تقديم
1 - عمر في جاهليته
2 - إسلام عمر
3 - في صحبة النبي
4 - في عهد أبي بكر
5 - عمر يستفتح عهده
6 - أبو عبيد والمثنى في العراق
7 - فتح دمشق وتطهير الأردن
8 - القادسية
9 - فتح المدائن
Halaman tidak diketahui
10 - المسلمون في العراق
11 - جلاء هرقل عن سورية
12 - عمر في بيت المقدس
13 - مصير خالد بعد إخضاع الشام
14 - المجاعة والوباء
15 - التوسع في فتح فارس
16 - غزوة نهاوند
17 - القضاء على سلطان الأكاسرة
18 - التفكير في فتح مصر
19 - فتح مدينة مصر وحصونها
Halaman tidak diketahui
20 - فتح الإسكندرية
21 - مصر في يد المسلمين
22 - حكومة عمر
23 - الحياة الاجتماعية في عهد عمر
24 - اجتهاد عمر
25 - مقتل عمر
خاتمة
المراجع العربية
المراجع الأجنبية
تقديم
Halaman tidak diketahui
1 - عمر في جاهليته
2 - إسلام عمر
3 - في صحبة النبي
4 - في عهد أبي بكر
5 - عمر يستفتح عهده
6 - أبو عبيد والمثنى في العراق
7 - فتح دمشق وتطهير الأردن
8 - القادسية
9 - فتح المدائن
10 - المسلمون في العراق
Halaman tidak diketahui
11 - جلاء هرقل عن سورية
12 - عمر في بيت المقدس
13 - مصير خالد بعد إخضاع الشام
14 - المجاعة والوباء
15 - التوسع في فتح فارس
16 - غزوة نهاوند
17 - القضاء على سلطان الأكاسرة
18 - التفكير في فتح مصر
19 - فتح مدينة مصر وحصونها
20 - فتح الإسكندرية
Halaman tidak diketahui
21 - مصر في يد المسلمين
22 - حكومة عمر
23 - الحياة الاجتماعية في عهد عمر
24 - اجتهاد عمر
25 - مقتل عمر
خاتمة
المراجع العربية
المراجع الأجنبية
الفاروق عمر
الفاروق عمر
Halaman tidak diketahui
تأليف
محمد حسين هيكل
بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين .
تقديم
ليس في التاريخ الإسلامي، بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، رجل تردد الألسن اسمه ما تردد اسم عمر بن الخطاب، وهي تردده وتقرن به، في إعجاب وإكبار، ما عرف عن عمر من جليل الصفات وعظيم المواهب، فإذا ذكر الناس الزهد في الدنيا مع القدرة على النهل من أنعمها ذكروا زهد عمر، وإذا ذكروا العدل المطلق غير مشوب بشائبة ذكروا عدل عمر، وإذا ذكروا النزاهة لا يفرق صاحبها بين أقرب الناس إليه وأبعدهم عنه ذكروا نزاهة عمر، وإذا ذكروا العلم والفقه في الدين ذكروا فقه عمر ودينه، وأنت تتلو من أنباء ذلك في الكتب ما تحسب الكثير منه مبالغة لا يكاد العقل يصدقها؛ فهي أدنى إلى المعجزات التي تنسب إلى الأنبياء منها إلى ما عرف عن أكبر العظماء سموا وجلال قدر.
ويرجع ذلك إلى قيام الإمبراطورية الإسلامية في عهده، فقد خلف عمر أبا بكر على إمارة المؤمنين حين فرغ أبو بكر من حروب الردة، وحين كانت جنود المسلمين تواجه الفرس والروم على تخوم العراق والشام، فلما قبض عمر كانت الإمبراطورية الإسلامية قد اشتملت العراق والشام جميعا، وقد تخطتهما فاشتملت فارس ومصر، بذلك بلغت حدودها الصين من الشرق، وإفريقية من الغرب، وبحر قزوين من الشمال، والسودان من الجنوب، وقيام هذه الإمبراطورية العظيمة في عشر سنوات معجزة لا ريب، والمعجزة أعظم قدرا بعد أن تحطمت فارس والروم الإمبراطوريتان صاحبتا السلطان على عالم يومئذ، وتحطمتا بأيدي العرب الذين كانوا إلى سنوات قبلها قبائل متنافرة لا تهدأ منازعاتها ولا تطمئن فيما بينها إلى قرار.
أما وقد تمت هذه المعجزة في عهد عمر وبتوجيهه فهو، لا جرم، رجل عظيم، وقد بدت بوادر هذه العظمة في عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وفي عهد أبي بكر، ثم ضاعف نصر المسلمين من بعدهما قدرها، كما زادها مر العصور وأضاف إليها، فقد تبين الناس على تعاقب الأجيال أن هذه الإمبراطورية لم تكن وليدة عبقرية حربية تبقى الإمبراطورية ما بقيت وتزول بزوالها، بل كانت قائمة على أساس قوي من خلق متين وحضارة سليمة الأساس، فإذا صح أن يشيد الناس بعظمة يوليوس قيصر والإسكندر الأكبر وجنكيزخان ونابليون؛ لأنهم أقاموا من الإمبراطوريات ما أقاموا، فأحر بهم أن يكونوا أكثر إشادة بعظمة عمر بن الخطاب وأكبر قدرا لآثارها.
Halaman tidak diketahui
تمت المعجزة بقيام الإمبراطورية الإسلامية في عهد عمر، فقد كان المسلمون، إلى يوم استخلف، يخشون الفرس والروم، ولذلك اثاقلوا حين ندبهم عمر للذهاب إلى العراق يواجهون الفرس فيه، وكان لهم من العذر عن تثاقلهم أن كان اسم فارس لا يزال يزلزل القلوب والأسماع، وكان جند المسلمين قد جلوا عن العراق بعد ذهاب خالد بن الوليد إلى الشام بأمر أبي بكر، وأقام الناس على تثاقلهم أياما، ثم لبى أبو عبيد الثقفي دعوة عمر وذهب في بضعة آلاف يلقى جنود كسرى، فنكب في غزوة الجسر إذ مات وانهزم جيشه.
ولم تزعزع هزيمته من عزمة عمر، بل زادته إقداما ودفعته لينهض بنفسه على رأس المسلمين يريد مواجهة الفرس ليمحو عار تلك الهزيمة، وقد كان فاعلا لولا أن صرفه أولو الرأي عما أراد، عند ذلك أرسل سعد بن أبي وقاص مكانه، وظفر سعد بالفرس في غزوة القادسية ظفرا حاسما؛ فتح له أبواب عاصمة الفرس، وفتح للمسلمين أبواب فارس جميعا، وفي هذه الأثناء كان أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد يسيران مظفرين في الشام، يردان هرقل عاهل الروم على أعقابه، ويدفعانه دفعا ليفر إلى عاصمة ملكه.
تم ذلك ولما تنقض من خلافة عمر سنتان، ومن يومئذ حالف النصر أعلام المسلمين حيثما ساروا، ففتحوا المدائن وفتحوا بيت المقدس، ثم تخطوا العراق إلى فارس، وتخطوا الشام إلى مصر فاستقر لهم الأمر فيهما، وكذلك شاد عمر الإمبراطورية الإسلامية في عشر سنوات لتستقر في العالم، وتوجه حضارته الأجيال والقرون.
