منبثقة عن توكيدنا للذات العربية في مجتمع اشتراكي يضمن للإنسان كرامته مهما كان العمل الذي يؤديه، ومهما كانت درجته من الفقر أو الغنى، نعم لقد كانت الخيوط الفكرية كلها - كما قلنا - تتجمع نحو هذا الهدف خلال أعوام القرن العشرين كلها، لكن ثورة 1952م جاءت لتبدأ في حياتنا الفكرية طورا ثوريا، يستخدم كل عوامل الماضي ، لينهض بتغيير شامل.
ونستعرض صنوف الفكر والأدب خلال هذه الأعوام الثائرة، فنرى إلى أي حد تغلغلت الثورة في أعماق المفكرين والأدباء، استجابة - ومشاركة في الريادة - للحركة التي شملت الشعب بأسره.
ففي الشعر، بلغت البدايات الجديدة التي كان أبو حديد قد بدأها حين حاول أن يجرب الشعر المرسل، الذي يحتفظ بالوزن ويتخفف من القافية، أقول إن هذه البدايات، قد بلغت الآن أوجها، على أيدي نفر من الشعراء الذين أرادوا أن يفاجئونا بالجديد، في الشكل وفي المضمون معا، فأما الشكل، فقد نفضوا عن أنفسهم التقليد السائد، الذي يحتم أن يجيء الوزن على صورة بعينها، وأن تكون للقافية شروط تجب مراعاتها، ثم لم يكفهم هذا، فثاروا على المضمونات التقليدية التي لبث الشعراء يدورون فيها مئات السنين، منذ العصر الجاهلي وإلى يومنا، حتى لقد اجترأ كاتب مفكر خلال الأربعينيات هو أحمد أمين، مؤلف المجموعة المشهورة التي أرخت للفكر العربي، والتي صدرت بعض أجزائها في الثلاثينيات، وأعني بها «فجر الإسلام» و«ظهر الإسلام» - أقول إن هذا الكاتب المفكر كان قد اجترأ فأعلن في سلسلة مقالات - نشرها في مجلة الثقافة التي كان يشرف على تحريرها، ثم جمعها مع غيرها في مجموعة مقالاته «فيض الخاطر» - أعلن أن الأدب الجاهلي قد جنى على الشعر العربي جناية كبرى، حين حدد له مرة وإلى الأبد - أو ما ظنه أنه باق إلى الأبد - شكلا بعينه للشعر، بل ومعاني بعينها يدور حولها الشعراء، وأن الثورة قد أصبحت واجبة على الشعراء المحدثين، وها هم أولاء الشعراء المحدثون قد سنحت لهم الفرصة فثاروا على الشعر التقليدي شكلا ومضمونا وكان على رأس هؤلاء - في مصر - صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي، لكنه مما يلفت النظر أنه إلى جانب الصور الجديدة الثائرة في شكلها وفي مضمونها، بقيت صور أخرى من الشعر، تكتفي بالثورة في المضمون الشعري، لكنها تحافظ على الشكل القديم، وترى أن الوعاء القديم ما زال صالحا ليصب فيه الشراب الجديد.
وإن هذا التوازن ليظهر كذلك في التأليف المسرحي خلال أعوام الثورة، أعني أنك تجد من أدباء المسرح من حطم الصورة الشكلية التقليدية للبناء المسرحي، فجاء جديدا في المضمون والشكل معا، كما تجد إلى جانبهم فئة أخرى، تثور في المضمون لكنها تحافظ على الشكل التقليدي القديم، بل وتجد إلى جانب هؤلاء وأولئك جماعة ما زالت تكتب كما كان يكتب أدباء العشرينيات، أسلوبا ومضمونا، فالشاعر المسرحي عزيز أباظة يتابع إخراج مسرحياته الشعرية على نحو ما كان يؤلف أحمد شوقي مسرحياته: مضمون يغلب عليه أن يكون من التاريخ العربي، وشكل يحافظ على الوزن والقافية التقليديين، والكاتب المسرحي العظيم توفيق الحكيم - الذي امتد إنتاجه الأدبي منذ العشرينيات، لم يفتر - ما زال كأول عهده، يختار البناء الكلاسيكي للمسرحية، وإن يكن قد مال بالمضمون نحو المعاني الاشتراكية الجديدة، هذا إذا استثنينا محاولات جزئية يحاولها آنا بعد آن، ليجرب قلمه وذهنه في الاتجاهات المسرحية الجديدة، فيكتب حينا في الأدب اللامعقول مسرحية يجاري بها أهل هذا المجال، ويكتب حينا آخر شيئا يسميه جمعا بين المسرحية والرواية، وهكذا، أما عبد الرحمن الشرقاوي فيكتب مسرحيات شعرية في موضوعات تساير الثورة السياسية في أهدافها لكنه يتخفف في شعره من قيود القافية، وإن ظل محتفظا بالوزن الشعري كما عرفه التقليد العربي.
لكن الأدب المسرحي لم يلبث أن تفجر عن فئة ثائرة ممعنة في ثورتها، أرادت أن يكون مسرحنا مسرحا عربيا أصيلا، يستوحي طابعنا المحلي الخاص، فاللغة في الحوار هي العامية لا الفصحى، وتتابع المناظر والفصول يجري على نسق مبتكر، بل وخشبة المسرح نفسها تعرضت للتبديل والتغيير، نذكر من هؤلاء «رشاد رشدي» و«نعمان عاشور» و«يوسف إدريس» و«لطفي الخولي» و«ألفريد فرج» و«سعد الدين وهبة»، ولنلاحظ عن معظم هؤلاء أنهم ممن أسهموا في أكثر من مجال أدبي، فمنهم من كتب القصة إلى جانب المسرحية (مثل يوسف إدريس)، ومنهم من أسس في حركة النقد الأدبي كذلك (مثل رشاد رشدي)، وهم فوق هذا وهذا ممن يشتركون بأقلامهم في الصحافة اليومية، بما يغلب عليها من طابع سياسي يتابع الأحداث الجارية.
Halaman tidak diketahui
وأما القصة فقد كانت في أدبنا الحديث منذ أول القرن، وبلغت أشواطا لا بأس بها على أيدي هيكل في «زينب» و«هكذا خلقت» و«المازني» في «إبراهيم الكاتب» والعقاد في «سارة» ومحمود تيمور في «سلوى في مهب الريح» - وكلهم ممن غلبت فيه الثقافة الفكرية العقلية على أدبه، فجاءت قصصهم تحليلا لأفكار - وخصوصا فكرة الحب، وبعض العلاقات الاجتماعية الأخرى - ثم ظهرت بعدهم جماعة أخرى تكتب القصة كتابة تسودها التلقائية وعدم إطالة التفكير العقلي؛ وذلك لأن الطبع القصصي عندهم أعمق وآصل، ولكنهم برواية الأحداث والتزامهم الواقع كما يقع، أكثر اهتماما منهم بتحليل الأفكار والأشخاص؛ ولهذا كانت قصصهم أقرب إلى نفوس القراء الذين يريدون المتعة الأدبية وحدها ولا يصبرون على جهد يبذلونه في أدب أنشأه صاحبه بعد إعمال الفكر وعناية باللغة، ومن هذه المجموعة الثانية «يوسف السباعي» و«إحسان عبد القدوس» و«محمد عبد الحليم عبد الله» و«يوسف غراب» - فلما قامت ثورة يوليو 1952م، ولبثت ماضية في طريقها الثوري ظل هؤلاء الكتاب يكتبون، بعد أن مالوا بمضمونهم الأدبي نحو الفكر الاشتراكي الجديد، ونحو إبراز المفارقات التي كانت تفسد حياتنا قبل الثورة، لكنهم - مع تجديدهم في المضمون، ومسايرتهم للروح الثورية - ما زالوا يحافظون على الأسلوب الذي بدءوا الكتابة به منذ بدءوا.
ويقف وحده في ميدان القصة «نجيب محفوظ» الذي بدأ إنتاجه القصصي منذ أواخر الثلاثينيات، وظل يواصل الكتابة، التي استهدف بها دائما تصوير الطبقة الوسطى الطامحة إلى التشبه بالطبقة الممتازة، حتى قامت ثورة 1952م، وعندئذ طفر بفنه طفرة عالية، إذ وسع من منظوره الفني توسعة استطاع بها أن ينظر إلى تاريخنا القومي الحديث كله، وكأنه ينظر إلى مشهد واحد، وطفق يصوره تصويرا بارعا فيه حيوية وبناء أدبي محكم، ومن خير الأمثلة لفنه الجديد ثلاثية صور بها ثلاثة أجيال تتابعت في أسرة واحدة منذ ثورة 1919م، ليبرز في تطورها خلال الوالد والولد والحفيد، معالم تطورنا جميعا في عصرنا الثوري الحديث.
