1 - من هو العظيم
2 - روح التسامح
3 - كيف وماذا نقرأ
4 - الفتاة الحديثة
5 - كلكم راع
6 - الاعتدال
7 - مصلحتك هي مصلحة الجماعة
8 - الغاية من الحياة
9 - ميراث الأبناء
10 - الصغائر العظيمة
Halaman tidak diketahui
11 - المرأة أساس الحضارة
12 - وأنت أيضا رجل عظيم
13 - سوط الاحتقار
14 - سلطانك على نفسك
15 - الشيخ الشاب
16 - الاستقلال الروحي
17 - لا جديد تحت الشمس
18 - هذه الدنيا
19 - الطفيلية
20 - العلم والأدب
Halaman tidak diketahui
21 - أفخر الأثاث
22 - الروح الإنجليزية تتطور
23 - ماري
24 - أعجوبة الطفولة
25 - التفاؤل والتشاؤم
26 - هل اخترعت مصر الحضارة
27 - أغانينا
28 - عدو الظلم والاضطهاد
29 - الحق والقوة
30 - القرية المصرية
Halaman tidak diketahui
31 - قصيدة الحياة
32 - كيف نربي أنفسنا
33 - الهند العظيمة المسكينة
34 - مصر مركز الثقافة العربية
35 - هزيمة الأدب السخيف
36 - تربية الكبار
37 - تحديد النسل
38 - الإيمان يرقي الإنسان
39 - في الحب
40 - الحكم بالإعدام
Halaman tidak diketahui
41 - التغلب على المصاعب
42 - التسامح الديني
43 - الموتى لا يحكمون الأحياء
44 - العبيد الذين غلبوا نابليون
45 - خطة الدفاع
46 - في شرف الهزيمة
47 - المناقشات حول الأدب
48 - أسطورة قديمة جميلة
49 - أجمل الأشياء
50 - سعة الصدر وحاجتنا إليها
Halaman tidak diketahui
51 - البذرة
52 - ما هو التمدن
53 - في التقدم
54 - الاجتهاد
1 - من هو العظيم
2 - روح التسامح
3 - كيف وماذا نقرأ
4 - الفتاة الحديثة
5 - كلكم راع
6 - الاعتدال
Halaman tidak diketahui
7 - مصلحتك هي مصلحة الجماعة
8 - الغاية من الحياة
9 - ميراث الأبناء
10 - الصغائر العظيمة
11 - المرأة أساس الحضارة
12 - وأنت أيضا رجل عظيم
13 - سوط الاحتقار
14 - سلطانك على نفسك
15 - الشيخ الشاب
16 - الاستقلال الروحي
Halaman tidak diketahui
17 - لا جديد تحت الشمس
18 - هذه الدنيا
19 - الطفيلية
20 - العلم والأدب
21 - أفخر الأثاث
22 - الروح الإنجليزية تتطور
23 - ماري
24 - أعجوبة الطفولة
25 - التفاؤل والتشاؤم
26 - هل اخترعت مصر الحضارة
Halaman tidak diketahui
27 - أغانينا
28 - عدو الظلم والاضطهاد
29 - الحق والقوة
30 - القرية المصرية
31 - قصيدة الحياة
32 - كيف نربي أنفسنا
33 - الهند العظيمة المسكينة
34 - مصر مركز الثقافة العربية
35 - هزيمة الأدب السخيف
36 - تربية الكبار
Halaman tidak diketahui
37 - تحديد النسل
38 - الإيمان يرقي الإنسان
39 - في الحب
40 - الحكم بالإعدام
41 - التغلب على المصاعب
42 - التسامح الديني
43 - الموتى لا يحكمون الأحياء
44 - العبيد الذين غلبوا نابليون
45 - خطة الدفاع
46 - في شرف الهزيمة
Halaman tidak diketahui
47 - المناقشات حول الأدب
48 - أسطورة قديمة جميلة
49 - أجمل الأشياء
50 - سعة الصدر وحاجتنا إليها
51 - البذرة
52 - ما هو التمدن
53 - في التقدم
54 - الاجتهاد
في الحياة والأدب
في الحياة والأدب
Halaman tidak diketahui
تأليف
سلامة موسى
مقدمة
بقلم سلامة موسى
حوالي عام 1923 كنت أحرر الصفحة الافتتاحية لإحدى المجلات الأسبوعية، وبقيت على ذلك إلى أواخر عام 1929، وكنت أتوخى فيها مخاطبة الشباب وأنبههم إلى حقائق الحضارة ومعاني الثقافة.
وكان استعدادي لهذا الموقف، موقف الإرشاد للشباب، أني أقمت في أوروبا نحو خمس سنوات أتأمل وأفكر في الأسباب والعوامل التي رفعت الأوربيين حتى حصلوا على الثراء والقوة والعلم في حين تأخرنا نحن عن كل ذلك، فكنت أكتب هذه الفصول في شرح ما فهمت من الحضارة الأوربية، وفي 1930 جمعت بعض هذه الفصول وأصدرتها كتابا بعنوان «في الحياة والأدب»، وفي هذا العام (1956) طلبت إلى «دار النشر المصرية» أن تعيد طبع هذا الكتاب، فعدت إليه لكي أتصفحه وأحذف منه ما تغيرت قيمته أو سقطت بمرور هذه السنين.
وحين أتأمل الكتاب أجد أن وحدة الهدف واضحة في جميع فصوله. إذ هي تنوير وتبصير بالحضارة والثقافة ودعوة إلى التغيير والتطور.