أليس من حق عمر، وذلك شأنه، أن تردد الألسن اسمه، وأن تذكر من جليل صفاته وعظم مواهبه ما يثير في النفس غاية الإعجاب والإكبار!
وهذا الإكبار يدعونا لتمحيص التاريخ وتحقيق وقائعه، حتى نستكشف العوامل التي أتاحت لعمر تشييد الإمبراطورية، فلولا أن تضافرت عوامل عدة لما كفت عبقريته وحدها لتشييدها.
وقيام الإسلام أول هذه العوامل وأقواها، فالإسلام هو الذي وحد العرب بعد شتات، وجعل من قبائلهم المتنافرة أمة متضافرة، ودفعهم لإذاعة تعاليمه وإعلاء كلمته ودفع من يريدون فتنة الناس عنه.
فقد كان العرب قبل إسلامهم ضعافا أمام الفرس والروم، وكانت مناطق كثيرة من بلادهم خاضعة لنفوذ كسرى ونفوذ قيصر، فلما أسلموا أسرع هذا النفوذ إلى الزوال عن شبه الجزيرة كلها، مع ذلك ظلت هيبة الفرس والروم آخذة بنفوسهم، حتى لقد حسبوا، حينما دعوا لغزو العراق ولغزو الشام، أن حصونهما لا تؤخذ، وأن جنودهما لا تقهر، لكنهم لم يلبثوا، حين تخطوا التخوم وواجهوا هذه الجيوش وحاصروا هذه الحصون، أن تبينوا أن السوس نخرها، فهي كالجدار المتداعي، تنقض أعاليه لأول صدمة، وتندك أسسه ما وجدت المعول القوي الذي يأتي عليها من القواعد.
وإنما قدر العرب بعد إسلامهم على الفرس والروم؛ لأن الإسلام أنشأهم نشأة جديدة، وبث فيهم روحا أحالتهم خلقا جديدا، ذلك بأنه اقتحم على نفوسهم مناطق عقائدها وعباداتها، واتصل بوجدانهم في صميمه، فألقى فيه بذرة التوحيد صافية الجوهر، نقية من كل شائبة، بسيطة لذلك كل البساطة، ثم إنه فرض عليهم من العبادات ما زادهم بالتوحيد إيمانا وما ربط بين قلوبهم بأوثق رباط، فرض عليهم الصلاة والصيام والزكاة والحج؛ فأما ما وراء ذلك من سالف شعائرهم فقضى عليه إلى غير رجعة، بذلك تحررت نفوسهم من قيود الوهم، وتطهرت قلوبهم من رجس الوثنية، وشعر كل واحد منهم بأنه لا حجاب بينه وبين الله ما عمل صالحا وأجاب داعي الله.
ولم يفرض الإسلام هذه العبادات على أنها شعائر رسمية من شأن الدولة، بل هي فروض الله على المؤمنين به يثيبهم عنها، ويؤاخذهم بتركها، فمن آمن بالله ثم لم يؤد لله فرضه فعلى الله حسابه، ومن أدى فرض ربه وعمل صالحا فله عند الله مثوبة الصالحين، وأعظم بها من مثوبة!
أخذ هذا الإيمان بمجامع القلوب فجمع بينها، فانتقل أثره من الفرد إلى الجماعة، وما كان أعظم هذا الأثر! كان المسلمون يجتمعون للصلاة، فيربط اجتماعهم بينهم، ويمحو توجههم إلى الله ما في نفوسهم من غل، فإذا هم إخوة يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، ويؤدون فريضة الصوم فإذا غنيهم وفقيرهم سواسية أمام الله والناس، وإذا غنيهم طهر الصوم نفسه يعطف على فقيرهم فينال رضا الله عنه ومثوبته له، ويؤتون الزكاة فتزيل ما بين طوائفهم من نضال؛ لأنها تجعل للفقير حقا معلوما في مال الغني، ويجمعهم الحج كل عام من مختلف بقاع الأرض، ليتواصوا بالصبر والصلاة، وليتعاونوا على البر والتقوى.
Halaman tidak diketahui
وكان النظام الاجتماعي الذي سنه الإسلام بسيطا كالنظام الروحي، فكان له مثل أثره في توحيد الجماعة العربية، كانت المساواة أمام الله أساس التوحيد الإسلامي، والمساواة أمام القانون أساس النظام الاجتماعي، فقد كانت المرأة العربية تعامل قبل الإسلام معاملة غير كريمة، فرفعها الإسلام إلى مقام الكرامة، وجعلها مساوية للرجل أمام الله؛ وإنما فضل الرجل عليها بما أنفق من ماله وما عاملها بالمعروف وجعل صلته بها صلة مودة ورحمة، وكان الفقراء يسامون المهانة، فرفع مكانهم إذ جعل تفاضل الناس عند الله بالتقوى لا بالمال، هذه القواعد وما إليها مما نظم الوحي به شئون الجماعة العربية لعهد رسول الله، وما جعله نظاما للجماعة الإنسانية كلها، قد كان له من الأثر في توحيد العرب وتقوية روحهم المعنوية ما قامت الإمبراطورية الإسلامية على أساسه.
وقد بدت آثار ذلك في حياة الرسول، وبدت تباشير الإمبراطورية المقبلة من خلاله، ففي السنة السابعة من هجرته
صلى الله عليه وسلم
إلى المدينة بعث رسله إلى قيصر وإلى كسرى وإلى غيرهما من الملوك والأمراء يدعونهم إلى الإسلام، وقد أغلظ كسرى لرسوله في الجواب، وبعث إلى بازان عامله على اليمن ليجيئه برأس «هذا الرجل الذي بالحجاز»، لكن كسرى قتل قبل أن تصل رسالته إلى بازان، وشعر هذا الأمير الفارسي بقوة محمد وأصحابه، فخلع عن اليمن نير الأكاسرة، وانضم إلى رسول الله، فكان انضمامه الخطوة الأولى في تحرير البلاد العربية من ربقة النير الأجنبي.
وكان رسول الله لا يفتأ بعد ذلك يفكر في الروم ومناجزتهم، فلما كانت السنة التاسعة من الهجرة سار على رأس جيش العسرة إلى تبوك؛ وسمع الروم بمقدمه فخافوه وانسحبوا داخل حدود الشام ولم يلقوه، مع ذلك صالح يوحنا بن رؤبة صاحب أيلة كما صالح أهل الجرباء وأذرح على الجزية، وأيلة والجرباء وأذرح من أعمال الشام الخاضعة لسلطان الروم، بذلك كانت تبوك قاضية على كل نفوذ للروم في شبه الجزيرة، وكانت أول إرهاص باتجاه الإمبراطورية الإسلامية إلى ناحية الشام.