ونترك ميدان الأدب، لننظر فيما صاحبه من نقد أدبي، فنجد هنا المدارس تتتابع منذ العشرينيات حتى يومنا هذا، تتابعا يدل بذاته على معالم التغير في وجهات النظر فبعد أن تولى النقد أدباء ما قبل الثورة: طه حسين، والعقاد، والمازني وغيرهم، ينقدون وكأنما في خلفية رءوسهم عقيدة بأن الأدب إنما يكتب على أسس أدبية فنية صرف، نحاسب الأديب عليها دون أن نطالبه بأن يكون على رأي معين في موضوع بعينه، فليكن مذهبه السياسي ما يكون، ولتكن ميوله الاجتماعية ما شاء لها أن تكون، وليضع أية عقيدة أراد في أدبه، لكنه مطالب بتجويد فنه الأدبي، ثم هم بعد ذلك يختلفون في الأساس الذي يحكمون به على جودة هذا الفن الأدبي: أيكون هو نجاح القطعة الأدبية في التغلغل بنا إلى أعماق نفس كاتبها؟ أم يكون هو نجاحها في تصوير عصرها؟ أقول إنه بعد أن كان النقد عند أدباء ما قبل الثورة قائما على أسس كهذه، جاءت الثورة فتبعها تبدل في الموقف النقدي، إذ أخذت المذهبية الاجتماعية والسياسية (الأيديولوجية) شيئا فشيئا تحتل مكانتها كأساس للنقد، ينظر إليها قبل أن ينظر إلى أي شيء سواها، فإذا وجدت القطعة الأدبية هادفة نحو تحقيق آمال المجتمع في طوره الاشتراكي الجديد، نظرنا بعد ذلك في شكلها وأسلوبها وغير ذلك، وأما إذا وجدت غير هادفة على هذا النحو، كان من العبث وضياع الوقت والجهد أن نناقشها من جوانبها الفنية الأخرى، وكان من أبرز من أقاموا هذا النقد الأيديولوجي في الأعوام الأخيرة «محمد مندور» وما يزال يجري عليه نقاد آخرون مثل «محمود أمين العالم»، على أن المعارك النقدية ما زالت تظهر في محيطنا الأدبي حينا بعد حين، بين نقاد يؤكدون أهمية «الشكل» في القطعة الأدبية، بغض النظر عن موضوعها، وآخرين يؤكدون أولوية «الموضوع» وإلا فلو خلت الكتابة من موضوع يمس مشكلات الحياة الواقعة، كانت عبثا ولهوا، وهنالك نقاد يقفون في نقدهم عند التقويم الفني المشبع بقراءات عريضة وثقافات متنوعة، مثل لويس عوض.
وإن الحديث عن النقد الأدبي، ليجرنا إلى الحديث عن «الفكر» بصفة عامة، فها هنا كذلك نجد الأمزجة كلها متجاورة - وإن لم تكن متآلفة - فثمة من الدارسين - من أساتذة الجامعة بصفة خاصة - من يعكف على دراسة القديم أو الجديد، كل بحسب ميدان تخصصه، ليخرج للناس بحوثه في كتب أو في مقالات أكاديمية، أو على الأقل مطبوعة بطابع الجد الرصين، ومن أمثلة هؤلاء في مجال الدراسة الأدبية «شوقي ضيف» الذي ينصرف بجهوده نحو التأريخ للأدب العربي من أقدم قديمه إلى أحدث حديثه، و«سهير القلماوي » التي استطاعت بسعة أفقها وطلاوة حديثها أن توصل أعلى المستويات الثقافية إلى جمهور القراء في أسلوب رفيع وبطريقة جذابة، ومن هؤلاء أيضا مدرسة أدبية تجعل شعارها «الأدب للحياة» - سواء جاءت ثمارهم مطابقة تمام المطابقة لشعارهم هذا أو لم تجئ - وكان على رأس هذه المدرسة «أمين الخولي» و«عائشة عبد الرحمن» التي تعرف عند القراء باسم «بنت الشاطئ» وهي في مرحلتها الأخيرة أميل إلى إحياء القيم العليا من جوف التراث؛ ابتغاء وصلها الجديد بالقديم.
وفي ميدان الفكر النظري، دراسات مختلفة المنزع تصدر تباعا في شتى الفروع، لكن ما يلفت النظر منها هو الدراسات الخاصة بالمفهومات الاشتراكية، التي قد تضيق حتى تتناول مفهوما واحدا بالشرح والتحليل، وقد تتسع حتى تشمل النظرية الاشتراكية كلها في صورتها العربية، ولو أردنا أن نلتمس موضعا واحدا يلخص لنا صفوة فكرنا الاشتراكي الجديد، لما وجدنا خيرا من «الميثاق» الذي صدر سنة 1962م عن مؤتمر وطني كبير، ليكون بمثابة خطة للعمل القومي السياسي إلى حين.
على أن صورة الحياة الثقافية في مصر المعاصرة لا تكمل إلا بذكر جهود متفرقة كثيرة، تكون الروافد التي تمد التيار الرئيسي الكبير، كل بحسب منبعه ومورده: فهنالك من ينقل إلينا ثقافة الغرب - إما بالترجمة وإما بالأصالة الشخصية - نقلا يتسم بالتأييد المتحمس لها، وعلى رأس هؤلاء الدكتور حسين فوزي، وأشهر كتبه «سندباد عصري» الذي يجمع في دراسته بين العلم والأدب، وهنالك من يفكر في مشكلات ثقافية يختارها لنفسه، تفكيرا مستقلا أصيلا، لا يبالي أجاء مصطبغا بتأييد العربي القديم أو الغربي الجديد، مثل «الدكتور محمد كامل حسين» - ومن خير ما كتب قصة «قرية ظالمة» الذي يجمع هو الآخر بين الدراسة العلمية والأدبية، هنالك المؤرخ الذي أخذ نفسه بالتأريخ لبلادنا في عصورها الحديثة تاريخا مفصلا، تسري فيه الروح الوطنية التي تبرز صورة قومه مبرأة من الشوائب التي أدخلها عليها مؤرخون آخرون لم يكتبوا بروح الإنصاف، مثل «عبد الرحمن الرافعي»، وهنالك عشرات الباحثين توفروا على نشر النصوص القديمة وتحقيقها، ومئات المترجمين الذين ينقلون عن أوروبا وأمريكا ما ينتجانه حتى ليتابعوا الحركة الفكرية هناك خطوة خطوة - وهنالك عدد ليس بقليل ممن جعلوا همهم جمع الأدب الشعبي والفن الشعبي في مختلف صوره، وصب هذه الصور في سياق متسق من شأنه أن يوضح جانبا هاما من الروح المصرية العربية الأصيلة التي لا غنى عن توضيحها إذا أردنا - كما نحن مريدون منذ أول القرن - أن نبحث عن حقيقة أنفسنا، ويتزعم هذه الحركة «عبد الحميد يونس» الذي أنشئ له كرسي جامعي ليتولى تدعيم الدراسة الفولكلورية على أسس أكاديمية قوية، ولقد أخذت هذه الآثار الشعبية في الأدب والفن، تسري في كثير من الخلق الأدبي في القصة والمسرحية والشعر.
إنه لو جاز لنا أن نلخص تيارات الفكر والأدب المعاصرة في مصر، في عبارة واحدة، قلنا إنها جميعا محاولات نحو خلق شخصية عربية جديدة، تحمل طابعا مميزا، تجتمع فيه قيم الماضي العريق، وقيم الحاضر المتطور، طابعا يتسم بالإرادة الحرة، وبالنظرة العلمية، ينقل عن تراث الآباء قيمه العليا، وعن الحضارة القائمة علومها وصناعتها وتياراتها الفكرية والفنية، ثم يتمثل ذلك التراث وهذه الحضارة، تمثلا ينتهي إلى أصالة وابتكار.
حركة المقاومة في الأدب العربي الحديث
لم يكد المستعمر البريطاني يمس الأرض العربية في مصر (1882م) حتى انعكس حضوره على الأدب في صور شتى من المقاومة، يمكن تقسيمها من حيث الصفة الغالبة عليها مراحل ثلاثا، كان للمقاومة في كل مرحلة منها خاصة مميزة، أما المرحلة الأولى فقد امتدت من لحظة الاحتلال إلى نهاية الحرب العالمية الأولى، جاءت المقاومة خلالها تنبيها مباشرا للناس أن يستيقظوا للخطر الداهم، الذي أحاق بالوطن وبالعقيدة، وأما المرحلة الثانية فقد امتدت خلال فترة ما بين الحربين، وفيها أضيفت إلى الأدب السياسي المباشر، الذي اشتعل بالدعوة إلى الحرية والاستقلال عقب الثورة الوطنية عام 1919م، أقول إنه قد أضيفت إلى هذا الأدب السياسي المباشر خلال المرحلة الثانية بحوث في الحرية من حيث هي كذلك، كائنة ما كانت جوانبها وميادينها، وسرعان ما ألحقت بهذه البحوث النظرية، سير لأبطال الحرية تجسد للناس معانيها في رجال عاشوها، وقد اختير هؤلاء الأبطال من الغرب تارة ومن التاريخ العربي تارة، ثم جاءت المرحلة الثالثة لتمتد من الحرب العالمية الثانية إلى يومنا هذا، منقسمة شطرين: في أولهما كان الاستعمار عسكريا سافرا، وفي ثانيهما أخذ يتسلل في خفاء إلى حياتنا الفكرية بغير جند ولا سلاح، على أن المقاومة - كما انعكست في الأدب - خلال هذه الفترة الثالثة بشطريها، قد اتسمت بطابع واحد متصل، هو طابع إيجابي بالقياس إلى الطابع السلبي الذي ميز المرحلتين الأوليين، إذ اتخذت المقاومة هذه المرة طريق البناء لثقافة جديدة، تحمل خصائصنا القومية الأصيلة، وتفتح أبوابها - في الوقت نفسه الحياة، ولا حياة إلا بك يا - لعوامل التطور الحضاري الحديث، وذلك رغبة منا في تقرير ذواتنا، وتحصين وجودنا الشخصي المتميز الفريد.
ولم يكن الأدب العربي في مصر، خلال هذه المراحل الثلاث جميعا، ليقصر مقاومته على أرض مصر وحدها، منزوعة من الوطن العربي الكبير، أو معزولة عن حركات التحرر التي أخذ مداها يتسع في أرجاء مختلفة من آسيا وإفريقيا، بل كانت الأمة العربية بأسرها هي مجال الكتابة عند الكاتبين، كما كانت البلاد الإسلامية، وكل بلاد أخرى تطالب بحريتها من مستعمر غاصب، موضوعا لا يغيب عن سياق الحديث، كلما مس الحديث قضايا التحرر الوطني.
