Fayd Khatir Bahagian Pertama
فيض الخاطر (الجزء الأول)
Genre-genre
كان بين سكان الحارة رابطة تشبه الرابطة بين أفراد القبيلة، يعتز الأولاد بحارتهم ويهتفون بها في النداء، ويكون بينهم وبين أولاد الحارة الأخرى منافرة فيحتكمون إلى القوة، ويعتزون بالناشئ الشجاع يظهر بينهم يذود عنهم، ويجلب النصر لحارتهم - ويرعى سكان الحارة حق الجوار بأدق معانيه، يعودون أحدهم إذا مرض، ويهنئونه إذا عوفي، ويواسونه في مأتمه، ويشاركونه في أفراحه، وهم في ذلك سواسية، لا يتعاظم غني لغناه، ولا يتضاءل فقير لفقره.
وكان لكل بيت من بيوت الطبقة الوسطى منظرة (مندرة) لاجتماع الأصدقاء في إحداها. فيسمرون فيها السمر الحلو اللطيف، وأحيانا يجتمعون فيحلو لهم العشاء معا فيرسل كل رسولا إلى بيته يحضر منه خير ما عنده، وأحيانا يحيون الليلة في سماع قرآن أو حفلة طرب؛ ولحسن حظي كان بجوار بيتنا موظف في الأوقاف يهوى الناي ويتقنه، فكان كثيرا ما يحيي أصدقاؤه في منظرته حفلات شائقة بديعة، إليها يعود الفضل فيما لي من أذن موسيقية، وميل لسماع الغناء والافتنان به. •••
كان من المناظر التي لا أنساها طائفة من الرجال، قد لبس كل منهم على جلبابه الأزرق ميدعة من الجلد، يحمل القربة على ظهره ويمشي بها في ركوع، وهم يغدون في الحارة ويروحون، ينادي أحدهم بعد أن يفرغ قربته في الزير: «سقا عوض»، وهي كلمة كنت أفهم منها المناداة على الماء، ولكن ما كنت أفهم معناها تفصيلا، بل لعلني لم أفهمه إلى الآن. فإذا سمعته سيدة أطلت من الشباك وأمرته أن يأتي لها بقربة حلوة أحيانا، ومالحة أحيانا، وربما تصنعت في مناداتها فرققت من صوتها وتدللت في نغمتها، فكانت فتنة للسامعين.
وكثيرا ما طال النزاع بين السقاء وربة البيت، فهو يقول: إن القرب صارت سبعا، وهي تأبى إلا ستا، ويطول الحوار والجدل والقسم بالأيمان، وأحيانا يتفادى السقاء هذا الجدل بطريقة من طريقتين: إحداهما أن يوزع خرزا، من نوع خاص على صاحبة البيت عشرا عشرا، أو عشرين عشرين، وكلما أتى أخذ خرزة، فإذا فرغ الخرز علم أنه تم العدد فأخذ حسابه . وثانيتهما أنه كلما أتى بقربة خط على الباب بحجر أبيض خطا - ولم يكن يعرف الطباشير ولا كتابة الأرقام - وأحيانا يتهم السقاء ربة البيت بأنها مسحت خطا، وأحيانا تتهمه هي أنه خط خطين لقربة واحدة، فإذا تكرر مثل ذلك أبى السقاء معاملة هذا البيت إلا أن يأخذ نصف القرش ثمن القربة الحلوة قبل أن يتحرك من مركزه أمام باب الحارة.
وفي يوم من الأيام حول سنة 1900 رأيت الحارة قد مزقت وحفرت فيها الحفر طولا وعرضا، ومدت المواسير وأدخلت في بيتنا الحنفية واستغنينا عن السقاء، وأراحنا الله من سماع النزاع حولنا، وأصبح الماء في كل طبقة من بيتنا، في أسفله وأوسطه وأعلاه، وشعرت أن البيت قد دبت فيه الحياة. فالله يقول: «وجعلنا من الماء كل شيء حي». وما أنس لا أنس خادما أتت منزلنا إذ ذاك من قرية من قرى الفلاحين فعجبت أشد العجب من الماء يخرج من الحائط ثم لا ينقطع إلا إذا شئنا، وحارت في تعليل ذلك، وأظنها حائرة إلى اليوم إن كانت على قيد الحياة. •••
وألفنا الماء يخرج من الحائط، وذهب لإلف بالعجب، ولكن ظللنا نستضيء بالجاز، وهو ما يسميه سادتنا العلماء زيت البترول، وكان لمضايقاته أشكال من العذاب وألوان، فيوم ضربت لأني أرسلت لأشتري زجاجة لمبة فكسرت مني في الطريق، وكثيرا ما فسد ... فإذا أدرناه يمينا أخذ يرتفع اللهب ثم يرمينا بالهباب، وإذا أدرناه شمالا أخذ يهبط حتى لا نرى، وهكذا دواليك، حتى يضيق الصدر ويذهب إلى النوم قبل الموعد. وكثيرا ما نكون في سمر لذيذ أو حديث ظريف أو قراءة ملحة، ثم نسمع الزجاجة كسرت فيكسر قلبنا؛ لأن الوقت ليس وقت بيع وشراء، أو ننظر فإذا الجاز قد فرغ ولا جاز لنا!