اختار الله رسوله إليه، فبايع المسلمون أبا بكر بخلافته، وخيل إلى جماعة من العرب أنهم قادرون على الثورة بخليفة الرسول وبدينه، فكان انتصار أبي بكر في حروب الردة دليلا قاطعا على أن العرب أشربت نفوسهم مبادئ التوحيد؛ ولذلك لم يقل أحد من الذين ادعوا النبوة إنهم يدعون الناس إلى وثنيتهم وإلى جاهليتهم الأولى، كما دل على أن الذين امتثلوا هذه المبادئ من أصحاب رسول الله المهاجرين والأنصار قد وهبوا لها نفوسهم فلا غالب لهم، من ثم أسرعت وحدة العرب إلى التماسك والثبات، فلم يمض عام على خلافة أبي بكر حتى كان المسلمون يواجهون الفرس في دلتا الفرات فيقهرونهم، ولم ينقض العام الثاني حتى كانوا يواجهون الروم في الشام ويثبتون لهم، وكذلك مهد أبو بكر للفتح وللإمبراطورية بعد أن هيأ الدين الجديد لها القلوب والأفئدة، ثم تابعه عمر فدفع بالإمبراطورية إلى الحدود التي ذكرناها.
هذه اللمحة السريعة عن نشأة الإمبراطورية تشهد بأن الإسلام دفع إلى نفوس العرب قوة معنوية عظيمة حفزتهم لطرح نير الأجنبي عن كواهلهم، وللاندفاع إلى ما وراء تخومهم، ومواجهة الفرس والروم في أعقار دورهم، والقوة المعنوية أس الظفر في كل نضال، ذلك بأن صاحبها لا يعرف الهزيمة ولا يرضاها؛ فإذا ارتد يوما لم يوهن ذلك من عزمه، بل حفزه لمضاعفة الجهد، وجعله يستهين بكل صعب، ويستهين بالحياة نفسها في سبيل الظفر بالغاية التي يريد بلوغها، وتاريخ العالم من أقدم العصور إلى وقتنا الحاضر شهيد بأن الفوز في النضال قد كان دائما لصاحب العقيدة الثابتة والإيمان الراسخ؛ لأن هذا الإيمان وهذه العقيدة يورثان صاحبهما من القوة ما يجعل الجبل إذ يقول له انتقل من مكانك ينتقل.
أقامت العقيدة إذن بناء الإمبراطورية الإسلامية، ومن هنا كان الرسول بهذه العقيدة، محمد
صلى الله عليه وسلم ، هو الذي وضع الأساس الثابت لهذا البناء، ثم كان صفيه وخليله أبو بكر هو الذي مهد لقيامه بما قضى على الذين حاولوا مناوأة هذه العقيدة، وحين دفع العرب فتخطوا تخوم العراق وتخوم الشام، وجاء عمر من بعده فأتم هذا البناء وتركه متين الدعائم، فازدادت رقعته فسحة بقوته الذاتية المنبعثة من روح الإسلام، وظلت هذه الرقعة تنفسح ، حتى أصاب الفكرة الدافعة لإقامة الإمبراطورية ما أصابها؛ إذ غشت عليها أوهام، ما أشبهها بأوهام الجاهلية، أثارت التنازع والبغضاء بين المسلمين.
وقد روينا حديث التاريخ عن عهد رسول الله وعهد أبي بكر، فرأينا ما كان لهذه القوة المعنوية من أثر في نفوس المؤمنين بالعقيدة الباعثة لها، وفي هذا الكتاب من أعمال البطولة التي قام بها المؤمنون في عهد عمر ما يثبت إيمانك بأثر هذه القوة، وما يدحض قول الذين قالوا: إنما اندفع المسلمون لقتال الفرس والروم حبا للغزو وتهافتا على مغانمه، فكيف لأمة قليلة العدد والعدة أن تخاطر بغزو جيران يزيدون عليها في العدد والعدة أضعافا مضاعفة، لغير شيء إلا إرضاء هوى الغزو الكمين في طبعها! ومتى وهب الناس حياتهم راضين طمعا في مغنم قد تذهب حياتهم قبل أن يبلغوا منه قليلا أو كثيرا! ألا إنه الإيمان الصادق بالعقيدة السليمة هو الذي سما بنفوس هؤلاء المسلمين الأولين فخلدوا على التاريخ من صحف المجد ما قل في التاريخ نظيره، وليس هذا التقديم موضعا لسرد ما فعلوا، فسيجده القارئ مفصلا في خلال الكتاب، مقنعا كل منصف يريد الاقتناع بالحق بأن القوة التي بثها الإسلام في نفوس الذين أخذوا في ذلك العهد بمبادئه هي التي دفعتهم إلى ميادين المجد والشرف، وهي التي حببت إليهم الاستشهاد في سبيل الدعوة إلى الحق الذي أوحاه الله إلى رسوله، ومن أحب الاستشهاد في سبيل الله انتصر لا محالة.
Halaman tidak diketahui
ولو أن القوة المعنوية التي اندفع المسلمون بتأثيرها واجهت قوة معنوية تقف في سبيلها لتغير، ولو إلى حد، وجه الحوادث، لكن دولتي الفرس والروم كانتا تسيران مسرعتين إلى الانحلال؛ فلم يكن لأيتهما من الجلد ما يمكنها من الثبات أمام الغزاة المؤمنين، فقد كان النزاع على العرش في بلاط كسرى بالغا أشده، وكانت الثورات والحروب الداخلية تنشب الحين بعد الحين بسببه، ولم يكن الروم أحسن حالا؛ فقد ثار هرقل بالقيصر فوكاس وقتله وجلس على عرش بزنطية مكانه، ثم إنه رأى النزاع الديني بين الفرق المسيحية يفت في عضد الإمبراطورية، فأراد فرض مذهب رسمي تتوحد فيه هذه المذاهب ويؤمن به المسيحيون جميعا، فانقلب سعيه وبالا عليه؛ لأنه لم يدع إلى مذهبه بالحسنى، ولم يتخذ إليه سبيل الحكمة والموعظة الحسنة، هذا إلى أن فارس والروم كانتا في حروب متصلة؛ تغزو فارس أرجاء الروم فتنتزع منها الشام ومصر، ثم يسترد هرقل للروم ما انتزعه الفرس منهم، فتذيب هذه الحروب الدولتين وتذهب بريحهما، وكان من أثر هذه الأحداث أن كان الشعب الفارسي ينظر إلى أعمال الأكاسرة وبلاطهم، فيرى عبثا يصرفه عن التشبث بنصرتهم، وكانت الشعوب الخاضعة للروم تجد من ظلم القياصرة وعمالهم ما يخذلها عن القيام بمعاونتهم، لهذا كله تداعت القوة المعنوية في فارس وفي الروم، فلم تستطع أي الدولتين أن تصد التيار الجارف الذي اندفع إليهما من شبه الجزيرة.
وثم عامل آخر لا يصح إغفاله، ذلك هو انتشار العرب في العراق والشام، وقيام الملوك اللخميين في الحيرة والغسانيين في الشام، هؤلاء وأولئك لم يلبثوا - حين رأوا بني عمومتهم يقاتلون الفرس والروم ويحالف النصر أعلامهم - أن انضم كثيرون منهم إلى صفوف المسلمين في القتال عونا لهم، وإن لم يدخلوا من بادئ الأمر في دينهم، وقد كان لهذه المعاونة من الأثر في غزوات عدة ما خذل الفرس وخذل الروم، وأسرع بالمسلمين إلى قهرهم واكتساح بلادهم.