Halaman tidak diketahui
احتل الإنجليز أرض مصر، فرحل عنها جمال الدين الأفغاني، ونفي الشيخ محمد عبده، ثم ما لبث القطبان أن التقيا معا في باريس، ليصدرا جريدة العروة الوثقى، ناطقة بالدعوة إلى مقاومة الموجة الاستعمارية العارمة، التي أخذت تطغى على أقطار الشرق بعامة، وإلى تحرير مصر من الاحتلال البريطاني بصفة خاصة، وإن القارئ ليطالع على صفحات الأعداد الثمانية عشر التي صدرت من العروة الوثقى - وقد صدر عددها الأول قبل أن ينقضي على الاحتلال البريطاني عامان - صيحات قوية تنبه من غفا، وتوقظ من استنام: «إننا لو نادينا الغافلين أن انتبهوا، والنائمين أن استيقظوا، واللاهين بحظوظهم أو أمانيهم وأوهامهم أن التفتوا، ولو أنذرنا أهل مصر بأن الإنجليز لو ثبتت أقدامهم في ديارهم، لحاسبوا الناس على هواجس أنفسهم، وخطرات قلوبهم، بل على استعداد عقولهم لما عساه يخطر ببالهم، لقال الناس إننا نبالغ في الإنذار ونغرق في التحذير» (العدد الخامس من العروة الوثقى).
وحسب القارئ أن يقرأ المقالة الأولى من العدد الأول - وكان عنوانها «مصر» - ليرى بأي بلاغة عربية مبينة، وصفت حالة البلاد عندما أخذت أصابع الاستعمار تعبث بأمورها: «وا أسفا على حالة الأهالي بعد هذا، حكم من لا دافع لحكمه بطرد آلاف من الوطنيين الموظفين من دوائر الحكومة، وما منهم أحد إلا ويتبعه عائلة وأولاد، ولا قوت لهم إلا من مرتب عائلهم ... إن صدى أنينهم يتلى في صفحات الجرائد الوطنية العربية والإفرنجية، وسيتبع السابقين منهم اللاحقون، حتى لا يجد وطني منهم في البلاد من المهن، إلا ما لا يليق بالإنجليزي تعاطيه من سفاسف الأمور، كما هو في البلاد الهندية، وزاد الويل بمحق الحرية الشخصية، والأخذ بالشبه - وإن ضعفت - واتباع بواطل التهم - وإن بعدت أو استحالت - حتى أخذ الفزع من القلوب مأخذه، وبلغ منها مبلغه، فلا ترى مارا بطريق إلا وهو يلتفت وراءه لينظر هل تعلق بأثوابه شرطي يقوده إلى السجن، أو يقتضي منه فداء، وكل معروف الاسم من المصريين ينتظر في كل خطوة عثرة، وفي كل نهضة سقطة ... أي شقاء ينتظره الحي في حياته أشنع من هذا؟!»
بمثل هذه النذر المفزعة الصريحة، أخذ الأفغاني ومحمد عبده يتعاونان على إطلاق الصيحة الأولى من خارج البلاد، لتجاوبها في داخل البلاد أصداء تبلغ رسالتها وتزيد من قوتها، فها هو ذا عبد الله النديم (1845-1896م) الذي أطلقت عليه صفات تدل على الدور العظيم الذي أداه في اليقظة الوطنية، إذ أطلق عليه «خطيب الشرق» - وقد كان أول خطيب مصري يخطب قومه في شئون السياسة - كما أطلق عليه «محامي الوطن»، لقد استخدم النديم في أداء رسالته كل فنون الأدب من زجل وشعر إلى مسرحية وقصة، ثم إلى المقالة والخطابة، وفي نسبة هذه الفنون عنده بعضها إلى بعض يقول أحمد تيمور: «... أما شعره فأقل من نثره، ونثره أقل من لسانه، ولسانه الغاية القصوى في عصرنا هذا»، على أن ما يهمنا هنا من آثار النديم أدبه المكتوب، ومقالاته الصحفية اللاذعة، خصوصا ما ورد منها في مجلة الأستاذ، التي صدرت في عهد الاحتلال الإنجليزي، والتي لم يلبث الإنجليز أن طالبوا بإغلاقها، لشدة ما جاء فيها من هجمات النديم على خصوم الوطنية والعروبة والإسلام، فكان مما قاله عن الدولة الغاصبة أنها وضعت معظم الإدارات في أيدي الأجانب، حتى لا تمكن المصريين من إصلاح بلادهم، فاختلت البلاد، «فإن كان مرادها إفساد البلاد فقد أفلحت، أما إذا كانت تريد صلاحها، وتسليمها لأبنائها، فكيف يحدث ذلك، وهي لا تستعمل أبناءها في الحكم، وتبعدهم عن الإدارات؟» وفي مقال له بعنوان «هذه يدي، في يد من أضعها؟» يقول إنه إذا لم يضع يده في أيدي مواطنيه المخلصين «فقطعها خير من وضعها في يد أجنبي يستميلك إليه بوعود كاذبة، وحيل واهية، يظهر لك سعيه في صالحك، وحبه لتقدمك ... ويصور لك الأباطيل في صورة حقائق؛ حتى يخدعك بها، ويحول أفكارك الشرقية إلى أفكار غربية تأخذها، وتقول بها، فتكون يده القوية وعونه الأكبر على ضياع حقوقك، وإذلال إخوانك واحتلال بلادك.»
وكان من اللمحات النافذة عند النديم إشاراته المتكررة إلى ضرورة التعليم وضرورة قيام الصناعة؛ لأنه ما اغتصب غاصب أرضا إلا بسبب جهالة أبنائها أو بسبب انصرافهم عن الصناعة؛ لأن الانصراف عن الصناعة هو انصراف عن العلم، «إن التهور والثورة مع الجهل والفراغ من المعدات، لا يفيدان إلا الخذلان» ولا نجاح لثورة على استعمار إلا إذا كان أساسها التعليم والصناعة: «وما نجحت ثورة تجردت جماهيرها من المعارف وبعدت عن المصانع والتفنن في الآلات، واندفعت خلف الأهواء» (مجلة الأستاذ في 30 / 8 / 1892م).
ولا نترك الحديث عن أواخر القرن الماضي، قبل أن نذكر أثرا شامخا من آثار المقاومة الوطنية لكل مستعمر أو دخيل، لكنه - هذه المرة - أثر إيجابي بناء، وضع البذور الأولى للنهضة العربية الشاملة، التي ستزداد مع السنين، حتى تصبح في سنواتنا الراهنة حركة ثورية لتحقيق الوحدة العربية، وإنما عنيت بذلك الأثر، نهضة الشعر على يدي محمود سامي البارودي (1839-1904م) إذ الأمر فيها لا يقتصر على أمر الشعر وحده، بل يجاوز ذلك ليكون إقامة لأهم دعائم القومية العربية السليمة، ألا وهي دعامة اللغة القوية الرصينة، فبعد أن ضعفت العربية مع الضعف السياسي والاجتماعي خلال قرون امتدت ما امتد الحكم العثماني، أراد البارودي الشاعر أن تعود لنا القوة السياسية والاجتماعية بادئة من بدايتها الصحيحة، ألا وهي اللغة، وأسعفته الموهبة، فربط بين قديم شامخ وجديد متطلع إلى الشموخ، ونسج نسجا لا يتخاصم فيه الحاضر والماضي، ولا يتعارض فيه التجديد مع التقليد، بل هو نسج: لحمته الحاضر، والماضي سداه، فجاء شعر البارودي في أدبنا الحديث - خصوصا وقد أخفقت الثورة العرابية التي كان الشاعر أحد رجالها، واحتل المستعمر البريطاني بلادنا - جاء هذا الشعر القوي في أدبنا الحديث بمثابة الخطوة الأولى في طريق طويل ما نزال نواصل السير فيه، على هداية مبدأ عام، هو أن تجيء النهضة العربية على أساس يجمع بين الطابع القومي المتميز، وظروف العصر الذي نعيش فيه.
وتمضي السنون - ويستدير القرن التاسع عشر، ليبدأ العشرون، فتزداد المقاومة شدة وظهورا فيما تجري به أقلام المفكرين والأدباء، وحسبنا أن نجد في السنوات الأخيرة من القرن الماضي وفي العشرة الأعوام الأولى من هذا القرن قاسم أمين، ومصطفى كامل، ومحمد فريد، ولطفي السيد، وعبد العزيز جاويش، ومن الشعراء شوقي وحافظ، كانت حالة الضعف السياسي قد انتهت بالبلاد إلى قبضة المستعمر، وخدعت طائفة من مفكري الغرب عن حقيقة الأمر، فنقلوا بأوهامهم ذلك الضعف من السياسة إلى العروبة من حيث هي جنس، وإلى الإسلام من حيث هو دين، فكان لا بد للفكر والأدب عندنا أن يتصديا لذلك؛ لأن التهمة إذا صدقت انفسح الأمل أمام المستعمر الفرنسي في تونس والجزائر ولبنان وسوريا ، وأمام المستعمر الإنجليزي في مصر والعراق، وأما إذا ردت التهمة وظهر بطلانها، فقد انفسح الأمل أمام الأمة العربية أن تزيل عنها الكابوس الطارئ، لتسترد مجدها، وتمضي قدما في طريقها، ومن هذا القبيل ما حدث بين دعوى هانوتو فيما يتصل بخصائص الجنس الآري والجنس السامي، ورد الشيخ محمد عبده عليه لتفنيد دعواه، وكذلك ما حدث بين دعوى رينان عن موقف الإسلام من العلم، وزعمه بأن الإسلام مضاد للعلم، ورد الأفغاني عليه لتفنيد دعواه، وها هي ذي دعوى ثالثة لمتهجم آخر، يتصدى للرد عليها قاسم أمين.
ذلك أن داركور قد أصدر كتابا سنة 1893م عن المصريين، يصفهم فيه بالتأخر، ويأخذ عليهم حجبهم للنساء عن موارد العلم وميادين الحياة، ثم لا يكتفي بذلك، بل يربط هذا كله بالعقيدة الإسلامية، فرد عليه قاسم أمين سنة 1894م في كتاب عنوانه «المصريون» مدافعا عن وطنه وأهله، معترفا بما قد شاب ذلك الوطن وأهله من عيوب محال أن ترد إلى الإسلام، وإنما هي أثر مباشر للحكم الفاسد الذي نكبت به البلاد أمدا طويلا من الدهر، وقد كتب قاسم أمين كتابه هذا بالفرنسية، ليتاح لمن قرأ داركور، من الفرنسيين أن يطالعوا الرد عليه، اقرأ هذه العبارة - مثلا - من رده على الدوق داركور، لترى كيف رد التهمة عن أهله ردا يوقع خصمه فيما هو أشنع منها: «يظهر أن مسيو داركور ينعي علينا عدم وجود الفوارق الاجتماعية عندنا، ويعيبنا لأنه ليس من طوائفنا طائفة الأشراف بالمولد أو بغير المولد، وكل السكان الذين يقيمون في بلد إسلامي هم متساوون أمام القانون بلا تفرقة بين أجناسهم ودياناتهم.»
