الفصل الخامس
كلكم راع
كنت أقرأ هذا الأسبوع قصة من تلك القصص السرية للكاتب الإنجليز ولز، وكل قصة من قصص ولز تبحث في موضوع قائم برأسه أكثر ما يكون اجتماعيا أو نفسيا، وأقل الأشياء حظا في قصصه، على خلاف ما نرى في القصص الأخرى، هو العشق.
وموضوع هذه القصة رجل يحترف حرفة وضيعة تصد عنها نفسه وطبيعته ولكن عيشه يربطه بها ويقهره على لزومها فيلزمها صاغرا، وأخيرا تطمو به نفسه إلى الخلاص منها بطريقة مختصرة غاية في الاختصار وهو أنه يحسب نفسه ملكا ويجن ويرسل للمارستان.
ومثل هذا الجنون يعرفه المشتغلون بعلم النفس، وقد أخذ المؤلف يحلل نفس هذا المسكين ويعلل جنونه علة بعد علة مما لا نرى المجال يتسع لإيراده، وإنما نختصر القول بأن نقول إن في نفس كل إنسان نزعة إلى العلا والخير وإنه مهما كانت حرفته وضيعة ففي قرارة نفسه بذرة الملوكية التي تأبى الضعة والهوان.
وبعضنا تنزع به ملوكيته إلى الجري وراء المناصب العليا من نيابة أو وزارة أو غيرهما، وبعض آخر تسمو به نفسه إلى البر فيؤلف الجمعيات الخيرية أو ما شاكلها، وثم بعض آخر أيضا يعمد إلى هذا العالم فيبسط عليه سلطان عقله ويدرسه ويتعمق في معرفة أسراره، والمعرفة ضرب من التسلط، وبعض آخر يعمد إلى التجارة فيستولي بها على مملكة صغيرة من محتويات هذا العالم يطمح بذلك إلى نوع من الملوكية، وقد يكون مخدوعا.
فكل هذه حالات تدل على نزوع كل إنسان إلى السمو وحب التسلط والحصول على ضرب من الحكم والرغبة في أن نطبع العالم بطابعنا، وهذا ما قصد إليه المؤلف الإنجليزي، وقد بالغ في قوة هذا النزوع حتى نسب الجنون إلى رجل قهرت فيه هذه العاطفة بلزومه حرفة وضيعة لا يرى فيها مجالا للظهور في العالم والعمل لرقيه وطبعه حتى ثارت عليه نفسه واقتضته دينها كله بأن أوهمته أنه ملك.
وفي العربية قول مأثور وهو: «كلكم راع وكل راع مسئول عن رعيته» وهو معنى ما قاله ولز حين قال: «كلكم ملك وكل ملك مسئول عن مملكته.»
ولكن كيف نمارس هذه الملوكية، ونأخذ على عاتقنا قسما من مسئولية الحكم؟
نمارسها برقابة الحكام ومعونتهم على العدل والبر وكفهم عن الظلم والعسف، ونمارسها أيضا بأن نتولى نحن شيئا من الحكم بمعونة الناس على الصلاح والمعيشة الحسنة وامتلاك ناصية الطبيعة بالاكتشافات العلمية؛ لأن الاكتشاف نوع من التسلط، وإذاعة المعارف بين الناس نوع من الحكم.
Halaman tidak diketahui