وأول ما التفت إليه، حين كنت في أوروبا، أن هذه القارة إنما سادت سائر القارات بحضارة الصناعة التي تغذوها ثقافة العلم، وأنه ليس هناك من فروق بين مصر وبريطانيا. أو مصر وفرنسا، سوى هذا الفرق، وهو أننا نعيش على الزراعة في الأكثر بينما يعيش الإنجليز والفرنسيون على الصناعة، فهم أثرياء ونحن فقراء، وهم يعرفون العلوم ونحن نجهلها، وهم أقوياء ونحن ضعفاء، وإذا نحن أخذنا بالصناعة فإننا نصير مثلهم سواء في القوة والثراء والعلم.
وكانت «نظرية التطور» بجميع مركباتها المادية والاجتماعية قد لابست تفكيري منذ شبابي، فوجدت فيها إلهاما ونورا، ودعوت إليها في حرارة، خاصة وأني وجدت بلادنا تستمسك بتقاليد خانقة تعوق تقدمنا وارتقاءنا وتجرنا إلى الماضي بينما الأمم الناهضة تثب إلى المستقبل.
والمستقبل حياة والماضي موت.
Halaman tidak diketahui
وكانت للمرأة مقام أمامي في كل تفكيري الارتقائي لبلادنا؛ ولذلك كتبت وألفت الكتب في ضرورة مساواتها بالرجل، ليس في الحقوق فقط بل في الواجبات، حتى تختبر الدنيا وتعيش إنسانا مجربا عارفا حكيما كالرجل سواء؛ ولذلك يجب أن تزامل الرجل في المدرسة والمصنع والمتجر والمكتب.
ووجدت أن مكافحتنا للاستعمار الأجنبي لن تكون ناجحة كاملة إلا إذا كافحنا الرجعية المصرية الخانقة؛ ولذلك لم أهمل الدعوة إلى الآراء المصرية في الأخلاق والعقائد.
ومنذ شبابي وأنا على يقين بأن الحضارة الأوربية ليست هي الكلمة الأخيرة في تاريخ الحضارات، وإنما هي فترة انتقال من الانفرادية البغيضة إلى الاشتراكية السخية، ولم أنكر يوما ما هذا المذهب الذي جلب علي كثيرا من المتاعب من دعاة الظلام من الرجعيين المصريين والمستعمرين الإنجليز.
والقارئ لهذا الكتاب يجد آرائي مبسطة موجزة، فإذا شاء التعمق فليقرأ مؤلفاتي الأخرى.
الفصل الأول
من هو العظيم
حدث مرة أن جريدة «الماتن» استفتت قراءها عن أعظم رجل فرنسي خدم فرنسا؟ فجاءتها الخطابات تترى من جميع الأنحاء وجميع كاتبيها غيورون على أن يكون عظيمهم عظيم الأمة بأجمعها، وكان من المنتظر أن نابليون سيفوز بأكبر عدد من الأصوات، ولكن جاءت النتيجة عكس هذا المنتظر وظهر على قمة العظماء شخص قد لا تكون قد سمعت به وهو باستور.
ومن باستور هذا الذي أربت أصواته على الأصوات التي نالها نابليون؟
باستور رجل وضيع الأصل، اشتغل بالعلم فعرف الميكروب، وأوجد مصلا لمرض الكلب، وعالج كروم فرنسا من وباء كان يفتك بها، واهتدى إلى طريقة لتطهير اللبن، وهذه الأشياء الوضيعة أدرك الشعب الفرنسي أنها أكبر من المعارك العظيمة التي خاضها نابليون ورفع بها شأن فرنسا الحربي؛ ولذلك حكم لباستور بالتفوق في العظمة.
فالشعب الفرنسي يقول بصريح القول: إن العظمة هي الفائدة التي تعود على الأمة من العظيم الذي ينشأ بينها، وعظمة نابليون ليست طبلا أجوف رنانا لا فائدة فيه، فإن فرنسا كانت في بداية تسلمه مقاليدها أكبر مما كانت عليه عندما انهزم، وأسره الإنجليز، ونفوه، بعد أن كبد الفرنسيين نحو مليون قتيل، وأما باستور فإنه أنقذ ثروة الوطن ووقى الأطفال من الموت أو خفض آلام المرضى وفتح للطب فتحا عظيما، وإذا كان الأطفال يستهويهم ذكر نابليون ويتغنون بمدحه ويصلصلون بسيفه فإن الرجل الذكي لا يرى مندوحة من أن يحكم بالعظمة الحقيقية لباستور دون نابليون.
Halaman tidak diketahui
وما أحرانا في مصر أن نراجع أنفسنا ونعيد النظر في تقدير عظمائنا، ومقدار الفائدة التي عادت من كل منهم على بلادنا، ولكن كيف نقيس هذه الفائدة؟
إن العظيم يجب أن يكون هو الرجل الذي كسب للأمة حقوقا لم تكن لها من قبل، وهو الرجل الذي وجه العقول إلى وجهة وطنية مصرية بعد أن كانت قوميتها متلاشية في فوضى الأفكار التي ورثناها عن المماليك، وهو الذي رفع التعليم، وهو الذي نظم للبلاد طرق الري والصرف ورفع مستوى الصحة.
ولسنا نعين شخص هذا العظيم الآن وإنما يجب أن نقيسه بمقدار الفائدة التي عادت من وجوده على البلاد، فإذا قيل لك إن هذا الرجل أو ذاك عظيم فاسأل ماذا فعل للبلاد وما هو الربح الحقيقي الذي جنته منه؟ ولو سئلت أنا هذا السؤال لأجبت بأن العظيم في مصر هو الذي ينجي الفلاحين من البلهارسيا والإنكلستوما، وهو الذي يعمم التعليم الحقيقي لا تعليم القرون الوسطى، وهو الذي يخترع لنا طريقة لعمل الأسمدة الكيمياوية.