على أن هذه المعركة القلمية بين الدعوى ونقيضها، قد حركت الكاتب العربي إلى النهوض بعبء الإصلاح في ميدانه، حتى لا نغمض العين على نقص واضح، فكتب كتابه العظيم «تحرير المرأة» (1899م) وأعقبه بآخر «المرأة الجديدة» (1900م) ليرد به على ما قد وجه إلى كتابه الأول من نقد.
وإن ذكرنا لكتاب تحرير المرأة، ليستدعي ذكر جريدة المؤيد التي أنشأها الشيخ علي يوسف (1863-1913م)، والتي ظهر فيها الكتاب فصولا امتدت على شهرين وهي نفسها الجريدة التي نشر فيها عبد الرحمن الكواكبي (1849-1902م) كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» الذي هو من أبرز الكتب التي عرفها الأدب العربي في العصر الحديث عن الحرية، يقول فيه الكاتب عن الحاكم المستبد إنه «يتحكم في شئون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحاكمهم بهواه لا بشريعتهم»، «والمستبد عدو الحق، عدو الحرية وقاتلهما، والحق أبو البشر، والحرية أمهم، والعوام صبية أيتام نيام لا يعلمون شيئا»، «إن الاستبداد يضغط على العقل فيفسده، ويلعب بالدين فيفسده، ويحارب العلم فيفسده»، «الحكومة المستبدة تكون طبعا مستبدة في كل فروعها، من المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفراش، إلى كناس الشوارع»، «أقل ما يؤثر الاستبداد في أخلاق الناس أنه يرغم الأخيار منهم على ألفة الرياء والنفاق - ولبئس السيئتان - ويعين الأشرار على إجراء غي نفوسهم آمنين، حتى عن الانتقاد والفضيحة؛ لأن أكثر أعمالهم تبقى مستورة يلقي عليها الاستبداد رداء خوف الناس من تبعة الشهادة.»
لم تكن هذه الدعوى الاجتماعية التي وجهها قاسم أمين لتحرير المرأة العربية بعيدة الصلة بالدعوات السياسية التي أخذت منذ أوائل هذا القرن تشغل أصحاب الأقلام، فصاحب «تحرير المرأة» هو نفسه الذي كتب عن جنازة مصطفى كامل يقول: «11 فبراير سنة 1908م يوم الاحتفال بجنازة مصطفى كامل، هي المرة الثانية التي رأيت فيها قلب مصر يخفق، المرة الأولى كانت يوم تنفيذ حكم دنشواي: رأيت عند كل شخص تقابلت معه قلبا مجروحا، وزورا مخنوقا، ودهشة عصبية بادية في الأيدي وفي الأصوات، كان الحزن على جميع الوجوه ...»
Halaman tidak diketahui
وإن هذا لينقلنا إلى أدب سياسي جياش بالعاطفة، أنشأه قادة الحزب الوطني في جريدتهم اللواء: مصطفى كامل، محمد فريد، عبد العزيز جاويش.
أما مصطفى كامل (1874-1908م) فهو - كما قال عنه لطفي السيد، برغم ما كان بين الرجلين من اختلاف بعيد في وجهة النظر - «كان شعاره الوطنية، ووسيلة الوطنية، وكتابته الوطنية، وحياته الوطنية، حتى لبسها ولبسته، فصار بينهما التلازم الذهني والعرفي فإذا ذكرت مصطفى كامل بخير، فإنما تطري الوطنية، وإذا قلت الوطنية فإن أول ما يتمثل في خيالك شخص مصطفى كامل ... كأنما هو والوطنية شيء واحد.» يكفينا منه هنا مثل واحد، نقبسه من خطبته الكبرى في الإسكندرية (1907م):
تقولون يا أعداء مصر إننا لو أفلحنا لما نلنا هذا الاستقلال إلا بعد حين طويل، فنجيبكم أنا لو سلمنا بقولكم لما جاز لنا أن نتأخر لحظة واحدة عن العمل؛ لأننا لا نعمل لأنفسنا، بل نعمل لوطننا، وهو باق ونحن زائلون، وما قيمة السنين والأيام في حياة مصر، وهي التي شهدت مولد الأمم كلها، وابتكرت المدنية والحضارة للنوع الإنساني كله؟ إن العامل الواثق من النجاح يرى النجاح أمامه كأنه أمر واقع، ونحن نرى من الآن هذا الاستقلال المصري، ونبتهج به وندعو له كأنه حقيقة ثابتة، وسيكون كذلك لا محالة ...
إننا وجهنا قلوبنا ونفوسنا وقوانا وأعمارنا إلى أشرف غاية اتجهت إليها الأمم في ماضي البلاد وحاضرها، وأعلى مطلب ترمي إليه في مستقبلها، فلا الدسائس تخيفنا، ولا التهديدات تقف في طريقنا، ولا الشتائم تؤثر فينا، ولا الخيانات تزعجنا، ولا الموت نفسه يحول بيننا وبين هذه الغاية التي تصغر بجانبها كل غاية ...
بلادي ... بلادي ... لك حبي وفؤادي، لك حياتي ووجودي، لك دمي ونفسي، لك عقلي ولساني، لك لبي وجناني، فأنت أنت الحياة، ولا حياة إلا بك يا مصر ...
هل خلق الله وطنا أعلى مقاما، وأسمى شأنا، وأجمل طبيعة، وأجل آثارا، وأغنى تربة، وأصفى سماء، وأعذب ماء، وأدعى للحب والشغف من هذا الوطن العزيز؟ ... إني لو لم أولد مصريا لوددت أن أكون مصريا.
ذلك قبس من تلك الخطبة السياسية الوطنية الرائعة، وهي التي نظم بعدها علي الغاياتي (صاحب ديوان «وطنيتي» الصادر سنة 1910م) قصيدة وجهها إلى مصطفى كامل، يقول فيها:
اصدع بقولك إن أردت مقالا
فالقوم جندك إن دعوت رجالا
لم تدر مصر سوى حماك تؤمه
Halaman tidak diketahui
فترى به آلامها آمالا
وفي 1908م تولى عبد العزيز جاويش (1876-1929م) رئاسة تحرير اللواء، وكان للواء طابعه الواضح في مهاجمة الاستعمار البريطاني، وفي إيقاظ الروح الوطنية، فكانت لجاويش في مهاجمة الإنجليز مقالات حامية، وكلمات من نار، حتى قبل أن يتولى تحرير اللواء: «إن البلاد المصرية أخذت منذ بدء الاحتلال المشئوم تتدلى في مهاوي الضعف والاضمحلال، وإنه لا منقذ لها سوى أن يرفع الاحتلال يده الثقيلة المفسدة عنها.» ولكي تعلم ماذا أراد الكاتب أن يصنع بقلمه في مقاتلة العدو، فاسمع ما يخاطبه به: «أيها القلم ... لو كنت سيفا لأغمدتك في صدور من يحاربونك، أو سهما لأنفذتك في أعماق قلوبهم، ولو كنت جوادا لوجدت لك في ميادين النزال مجالا للكر والفر ...»
وكان يقابل هذه الجذوة المشتعلة من الوطنية في جريدة اللواء، فكر منطقي هادئ في جريدة «الجريدة» التي كان يحررها أحمد لطفي السيد (1872-1963م) إذ كان لطفي السيد - كما يقول عنه العقاد - «ينظر إلى المسائل الفكرية والاجتماعية نظرة محيطة شاملة، توشك أن تتعادل فيها جميع الجوانب والأطراف، ولكنه كان من أشد المفكرين اهتماما بما يعتقد فيه الخير والصلاح.»
وحسب العشرة الأعوام الأولى من هذا القرن أن تكون قد شهدت فاجعة دنشواي (يوم الأربعاء 13 يونيو سنة 1906م)، فليس كمثل الكوارث الكبرى شيء يوحد قلوب الأمة في قلب واحد نابض، ودنشواي قرية في محافظة المنوفية، قدم إليها خمسة من الضباط الإنجليز لصيد الحمام، فأصيب برصاصهم بعض الأهلين، فهاجم الناس أولئك المعتدين، فأصيب بعضهم ومات أحدهم، فثار العميد البريطاني في مصر، لورد كرومر، وعقدت محكمة خاصة لمحاكمة المصريين، فقضت بإعدام أربعة من الأهالي، وبالجلد وبالحبس على ثمانية، ونفذ الجلد والإعدام في دنشواي علنا، فكان لذلك رد فعل عنيف في طول البلاد وعرضها، وانطلق الشعراء والكتاب ينظمون وينشئون بكاء ورثاء ووطنية وإخاء.
قال إسماعيل صبري:
وأقلت عثرة قرية حكم الهوى
في أهلها وقضى قضاء أخرق
إن أن فيها بائس مما به،
أو رن، جاوبه هناك مطوق
وارحمتا لجناتهم ماذا جنوا؟
Halaman tidak diketahui
وقضاتهم ما عاقهم أن يتقوا؟
وقال أحمد شوقي:
يا دنشواي على رباك سلام
ذهبت بأنس ربوعك الأيام
شهداء حكمك في البلاد تفرقوا
هيهات للشمل الشتيت نظام
مرت عليهم اللحود أهلة
ومضى عليهم في القيود العام
كيف الأرامل فيك بعد رجالها؟
وبأي حال أصبح الأيتام؟
Halaman tidak diketahui
عشرون بيتا أقفرت وانتابها
بعد البشاشة وحشة وظلام
يا ليت شعري في البروج حمائم
أم في البروج منية وحمام؟
نيرون ... لو أدركت عهد كرومر
لعرفت كيف تنفذ الأحكام
وقال حافظ إبراهيم:
جاء جهالنا بأمر، وجئتم
ضعف ضعفيه قسوة واشتدادا
أحسنوا القتل إن ضننتم بعفو
Halaman tidak diketahui
أقصاصا أردتم أم كيادا؟
أحسنوا القتل إن ضننتم بعفو
أنفوسا أصبتم أم جمادا؟
ليت شعري أتلك محكمة التفتي
ش عادت أم عهد نيرون عادا؟
كيف يحلو من القوي التشفي
من ضعيف ألقى إليه القيادا؟
تلك كانت المرحلة الأولى، وهكذا جاءت خلالها صورة المقاومة في الأدب، ثم جاءت المرحلة الثانية التي امتدت فيما بين الحربين، وقد اتخذت المقاومة صورة أخرى، وهي الإشادة بالحرية والدعوة إليها، حتى ولو لم يذكر المستعمر في سياق الدعوة ذكرا صريحا.