هذه أهم العوامل التي أدت إلى قيام الإمبراطورية الإسلامية بالسرعة التي قامت بها، وإلى استقرارها بعد ذلك القرون الطوال، على أن الفضل في هذا الاستقرار يشترك فيه عامل آخر كان له أعظم الأثر، هذا العامل هو السياسة التي أديرت على مقتضاها شئون البلاد المفتوحة وشئون البلاد العربية نفسها، ولعمر بن الخطاب في إقرار هذه السياسة حظ عظيم.
صحيح أن المبادئ الأساسية لهذه السياسة ترتكز على قواعد الإسلام وتعاليمه، وقد فصل رسول الله وفصل أبو بكر من بعده بعض هذه المبادئ تفصيلا اقتدى به عمر، فكان قوي الأثر في توجيهه، وعلى أساس من هذه المبادئ وهذا التوجيه أنشأ عمر للبلاد العربية وللإمبراطورية كلها نظاما اتبع في عهده، واتبع زمنا من بعده ، وهذا النظام هو الذي صان الإمبراطورية وأبقاها، ثم كان له أعمق الأثر في إسلام أهل فارس والعراق والشام ومصر وغيرها من البلاد التي انضمت من بعد إلى العالم الإسلامي، وقد اجتهد عمر برأيه في وضع هذا النظام اجتهادا يسجل له في صحف التاريخ مجدا لا يقل عن مجده في بناء الإمبراطورية إن لم يزد عليه.
وسيرى القارئ من تفصيل هذا النظام في فصول الكتاب ما يغني عن القول فيه هنا، على أنني أضرب منه مثلا، ذلك أن الغزاة المسلمين أرادوا أن يقسم الخليفة بينهم سواد العراق وأرض الشام على أنها فيء غنموه، فأبى عمر ذلك عليهم، وترك الأرض لأهل البلاد يستغلونها كما كانوا يفعلون من قبل، لقاء خراج يدفعونه عنها، ولم يكفه هذا، بل بعث رجالا قاموا بمساحة هذه الأراضي وبجلب المياه إليها لتسهيل ريها وتيسير كل السبل لاستغلالها، ومن قبيل ذلك أنه أقر سياسة عمرو بن العاص حين حبس من خراج مصر وجزيتها ما يقتضيه إصلاح الترع والجسور، ولم يبعث إلى المدينة إلا بما فاض عن ذلك.
ثم إنه رأى إعفاء من أسلم من أهل البلاد المفتوحة من الجزية ومساواتهم بالمسلمين الفاتحين، فكان ذلك مغريا لكثير منهم بالدخول في الإسلام، وإسلامهم هو الذي جعل منهم في أجيال قليلة هذا العالم الإسلامي المترامي الأطراف، وقد أعفاهم عمر من الجزية وساواهم بالفاتحين وهو يعلم ما سيترتب على ذلك من نقص في موارد المدينة، ومن رد الحكم في هذه البلاد إلى أهلها، ومع ذلك لم يتردد في الأمر ولم تثنه هذه الاعتبارات عنه؛ لأن المسلمين لم يفتحوا هذه البلاد لإخضاع أهلها، وإنما فتحوها لتكون الدعوة للإسلام حرة فيها، فإذا أسلم بنوها أصبحوا بنعمة الله إخوانا للمسلمين الفاتحين، لهم من الحقوق ما لهم، وعليهم من الواجبات ما عليهم.
أما وقد كانت هذه سياسة عمر، وكان هذا هو النظام الذي وضعه للإمبراطورية الناشئة، فطبيعي أن يذكره المسلمون على كر الدهور في أرجاء العالم الإسلامي كله، وأن يقرنوا ذكره بكل إجلال وإكبار، وقد فعلوا، ولن يزالوا يفعلون، ولذلك أرخ العلماء والكتاب لعمر أكثر مما أرخوا لغيره من أمراء المؤمنين، لم يثنهم عن ذلك أن لم تكن لعمر بطانة تدعو إليه وتدفع الناس بمختلف الوسائل للإشادة بذكره.
بل لقد بلغ من إكبار المؤرخين لسيرته أن أضافوا إليه أمورا أدنى إلى المعجزات التي خص بها الأنبياء، وإن ذكروا ما لا يستطيع المؤرخ إثباته، وعمر في غير حاجة إلى شيء من ذلك يضاف إلى سيرته، فما قام هو به وما تم في عهده مما يقره النقد التاريخي؛ يقيم له في صحف التاريخ صرحا عاليا باقيا إلى الأبد.
ولو أن المؤرخين الأقدمين لم يضيفوا هذه الخوارق إلى سيرة عمر لأغنوا من جاء بعدهم عن بذل الجهد في تمحيصها، ولجنبوهم الاختلاف على مبلغ صحتها، ولما طفف ذلك من قدر عمر، ولا نقص من جلال صنعه، وقد رأيت من الخير أن أغفل من هذه الحوادث ما لا يقره العقل ولا يثبت للنقد، ثم رأيتني بعد ذلك مضطرا إلى أن أثبت حوادث يتصور العقل في شيء من العسر وقوعها، ومع هذا تضافر المؤرخون على روايتها تضافر تواتر يدعو إلى النزول على حكمهم فيها، وما كان لي ألا أفعل، ومن هذه الحوادث ما يزيد صورة عمر وضوحا، ومنها ما يتصل بسياسته في الحرب وبسياسته في إدارة شئون الدولة أوثق اتصال، على أنني حاولت أن أفسر ما استطعت تفسيره من هذه الحوادث على هدي البحث العلمي، وأكبر رجائي أن يكون التوفيق قد صادفني فيما حاولته من ذلك.
على أن هذه الصعوبة في التمحيص والتفسير ليست كل ما يلقاه المنقب في كتب الأقدمين عن سيرة عمر، بل إنك لترى هؤلاء الأقدمين يختلفون في بعض الأحيان على الوقائع اختلافا يقف الإنسان منه موقف الحيرة، ثم إن من هؤلاء المؤرخين من يسهبون في طائفة من الوقائع ويتناولون أدق تفاصيلها، على حين يجملون طائفة أخرى إجمالا لا تكاد تبين معه دلالتها، وأسوق مثالا لذلك: إن الطبري وابن الأثير والبلاذري يتحدثون عن وقائع الغزو في العراق بإسهاب تكاد ترى معه أعمال كل بطل من أبطال هذه الوقائع، فإذا انتقلوا إلى سياسة المسلمين وإدارتهم للبلاد بعد فتحها أجملوا الحديث فيها إجمالا لا يتفق بحال مع إسهابهم الأول، وهؤلاء المؤرخون أنفسهم أقل إسهابا حين الحديث عن فتح الشام، وإن كانوا مع ذلك قد وفوه حقه، أما حديثهم عن مصر فموجز إيجازا لا يبالغ من يسميه مخلا، وحسبك لتشاركني في هذا الرأي أن تعلم أن الطبري قد أفرد لغزوة القادسية وحدها أكثر من ستين صفحة، وقد تحدث عن فتح المدائن في اثنتي عشرة صفحة، ثم لم يجعل لفتح مصر كلها غير خمس صفحات.