وأخيرا هو الذي يوجه الأمة نحو الحضارة الأوربية، وبعبارة أخرى نقول إن العظيم هو من أشبه باستور بتواضعه ومثابرته على خدمة أمته في الشئون الصغيرة، وليس هو نابليون بجميع ما فيه من طبل أجوف رنان، فبلادنا مثلا مفتقرة إلى الصناعة، نبيع قطننا كل عام بأبخس الأثمان، ثم نعود فنشتري بعضه بأرفع الأثمان، فالعظيم حق العظمة هو ذلك الذي يستطيع أن يعلم الفلاح كيفية غزل القطن ونسجه ويوجد في البلاد حركة صناعية تضمن لنا حياتنا الاقتصادية.
الفصل الثاني
روح التسامح
ربما كان القارئ يجهل أن النظام البرلماني إنما يقوم على أساس التسامح وينجح بمقدار ما في الأمة من روح التساهل في الآراء والمذاهب؛ لأن هذا يقضي بحكم الكثرة وخضوع القلة ريثما يدور الزمن وتعود القلة إلى كثرة، فلو تشددت القلة في التمسك برأيها وأبت الخضوع لرأي الكثرة لانهدم النظام البرلماني من أساسه وسادت الفوضى مكانه، ومن هنا تجد أن الأمم العريقة في هذا النظام مثل إنجلترا يختلف أعضاء برلمانها جد الاختلاف في الرأي فلا تسمع من أحدهم كلمة بذيئة في حق الآخر، وهذا على خلاف ما يحدث في الأمم التي جد فيها هذا النظام على أساس استبداد قديم سابق حيث تبلغ الخصومة السياسية حد الضرب والقتل كما كان يحدث إلى عهد قريب بين بعض الأمم التي تعيش في البلقان.
ولكن إذا كان التسامح ضروريا لنجاح النظام البرلماني فهو أكثر ضرورة لنجاح سائر مرافق الأمة؛ إذ لا أدب ولا تجارة ولا تعليم إلا بالتسامح، فالأدب لا يرقى، بل لا يعيش، إلا إذا أشرب القراء والكتاب روح التسامح، فإذا كان كل قارئ يقف مستعدا كي يضرب كل مؤلف لا يكتب وفق ما هو يهوى، ويؤلب عليه الناس كي يقطعوا رزقه ويحرموه من العيش، لكسر كل كاتب قلمه وأقفرت الأمة من مصابيح الهدى التي تهديها، ولو كان كل كاتب يقف من نفسه «شاهد ملك» ليدل الحكومة على مآخذ كل كاتب آخر ويطلب إليها معاقبته لما بقي في الأمة رجل واحد يكتب، وكذلك لو أننا تشددنا في التجارة وسألنا كل من يعاملنا عن دينه ورأيه لما تبادلنا التجارة مع أحد، ولقد أصيبت أوروبا عند ختام الحرب العالمية الأولى بمثل هذه النزعة فرفضت الاتجار مع روسيا لأنها شيوعية، ثم تغلب عقلها على عواطفها وعادت فتسامحت وتبادلت وإياها المتاجر، واعتبر ذلك أيضا في التعليم، فهذه نظرية التطور مثلا تدرس في مدارسنا الآن فلو أن روح التعصب كانت تشمل برامجنا التعليمية لحرم أبناؤنا من درس النظرية العظيمة التي أصبحت مفتاحا لجميع العلوم والآداب والأديان.
فتقدم العالم يقتضي التسامح، وأساس التسامح هو معرفة المتسامح بجهله، كما أن أساس التعصب هو غرور المتعصب بمعرفته، وليس في العالم حقيقة لا يمكن الشك فيها، أو لا يمكن النظر إليها من وجهتين مختلفتين، حتى إن أينشتاين يشك الآن في البديهيات ويكاد يقول إن مجموع اثنين واثنين ليس على الدوام أربعة.
فإذا كان الشك يبلغ هذا الحد في البديهات فكيف بالبحث في التاريخ أو الاجتماع أو السياسة حين يكون الرأي الجديد مخالفا للمصلحة الشخصية لبعض الطوائف أو مناقضا للعادة المألوفة المحبوبة أو مصادما لملاذ الكسل التي يأبى المتنعم بها أن ينشط لدرس الجديد؟
Halaman tidak diketahui
فهل لنا أن نطلب إلى الشيخوخة المسنة أن تتمهل وتتسامح مع نشاط الشباب، وأن تعرف أن الأمة تحتاج على الدوام إلى النظر إلى الأمام وإلى المستقبل كما تحتاج أحيانا إلى النظر إلى الخلف وإلى الماضي؟
لن يضير الأمة أن يؤلف أحد شبابها كتابا يخالف رأي شيوخها لأن هذا الكتاب ستتناوله العقول بالنقد والتمحيص، فيزول غثه ويبقى ثمينه على مدى الزمن، فلنقتل الكتاب بحثا وفحصا، ولكن يجب أن نترك المؤلف فلا نطلب أن نقطع رزقه؛ لأن هذا الطلب الأخير هو من الخطط التي اندثرت بزوال القرون الوسطى حين كانت «محكمة التفتيش» تصادر من تتهمه بالزندقة في أملاكه وتصفيها.
إننا لا نزال جهلة بحقائق هذا العالم، وجهلنا هذا يمنعنا من البت والحزم؛ ولهذا يجب أن نتسامح فيما يقوله غيرنا؛ لأننا لسنا من الثقة بآرائنا بحيث نستطيع أن نقطع بسخافة آراء الغير أو ضررها، ويجب أن نتذكر أن لكل جديد صدمة تشبه ما تلاقيه النفس لأول ما تسمع لحنا جديدا، فقلما نستطيب اللحن الجديد لأول سماعنا إياه ولكن الاستطابة تعقب المعاودة، وكذلك الآراء الجديدة تصد عنها النفس كما تصد عن الزي الجديد ثم تستحسنه بالمعاودة والألفة، والتقدم والرقي كلاهما مستحيل ما لم نقبل الجديد ونتسامح فيه.