وقد ظهرت بدايات هذه المرحلة الثانية، حتى قبل أن تنتهي الحرب العالمية الأولى، كأنما كانت بدايات تمهد النفوس تمهيدا مباشرا لثورة 1919م، وهي بدايات ظهرت أوضح ما تكون في الشعر، ففي العشرة الأعوام الثانية من هذا القرن، ظهرت دواوين ثلاثة، عزفت كلها على وتر واحد، إذ عزفت نشيد الفرد الإنساني وما يجب له من حرية وما يجب عليه من مسئولية إزاء نفسه، وتلك الدواوين الثلاثة كانت هي الجزء الثاني من ديوان عبد الرحمن شكري (1913م) والجزء الأول من ديوان المازني (1914م)، وقد قدم العقاد لهما، والجزء الأول من ديوان العقاد (1916م) وقد قدم له المازني، فجاءت هذه الدواوين الثلاثة بمثابة إعلان لحقوق الإنسان الجديد، وإنهم - هؤلاء الثلاثة الشعراء - ليؤمنون أن نهوض الأدب شرط لازم للنهضة القومية وللحرية الوطنية، وأنه لا حرية ولا استقلال لإنسان هانت عليه نفسه حتى ليعجز عن الشعور بها، يقول العقاد في مقدمته للجزء الأول من ديوانه: «ومن كان يماري في هذا القول فليراجع التاريخ، وليذكر أمة واحدة نهضت نهضة اجتماعية فلم تكن نهضتها هذه مسبوقة أو مقرونة بنهضة عالية في آدابها» وقد ظهرت بدايات شبيهة بذلك في ميدان الرواية متمثلة في قصة زينب 1914م للدكتور هيكل التي هي من أولى بشائر الشعور بالمصرية الصميمة وحياة الطبقة العاملة في الريف، وهو الشعور نفسه الذي جاءت رواية عودة الروح (1929م) لتوفيق الحكيم لتؤكده.
ويثور الشعب ثورته عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، مطالبا بحقه في الحرية من المستعمر البريطاني، وتجري أنهر الصحف اليومية بأنهر من الأدب السياسي المشتعل بحرارة الثائرين، ثم سرعان ما يصاحب هذا الأدب السياسي مقالات وكتب في ضروب الحرية وفي مراميها وأبعادها، فيكتب العقاد في فلسفة الحرية وفي علاقتها بألوان الفنون جميعها، ويقول إن حب الأمم للحرية إنما يقاس بحبها للفنون الجميلة «لأن الصناعات والعلوم النفعية مطلب من مطالب العيش تساق إليه الأمم مرغمة مجبرة، وضرورة من ضرورات الذود عن الحياة تدفع إليها مغلوبة مسخرة ... وإنما تعرف الأمم الحرية حين تأخذ في التفضيل بين شيء جميل وشيء أجمل منه، وتتوق إلى التمييز بين مطلب محبوب ومطلب أحب وأوقع في القلب وأدنى إلى إرضاء الذوق وإعجاب الحس، ولا يكون ذلك منها إلا حين تحب الجمال، منظورا أو مسموعا» (مطالعات في الكتب والحياة، ص54).
Halaman tidak diketahui
ويخرج سلامة موسى (1888-1958م) سنة 1927م كتابا عن «حرية الفكر وأبطالها في التاريخ»، يقول عنه في صفحة الغلاف إنه «قصة الحرية الفكرية وانطلاق العقل البشري من قيود التقاليد وفوز التسامح على التعصب، مع ذكرها ما لقيه الأحرار من ضروب الاضطهاد من أقدم العصور للآن.» ثم يتلو على قارئه صفحات من استشهاد الأبطال في سبيل الحرية على اختلاف أنواعها: سياسية ودينية وعلمية وغير ذلك، وهو يسوق أمثلته من اليونان القديمة ومن المسيحية ومن الإسلام ومن العصور الحديثة في الغرب وفي الشرق على السواء.
وكان محمد حسين هيكل (1888-1956م) من الداعين إلى الحرية في كثير من معانيها، فألف كتابا عن جان جاك روسو ليستمد من دعوة هذا الفيلسوف إلى الحرية دعوة يوجهها إلى العرب في ثورتهم في سبيل الحرية، ويخرج صحيفة السياسة الأسبوعية (1926م) لتكون ملحقا أدبيا أسبوعيا لصحيفة السياسة التي كان يشرف على تحريرها، وليتخذ منها أقوى أداة لنشر الثقافة الجديدة التي أراد هو ومعاصروه أن يبذروا بذورها إرهاصا لعصر جديد، وكانت تلك البذور - في رأي هيكل أول الأمر - بذورا غربية صرفا، ثم سرعان ما أفاق إلى خطئه، وصمم على أن يكون للنهضة العربية أصولها الخاصة التي تستعير من الغرب ما تستعيره، لكنها لا بد إلى جانب ذلك أن تستمد من ماضيها التربة الخصبة التي تستنبتها، يقول هيكل في ذلك: «حاولت أن أنقل لأبناء لغتي ثقافة الغرب المعنوية، وحياته الروحية لنتخذها جميعا هدى ونبراسا، ولكني أدركت بعد لأي أنني أضع البذر في غير منبته، فإذا الأرض تهضمه ثم لا تتمخض عنه، ولا تبعث الحياة فيه، وانقلبت ألتمس في تاريخنا البعيد في عهد الفراعنة موئلا لوحي هذا العصر ينشأ فيه نشأة جديدة، فإذا الزمن وإذا الركود العقلي قد قطعا ما بيننا وبين ذلك العهد من سبب يصلح بذرا لنهضة جديدة، ثم رأيت أن تاريخنا الإسلامي هو وحده البذر الذي ينبت ويثمر، ففيه حياة النفوس، يجعلها تهتز وتربو، ولأبناء هذا الجيل في الشرق نفوس قوية تنمو فيها الفكرة الصالحة لتؤتي ثمرها بعد حين» (من مقدمة «منزل الوحي»).
الحق أننا لا نجد صفة نصف بها الحياة الفكرية في عشرينيات هذا القرن، أصدق من أنها كانت حياة تمهد الأرض لبناء جديد يقام عليها حين تحين الفرصة المناسبة؛ ولذلك شغل الكتاب جميعا في تلك الحقبة بالتنوير عامة وبالتنوير فيما يمس الحرية العقلية والفنية والسياسية بصفة خاصة، وفي هذا النشاط التمهيدي لذلك العصر يقول إبراهيم عبد القادر المازني: «قضى الحظ أن يكون عصرنا عصر تمهيد، وأن يشتغل أبناؤه بقطع هذه الجبال التي تسد الطريق، وبتسوية الأرض لمن يأتون بعدهم، ومن الذي يذكر العمال الذين سووا الأرض، ومهدوها ورصفوها، ومن الذي يعنى بالبحث عن هؤلاء المجاهدين الذين أدموا أيديهم في هذه الجلاميد، وبعد أن تمهد الأرض وينتظم الطريق يأتي نفر من بعدنا ويسيرون فيه إلى آخره، ويقيمون على جانبيه القصور شاهقة باذخة، ويذكرون بقصورهم وننسى نحن الذين أتاحوا لهم أن يرفعوها شاهقة رائعة، والذين شغلوا بالتمهيد عن التشييد، فلندع الخلود إذن ولنسأل كم شبرا مهدنا من الطريق» (من مقدمة «حصاد الهشيم»).
لقد كان لسان الحال في مجال الفكر والأدب إبان فترة التنوير والتمهيد التي أشرنا إليها - منذ ما قبل نهاية الحرب العالمية الأولى بقليل وإلى نهاية الحرب العالمية الثانية - ناطقا بأنه إذا كان الغرب قد استبد بأرضنا فطريق الخلاص له شعاب كثيرة، منها أن نتزود بعلمه وثقافته لنفل الحديد بالحديد؛ ولذلك كان أبرز طابع يميز تلك الفترة هو نقل الفكر الغربي من اليونان القديمة ومن بريطانيا وفرنسا الحديثتين، وكانت أداة النقل الأساسية - هي المجلات أكثر مما كانت هي الكتب ، المجلات التي تصدر كل أسبوع مثقلة بحصيلتها المنقولة ترجمة وتلخيصا وتعليقا ونقدا، فإذا كانت الصحف اليومية في المرحلة الأولى - كالمؤيد واللواء والجريدة - قد حملت هذا العبء نفسه، ففي المرحلة الثانية تخصصت لها مجلات أسبوعية وشهرية، أول ما نذكره منها مجلة السفور التي صدر عددها الأول سنة 1915م، وفيه أعلن صاحبها عبد الحميد حمدي منهاجها، شارحا المواد بعنوانها، فقال في ذلك:
ليست المرأة وحدها هي المحجبة في مصر، ولكنها محجبة نزعاتنا وفضائلنا وكفاءاتنا ومعارفنا وأمانينا، وكل شيء يبدو على غير حقيقته، فنحن أمة محجبة بحقيقتها، بادية منها ظواهر كاذبة، وقد تبين للباحث أن هذه العلل ليست طبيعية في نفس الأمة، وإنما هي عوارض تزول بزوال أسبابها.
