Fatawa Hadithiyya
الفتاوى الحديثية
Penerbit
دار الفكر
وتسخيره تَعَالَى لنا مَا لَو شَاءَ حَرَّمه وسلطه علينا، فَلَمَّا شَمَلَ الأمرُ بِالْإِحْسَانِ جَمِيع مَا ذكر وغيرَه كَمَا صَرَّحُوا بِهِ عطف عَلَيْهِ بعض مَا شَمله، وَهُوَ الْأَمر بِالْحَدِّ وَالْأَمر بالإراحة لبَيَان أَنَّهُمَا من أهم وُجُوه الْإِحْسَان. وَأما الْعَطف بِالْفَاءِ فِي (فليرح) فَلَا يَصح صناعَة لما علم مِمَّا قَرّرته أَن عطف ليحد وليرح) على فَأحْسنُوا عطف خَاص على عَام، وَقد صَرَّحُوا فِي عطف الْخَاص على الْعَام وَعَكسه بِأَنَّهُ لَا يجوز إِلَّا بِالْوَاو وَكَذَا حَتَّى فِي الأول، وَأَيْضًا ليرح لَيْسَ مَعْطُوفًا على ليحد بل على أَحْسنُوا لِأَن الْعَطف إِنَّمَا هُوَ على الأول، وَإِذا كَانَ مَعْطُوفًا على أَحْسنُوا كَانَ بِالْوَاو نَظِير مَا قبله وَهُوَ وليحد، وَأما عطف أَحدهمَا بِالْفَاءِ وَالْآخر بِالْوَاو مَعَ أَن كلا مِنْهُمَا نِسْبَة وَاحِدَة بِالنِّسْبَةِ للمعطوف عَلَيْهِ فَهُوَ بعيد من الصِّنَاعَة فضلا عَن البلاغة، على أنَّ فِي عطف فليرح على وليحد إِيهَام خلاف الْمَقْصُود من ذَلِك السِّيَاق، وَهُوَ أعنى ذَلِك الْإِيهَام أَن الْأَمر بالإراحة لَيْسَ متسببًا إِلَّا عَن الْأَمر بِالْحَدِّ وَهَذَا غير مُرَاد، وَإِنَّمَا الْأَمر بالإراحة المتسببة عَن الْحَد وَغير المتسببة عَنهُ كالسابقة عَلَيْهِ بِأَن لَا يَفْعَله بمقابلتها وأنْ لَا يَسُوقهَا إِلَى المذبح بعنف، وَأَن يَسْقِيها عِنْد الذّبْح، وَأَن لَا يَسْلَخْها حَتَّى تبرد وَغير ذَلِك، فَهَذَا كُله من الإراحة الَّتِي لَا تتفرع على الْحَد وَلكنه من الإراحة الَّتِي هِيَ من جملَة إِحْسَان الذّبْح، فَتعين عطف وليرح بِالْوَاو على فَأحْسنُوا ليُفِيد ذَلِك صَرِيحًا بعد استفادته من أَحْسنُوا ضِمْنًا، وَامْتنع عطفه بِالْفَاءِ صناعَة كَمَا مر وَكَذَا معنى كَمَا قَرّرته. فَإِن قلت: هَل يَصح الْعَطف بِالْفَاءِ على أَنَّهَا لمُجَرّد الْعَطف بِدَلِيل رِوَايَة سعيد بن مَنْصُور فِي سنته إِذْ فِيهَا الْعَطف بثم؟ قلت: فرق ظَاهر بَين الرِّوَايَتَيْنِ، فَإِن رِوَايَة سعيد بن مَنْصُور لَيْسَ فِيهَا أَمر بِالْإِحْسَانِ الْعَام حَتَّى يكون عطف الْأَمر بِالْحَدِّ وَالْأَمر بالإراحة من عطف الْخَاص على الْعَام فِيهَا، وَإِنَّمَا فِيهَا الِابْتِدَاء بِالْأَمر بِالْحَدِّ ثمَّ بالإراحة، فالعطف بثم حينئذٍ لَا امْتنَاع فِيهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ من عطف خَاص على عَام بِخِلَافِهِ فِي رِوَايَة مُسلم فَإِن فِيهَا الْأَمر بِالْإِحْسَانِ أوّ لَا وَهُوَ عَام ثمَّ عطف عَلَيْهِ بعض أَجْزَائِهِ وَهُوَ الْأَمر بِالْحَدِّ والإراحة، فامتنعت الْفَاء فِيهِ لما تقرر أَن عطف الْخَاص على الْعَام لَا يكون إِلَّا بالواور وَحَتَّى، وَلَا يجوز أَن يكون بِغَيْرِهِمَا فَتَأمل ذَلِك فَإِنَّهُ مهمّ. فَإِن قلت: هَل يُمكن للفاء وَجه لَو جَاءَت رِوَايَة؟ قلت: الْآن نَحن على ظن قوي أَو يَقِين أَنَّهَا لَيست رِوَايَة، فَإِن فرض أمكن تخريجها على أَنَّهَا أجريت مجْرى الْوَاو مجَازًا وَعَلِيهِ خرج قَوْله: بَين الدُّخُول فحومل وَإِن كَانَ الْوَجْه خِلَافه فَإِن قلت: هَل يَصح مَا فِي رِوَايَة مُسلم أَن يكون من عطف المفصَّل على المُجْمل نَحْو تَوَضَّأ فَغسل وَجهه إِلَى آخِره؟ قلت: لَا، لِأَن شَرط هَذَا أَن يستوعب التفصيلُ أجزاءَ المُجْمل وَالْأَمر بِالْإِحْسَانِ أَعم مِمَّا بعده كَمَا تقرر فَلم يَصح أَن يكون مَا بعده تَفْصِيلًا لَهُ، وَمعنى (إِذا ذبحتم) فِي الحَدِيث إِذا أردتم الذّبْح، وَالله ﷾ أعلم. وَلما بلغ بعض المنازعين هَذَا الْجَواب اعْتَرَضَهُ بأنّ عطف الْعَام على الْخَاص الْمُقْتَضِي لتعين الْوَاو خَاص بعطف الْمُفْردَات فَرفع هَذَا السُّؤَال لسيدنا الْعَلامَة الْمُجيب عَن السُّؤَال آنِفا وَهُوَ: مَا قَوْلكُم رَضِي الله عَنْكُم: فِي عطف الْخَاص على الْعَام وَعَكسه هَل يخْتَص بالمفردات أَو لَا بينوا مثل ذَلِك مَعَ الْبسط أثابكم الله الْجنَّة؟ فَأجَاب: زَاده الله نورا، بقوله: لَا يخْتَص كل مِنْهُمَا بالمفردات، بل يَأْتِي فِيهَا وَفِي الْجمل كَمَا صرح بِهِ أَئِمَّة من النُّحَاة، والأصوليين، والمفسرين، وَالْفُقَهَاء، كالفراء، وَأبي حَيَّان والبيضاوي وشراح البُخَارِيّ وَغَيرهم، فَمن الأول قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِ الْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [آل عمرَان: ١٠٤] . قَالَ الْبَيْضَاوِيّ: وَالدُّعَاء إِلَى الْخَيْر يعمّ الدُّعَاء إِلَى مَا فِيهِ صَلَاح ديني أَو دُنْيَوِيّ وَعطف الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر عَلَيْهِ أَي على الدُّعَاء للخير عطف الْخَاص على الْعَام للإيذان بفضله. وَقَوله تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلَواةَ وَآتَوُاْ الزَّكَواةَ﴾ [الْبَقَرَة: ٢٧٧] الْآيَة. قَالَ الْبَيْضَاوِيّ: عطفها على مَا يعمها لإفاقتها على سَائِر الْأَعْمَال الصَّالِحَة. وَقَوله تَعَالَى: ﴿يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ﴾ [الْبَقَرَة: ٤٩] هُوَ من ذَلِك أَيْضا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْفراء وَأقرهُ أَبُو حَيَّان. قَالَ: وَزعم أَن هَذِه الْوَاو هُنَا زَائِدَة لحذفها فِي آيَة الْبَقَرَة ضَعِيف. وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾ [الْبَقَرَة: ١٥١] هُوَ من ذَلِك أَيْضا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْبَيْضَاوِيّ. وَقَوله تَعَالَى: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ﴾ [الْبَقَرَة: ٣٠] هُوَ من ذَلِك أَيْضا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو حَيَّان بجعله السفك من بعض أَنْوَاع الْفساد. وَقَوله: إِن يفْسد لَا عُمُوم فِيهِ إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ تَوْجِيه الِاحْتِيَاج إِلَى ذكر سفك الدِّمَاء، وَلَا يمْنَع ذَلِك من عطف الْخَاص على
1 / 65