فقد حمل هذا الرجل عن المسلمين في حرب الفرس عبئا لم يحمل أحد مثله، كان أول مسلم ذهب إلى دلتا النهرين فدعا أبا بكر للتفكير في فتح العراق، ولولا ذهابه إليها ومغامراته فيها لما فكر الخليفة في مواجهة فارس، وقد فتح مع خالد بن الوليد ما شاء الله أن يفتحاه من سواد العراق، ولولا إقدام ابن حارثة وحسن رأيه وبراعة قيادته لما استطاع بعد أن ذهب خالد إلى الشام أن يثبت للفرس وأن يواجههم.
ولقد أوصى أبو بكر عمر بعد ذلك أن يندب الناس مع المثنى، فكان طبيعيا أن يتولى المثنى إمارة القوات التي تسير إلى العراق لنجدته، فهو الذي عرف مداخله وسار في أرجائه، فله من الجرأة على أهله ما ليس لغيره، ولو أن أبا بكر عاش لما أمر أحدا غيره، لكن عمر أمر أبا عبيدا؛ لأنه كان أول الناس انتدابا، ولأنه كان ثقفيا من أهل الحجاز! وكان المثنى من بكر بن وائل، أفغضب المثنى لذلك أو حز في نفسه أن خالف عمر وصية أبي بكر في أمره؟ كلا! بل سما بتفكيره فوق هذا الاعتبار، وقدر تعصب أهل الحجاز لبني وطنهم، فسبق أبا عبيد إلى العراق ثم سار تحت لوائه، فانتصر معه يوم النمارق وحمل اللواء بعد مقتله ومقتل أصحابه يوم الجسر، ثم انسحب إلى أليس، حتى جاءه المدد وكان يوم البويب قاد الموقعة ببراعة تعيد إلى الذاكرة فعال خالد بن الوليد في أعظم غزواته.
وتأمير عمر أبا عبيد على المثنى من الخطوات الأولى التي أقر بها أمير المؤمنين نظام الطبقات بين المسلمين، وقد يلتمس لعمر من العذر عن هذه الخطوة أن أبا عبيد تقدم حين أحجم غيره، فكان أول الناس انتدابا، لكن الواقع أنها كانت خطوة تتفق وتفكير عمر، يشهد بذلك أن جرير بن عبد الله البجلي ذهب في أعقاب غزوة الجسر مددا للمثنى، فلما عرف المثنى أنه مر قريبا منه كتب إليه أن أقبل إلي فإنما أنت مدد لي، ورد عليه جرير: «إني لست فاعلا إلا أن يأمرني بذلك أمير المؤمنين، أنت أمير وأنا أمير.» وكتب المثنى إلى عمر يشكو جريرا، فرد عليه أمير المؤمنين بقوله: «إني لم أكن لأستعملك على رجل من أصحاب محمد
صلى الله عليه وسلم .» ولما وجه عمر سعد بن أبي وقاص إلى العراق كتب إلى المثنى وإلى جرير أنه أمر سعدا عليهما، ذلك أن سعدا كان من السابقين الأولين إلى الإسلام، وكان عمر يرى السابقين الأولين إلى الإسلام طبقة تفضل غيرها من سائر طبقات المسلمين.
لم يغضب المثنى لتأمير غيره عليه؛ ذلك لأنه كان مؤمنا حسن الإيمان، كما كان جنديا باسلا يقدر معنى النظام وطاعته، ويسمو بالنظام وبالإيمان جميعا على أهواء النفس وشهواتها، على أن إقصاءه عن إمارة الجيش لا يغض من قدره، ولا يمحو ما سجل التاريخ له في صحفه، فإن يكن خالد بن الوليد عبقري الحرب وسيف الله، فالمثنى بن حارثة هو السابق الأول إلى فتح العراق، وهو القائد المحنك الذي حمل العبء في أشد مواقف المسلمين به دقة، وهو الحكيم الذي جمع قلوب العرب من أهل العراق حوله مع أنهم لم يكونوا على دينه، فاستطاع بما صنع من ذلك أن يضرب الفرس في البويب ضربة لم يفيقوا منها ولم ينتصروا قط بعدها.
ويزيد المثنى فخارا أنه أتم ذلك كله في زمن ما أقصره، فقد بلغ أبو عبيد تخوم العراق مستهل الخريف من سنة أربع وثلاثين وستمائة لميلاد السيد المسيح، فانتصر بالنمارق في أوائل أكتوبر من تلك السنة، وقتل بالجسر في أخريات الشهر نفسه، فتولى المثنى القيادة وانتصر بأليس ثم انتصر نصره الحاسم بالبويب في شهر نوفمبر، ولو أنه جاءه المدد في أعقاب البويب لسار إلى المدائن ففضها قبل أن يطوي ذلك العام أيامه، لكن المدد أبطأ عليه، ثم إن الموت عاجله، فمات وقد عقد النصر على هامته إكليلا من الفخار باقيا على الدهر ما بقي الدهر.
والآن وداعا أيها القائد القادر وفي ذمة الله! ولنترك الآن ميدانك يدوي بآيات نصرك لنقف بالشام إلى جانب صاحبك ابن الوليد! وليذكر الناس جميعا على تعاقب الأيام أن المثنى بن حارثة الشيباني كان الطليعة في التمهيد للإمبراطورية الإسلامية، ثم كان من بناتها ذوي الحكمة والأيد، ولن يغض من عظمة صنيعه في بنائها أنه لم يكن قرشيا، ولم يكن من أصحاب رسول الله، وأنه لم يتول إمارة الجيش بعد خالد، فقد تولاها بالفعل في البويب فكان فيها ندا لخالد إقداما، ولعله كان فيها أكثر من خالد تسامحا وحكمة.
هوامش
الفصل السابع
فتح دمشق وتطهير الأردن
Halaman tidak diketahui