الفصل الثالث
كيف وماذا نقرأ
الناس رجلان: أحدهما يحتال للانتفاع من وقته، كأنه يجعل من الساعة ساعين، والآخر يحتال لإضاعة وقته بحيث يحيل الساعة إلى نصفها أو إلى العدم، وهناك وسائل عديدة عند هذا الفريق الأخير لقتل الوقت وتضييع الفرص وتقصير العمر، حتى لتشعر من إتقانهم معرفة هذه الطرق أنهم يندمون على أنهم قد ولدوا إلى هذا العالم، ويمكنك أن تحيل النظرات في القهوات وتدرس بعض الألعاب حتى تتأكد أنها كلها تمارس هربا من الحياة وسآمة من الدنيا وندما على الوجود.
لسنا بسبيل الكلام مع هؤلاء وإنما نريد أن نتحدث إلى الفريق الأول الذي يحتال للانتفاع من وقته، والذي لا يندم على وجوده في هذا العالم، فمن ضروب الانتفاع بالوقت واكتساب القوة بإثارة الذهن نجد القراءة في المكان الأول، وقد كانت القراءة من وسائل الرقي في الأزمنة الماضية ولكنها كانت من الوسائل الثمينة التي لا ينالها إلا المبالغون في الجد وأبناء الأثرياء. أما الآن فهي ميسرة للجميع لا يتكلف طالبها سوى أقل المال أو لا يتكلف شيئا مطلقا.
وسيأتي زمن ما يعيش فيه الإنسان ليقرأ ولا يكاد يجد عملا في العالم يكده ويملأ فراغه. بل يمنح كل وقته تقريبا لمثل القراءة والدرس.
ولكن كيف يجب أن تكون القراءة؟ هل يجب أن نسير فيها ونسلك سبيلها على النحو الذي يسلكه لاعب النرد أو الشطرنج، تزجية للوقت وفرارا من الحياة، فنقرأ القصص تلو القصص وعشرات المقالات «السياسية» يرادف معناها في الواحدة معاني الأخرى؟
كلا، إنما يجب أن نقرأ لننتفع، فالمعرفة قوة والجهل عجز، فلنقرأ إذن كي نعرف ونزداد علما بالأشياء، كي نزداد بذلك إدراكا للحياة وإحساسا بها، وليس في مقدرة كل منا أن يختبر جميع شئون هذه الدنيا اختبارا مباشرا، إنما في مقدورنا جميعا أن نكتسب علما بها عن سبيل الآخرين الذين اختبروها وأثبتوا اختبارهم بأقلامهم لمنفعتنا.
Halaman tidak diketahui
ومعنى هذا أنه يجب أن يكون لكل منا مكتبة في منزله، وأن يعد الكتب من ضروب الأثاث الضروري للمنزل، بل هي أكثر ضرورة من بعض الأثاث الذي ترتكم به بعض المنازل في غير منفعة سوى الفخر الكاذب والأبهة السخيفة، فالكتب هي أثاث الذهن ينقلب فيها ويرتاح إليها ويستفيد منها ويستنير بمعارفها.
فيجب إذن أن تعمل عقولنا في انتقاء الكتب والمجلات والصحف، فلا نقتني إلا ما ينفعنا ولا نقرأ إلا ما هو ضروري لنا، مما يرفعنا فوق مستوانا وينير أذهاننا ويزيدنا قوة، وخير أنواع التربية حين يربي الإنسان نفسه، فيقيس كفاياته وقدر ما يحتاج إليه من التثقيف؛ لأنه عندئذ يحسن التقدير ويسير مع هواه في انتقاء المواد، والهوى من أعظم الوسائل في تسهيل الصعب وتمهيد الوعر، ومن الناس من لا يسعده الحظ بتربية مدرسية وافية ولكنه يجد من وقته الوسيلة لتربية نفسه بالكتب والمجلات إذا هو ثابر على القراءة وأحسن الاختيار في اقتناء الكتب، وليست المدرسة إلا البداية للتربية الحقيقية فهي تغرس في النفس (أو يجب أن تفعل ذلك) تلك النزعة التي تجعل كلا منا طول حياته طالبا للعلم ساعيا وراء الثقافة.
ولن يكون ذلك إلا بالكتب وتقليبها والنظر فيها واعتياد التنقيب والبحث. هذا إلى نزعة موفقة تحملنا على الجد والمنفعة لا التسلية وإضاعة الوقت، ولسنا نقول إن قراءة الصحف السياسية تخلو من الفائدة، وإنما نقول إن الإدمان عليها مع تكرار معانيها تضييع للوقت والمال معا، فلنقرأ من التاريخ والشعر وسائر فروع الأدب والعلم ما ننتفع به وتزكو به عقولنا ويعظم به إحساسنا للحياة، فقارئ التاريخ يضيف إلى عمره أعمار الأجيال الماضية وقارئ كتب السياحات يضيف إلى وطنه أوطانا أخرى، والتعمق في العلوم يزيد الإنسان بصيرة.
الفصل الرابع
الفتاة الحديثة
عندنا في مصر طبقة من الكتاب إذا أعورتهم مادة الكتابة عمدوا إلى موضوع المرأة فنعوا عليها تبرجها وفسادها وانحطاطها، وقد ألف القراء منهم هذه النغمة فلم يعد يبالي بها واحد منهم، وقلما يقرأ أحد هذه المقالات الكثيرة التي تملأ الصحف بها أعمدتها عن المرأة لأن موضوعها ومضمونها قد عرفا وسئما معا.