Halaman tidak diketahui
ولا شك في أن غزوة القادسية جديرة بأعظم العناية في التأريخ لها؛ فهي التي مهدت للمسلمين العود إلى العراق بعد أن أجلاهم الفرس عنه، وفتحت لهم أبواب المدائن ثم أبواب فارس كلها، لكن فتح مصر لم يكن دون فتح العراق وفتح فارس خطرا، وكان لذلك جديرا، بأن يلفت هؤلاء المؤرخين ليتوفروا على استيفائه أكثر مما فعلوا.
وقد نلتمس لهؤلاء المؤرخين من العذر أنهم دونوا ما استطاعوا الوقوف عليه من الروايات، أو أنهم كانوا أكثر عناية بالبلاد التي نشئوا فيها منهم بالبلاد البعيدة عنهم، ولا أراني في حاجة إلى الاعتذار عنهم ولا إلى نقد طريقتهم وقد فصلت بيننا وبينهم قرون عدة، وأنا بعد بصدد الحديث عما يلقاه من يؤرخ اليوم لذلك العصر القديم من جهد، ولذا أسارع إلى القول بأن في متناول هذا المؤرخ مادة لا ينضب معينها يستطيع أن يسد بها كل نقص، فما أجمله الطبري وابن الأثير وابن خلدون والبلاذري وابن كثير قد فصله غيرهم تفصيلا يقف منه الإنسان على ما يشاء، أشرت إلى إجمال هؤلاء تاريخ الفتح العربي لمصر؛ لكن هذا الفتح مفصل في كتب أخرى أدق تفصيل، فقد كتب ابن عبد الحكم والسيوطي وابن تغري بردي عنه وفصلوه ما فصل الطبري فتح العراق، والكتب التي وضعت في لغات غير العربية تلقي من الضياء على تاريخ الفتح الإسلامي والإمبراطورية الإسلامية ما لا غنى لمؤرخ عن الاستنارة به ، وتمحيص الوقائع بموازنة ما جاء عنها في كتب المؤرخين على اختلاف لغاتهم ومناهجهم وميولهم خير عون على الاهتداء إلى الحق، هذا إلى ما لمؤرخي العصر الحديث في الشرق والغرب من فضل في بحث ما أوردته كتب الذين سبقوهم وفي تمحيصه وإبرازه في صورة تتفق ومألوف هذا العصر في التفكير والتقدير، أما ومادة التاريخ متوافرة هذا التوافر فلن يصد الجهد باحثا عن الاستفادة منها في الناحية التي يريد أن يعرض لها ويطالع الناس بما يعتقده الحق فيها.
فلكل مؤرخ ناحية تستأثر بعنايته يتوفر على دراستها ويجعل ما سواها سندا له في هذه الدراسة، والمؤرخ الذي ينقطع لدرس عهد بذاته من كل نواحيه يقسم هذا العهد، وإن قصر، ويفرد لكل ناحية منه دراسة خاصة قد تستغرق المجلد أو المجلدات، فإذا أراد أن يلخص هذه النواحي جميعا كان تلخيصه أدنى إلى البحث في فلسفة التاريخ منه إلى التاريخ نفسه.
ولنأخذ موضوع عمر مثلا يوضح ما تقدم، فقد يعنى المؤرخ بشخص عمر ويقف عنده، ويجعل من كل ما يقع في بيئته وعصره وسيلة للمزيد من إيضاح صورته، وقد يعنى بعهد عمر في ناحيته الاقتصادية أو في ناحيته الاجتماعية أو في غير هاتين الناحيتين من نواحي الحياة العربية، وبما كان لعمر من أثر في الناحية التي جعلها المؤرخ غرض دراسته، وكل واحدة من هذه النواحي جديرة بعناية خاصة في الدرس، كفيلة بأن تبرز للناس سفرا قيما يجمع بين المتاع به والفائدة منه، ودراسة الحياة الأدبية للجماعة العربية في عهد عمر دراسة مستفيضة كفيلة بأن تبين للناس كيف تأثرت هذه الحياة بالتطورات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدينية التي سبقت هذا العهد وعاصرته، وأن تضيف إلى المكتبة العلمية ثروة علمية وأدبية أعظم بما فيها للناس من متاع وفائدة.
وقد تناولت في هذا الكتاب، كما تناولت في «حياة محمد» وفي «الصديق أبو بكر» نواحي من الحياة العربية لذلك العهد، رأيت تناولها مما يكمل به ما عرضت له من بحث، لكني لم أتناولها بدراسة مستفيضة؛ لأنها لم تكن غرضي الذي قصدت إليه، بل تناولتها بالقدر الذي يتم به هذا الغرض، فأما ما قصدت إليه من وضع هذه الكتب فقد بينته في تقديم كل واحد منها، فقلت في تقديم «حياة محمد» إنه: بينما يقوم بين الشرق والغرب تعاون علمي جدير بأن يؤتي خير الثمرات، إذا طائفة من رجال الكنيسة المسيحية ومن كتاب الغرب لا يفترون عن الطعن على الإسلام وعلى محمد، وإذا الاستعمار الغربي يؤيد بقوته أصحاب هذه المطاعن باسم حرية الرأي، ويؤيد في الوقت نفسه دعاة الجمود من المسلمين، ويخاصم من يحاربون هؤلاء أو أولئك، وقد رأيت ما يحدث من ذلك في بلاد الشرق الإسلامي، بل في البلاد الإسلامية كلها، ورأيت ما يقصد إليه من القضاء على الروح المعنوية في هذه البلاد بالقضاء على حرية الرأي وحرية البحث ابتغاء الحقيقة، فشعرت بأن علي واجبا لا مفر لي من القيام به، فعمدت إلى دراسة حياة محمد صاحب الرسالة الإسلامية وهدف مطاعن المسيحية من ناحية، وجمود الجامدين المسلمين من ناحية أخرى، على أن تكون دراسة علمية خالصة لوجه الحق، ولوجه الحق وحده، وهذه الدراسة جديرة لذاتها بأن تهدي الإنسانية طريقها إلى الحضارة التي تتلمسها.
أما كتاب «الصديق أبو بكر» فقد بدأت فيه بدراسة الإمبراطورية الإسلامية وأسباب عظمتها وانحلالها؛ لأن هذه الإمبراطورية قامت على أساس من تعاليم النبي العربي وسننه، ولأن الشعوب التي تمخضت عنها هذه الإمبراطورية بعد انحلالها ترتبط كلها بالإسلام، ويرتبط أكثرها بالعربية، وقد عقد بينها الماضي صلات لا انفصام لها ما بقي الإسلام وما بقيت اللغة العربية، وفي تنظيم هذه الصلات خير للإنسانية عظيم ولا سبيل إلى هذا التنظيم إلا معرفة ما كان بين هذه الأمم في الماضي من صلات، فمعرفة الماضي هي سبيلنا لتشخيص الحاضر ولتنظيم المستقبل.