ثم رأينا الأسلاك تخرم البيت، وتخرم كل حجرة فيه وتدخل بيتنا الكهرباء، فندير المفتاح مرة فتضيء الحجرة، ونديره مرة فتظلم. وأبى الله إلا أن يرزقنا هذه المرة أيضا بخادم خطبت في قريتها وأرادت السفر لتتزوج، فطلبت منا أن نعطيها لمبة من اللمبات الكهربائية أو لمبتين لتنيرهما في حجرتها ليلة زفافها؛ وكان لهذا الخادم فصل أظرف من هذا وألطف؛ فقد نظرت أول ما أتت من قريتها إلى السقف فلم تر فيه عروقا تحمل ألواح الخشب؛ (لأنه كان من الأسمنت المسلح) فصعدت إلى السطح لتحقق الأمر لعل السقف مقلوب، ولعل العروق من فوق والأخشاب من تحت، فلما لم تر عروقا فوق ولا تحت، أحست بالخيبة في تعليلها، وفوضت إلى الله أمرها ... •••
ثم دار الزمن دورته وإذا بعامل يأتي ليخرم البيت من جديد، وإذا بالأسلاك تمتد وآلة صغيرة تركب وجرس يدق، وإذا بالتليفون، وإذا بنا نتصل بمن في القاهرة وضواحيها، بل بمن في أنحاء القطر، ويتصل بنا من أحب؛ وأحسست إذ ذاك أن البيت قد استوفى حظه من الحياة كما يستوفيها الجسم الحي الراقي من شرايين وأوردة على أدق ما تكون من نظام - وكان لي مع التليفون متاعب أود معها لو لم يكن، وأحيانا محامد أحمد الله أن كان - فقد كنت قاضيا، وبيتي وحده من بين القضاة فيه تليفون يصلني برئيس المحكمة، فقد يتغيب قاض فجأة عن الجلسة فيدق التليفون - آلو - انتدبنا كم اليوم لمحكمة العياط، ومرة أخرى لمحكمة الصف، وقد يكون الجو قاسيا، حر يذيب رأس الضب، أو برد يقف منه الجلد. على كل حال، كثيرا ما كان نذيرا بشر، وكثيرا ما كان بشيرا بخير. •••
وأخيرا أتى العامل أول أمس يزيد الأحزمة حزاما، ولكنه في هذه المرة حزام ناقص - خط رأس وخط أفقي، وآلة لا يأبه لها النظر، وفي ذلك سر عجب، هذا هو الراديو - فيه علم إن شئت، وفن إن أردت، وناطق إن أصغيت، وساكت إن أعرضت، ومتحدث بكل لسان، وواصلك بكل مكان. إن شئت معلما فمعلم، أو غناء فمغن، أو فنا ففنان - يهزل حيث تحب الهزل، ويجد حيث تهوى الجد، يمتاز عن التليفون بأن التليفون طالب ومطلوب، فإذا كان طالبا فقد يفجعك بخبر، أو يوقظك من نوم، أو يحملك مطلبا يشق عليك. أو يصلك بمحدث يثقل على نفسك، ثم تريد أن تتخلص منه فلا تستطيع فقد لزم الأمر، وحم القضاء. أما الراديو فليس إلا مطلوبا، وهو عبد مطيع، وخادم أمين. إما ساكت أو متكلم بما أحببت، نديم ظريف، جهينة أخبار، وحقيبة أسرار، ترياق الهم، ورقية الأحزان، قد تكون له مساو لم أتعرفها، فإن جربتها فسأحدثك عنها.
أين أنت أيتها الخادمة التي عجبت من حنفية الماء، وأين أنت أيتها الأخرى التي عجبت من مصباح الكهرباء، ولو كنتما اليوم في بيتنا لشاركتكما العجب، ولوقفت معكما حائرا من العلم الحديث، والفن الحديث، ولانفردت عنكما بالحزن العميق على أن ليس لنا من هذه المخترعات إلا المشاركة في الاستهلاك لا في الإنتاج، وأننا - في مواسير الماء ومصابيح الكهرباء، وآلات الراديو والتليفون، وما إلى ذلك من شؤون المدنية - لنا أن نشتري وليس لنا أن نبيع لنا أن نكون من النظارة، ولكن ليس لنا أن نكون من الممثلين، ولنا أن نستورد ولكن ليس لنا أن نصدر.
Halaman tidak diketahui