ومضمون هذه المقالات أن المرأة الحديثة أكثر تبرجا وأحط أخلاقا من والدتها أو جدتها، وليس ينكر أحد أن في مصر، وخاصة في القاهرة، نساء متبرجات يسرن في ضوء النهار قبل الظهر وبعده بلباس السهرات مكشوفات أعلى الصدر وأعلى الظهر، ومنهن أيضا من يضعن المساحيق على وجوههن ويصنعن الوشي المختلف والمضحك معا لملابسهن، وكثيرا ما يكون الجهل داعية ظهورهن بهذه المظاهر، فهن لا يتعمدن هذا المظهر وإنما يجهلن المظهر اللائق، ومقابلة المرأة القديمة بالمرأة الحديثة موضوع دائم الطلاوة يغري الكتاب بالكتابة حتى في أوروبا، فهناك ينعون على الفتاة الحديثة ترخصها في عادات كانت جدتها لا تجرؤ على اعتيادها، مثل التدخين والمجاهرة بالرأي وتقصير الثياب وتضييقها وقص الشعر ونحو ذلك.
ولكن للفتاة الحديثة من يدافع عنها ويقطع ألسنة السوء التي تعبث بشهرتها، فقد رد أحدهم على ما تتهم به، وقابلها بالجدات القديمات، فوجد أن الفتاة الحديثة على الرغم من انطلاقها في الحرية أكثر شعورا بالمسئولية من جدتها، وأكثر استعدادا لمواجهة الشدائد، وأكثر اعتمادا على نفسها، وأعرف بوسائل العيش الشريف منها، فقد كانت آداب الجدات محصورة في الصمت وتكلف الأدب أمام الرجال والاقتصار على أعمال البيت، وكانت تلبس من الثياب الضافية ما يكفي الواحد منها لأن يفصل منه ثلاثة أو أربعة مما تلبسه الفتاة الحديثة، ومن يقف في لندن عند فوهات أو محطات الأنبوبة (أي القطار الذي يجري تحت الأرض) ويرى آلاف الفتيات اللواتي يكدحن للمعاش وهن مقصوصات الشعر مقتضبات الملابس؛ لا يسعه إلا احترامهن وإكبار نفوسهن، ولو كانت جداتهن في مكانهن لقنعن بالقعود في البيت والرضا بالدون من العيش، ولكن هؤلاء الفتيات أطمع في مسرات الحياة وأشجع على مشقاتها وأنزع إلى الرجولة منهن، وأذكى عقلا وأخف يدا وقدما من أن يرضين بلزوم البيت مع الفقر والمسكنة في حين يمكنهن الاكتساب بالعمل والجد.
هذا في لندن، والحال ليست كذلك في القاهرة، ولكنها ليست من الخطر بالمقدار الذي يوهمنا به زعماء القديم من كل شيء، فقد سلمنا بأن في القاهرة طبقة من الفتيات تتبرج عن جهل لا عن قصد، والذي يدعونا إلى هذا الظن أن تبرجهن خلو من الذوق، ولو كان عندنا رأي عام مهذب يدري بالأذواق والأزياء لكانت لفتة واحدة من الرجال يزدرون بها هذه الأزياء تكفي لأن تمنع الفتيات من التبرج منعا باتا، ولكننا نقول إن الفتاة الحديثة في مصر لا تزال مع ذلك أصح نظرا للحياة من والدتها أو جدتها؛ فهي تمشي الآن وحدها في الأسواق معتدلة القوام مرتفعة الرأس، في حين كانت جدتها تمشي متعثرة مع الخدم، وهي تقرأ بينما كانت أمها جاهلة، وهي لا تبالي بالسمن في حين أمها كانت ترهق أمعاءها بأكل المسمنات، وهي ترى العالم بعينيها ولا تضع على وجهها سوى نقاب خفيف بينما كانت أمها تخفي عينيها عن العالم، فإذا قيل بعد ذلك إنها تداعب الفتيان في الطريق فإنه يجب على القارئ أن يذكر أن المداعبة تحتاج إلى اثنين فإذا لمنا الفتاة وجب أن نلوم الفتى، وهو باللوم أحق لأنه هو البادئ.
والناس يحبون مقابلة الحاضر بالماضي فيصغرون الأول ويكبرون الثاني، فتراهم يصفون القدماء بأنهم كانوا أحفظ للذمم منا، وكانوا أعف في الحرمات منا، وكانوا وكانوا، وكل هذا كذب لا أصل له؛ فإن جدودنا مثلا رضوا بحكم المماليك فكانوا أجبن منا، ورضوا بمظالم كثير من حكامهم حتى أشرفت البلاد على الخراب، وقد زار أندلسي قبل نحو 700 سنة بلادنا فذكر أن الفحش والزنا في القاهرة لا حد لهما، وأن قذارة مدننا لا تطاق، فالقول بأن المرأة القديمة تفضل المرأة الحديثة لغو لا يقول به إلا الجاهل.
Halaman tidak diketahui
الفصل الخامس
كلكم راع
كنت أقرأ هذا الأسبوع قصة من تلك القصص السرية للكاتب الإنجليز ولز، وكل قصة من قصص ولز تبحث في موضوع قائم برأسه أكثر ما يكون اجتماعيا أو نفسيا، وأقل الأشياء حظا في قصصه، على خلاف ما نرى في القصص الأخرى، هو العشق.
وموضوع هذه القصة رجل يحترف حرفة وضيعة تصد عنها نفسه وطبيعته ولكن عيشه يربطه بها ويقهره على لزومها فيلزمها صاغرا، وأخيرا تطمو به نفسه إلى الخلاص منها بطريقة مختصرة غاية في الاختصار وهو أنه يحسب نفسه ملكا ويجن ويرسل للمارستان.