واشتركت في تحرير «السفور» مجموعة من الكتاب، هي نفسها المجموعة التي سيشتد بأسها في عشرينيات القرن وثلاثينياته، والتي ستكون هي الداعية إلى الأخذ بأسباب الفكر الغربي والثقافة الغربية ليكون ذلك هو نفسه أفعل سلاح في استرداد حرياتنا المغتصبة من الغرب المغتصب، ففيها كتب هيكل، وطه حسين، وعلي عبد الرازق، وغيرهم وكأنما جاءت مجلة السفور حلقة وسطى في سلسلة ثقافية واحدة، أولها «الجريدة» برئاسة لطفي السيد، وآخرها «السياسة الأسبوعية» برئاسة هيكل، وهي مدرسة فكرية يغلب عليها الطابع الفرنسي.
ولذلك قام خط آخر يوازي ذلك الخط ويوازنه، تمثل في مجلة البلاغ الأسبوعي واجتمع حوله من الكتاب من كان يؤثر النهل من معين الثقافة الإنجليزية، وأشهرهم العقاد والمازني، كما تمثل في مجلة العصور لإسماعيل مظهر والمجلة الجديدة لسلامة موسى، ثم نشأت في الثلاثينيات مجلتان أخريان هما «الرسالة» أولا، و«الثقافة» ثانيا لتحدثا شيئا من الجمع بين الثقافتين الغربية والعربية، تمهيدا لقيام شخصيتنا الثقافية الجديدة، التي سنتحدث عنها بعد قليل، وفيهما ظهر أحمد حسن الزيات وأحمد أمين، الأول بأسلوبه العربي الرصين، الذي يعد في ذاته علامة اعتزاز بالقومية العربية في أصولها وفروعها، والثاني بأسلوبه العلمي الواضح الذي يعد علامة من علامات التبشير بعصر جديد، يرتكز على القديم ويفتح صدره للحديث.
وإنه لمما يميز هذه المرحلة الثانية كذلك، تلك النزعة الرومانسية التي غمرت الشعر، بل وشطرا كبيرا من الكتابة النثرية، وتجلت بصفة خاصة في جماعة أبولو التي نشأت سنة 1932م (وأخرجت مجلة باسمها سنة 1935م) وكان من أهم شعرائها؛ أحمد زكي أبو شادي، وإبراهيم ناجي، وعلي محمود طه، فإذا تذكرنا أن كل حركة ثورية كبرى تصاحبها على الأغلب حركة رومانسية في الأدب، تفك القيود بكل أنواعها: قيود الصياغة الشعرية، وقيود العاطفة الباطنية، عرفنا كم كانت الحركة الرومانسية في الأدب العربي إبان عشرينيات القرن وثلاثيناته دالة على تيار المقاومة العنيف، ومدى سريانه في نفوس الناس على طول البلاد العربية وعرضها كأنما هي صيحة واحدة متعددة الأوتار والأنغام، صدح بها شعراء العروبة جميعا.
فهذا أحمد زكي أبو شادي (1892-1955م) في قصيدته «الضحايا» يعلن أن نداء الوطن يستوجب ألا نفرط في حق مواطنيه، وألا نجامل الأولى نهبوا المواطنين نهبا، عن جشع لا يشبع وظلم لا يرتدع:
وكل يوم ضحايا لا عداد لها
Halaman tidak diketahui
من غدرهم في جحيم البؤس والهون
أبعد هذا نصوغ الشعر زخرفة؟
وبلغت الانفعالية الرومانسية أوجها في الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي (1906-1934م) خذ قصيدته «نشيد الجبار» مثلا لهذه اللوعة التي تأكل صاحبها كمدا على ما قد حل به، وتطمح به إلى السماء في دنيا الأمل والرجاء:
سأعيش رغم الداء والأعداء
كالنسر فوق القمة الشماء
أرنو إلى الشمس المضيئة هازئا
بالسحب، والأمطار والأنواء •••
النور في قلبي وبين جوانحي
فعلام أخشى السير في الظلماء؟
وإن القول ليطول بنا لو استطردنا نذكر أمثال هذه الجذوات المشتعلة بوطنيتها خلال المرحلة الوسطى - فترة ما بين الحربين - التي هي الآن موضع الحديث.
Halaman tidak diketahui
وإنه لمن أبرز الملامح في الحركات الرومانسية كلها - وهي غالبا حركات للتحرر تعقب الثورات السياسية أو تصاحبها - العودة بالذكرى إلى مجد الآباء، وهكذا كان الأمر في الأدب العربي؛ لأنه إذا كانت الدعوة إلى الحرية تتحقق بشرح المبدأ من جهة، وبضرب المثال من جهة أخرى، فأين يوجد المثال في أسمى صورة إذا لم يكن في أبطال العروبة والإسلام وهما في ذروة المجد؟ من هنا رأينا أدباءنا جميعا يتجهون هذه الوجهة، فبدءوا بالحديث عن أعلام الشعراء الأقدمين - وكان ذلك في العشرينيات - ثم انتقلوا إلى ميدان أوسع، فترجموا سيرة الرسول والخلفاء الراشدين وعددا كبيرا من قادة المسلمين وأعلامهم، فكان ذلك أبلغ ما يقال في وجه عدو البلاد، الذي جعل من أسلحة هجومه أن يستخف بالحضارة العربية وبالثقافة العربية جميعا، وأن يدعي لنفسه الأصالة في مبادئ الحرية والديمقراطية والأخوة الإنسانية بين أفراد البشر.
وتنتهي الحرب العالمية الثانية سنة 1945م، فتدخل حركة المقاومة - كما انعكست في الأدب - مرحلة ثالثة، فلئن كان قوام المرحلة الأولى كتابة هي أقرب إلى الخطابة السياسية، قصد بها استثارة الشعور الوطني، ثم كان قوام المرحلة الثانية رومانسية تنادي بالتحرر وفك القيود، وتضرب أمثالها من أبطال التاريخ، فقد جاءت المرحلة الثالثة لتقيم البناء الثقافي الجديد على نحو يبرز الخصائص القومية إلى جانب العناصر الحديثة، وها هنا تغيرت الأداة الأدبية الأساسية، فبعد أن كانت الأداة هي المقالة، أصبحت القصة والمسرحية؛ وذلك لأنهما الوسيلتان المواتيتان لتصوير المواقف والأشخاص: على أي نحو لا نريدها، وعلى أية صورة نريدها، وإن في اختيار الأداة الأدبية الجديدة لدليلا واضحا على توحيد العنصرين في حياة واحدة: ما نأخذه من الغرب وما نضيفه من أنفسنا، فلئن كنا قد أخذنا قالب القصة وقالب المسرحية من حيث هما طريقتان للتعبير، فقد عرفنا كيف نملأ القالبين بمضمون محلي أصيل، غلب عليه - فيما بين 1945م و1952م (سنة الثورة الاجتماعية الكبرى) - تصوير البؤس الذي أحاط بالناس، ثم شيء من الكفر بالحضارة الغربية في ماديتها؛ لأن هذه المادية فيها كانت هي الدافع الأول نحو حركات الاستعمار الأوروبي لشعوب الشرق، ولما كانت الحضارة الغربية المادية الحديثة قرينة العقل وما ينتجه من علوم وتقنيات ومكنات، فقد انقلب هذا الكفر بالحضارة المادية كفرا بالعقل وما يؤدي إليه، ودعوة إلى عودة الشرق إلى روحانياته التي ميزته إبان ازدهاره.
أما تصوير البؤس فقد كان في طليعة من اضطلع به الدكتور طه حسين في قصصه التي كتبها في تلك الفترة: «شجرة البؤس» (1944م) و«جنة الشوك» (سنة 1945م) و«المعذبون في الأرض» (سنة 1949م)، وكان قبل ذلك قد نشر قصته الأولى «دعاء الكروان» التي تسير في الاتجاه نفسه، فهذه القصص كلها تستفز الأريحية لما يصيب الإنسان الحر في كرامته على أيدي طغاة ملئوا دروب الحياة ومنعطفاتها، على أن هذا الإنتاج الأدبي الخاص، لم يحل دون أن يمضي عميد الأدب العربي في دراساته التي قصد بمعظمها إقامة النماذج المثلى، لتكون المقارنة صارخة بين ما هو كائن وما يمكن أن يكون، فقد كتب «الوعد الحق» (1950م) و«عثمان» (1947م) و«علي وبنوه» (1953م) و«الشيخان» (أبو بكر وعمر بن الخطاب) (1960م)، فضلا عن دعوته القوية نحو تكافؤ الفرص بين المواطنين في التعليم.
وأما الثورة على العقل - ما دام العقل هو ينبوع الحضارة المادية بكل تفريعاتها السياسية - فقد اضطلع بها توفيق الحكيم في مسرحياته التي صدرت إبان الفترة التي نشير إليها، فأصدر «سليمان الحكيم» (1943م) و«الملك أوديب» (1949م) وكلتاهما تبين أن العقل وحده لا يغني الإنسان عن الحق شيئا.
وكان من أبرز معالم هذه الفترة - وأعني الفترة التي توسطت بين الحرب العالمية الثانية وقيام ثورة 23 يوليو سنة 1952م - ما أصدره العقاد من كتب سياسية يقاوم بها استبداد الحكم، وأخرى يصور بها النماذج الإسلامية الرفيعة، فمن المجموعة الأولى «هتلر في الميزان» (1940م) و«فلاسفة الحكم في العصر الحديث» (1950م)، ومن المجموعة الثانية، وهي من أهم ما كتب الكاتب في حياته الأدبية، عبقريات محمد (1942م ) وعمر (1942م) والصديق (1943م) والإمام علي (1943م) ... إلى آخر هذه السلسلة الطويلة التي شملت نحو خمسة عشر كتابا، أما طوال الخمسينيات، فقد أخذ يخرج الكتاب إثر الكتاب، دفاعا عن الإسلام، حتى يبطل ما يدعيه المستعمر في هذا الميدان، مما يتخذه ذريعة يبرر بها اعتداءه، ومن أهم هذه المجموعة كتب «الديمقراطية في الإسلام» (1952م) و«الإسلام والاستعمار» سنة (1957م) و«حقائق الإسلام وأباطيل خصومه» (1957م) و«التفكير فريضة إسلامية» (1957م) وغيرها.
