وعبرة ذلك كله لي ولك أيها القارئ أن تعرف أن المرأة هي أساس الحضارة الآن، وأن الفرق بين إنجلترا السائدة والهند المسودة هو فرق بين المرأة الإنجليزية التي تمارس الرياضة وتقوى وبين المرأة الهندية التي تنزوي وتتحجب وتضعف، ولهذا الفرق صدى في جميع أحوال الأمة، في خلق الرجال وتعليم الأطفال، وفي نظام البيت ودستور الأمة وفي كل شيء آخر حتى في الآداب والفنون، ولم لا يكون كذلك؟ أليست المرأة هي الأم، وهي التي تربي أطفالها، فإذا كانت تكبر من شأن الصحة والقوة جعلتهم يكبرون من شأنهما أيضا؟ أو ليست هي ربة البيت بها ينتظم وبها تنضبط أحواله من مال واقتصاد؟ فإذا كان البيت مهد الحضارة؛ لأنه المدرسة الأولى التي يتربى فيها المرء وهو أيضا المملكة الصغيرة التي يتعلم فيها الصبي ضبط النفس وأدب المعاشرة وعادات النظافة والمواظبة والمثابرة، فإن المرأة التي هي محور هذا البيت هي أساس هذه الحضارة، وإذا اختل الأساس كما هو في ذلك المثال الذي ذكرناه عن الهند اختل البناء، وإذا صح شادت الأمة بناءها شامخا مشمخرا كما هو في بريطانيا أو أمريكا.
يؤيد رأينا الأبحاث الحديثة في النفسلوجية التي تثبت أن أعمق الآثار في نفوسنا هي تلك التي نتلقاها في طفولتنا وصبانا بالمنزل.
وبمعنى آخر هي تلك الآثار التي تنطبع في أذهاننا بالقدوة والحديث من أمهاتنا، وليس شيء نتعلمه في المدارس أو نتلقاه من العالم بعد خروجنا من المدارس له من الأثر ما للأم في النفس، وليس وسط يؤثر فينا إن شرا وإن خيرا ما يؤثره المنزل في طباعنا وعاداتنا، وما المنزل سوى المرأة.
فالأمم النشيطة الجريئة العاملة الدائبة في العمل ترجع صفاتها الحسنة هذه إلى ما عندها من أمهات لهن هذه الصفات، والأمم الخاملة الناكصة المريضة ترجع صفاتها السيئة هذه إلى أمهاتها أيضا.
وبعد فأيتهما أفضل وأحق بالحياة؟ أتلك الفتاة التي تسبح 36 كيلو مترا بين الأمواج المتلاطمة أم تلك التي تنزوي تتحجب وتخمل حتى تمرض بالسل؟
الفصل الثاني عشر
وأنت أيضا رجل عظيم
كثيرا ما نقرأ عن جريمة فظيعة يرتكبها شاب في والده وهو في سورة غضب، فنشمئز ونتأفف من هذه الطبيعة البشرية التي تتسرع إلى الشر، وكثيرا ما نسمع عن جناية فظيعة تقع بأحد الناس من مجرم باغ يرمي إلى غاية سافلة، فنعجب من هذه الطبيعة التي تنزل بالإنسان إلى أحط دركاته، وقد نشعر بعواطفنا تتفزز للشر أو للشهوة الأثيمة، أو تنزع بنا نحو الشراهة للطعام الكثير أو الشراب الكثير أو تميل بنا إلى إيثار الخمول على العمل أو نحو ذلك، فنعود إلى هذه الطبيعة البشرية ونقول إنها تحتاج إلى التأديب، وأن الإنسان مفطور على الشر وأن سوء الظن من حسن الفطن.
ولكن يجب أن نذكر جميعا أن هذا التأديب الذي نطلبه لقمع الشر وكبح الغضب إنما نطلبه لما في هذه الطبيعة البشرية المنغرسة في نفوسنا من الخير، فكما أن نفوسنا قد طبعت على شيء من الشر والغضب والدناءة فهي قد طبعت أيضا على شيء كبير من الأنفة والبر والخير، فإلى جانب المشنقة والسجن، وما فيهما من روح الانتقام والغيظ والحقد على المجرم ، قد اخترع الإنسان أيضا المدرسة والمستشفى لما في نفسه من روح البر والخير.
وهنا أذكر قصة قرأتها في سيرة الأمير كروبتكين الفوضوي الروسي الشهير، ولا أذكرها إلا ويرتفع الإنسان في نظري، فأكبر له وأرفع من مقام هذه الطبيعة البشرية المجرمة البارة، فقد حكي أن أحد الفوضويين ألقى قنبلة أمام المركبة الملوكية في بطرسبرج فانفجرت، وأجفلت الخيل وجمحت، وبينما هو يريد الفرار إذا به يرى طفلا لقيطا قد تركته أمه في زاوية من الشارع، فنسي الفوضوي جريمته ونسي المشنقة التي تنتظره وثابت إليه نفسه البارة فنظر إلى الطفل وتذكر خيل المركبة وهي جامحة شاردة فخشى على الطفل منها وانحنى عليه في تؤدة وحمله وعدا به.
Halaman tidak diketahui