وهذا الكتاب عن عمر حلقة ثالثة من هذه السلسلة، لكنها تختلف عن الحلقتين الأوليين، كما تختلف كل واحدة من هاتين الحلقتين عن الأخرى اختلافا ظاهرا، هذا مع توالد الحلقات الثلاث كل واحدة عن سابقتها، كما تخرج الجذور من البذر، ثم ينبثق الجذع باسقا من الجذور، ثم تتفرع الأغصان من الجذع، قد تذبل الأغصان ويبقى الجذع مع ذلك قوي الحيوية، بل قد يجف الجذع ثم تبقى الجذور سليمة قادرة على أن تنشئ جذعا أقوى وفروعا أكثر نضارة، فإذا كانت الإمبراطورية الإسلامية قد انحلت فلا يزال الإسلام الذي أنشأها قديرا على أن ينشئ وحدة إنسانية عظيمة تلائم روح العصر ونظامه.
وقد اقتضاني تصوير النشأة الأولى للإمبراطورية الإسلامية أن أتناول بالبحث نواحي الحياة المختلفة لشبه الجزيرة والبلاد التي فتحها المسلمون الأولون؛ على أنني لم أقف عند هذه النواحي إلا بالقدر الذي اقتضاه قيام هذه الإمبراطورية، وليس هذا القدر مع ذلك باليسير؛ فهو يجلو صورة، وإن موجزة، للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بلاد العرب، وصورة مثلها قد تكون أكثر إيجازا لنواحي الحياة في البلاد المفتوحة، وقد حاولت هذا التصوير في الكتابين السابقين من هذه السلسلة، ثم حاولته على وجه أوفى في هذا الكتاب، وبخاصة ما اتصل بشئون الفرس والروم، وأكبر رجائي ألا يبلغ هذا الإيجاز مبلغا يقصر عن أن ينقل إلى ذهن القارئ ما أردت تصويره.
وهذه الحلقات الثلاث التي تؤرخ لنشأة الإمبراطورية الإسلامية والعالم الإسلامي، تصور فترة من تاريخ العالم هي لا شك أمتع الفترات في الحياة الإنسانية، وأكثرها وقفا للنظر، وإيحاء للتفكير والتأمل، فهي تدل على أن الحياة الإنسانية فكرة أولا وقبل كل شيء، وهي في إقامتها هذا الدليل ترسم لنا سلسلة من الصور تعاقبت في زمن قصير تعاقبا محتوما، ولكنه مع ذلك فذ في تاريخ الإنسانية مذ كانت الإنسانية، ذلك بأنها تصور الفكرة المستجمة في نفس من أعده القدر ليبلغ العالم رسالته؛ وظهور هذه الفكرة بوحي من الله إلى رسوله ليدعو إليها بالحكمة والموعظة الحسنة؛ وقيام الناس في وجه الفكرة ومحاربتهم لها ابتغاء وأدها والقضاء عليها، وانتصار الفكرة بانتصار رسولها، وإقبال الناس لذلك عليها مأخوذين بعظمته وقوة شخصيته؛ وانصراف الناس بعد وفاة صاحب الفكرة إلى مألوف حياتهم فرارا من فروضها؛ وقومة من صدق إيمانهم بالفكرة وإعادتهم المرتدين إلى حماها وإلزامهم أداء فروضها؛ وتأصل الفكرة بعد ذلك في الوجود تأصلا جعل منها قوة لا قبل لشيء في الحياة بها ولا قدرة لسلطان أن يتغلب عليها؛ وبلوغها من هذا التأصل مبلغا جمع إليها عالما يغرس في أقطار الأرض المختلفة أصولها، أية صورة أروع من هذه الصورة وأكثر إمتاعا للعقل والقلب والمدارك! وهل قام في تاريخ العالم دليل على قوة الفكرة لذاتها ومقدرتها على اكتساح الإمبراطوريات مثل هذا الدليل؟!
لا ريب في أن تاريخ الإنسانية يتلخص كله في بضعة أفكار رئيسية قام نظام العالم على أسسها، وقد سلكت كل واحدة من هذه الأفكار طريقها إلى النفوس وتركت على الحياة أثرها، لكن كل واحدة منها لم تكن تكاد تظهر حتى تلقى من المقاومة ما يردها إلى حدود ضيقة تنكمش فيها ليرددها الناس من بعد يريدون تمحيص ما تنطوي عليه من حق ونفي ما يخالطها من زيف، ثم ينتهون إلى صورة معدلة من الفكرة الرئيسية يرتضون العيش في كنفها، وهم لا ينتهون إلى الصورة المعدلة قبل أن تنقضي أجيال ويستحر نضال وتسيل دماء وتزهق أرواح، ثم تكون في أثناء ذلك كله محل أخذ ورد ونفي وإثبات وتعديل يجعل ما تنتهي إليه شيئا مختلفا عن صورتها الأولى جد الاختلاف.
Halaman tidak diketahui
بل إن من الأفكار ما يظهر ثم لا يحتمل النضال، فيختفي إلى غير عودة، ولدينا من ذلك مثل يقابل قيام الإسلام حين نشأته، ذلك ما حاوله هرقل من توحيد المذاهب المسيحية وإدماجها في مذهب رسمي يفرض في أرجاء الإمبراطورية كلها، فقد بذل هرقل غاية جهده لتنجح محاولته: جمع المجامع من كبار رجال الدين وفرض عليهم أن يتفقوا، واتفق من هؤلاء الرجال من اتفق، وأقام على رأيه من أقام، ثم إن الإمبراطور أرسل عماله إلى الشام وإلى مصر وإلى غيرهما من البلاد الخاضعة لسلطانه يدعون الناس إلى المذهب الرسمي طوعا وكرها، ولجأ هؤلاء العمال إلى كل الوسائل لتنفيذ ما أمرهم هرقل بتنفيذه، مع ذلك التوى القصد عليهم، وثار الناس في كل البلاد بهم، فأخذوا الثائرين بألوان النكال، فكانت مآس ومذابح انتهت كلها إلى إخفاق الإمبراطور فيما حاول، وقد رأى هذا الإخفاق بعينه قبل أن يموت، ولعله سأل نفسه مرات وظل يسأل إلى ساعته الأخيرة: كيف نجح النبي العربي ولا سلطان له في إقامة دين جديد، وأخفق هو، وله من الأيد والسلطان ما له، في جمع الناس حول مذهب موحد لدين استقر في العالم أكثر من ستة قرون؟!
وهو قد عجز، ولا ريب، عن أن يظفر بجواب على سؤاله، فلو أنه ظفر بهذا الجواب لما ترك عماله يمعنون في إرهاق الناس وفي تعذيبهم وقتلهم، حتى يفتح المسلمون سورية ويفتحوا مصر ويجلوه وجنوده عنهما ويضطروهم إلى الفرار منهما، ولو أن بطش الملك لم يطغ على تفكيره ولم يحجب الجواب عنه لاهتدى إليه، فهذا الجواب بسيط كل البساطة؛ وهو أن النبي العربي نجح؛ لأنه لم يكن له سلطان غير سلطان العقيدة السلمية التي دعا الناس طوعا بأمر ربه إليها، وأن هرقل أخفق؛ لأنه أراد إكراه الناس على مذهب لم تهتد بصائرهم إلى أنه خير مما يؤمنون به، وقد نجح النبي العربي؛ لأنه لم يكن يتعصب لغير الحق، فكان يقول بوحي ربه:
آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ، وأخفق هرقل؛ لأنه تعصب لمذهب على غيره من مذاهب تنسب كلها لعيسى عليه السلام ولحوارييه، ونجح النبي العربي؛ لأنه لم يكن يبتغي للناس غير الهدى إلى سبيل ربهم، فكان يقول لوفد النصارى الذين جاءوا من نجران يجادلونه:
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون .
وأخفق هرقل لأنه أراد أن يتخذ بعض الناس بعضا أربابا من دون الله، فثار الناس به حين رأوا دعوته وليس فيها من الحق ما يصرفهم عما وجدوا عليه آباءهم. لهذه الأسباب نجح النبي العربي بإذن ربه، وقامت على أساس دعوته إمبراطورية استقر فيها ما دعا إليه. وكانت هذه الإمبراطورية قمينة أن تضم العالم كله في كنفها لولا أن غير أصحابها ما بأنفسهم فغير الله ما بهم.
وإنما غير المسلمون ما بأنفسهم يوم افترقوا مذاهب وشيعا، فنقلوا تفكير الناس وعنايتهم من جلال العقيدة في صفاء جوهرها، إلى الخوض في التفاصيل والجدل فيها جدلا زاد بينهم شقة الخلاف وجعل بعضهم لبعض عدوا. وطالما عاب رسول الله ثم عاب أبو بكر وعمر من بعده من دار مثل هذا الجدل بخواطرهم. بل لقد نبههم رسول الله إلى أن من هلك قبلهم من الأمم إنما هلك بسبب المجادلة في أمور لا يؤدي الجدل فيها إلى حق ولا ينشأ عنه غير الخلاف والتنازع والبغضاء. فقد رأى المسلمون الأولون ما في ذلك من حق فامتثلوا أمر النبي، وأيقنوا أن الذين يجادلون في الدين إنما مثلهم كمثل اليهود والمنافقين الذين كانوا يندسون بين المسلمين يسألونهم: إذا كان الله قد خلق الخلق فمن خلق الله؟ أو يسألونهم عن الروح، يحاولون بهذه المسائل وبمثلها أن يدسوا إلى عقولهم الشك في عقيدتهم. وقد كان الوحي ينزل بالجواب على بعض هذه المسائل في إيجاز حاسم، فيقول الله تعالى:
قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد ، ويقول:
ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ، ويقول:
ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ، ويقول:
إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء .
Halaman tidak diketahui
وكان عمر أشد الناس كراهية للاختلاف، فكان يهدد الذين يختلفون ولو كانوا من أصحاب رسول الله ومن أرفعهم مكانة عند المسلمين. ولا عجب في أن يكون ذلك شأنه، وسترى من بعد أنه يتفق مع تفكيره في جاهليته وفي إسلامه. وليس يرجع ذلك إلى ما زعمه بعضهم من ضيق أفقه؛ فقد كان عمر من أكثر أهل زمانه علما وأوسعهم أفقا، بل لأنه كان يقدم نظام الجماعة على كل اعتبار، ويرى في ثبات هذا النظام واستقراره أقوى كفيل بخير الأفراد وبخير المجموع كله.
كيف يتفق هذا النفور الشديد من الاختلاف في الرأي مع دعوة الإسلام إلى النظر والتدبر والحكم؟ وكيف يمكن لحرية الرأي أن تستقر في بيئة يهدد صاحب السلطان فيها بمعاقبة المختلفين؟
هذا اعتراض أورده بعض المستشرقين بالفعل. ونحن ندفعه هنا، لغير شيء إلا أن تاريخ الفكر الإنساني ينفيه. فكثرة العلماء تذهب الآن إلى أن التجريد المنطقي في الفروض النظرية إنما تسلط على تفكير الإنسانية في العصر الميتافيزيقي حين لم يجد الذهن من المقررات العلمية سندا له في الحياة، فكان هذا التجريد ملجأ نشاطه. وهو قد اتجه بهذا التجريد إلى نظريات لا تثبت عن طريق العلم، وتناول به أمورا يدخل معظمها في دائرة ما سماه هربرت سبنسر «ما لا سبيل إلى معرفته
The unknowable » فلما استقر العلم وقامت الفلسفة الواقعية على أساسه، أصبح هذا التجريد المنطقي ترفا عقليا ضعيف الأثر في حياة العالم الفكرية. فإذا كان رسول الله وكان خلفاؤه الأولون قد نهوا عن الخوض فيما لا سبيل إلى معرفته، لأن هذا الخوض يثير الخلاف والتنازع، فهم بذلك لم يحرموا حرية الفكر، بل قاوموا طريقة بذاتها من طرق التفكير يصفها العلم اليوم بأنها طريقة الجدل العقيم.
فأما صور التفكير المستندة إلى وقائع الحياة والوجود، والتي يعتبرها العلم اليوم موضع نظره ومجال بحثه، فكانت محل التشاور والعناية في ذلك العهد، وكان ما يتصل منها بشئون الحكم والقضاء مدار الاجتهاد بالرأي، فإن أصاب المجتهد فمن الله، وإن أخطأ فمن نفسه ومن الشيطان.
وسيرى القارئ في صلب الكتاب تفصيلا لبعض ما حرم الاختلاف فيه وحكمة هذا التحريم. وحسبي أن أشير إلى نهي رسول الله عن الخوض في مسألة القدر لنستبين هذه الحكمة. فقد أثارت مسألة القدر في عصور التجريد «الميتافيزيقي» أشد الخلاف وأعظم الجدل، وهي مع ذلك لم تنته ولا يمكن أن تنتهي يوما إلى نتيجة. وهذا دليل على أن النهي عن الخوض فيها كان الحكمة عين الحكمة. وتبلغ هذه الحكمة حد البداهة إذا ذكرنا أن الدين كان يومئذ في إبان نشأته، وأن اليهود والمنافقين والمشركين كانوا يحاربون مبادئه الرئيسية بإثارة ما قد يتصل بها من المسائل الجدلية، لينشروا حول هذه المبادئ جوا من الريبة يصرف الناس عنها. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الصدر الأول للإسلام كان عهد جهاد متصل، وأن ما يؤدي إليه الجدل من الاختلاف يجني على هذا الجهاد ويضر بالجهد الذي يبذل لنجاحه، لم يبق للاعتراض الذي أورده بعض المستشرقين أساس، وكان لشدة عمر في النهي عن كل ما يثير الخلاف مسوغ بل موجب.
لا أستطيع، وقد أجملت في هذا التقديم ما تضافر من العوامل لقيام الإمبراطورية الإسلامية، ألا أتحدث عن عمر نفسه. فسيرى القارئ صورته واضحة قوية الأثر في كل فصل من فصول هذا الكتاب. وقد يرى من بروز شخصيته ما يدعو للموازنة بينه وبين أبي بكر. لهذا أسارع قبل الحديث عن عمر فأثبت هنا نص ما ذكرته في تقديم «الصديق أبو بكر» إذا قلت: «قد يبلغ الأمر ببعضهم أن يوازن بين عهد أبي بكر وعهد عمر ليفاضل بينهما. وهذه مفاضلة لا موضع لها بين رجلين بلغ كل منهما من مراتب العظمة ما قل أن يبلغه سياسي أو حاكم لأمة في تاريخ العامل كله. ولقد كان عهد عمر من أعظم عهود الإسلام لا ريب؛ فيه استقرت قواعد الإمبراطورية، واستتب نظام الحكم، ورف لواء الإسلام على مصر وغير مصر من البلاد التي اعتز بها الروم واعتز بها الفرس، لكن هذا العهد الفاروقي العظيم مدين لعهد الصديق ومتمم له، كدين خلافة الصديق لعهد رسول الله وإتمامها له.»