وفي تلك الفترة نفسها ظهر عدد كبير من الأدباء الشبان، اشتد وعيهم بما كان في الحياة السياسية حينئذ من فساد، وبما كان بينها وبين الاستعمار من صلات وروابط، وهم أنفسهم الشبان الذين ظهرت في كتاباتهم بذور المعاني الاشتراكية التي جاءت ثورة 1952م لتخرجها إلى عالم الوجود، وقد امتد الوجود الأدبي ببعض هؤلاء الشبان إلى يومنا هذا فأصبحوا من كتاب الاشتراكية وشعرائها المرموقين.
ومن الكتاب الذين انعكست المقاومة في أدبهم نجيب محفوظ، الذي امتد إنتاجه في القصة من الثلاثينيات إلى يومنا الراهن، ولعل قمة أعماله - من الزاوية التي ننظر منها الآن إلى الأدب، وهي انعكاس الجهود التحررية على الأدب - أقول لعل قمة أعماله في هذا الميدان هي ثلاثيته الكبرى: «بين القصرين» و«قصر الشوق» و«السكرية» ففي هذه الثلاثية صورة كاملة الدقائق والتفصيلات لحياة المجتمع المصري كله خلال الفترة التي تقع بين الحربين، نرى فيها كيف تطور مفهوم الوطنية عند الأجيال المتعاقبة، فالوطنية عند الجد الكبير كانت دفعا للتبرعات ودعاء من الله بنصرة الزعماء، والوطنية عند ابنه الكبير هي توزيع للمنشورات السياسية ومشاركة في المظاهرات حتى لقد لقي حتفه في إحداها، والوطنية عند ابنه الأصغر (كمال عبد الجواد) هي العمل من أجل الشعب، بل من أجل الإنسانية المكافحة داخل الوطن وخارجه على السواء، ثم ننتقل إلى الحفدة، فنرى مفهوم الوطنية قد ارتبط بالميدان الاقتصادي، فأعداء الوطن هم من يستغلونه في هذا الميدان، لا فرق بين أجنبي ومواطن إذا كان كلاهما من المستغلين، ومن هؤلاء الأشخاص جميعا، يهتم الكاتب - بصفة خاصة - بكمال عبد الجواد، الذي قال عنه «إنه يعكس أزمتي الفكرية، وهي أزمة جيل بأسره.»
وتحدث أحداث كبرى تشد حولها الكتاب والشعراء جميعا، من أهمها قيام إسرائيل (1948م) والعدوان الثلاثي على الجمهورية العربية المتحدة (1956م)، وثورة الجزائر، وغيرها من الثورات التي شملت الوطن العربي كله من أوله إلى آخره، فتفجرت عيون الأدب نثرا وشعرا، لتنصب على هذه المآسي الإنسانية الكبرى، كتبت القصص التي تصور روح الشعب الثائرة إزاء المستعمرين والمستبدين والإقطاعيين، نذكر منها قصة يوسف السباعي «رد قلبي» وقصة إحسان عبد القدوس «في بيتنا رجل» وقصة لطيفة الزيات «الباب المفتوح»، وكتبت المسرحيات التي تصور القوة الغاشمة حين تنتهك حرمات العدل والحق، نذكر منها مسرحية عبد الرحمن الشرقاوي «مأساة جميلة» ومسرحية ألفرد فرج «سليمان الحلبي» ومسرحية «اللحظة الحرجة» ليوسف إدريس ، ونظمت دواوين بأسرها تعبيرا عن الشعور الوطني الفياض، نذكر منها ديوان «قاب قوسين» للشاعر محمود حسن إسماعيل، وأعيدت ذكريات المآسي الماضية في شعر جديد، كحادثة دنشواي في قصيدة صلاح عبد الصبور «شنق زهران» وقصيدة «أوراس» عن ثورة الجزائر لأحمد عبد المعطي حجازي، الحق أن ما كتب ونظم في مأساة فلسطين وفي بطولة بورسعيد وفي معركة الجزائر ومعركة الكونجو وشتى ضروب المقاومة التي يبديها الوطن العربي بخاصة وتبديها أفريقيا وآسيا بعامة - لا تكاد تقع تحت الحصر، فالموضوع حاضر على أسنان الأقلام أيا كانت الصورة الأدبية التي تجري بها.
ومن الموضوعات التي تشغل الأقلام كذلك إبان هذه المرحلة الثالثة موضوع الوحدة العربية والقومية العربية، وهو جانب إيجابي يستهدف إقامة بناء جديد على أسس سليمة، ولا يقف عند مجرد الثورة الشعورية في مهاجمة الغاصب والمستعمر، فالدول العربية القائمة الآن - كما يقول الباحث العربي الكبير ساطع الحصري - «لم تتكون ولم تتعدد بمشيئة أهلها ولا بمقتضيات طبيعتها، وإنما تكونت وتعددت من جراء الاتفاقات والمعاهدات بين الدول التي تقاسمت البلاد العربية، وسيطرت عليها» ويوجه ساطع الحصري اللوم إلى أولئك الذين ثاروا ليتخلصوا من المستعمرين، حتى إذا ما ظفروا بشيء مما أرادوا، أصروا على أن تبقى لبلادهم الحدود التي حددها بها المستعمرون لصالح المستعمرين: «ما أغربنا نحن العرب، لقد ثرنا على الإنجليز والفرنسيين، ثرنا على من استولى على بلادنا واستعبدنا، وأثرنا الثورات الحمراء والبيضاء عدة عقود من السنين، وقاسينا في سبيل ذلك ألوانا من العذاب والتضحيات، ولكننا عندما تحررنا من نير كل هؤلاء، أخذنا نقدس الحدود التي كانوا قد أقاموها في بلادنا بعد أن قطعوا أوصالها، ونسينا أن تلك الحدود إنما كانت هي الحبس الانفرادي والإقامة الجبرية التي فرضوها علينا، لإضعافنا، وعزل قوى بعضنا عن أن تتحد بالقوى الأخرى» ومن أهم كتب الحصري في ذلك كتاب «آراء وأحاديث في القومية والوطنية» و«العروبة بين دعاتها وخصومها».
قلنا: إن أدب المرحلة الأخيرة - فيما يتصل بمقاومة المستعمر - قد اتسم بطابع إيجابي يبرز به خصائصنا الشخصية الفريدة، لكي نقف على أقدامنا ولا يجرفنا تيار الشمول، الذي يسود فيه القوي ويضيع بين أمواجه الضعيف، وكان من أهم ما عني به الأدباء في هذا الاتجاه الإيجابي البناء، استخراج أصولنا من لفائف التراث الشعبي، فأخذوا يتقصون الرسوم الشعبية والأغاني الشعبية والأساطير الشعبية، حتى لقد صدرت مجلة فصلية بإشراف الدكتور عبد الحميد يونس، لنختص في عرض التراث الشعبي وتحليله وتقويمه، ليفيد منه كتاب القصة والمسرحية كما يفيد منه المصورون والنحاتون والشعراء، فإذا أضفنا إلى هذه الحركة حركة أخرى لبثت قائمة منذ فجر نهضتنا في أول القرن وإلى يومنا، وأعني بها حركة نشر التراث العربي وتحقيقه، تبين لنا الأساس العريض المكين الذي نريد أن نقيم على ركائزه المجتمع العربي الجديد، وعندئذ لا نقول إن الجديد قد جاء ليعارض القديم ويدحضه، بل نقول إن الجديد قد جاء ليجد رواسيه في عروق الماضي وشرايينه، وبهذا يتصل بنا تاريخنا ماضيا بحاضر، فلا تكون فترة الاستعمار في هذا الطريق الطويل الموصول إلا بمثابة غشاوة طرأت حينا على الجسم عندما أخذته العلة وسرعان ما اختفت حين استرد العليل عافيته وقوته.
Halaman tidak diketahui
إرادة التغيير
إنه لمما توصف به الفاعلية الفلسفية أحيانا، هو أنها محاولات لتوضيح المفاهيم التي تقع عند الناس بين الجهل التام والعلم التام ، بمعنى أنها مفاهيم يتداولها الناس وهم على بعض العلم بها، فلا هم يجهلونها كل الجهل ولا هم يعلمونها كل العلم، فتتناولها الفلسفة بالتحليل والتوضيح لعلها تبلغ من معانيها مبلغ التحديد الدقيق الحاسم، فهذه المفاهيم التي تقع عند الناس وسطا بين الغموض والوضوح، هي أشبه شيء بمدينة تراها على مبعدة فترى بروزا ممتدا في الأفق، تتبين معالمه الرئيسية من بناء مرتفع هناك ودخان متصاعد هنا، فتكون مما تراه على يقين أنك تقترب من مدينة، أما تفصيلاتها فلست منها على هذه الدرجة من اليقين، لكنك كلما دنوت منها ازددت إلماما بتلك التفصيلات، فما قد كان يبدو لك من بعيد بقعة كبيرة بيضاء، قد أخذ الآن يتبين في شيء من الوضوح أنه عمارة سكنية ارتفاعها عشرون طابقا، وتلك التي بدت لك من بعيد لمعة ضوئية ساطعة، قد ظهر لك الآن أنها سطح من زجاج يغطي مصنعا ضخما.