ومثل هذا الجنون يعرفه المشتغلون بعلم النفس، وقد أخذ المؤلف يحلل نفس هذا المسكين ويعلل جنونه علة بعد علة مما لا نرى المجال يتسع لإيراده، وإنما نختصر القول بأن نقول إن في نفس كل إنسان نزعة إلى العلا والخير وإنه مهما كانت حرفته وضيعة ففي قرارة نفسه بذرة الملوكية التي تأبى الضعة والهوان.
وبعضنا تنزع به ملوكيته إلى الجري وراء المناصب العليا من نيابة أو وزارة أو غيرهما، وبعض آخر تسمو به نفسه إلى البر فيؤلف الجمعيات الخيرية أو ما شاكلها، وثم بعض آخر أيضا يعمد إلى هذا العالم فيبسط عليه سلطان عقله ويدرسه ويتعمق في معرفة أسراره، والمعرفة ضرب من التسلط، وبعض آخر يعمد إلى التجارة فيستولي بها على مملكة صغيرة من محتويات هذا العالم يطمح بذلك إلى نوع من الملوكية، وقد يكون مخدوعا.
فكل هذه حالات تدل على نزوع كل إنسان إلى السمو وحب التسلط والحصول على ضرب من الحكم والرغبة في أن نطبع العالم بطابعنا، وهذا ما قصد إليه المؤلف الإنجليزي، وقد بالغ في قوة هذا النزوع حتى نسب الجنون إلى رجل قهرت فيه هذه العاطفة بلزومه حرفة وضيعة لا يرى فيها مجالا للظهور في العالم والعمل لرقيه وطبعه حتى ثارت عليه نفسه واقتضته دينها كله بأن أوهمته أنه ملك.
وفي العربية قول مأثور وهو: «كلكم راع وكل راع مسئول عن رعيته» وهو معنى ما قاله ولز حين قال: «كلكم ملك وكل ملك مسئول عن مملكته.»
ولكن كيف نمارس هذه الملوكية، ونأخذ على عاتقنا قسما من مسئولية الحكم؟
نمارسها برقابة الحكام ومعونتهم على العدل والبر وكفهم عن الظلم والعسف، ونمارسها أيضا بأن نتولى نحن شيئا من الحكم بمعونة الناس على الصلاح والمعيشة الحسنة وامتلاك ناصية الطبيعة بالاكتشافات العلمية؛ لأن الاكتشاف نوع من التسلط، وإذاعة المعارف بين الناس نوع من الحكم.
Halaman tidak diketahui
أجل يجب أن يراقب كل منا حكومة البلاد التي يعيش فيها، ويجب أن نستعد لأن نسأل نواب البلاد، كما يسأل الملك وزراءه في نهاية العام ما هو الإصلاح الذي تم على يدكم للبلاد؟ فإذا لم يكن ثم إصلاح قد تم فإن العالم قد ذهب سدى وضاعت فرصة ثمينة لتقدم الأمة ونجاحها.
وكذلك يجب أن نغضب عند ما نرى موظفا يهين أحد الناس، أو يؤدي عمله بالارتشاء، أو يستعمل سلطته في الأذى والضرر، ويجب ألا يقف غضبنا عند حد السخط السلبي، بل ينبغي أن نعبر عن سخطنا تعبيرا إيجابيا ونعمل عملا يقتضي تأديب هذا الموظف حتى يعتبر به غيره.
وثم مملكة أخرى، بل ملكوت آخر، يجب أن نمارس فيه سلطاننا، وهذه المملكة أو هذا الملكوت هو هذا العالم، من حيث حدوده الجغرافية والتاريخية أو من حيث حدود الزمان والمكان، فيجب أن ندرسه ونعرفه لأنه لا يليق بملك أن يعيش جاهلا ولا براع أن يحكم بين الناس وهو يجهلهم ويجهل تاريخهم. «كلكم راع وكل راع مسئول عن رعيته»،أجل، ولكن كيف ترعى رعيتك إذا لم تنصب نفسك لدرس شئون هذه الرعية وتفهم موارد كسبها وأبواب نفقاتها وظلم الظالمين فيها وعدل العادلين بها؟ فشرط هذه الرعاية، بل الشرط اللازم لأن تكون ملكا، هو أن تدرس، ثم تراقب حكومتك وأمتك، وأن تعمل للخير في وطنك، وأن تبذل مالك ونفسك بهمة ملوكية عندما تقتضي الظروف ذلك منك، كما يبذل الملك الشجاع نفسه في الدفاع عن أمته.
الفصل السادس
الاعتدال
كان أحد المتهكمين يقول إن الاعتدال دليل الضعف، وقد يكون كذلك في بعض الحالات، فمن الناس من يتورع عن الخمر أو يعتدل في تناولها لما يرى من أثرها السيئ في صحته، ومنهم من يعتدل في الطعام لأن معدته ضعيفة وإن كانت نفسه نهمة.
ولكن هناك اعتدالا يجب أن نصطنعه للقوة لا للضعف، فيجب مثلا أن نعتدل في الرياضة البدنية حتى نجد وقتا للرياضة الذهنية، ويجب أن نعتدل في درس العلوم حتى نتمكن من درس الآداب، ويجب أن نتوسط ولا نغلو في جمع المال كي نتمتع بالأصدقاء والكتب وهناء العائلة والنزه.
