وما أحرانا في مصر أن نراجع أنفسنا ونعيد النظر في تقدير عظمائنا، ومقدار الفائدة التي عادت من كل منهم على بلادنا، ولكن كيف نقيس هذه الفائدة؟
إن العظيم يجب أن يكون هو الرجل الذي كسب للأمة حقوقا لم تكن لها من قبل، وهو الرجل الذي وجه العقول إلى وجهة وطنية مصرية بعد أن كانت قوميتها متلاشية في فوضى الأفكار التي ورثناها عن المماليك، وهو الذي رفع التعليم، وهو الذي نظم للبلاد طرق الري والصرف ورفع مستوى الصحة.
ولسنا نعين شخص هذا العظيم الآن وإنما يجب أن نقيسه بمقدار الفائدة التي عادت من وجوده على البلاد، فإذا قيل لك إن هذا الرجل أو ذاك عظيم فاسأل ماذا فعل للبلاد وما هو الربح الحقيقي الذي جنته منه؟ ولو سئلت أنا هذا السؤال لأجبت بأن العظيم في مصر هو الذي ينجي الفلاحين من البلهارسيا والإنكلستوما، وهو الذي يعمم التعليم الحقيقي لا تعليم القرون الوسطى، وهو الذي يخترع لنا طريقة لعمل الأسمدة الكيمياوية.
وأخيرا هو الذي يوجه الأمة نحو الحضارة الأوربية، وبعبارة أخرى نقول إن العظيم هو من أشبه باستور بتواضعه ومثابرته على خدمة أمته في الشئون الصغيرة، وليس هو نابليون بجميع ما فيه من طبل أجوف رنان، فبلادنا مثلا مفتقرة إلى الصناعة، نبيع قطننا كل عام بأبخس الأثمان، ثم نعود فنشتري بعضه بأرفع الأثمان، فالعظيم حق العظمة هو ذلك الذي يستطيع أن يعلم الفلاح كيفية غزل القطن ونسجه ويوجد في البلاد حركة صناعية تضمن لنا حياتنا الاقتصادية.
الفصل الثاني
روح التسامح
ربما كان القارئ يجهل أن النظام البرلماني إنما يقوم على أساس التسامح وينجح بمقدار ما في الأمة من روح التساهل في الآراء والمذاهب؛ لأن هذا يقضي بحكم الكثرة وخضوع القلة ريثما يدور الزمن وتعود القلة إلى كثرة، فلو تشددت القلة في التمسك برأيها وأبت الخضوع لرأي الكثرة لانهدم النظام البرلماني من أساسه وسادت الفوضى مكانه، ومن هنا تجد أن الأمم العريقة في هذا النظام مثل إنجلترا يختلف أعضاء برلمانها جد الاختلاف في الرأي فلا تسمع من أحدهم كلمة بذيئة في حق الآخر، وهذا على خلاف ما يحدث في الأمم التي جد فيها هذا النظام على أساس استبداد قديم سابق حيث تبلغ الخصومة السياسية حد الضرب والقتل كما كان يحدث إلى عهد قريب بين بعض الأمم التي تعيش في البلقان.
ولكن إذا كان التسامح ضروريا لنجاح النظام البرلماني فهو أكثر ضرورة لنجاح سائر مرافق الأمة؛ إذ لا أدب ولا تجارة ولا تعليم إلا بالتسامح، فالأدب لا يرقى، بل لا يعيش، إلا إذا أشرب القراء والكتاب روح التسامح، فإذا كان كل قارئ يقف مستعدا كي يضرب كل مؤلف لا يكتب وفق ما هو يهوى، ويؤلب عليه الناس كي يقطعوا رزقه ويحرموه من العيش، لكسر كل كاتب قلمه وأقفرت الأمة من مصابيح الهدى التي تهديها، ولو كان كل كاتب يقف من نفسه «شاهد ملك» ليدل الحكومة على مآخذ كل كاتب آخر ويطلب إليها معاقبته لما بقي في الأمة رجل واحد يكتب، وكذلك لو أننا تشددنا في التجارة وسألنا كل من يعاملنا عن دينه ورأيه لما تبادلنا التجارة مع أحد، ولقد أصيبت أوروبا عند ختام الحرب العالمية الأولى بمثل هذه النزعة فرفضت الاتجار مع روسيا لأنها شيوعية، ثم تغلب عقلها على عواطفها وعادت فتسامحت وتبادلت وإياها المتاجر، واعتبر ذلك أيضا في التعليم، فهذه نظرية التطور مثلا تدرس في مدارسنا الآن فلو أن روح التعصب كانت تشمل برامجنا التعليمية لحرم أبناؤنا من درس النظرية العظيمة التي أصبحت مفتاحا لجميع العلوم والآداب والأديان.
فتقدم العالم يقتضي التسامح، وأساس التسامح هو معرفة المتسامح بجهله، كما أن أساس التعصب هو غرور المتعصب بمعرفته، وليس في العالم حقيقة لا يمكن الشك فيها، أو لا يمكن النظر إليها من وجهتين مختلفتين، حتى إن أينشتاين يشك الآن في البديهيات ويكاد يقول إن مجموع اثنين واثنين ليس على الدوام أربعة.
فإذا كان الشك يبلغ هذا الحد في البديهات فكيف بالبحث في التاريخ أو الاجتماع أو السياسة حين يكون الرأي الجديد مخالفا للمصلحة الشخصية لبعض الطوائف أو مناقضا للعادة المألوفة المحبوبة أو مصادما لملاذ الكسل التي يأبى المتنعم بها أن ينشط لدرس الجديد؟
Halaman tidak diketahui