وهكذا قل في كثير جدا من المفاهيم التي نتداولها في مجرى حياتنا الفكرية، بل وفي مجرى حياتنا العملية، والتي نشعر أن الحياة - فكرية أو عملية - متعذرة بدونها، ومع ذلك فعلمنا بها لا يكاد يتعدى علمنا بأن في الأفق البعيد مدينة كبيرة، وها هنا يكون عمل الفلسفة أن تدنو بنا من تلك المفاهيم لنراها في تفصيلاتها ودقائقها، وكثيرا ما تأخذنا الدهشة أن نرى من تلك التفصيلات والدقائق ما لم نتوقعه ولم يخطر لنا ببال، وعندئذ قد يحدث لمن أخذته الدهشة أن يثور في وجه من أخذ بيده وأطلعه على دقائق ما كان يتصوره في غموض وإبهام، متهما إياه بأنه يعقد البسيط، ويصعب السهل، ويغمض الواضح، والأمر في هذا شبيه بنا حين نستخدم الورقة والقلم والمنضدة والمقعد في بساطة تخيل إلينا أن هذه أشياء أولية لا تحتاج إلى تحليل، حتى إذا ما جاء عالم الفيزياء ينبئنا أنها في الحقيقة أشياء مركبة معقدة تنحل آخر الأمر إلى عناصر قوامها ذرات مؤلفة من كهارب موجبة وكهارب سالبة وكهارب محايدة، إلى آخر هذه القصة التي ترويها الطبيعة النووية؛ أخذتنا الدهشة، لكن العجب هنا هو أن الدهشة لا تنتهي بأصحابها إلى اتهام علماء الطبيعة بأنهم يعقدون البسيط ويصعبون السهل ويغمضون الواضح، بل ترى هؤلاء ينصتون في إعجاب، يريدون أن يعلموا ما لم يكونوا يعلمونه، على خلاف موقفهم في الحالة الأولى، حين جاءهم الفيلسوف بتحليل يفكك لهم أوصال المفاهيم التي يتداولونها، فثاروا في وجهه كأنهم كانوا يجدون النعمة في الفهم المبهم، ويخشون أن يفسد تحليل الفلاسفة عليهم ما كانوا به ينعمون.
ولعل السر في اختلاف الموقفين: موقف الناس بإزاء التحليل الطبيعي الذي يفكك الأشياء المادية إلى عناصرها الأولية، وموقفهم بإزاء التحليل الفلسفي الذي يفكك الأفكار العقلية إلى مقوماتها البسيطة: هو أن النوع الأول من التحليل لا يمس نفوسهم، وإنما ينصب على أشياء لا تمت لأنفسهم بصلة إلا صلة الأداة الجامدة بمن يستخدمها، وأما النوع الثاني من التحليل فهو في الأعم الأغلب ينصب على جوانب من صميم النفس الإنسانية وقيمها: العقل والروح والذكاء والتفكير والإرادة والعاطفة والانفعال والخير والشر والجمال والقبح والحق والباطل، إلى آخر هذه القائمة الطويلة من التصورات التي يستحيل عليك أن تجد إنسانا واحدا يجهلها كل الجهل، بدليل أنه ما من إنسان تكاملت له قدراته إلا وتصبح هذه التصورات جزءا من اللغة المتداولة المشتركة التي ترد في حديثه دون أن يقف عندها متسائلا: ماذا تعني؟ إلا أن يكون فيلسوفا أو سائرا في طريق الفكر الفلسفي.
و«إرادة التغيير» كلمتان صيغتا على صورة المضاف والمضاف إليه، تماما كما نقول «قراءة الكتب» و«كتابة الخطابات» و«رؤية الشمس»، وهما كلمتان قد أصبحتا مما نتداوله في الحديث، لا غناء لنا عنهما؛ لأنهما معا تكونان أحد المبادئ التي نستهديها في بناء حياتنا الجديدة، وهما - سواء أخذناهما مفردتين أو موصولتين في عبارة واحدة - من ذلك الضرب من المعاني التي أشرنا إليها؛ أعني ذلك الضرب من المفاهيم التي يكون الناس منها على درجة وسطى بين الجهل والعلم، ومن ذا لا يستخدم كلمة «إرادة» وكلمة «تغيير» في حديثه الجاري، وهو على بعض العلم بما تعني هذه الكلمة أو تلك؟ ليس من الناس من يجهلها كل الجهل، ولكننا نزعم أيضا أن قليلا جدا من الناس هم الذين يعلمونهما كل العلم.
فماذا نعني بالإرادة؟ إنني لا أنوي أن أسوح بالقارئ في متاهات المذاهب المختلفة، وأوثر أن أعرض الأمر من وجهة النظر التي أراني أميل إلى قبولها، فأنا أحد الذين يؤمنون ببطلان نظرية «الملكات» التي كان أصحابها يظنون أن داخل الإنسان «قوى» لكل قوة منها كيان مستقل قائم بذاته، فهذا «عقل» وتلك «نفس»، وهذا «ذكاء» وتلك «إرادة» كأنما هي جمهرة من الأشباح ازدحمت في جوف الإنسان، لكل شبح منها عمله الذي يؤديه، وحتى إذا مرت به ساعة لا يؤدي خلالها ذلك العمل، فهو ما يزال هناك مستريحا أو معطلا، ينتظر اللحظة التي ينشط فيها لأداء عمله. كلا، لست من هؤلاء الذين يتصورون قوى الإنسان أشباحا قائمة بذواتها داخل الإنسان، تؤدي عملها حينا ولا تؤديه حينا آخر، إذ إنني ممن يأخذون في فهم الإنسان بالنظرة «السلوكية» التي تترجم أمثال هذه التصورات (عقل، نفس، ذكاء، إرادة ... إلخ) إلى نوع السلوك الذي يسلكه البدن في مواقف الحياة المنظورة المشهودة، وبهذا يكون «العقل» نمطا معينا من السلوك يسلكه الإنسان في مواقف بذاتها، وتكون «الإرادة» نمطا معينا آخر من السلوك، وهلم جرا، فلو سألتني: ما العقل؟ أخذتك من يدك إلى إنسان يحاول أن يلتمس الطريق إلى هدف - كائنا ما كان الهدف، وكائنا ما كان الطريق - وقلت لك: هذا الذي تراه من محاولة للوصول إلى هدف، هو مثل من الأمثلة الكثيرة التي جاءت كلمة «عقل» لتضمها جميعا في حزمة واحدة. نعم إن أهداف الناس كثيرة ومنوعة بتنوع الأفراد والمواقف والظروف، وبالتالي فإن المحاولات لتحقيقها تختلف باختلاف تلك الأهداف، فالذي هدفه أن يشكل قطعة الحديد على صورة المفتاح، لا تجيء محاولته شبيهة بمحاولة الذي هدفه أن ينسج من القطن قماشا، أو شبيهة بمحاولة الذي هدفه أن يقسم تركة بين الوارثين ليعطي كلا ما يستحقه منها، لكن هذه كلها أمثلة تجسد ما نعنيه بالعقل؛ لأنها أمثلة لمحاولات يقوم بها أصحابها بغية الوصول إلى هدف مقصود، وبهذا نفهم «العقل» من زاوية السلوك المرئي المشهود وبهذا أيضا نفهم الصلة الوثيقة بين «الفكر» و«العمل»، فليس فكرا ما ليس يتجسد في عمل، وليس عملا موفقا مسددا نحو غاية ما ليس يسير على فكرة مرسومة.
وهكذا قل في «الإرادة»، فإذا سألتني ما «الإرادة»؟ أخذتك من يدك إلى إنسان استهدف هدفا، فلما سار إلى تحقيقه صادفته في الطريق معوقات، فراح يزيلها ليستأنف السير، إنه لا انفصال بين «الإرادة» و«العمل» حتى ليصبح من اللغو أن تقول عن إنسان إن له «إرادة» لكنها لا تجد العمل الذي تؤديه، وإلا كنت كمن يقول إنه يأكل ولا طعام، أو يشرب ولا ماء! الإرادة هي نفسها العمل الذي يحقق الهدف ويزيل ما قد يحول دون تحقيقه، شريطة أن يكون الهدف هو هدفك أنت، وإلا كنت آلة مسخرة في يد صاحب الهدف، إنك في العمل الإرادي أنت الآمر وأنت المأمور، بل إنه لتشبيه مضلل أن نجعل منك آمرا ومأمورا، كما لو كنت جانبين أحدهما في الداخل - وهو ما يسمى بالإرادة - والآخر في الخارج - وهو ما يوصف بأنه تنفيذ للإرادة - والصواب هو أنك وأنت تعمل العمل الذي تسعى به إلى تحقيق أهدافك فأنت عندئذ بجميع سلوكك تجسيد للإرادة وتنفيذها.
ولعلك قد لحظت فيما أسلفناه لك عن «العقل» من أنه هو السلوك الذي يبدأ بفكرة عما نريد تحقيقه وينتهي بتحقيق تلك الفكرة بحيث تصبح كيانا مجسدا، وفيما أسلفناه لك عن «الإرادة» من أنها هي كذلك السلوك الذي يبدأ بالصورة الذهنية التي يراد إخراجها وينتهي بتحقيقها بحيث تصبح كيانا مجسدا، أقول لعلك قد لحظت في هذا القول عن العقل وعن الإرادة أن كليهما واحد، ففي كلتا الحالتين فكرة وتنفيذها في عملية واحدة متصلة أولها رؤية للهدف قبل وقوعه وآخرها وصول لذلك الهدف بعد أن صيرناه كائنا قائما بين الكائنات.
وهكذا الحياة الإنسانية وحدة عضوية قوامها فعل وحركة، لا فرق في ذلك بين تفكير العقل وإرادته.
إنك إذ تنظر إلى الإنسان وهو ينشط بأي ضرب من ضروب النشاط: إذ تنظر إليه وهو يكتب خطابا، أو يقرأ كتابا أو يأكل طعامه، أو يلعب الكرة أو الشطرنج، إذ تنظر إليه وهو يقيم الجدران ويرصف الطرق ويبيع ويشتري ويتكلم ويسمع، إذ تنظر إليه وهو يمشي ويجري ويقف ويجلس ويضحك ويبكي، لا يخطر ببالك أبدا أنك إزاء شطرين في كل عمل من هذه الأعمال التي تنظر إليها، فتقول لنفسك: هذا شطر «الإرادة» وهذا شطر «تنفيذها»؛ لأنك تعلم من خبراتك مع نفسك أن الإرادة هي تنفيذها، وأن الإنسان هو الكل العضوي الواحد الذي ينشط بهذا العمل أو ذاك.
Halaman tidak diketahui