فالحياة الكاملة أو التي تنشد الكمال يحتاج صاحبها إلى الاعتدال والتوسط؛ لأن هذه الحياة لا تبلغ القوة والسلطان على الوسط الذي تعيش فيه حتى يأخذ صاحبها بطرف من جميع مهام هذا العالم، فحياة الأديب الذي يدمن النظر في الأدب قد تنتهي به إلى أن يصير دودة من ديدان الكتب يؤثر الجملة المزخرفة والعبارة المبهرجة على متع الحياة الحقيقية، والكتاب مهما قيل في مدحه هو نسخة مترجمة عن الحياة وليس هو الحياة بالذات، وحياة العالم الذي يكتب عن العلم ولا ينظر في الأدب هي أيضا حياة ناقصة تدعو إلى قصر النظر وضيق الذهن، وإنما الحياة المثلى هي حياة الاعتدال بين شهوة العلم وشهوة الأدب، وكذلك يمكن القول عن رجل الأعمال المكب على جمع المال، المنغمس في شهوة الحصول على أعراض العالم، يكد طول يومه وبعض ليله في اقتناء الدور والمصانع والأراضي كأنه أحد الفعلة الذين يعملون عنده. بل قد يكون الفاعل أكثر تمليا للحياة وتمتعا بمسراتها منه.
وقل مثل ذلك في سائر الناس، فالواجب أن نعتدل ونقنع من الحصول على بعض أشياء كي نجد من الوقت والقدرة ما نتمكن بهما من التمتع بأشياء أخرى؛ لأن الحياة أوسع وأعظم من أن يسعها الإكباب على عمل واحد وإدمان النظر والاجتهاد فيه.
ولقد كان المسيح يتكلم عن «الحياة الوفيرة» المليئة بالتجارب والمتع، وكان يتخيل هذه الحياة كمثل أعلى إزاء ما كان يرى من حياة ضنية يعيشها الناس، وكم من الناس الآن يعيش حياة ضنينة لا يعرف من الدنيا سوى عمله الذي يربح منه قوته، يكب عليه بكل قوته ويتعامى عن كل ما حوله كأنه لم يخلق إلا ليأكل.
Halaman tidak diketahui
لقد كان «جيته» الألماني - ولا يزال - مضرب المثل في التمتع بالحياة. كان أديبا وكان عالما، وكان سائحا وكان موظفا كبيرا، بلا السياسة وحنكته الدسائس، وعرف الحب شابا وكهلا، وكان يعرف للطعام الحسن قيمته، ويشرب أجود الخمور في الليل وأجود أنواع الشاي في النهار، فعاش بذلك حياة وفيرة لم يضن فيها على نفسه بشيء من متعها.
ولسنا جميعنا في كفاية جيته، وقد لا نستطيع أن نتمتع بما تمتع به، بل قد تكون بعض متعه آلاما لبعض الناس، وإنما قصدنا أن نقول إنه ينبغي لنا الاعتدال في العمل الذي نزاوله كي تتاح لنا الفرصة للتمتع بالحياة، فإن تعدد وجوهها يقتضي أن نلم بها كي نعرفها دون مبالغة أو إدمان في أحدها.
فالاعتدال فضيلة يدعونا إلى ممارستها الإحساس بالقوة لا الإحساس بالضعف، فيجب على المعتدل ألا يخشى تهكم المتهكمين، وكم في الحياة من متع نجهلها ونحرم أنفسنا منها وهي على مدى الذراع في متناول كل إنسان لو أراد، فنحن نعيش مثلا في مصر التي هي أصل حضارة العالم أجمع بشهادة العلماء، ومع ذلك نجهل آثارها التي تكشف لنا عن تاريخ العقل الإنساني وضلالاته، ونحن نعيش في عصر حافل بالمخترعات والمكتشفات، وأي شيء أمتع للنفس من أن ندرس هذه الأشياء ونجربها. أجل، ندرس آلة الطيارة ونركبها فنغذي الذهن والإحساس معا. أليس من العار أن نموت قبل أن نركب الطيارات ونقضي حياتنا مكبين على عملنا كأننا مسخرون له؟
الفصل السابع
مصلحتك هي مصلحة الجماعة
إنك تعمل ضد نفسك إذا عملت لنفسك فقط؛ لأن مصالحك متعلقة بمصالح الجماعة التي تعيش بينها بل بمصالح العالم كله، وهذه حقيقة عرفتها بعض الدول التي كانت تحارب ألمانيا، فإنها ظنت أن بالقضاء عليها تنفرد هي وحدها بسلطتها في العالم، ولكن خراب ألمانيا عاد بالخراب على أعدائها أيضا لأن أمم العالم متضامنة لا تقدر إحداها أن تبيع شيئا ما لم تقدر الأخرى أن تشتريه، فالنية السيئة التي انطوى عليها بعض الدول لألمانيا عادت عليها هي نفسها بالضرر نفسه الذي عاد على ألمانيا، بل ربما بأكثر منه.
وقد بدأ الإنجليز يدركون مغزى آخر لهذه النظرية في أحوالهم الداخلية فقد رأوا من الرواج في الولايات المتحدة ما تعجبوا له ولم يفهموا سره إزاء الكساد الذي يرونه في بلادهم، وأخيرا عرفوا أن زيادة أجور العمال في أميركا تزيد قدرتهم على الثراء فتروج الأعمال ويعم الرخاء أخذا وعطاء. أما في إنجلترا فإن كل محاولة لإنقاص الأجور تنشر الكساد بين الناس؛ لأن العمال وهم كثرة الأمة لا يستطيعون الشراء، فأصحاب المصانع الذين يريدون رواج مصنوعاتهم لا يمكنهم أن يحققوا ذلك ما داموا يعملون في الوقت نفسه على إنقاص أجور عمالهم، فمصلحة الممول هي نفسها مصلحة الأجير ولا يمكن الممول أن يطلب السعادة لنفسه إذا كان يطلب الشقاء لأجيره لأنهما متضامنان.
وأنت أيضا أيها القارئ لا يمكنك أن تخدم مصالحك ما لم تخدم مصالح الأمة التي تعيش فيها، ولا يمكنك أن تسعد إذا كانت الجماعة التي تعيش حولك شقية؛ لأن شقاءها يعود عليك بالذات فأنت كي تعيش عيشة صحية وكي يسلم أطفالك من الأمراض يجب أن تنشر الصحة والعافية بين الجماعة التي تعيش بينها، وتنتفي الأمراض من بينها لأنه لن يكون أولادك في أمن من المرض ما دام أولاد جارك مرضى، فعنايتك بأولادك تقتضي العناية بأولاد جارك حتى لا تنتقل عدواهم إليك.
ولن تستطيع أن تشرب ماء نظيفا خاليا من جراثيم المرض حتى تحتم وجوب نظافته لجميع سكان البلدة التي تعيش فيها، ولن يكون ولدك آمنا في الطريق من لص يسرقه أو ترام يدهمه أو غبار يملأ عينيه أو منظر يفسد أخلاقه ما لم تسع لجميع الأولاد كي يكون طريقهم آمنا أيضا.
فأنت بوسطك لن ترتفع أكثر مما يرتفع معك، ولن ينزل هو حتى يجرك وراءه، فمصالحنا الذاتية تقتضي أن ننظر إلى مصالح الآخرين لأن خيرهم خيرنا وشرهم شرنا.
Halaman tidak diketahui
كنت من مدة أقرأ أحد كتب التاريخ لمسكويه، وهو يروي فيه تاريخ بغداد والخلافة وقت التدهور والزوال حين كانت اللصوصية سلم الأمارة والحكم، وقد روى تاريخ أحد الأمراء وكيف أدى سوء سياسته إلى خراب بلاده فقال إن هذا الأمير كان إذا جبى الضرائب الفادحة وعجز الأهالي عن الدفع ارتهن أملاكهم بما ينكسر عليهم من الضرائب، فإذا غلق الرهن ولم يدفعوا اشترى منهم هذه الأملاك بأبخس الأثمان بالرهن أو بقليل زيادة عليه، وانتهت هذه الخطة العجيبة بأن أصبحت مملوكات الأهالي كلها ملك هذا الأمير السافل، ولكن ماذا حصل لديه بعد ذلك؟ بعد أن أصبح صاحب البلاد ملكا وملكا قل دخل الحكومة ونقص عما كان وقت أن كانت المملوكات ملكا للأهالي، وأخذت العقارات تتدهور نحو الخراب فلا يتحرك الأهالي لترميمها؛ لأنهم لا يملكونها، وفشا الكساد وعم الفقر جميع الناس.
الفصل الثامن
الغاية من الحياة
ذكر الأديب المعروف «كابيك» أنه عرف أحد أثرياء أميركا يقضي وقته في السفر على القطار أو الباخرة وهو يملي على كاتبه خطابات خاصة بأعماله، وإذا قعد في الأتومبيل عقد مجلسا للمفاوضة في شأن خاص بعمله أيضا، وإذا أكل أو تنزه أو تناول الشاي لم ينس الكلام عن أعماله.
ويخشى كابيك أن تتأمرك أوروبا فتكبر من شأن النجاح المالي وتجعل الغاية من الحياة إحراز الثروة فقط.
وكلنا يجب أن يخشى ما خشيه كابيك؛ لأننا معرضون على الدوام لفتنة المال تسارقنا شهوته فتعمى أعيننا عن القصد من الحياة، وتستغرق جهودنا كلها فترانا قد بلغنا الشيخوخة ونحن نتساءل: هل عشنا حياتنا وتمتعنا بها على هذه الأرض أم قضينا عليها عمرنا فقط وقطعنا السنين الطويلة في جمع المال؟
ولسنا بذلك نقلل من شأن المال، فإن العالم لم يعرف وقتا بلغ فيه المال من القوة والقيمة مثلما بلغ في وقتنا هذا: فليس من الممكن أن نعيش معيشة صحية أو أن نربي أولادنا أو أن نثقف أنفسنا أو أن نضمن الهناء لوقت الشيخوخة ما لم نستند في ذلك كله إلى جدار قوي من الذهب، فالمال قوة لا يحتقرها إلا رجل أبله.
وإنما عبرة كلامنا أن المال ليس كل شيء فيجب ألا يستغرق كل نشاطنا، وفي المال خاصة وهي أننا إذا بلغنا حدا معينا لم نستطع أن نزيد مقدار تمتعنا به، فمن المعقول أن الغني الذي يبلغ دخله ألف جنيه يمكنه أن يتمتع بالحياة أكثر كثيرا من ذلك الذي لا يحصل إلا على دخل مقداره مائة أو مائتا جنيه ولكن صاحب الألفين لا يتمتع أكثر من صاحب الألف، وذلك لأن متع الإنسان نفسها محدودة فلسنا نستطيع أن نأكل كثيرا أو نحب كثيرا لأن أموالنا كثيرة، وليس يسرنا أن ننام على سرير من الذهب أو أن نرى عشرين خادما في البيت.
إنما نحن زائرون لهذه الدنيا نقضي في فندقها نحو سبعين سنة، فيجب أن نتمتع بما فيها مدة إقامتنا، ولسنا ننكر أن نظام الفندق يحتم علينا تحصيل المال، فيجب لذلك أن نحصله ونقضي به ثمن متعتنا، ولكن يجب ألا نجعله غاية حياتنا.
فالمال وسيلة وليس غاية، فيجب أن يكون لكل منا غاية في حياته غير جمع المال، وأشرف الغايات أن يرقي الإنسان نفسه ويعمل لرقي من حوله، وهو إذا جعل هذا العمل غايته من الدنيا وجد حياته حافلة بالمتع العظيمة التي تشغل ذهنه وتملأ وقته وتشيعه إلى القبر مسرورا بما أدى في هذا العالم، وإذا فكر الإنسان في الرقي فإنه يفكر بالطبع في عدة أشياء أخرى: في التعليم والصحة والدين والأدب والحضارة والبر والاكتشاف.
Halaman tidak diketahui