على أنه إذا لم يكن للموازنة بين العهدين موضع وعهد عمر متمم لعهد أبي بكر، فإن الموازنة بين الرجلين يسيرة، ومن شأنها أن تجلو لنا من صورتيهما ما يزيدنا إدراكا لقيمة ما أحرزه كل منهما من الفوز في عهده. ولسنا نجد في هذه الموازنة تصويرا خيرا من تصوير رسول الله حين شاور المسلمين في أسرى بدر، فأشار أبو بكر بقبول الفداء منهم، وأشار عمر بضرب أعناقهم. فقد ضرب رسول الله للمسلمين في كل من الرجلين مثلا؛ فأما أبو بكر فمثله في الملائكة كمثل ميكال ينزل برحمة الله وعفوه على عباده، ومثله في الأنبياء كمثل إبراهيم، كان ألين على قومه من العسل. قدمه قومه إلى النار وطرحوه فيها فما زاد على أن قال:
أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون . وأن قال:
فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم
Halaman tidak diketahui
ومثله في الأنبياء كمثل عيسى إذ يقول:
إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم . ومثل عمر في الملائكة كمثل جبريل ينزل بالسخط من الله والنقمة على أعداء الله. ومثله في الأنبياء كمثل نوح إذ يقول:
رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ، وكمثل موسى إذ يقول:
ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم .
هذه الصورة تصف كلا الرجلين في حياة الرسول أدق الوصف. فلما استخلف أبو بكر بقي على رفقه ولينه في كل أمر لا يتصل بعقيدته وإيمانه. فأما ما اتصل بالعقيدة والإيمان، فلم يكن موضع رفق أو لين عنده؛ ذلك أن نفسه كانت تنطوي على قوة هائلة لا تعرف التردد ولا الإحجام، وعلى مقدرة ممتازة في بناء الرجال وإبراز ملكاتهم ومواهبهم، وفي دفعهم إلى ميادين الخير العام ينفقون فيها كل ما آتاهم الله من قوة ومقدرة؛ لذلك كان إذا عهد إلى أحدهم في أمر ترك له من الحرية في تنفيذه ما يتفق وثقته به، وثقته بحسن تقديره هو في اختيار هذا الرجل، ومن ثم رأيناه يضع الخطط العامة لقواده في حروب الردة وفي غزو العراق والشام، ويترك تفصيلها لهم ولا يسألهم حسابا ما نجحوا في مهمتهم. فإذا لم يصادفهم التوفيق فكر في سبب إخفاقهم والتمس الوسيلة لعلاجه. كذلك فعل حين أبى على القواد الذين لم ينتصروا في حروب الردة وفي غزو الشام أن يعودوا إلى المدينة، حتى لا يوهن عودهم إليها من يقيمون بها، وحين وقف قواد الشام موقف الجمود أمام الروم، فأمدهم بخالد بن الوليد ونقله إليهم من العراق، حتى ينسي الروم وساوس الشيطان.
ولم يكن ذلك شأنه مع القواد في وقائع الحرب وكفى، بل كان كذلك شأنه في الأمور الدينية؛ لا يتدخل فيما عهد منها إلى عماله إلا لتقويم معوج أو إصلاح فاسد. أما ما سارت الأمور سيرتها السليمة فهو يدعها لينصرف إلى غيرها من شئون الدولة؛ ولهذا ترك زيد بن ثابت بعد أن عهد إليه في جمع القرآن يقوم بمهمته، فلم يكن يتدخل في عمله إلا حين يطلب زيد إليه رأيه.
والأمير الذي يقف من سياسته عند الأمور العامة مطمئنا إلى عماله واثقا بهم، يبرز اسم عماله إلى جانب اسمه، فيحسب من لا يتعمق في الأمور أن لبعض العمال فضلا أعظم من فضله. وهذا خطأ في التقدير؛ فالفكرة الأساسية هي كل شيء في كل عمل. وحرية العامل الموثوق به في تولي التفاصيل تزيد هذا العامل نشاطا وإقداما على الاضطلاع بالتبعات، وحرصا على الفوز بمزيد من ثقة الأمير به، ليزداد ركونه إليه وتقديمه له.
كانت هذه السياسة متفقة مع طبيعة أبي بكر وما عرف من لينه ورفقه وحسن إيمانه وقوة عقيدته، متفقة كذلك مع سنه؛ فقد تولى الخلافة حين جاوز الستين من عمره، ضعيف البدن رقيقه. أما عمر فتولى الخلافة وسنه حول الخمسين، وفيه من قوة الشباب ونشاطه ما لم يكن لأبي بكر. ثم إن عمر كان عنيفا بطبعه، قوي البدن، جم النشاط في كل شيء، لا تكمن ذاتيته حتى تبرزها الحوادث في جلال قوتها، بل كانت ذاتيته دائمة البروز، وكان لذلك حريصا على أن يتولى الجليل والدقيق من شئون المسلمين أفرادا وجماعات ما استطاع. وهذا البروز في الذاتية كان يدفعه - مع ثقته بمن يعهد إليهم في أمور الدولة - إلى أن يجعل عينه دائما عليهم وأن يكون دائم الاتصال بهم، حتى تخاله وهو بالمدينة حاضرا مع من كان منهم بالعراق أو بالشام أو بفارس أو بمصر. وهذا الاتصال وهذه المراقبة جعلاه دقيق المحاسبة لهم دقة ثارت لها غير مرة نفوس بعضهم. ولو أن من ثارت به نفوسهم كان رجلا غير عمر في قوته وصلابته وبأسه لكان لهذه الثورة من الأثر ما يخشى ألا تحمد عاقبته.
وكان لذاتية عمر وبروزها أثر في الحياة العقلية كأثرها في إدارة الشئون العامة؛ فقد كان من أكثر المسلمين اجتهادا بالرأي، كان ذلك شأنه في حياة الرسول وفي حياة أبي بكر، ثم كان المجتهد الأول في خلافته، فلم تعرض مسألة تعني الجماعة الإسلامية إلا كان له فيها رأي، ولم تكن مسألة فقهية إلا كان ما يستقر عليه حكمه فيها حجة يأخذ بها الناس في عهده، ويأخذ بها الناس من بعده، وسترى أنه خالف رسول الله وخليفته أبا بكر غير مرة، وأن الوحي أيد رأيه أحيانا وخالفه أحيانا أخرى، وأن الناس في خلافته كانوا يطمئنون إلى اجتهاده أيما اطمئنان. ولقد زاد في قدر رأيه أنه اطرح وراء ظهره كل مصلحة خاصة وكل اعتبار ذاتي، وأنه تجرد لله ولدين الله ولخير المسلمين تجردا لم يوصف به أحد من أمراء المؤمنين بعده.
ولو أن ما روي عن إنكار نفسه كان كله صحيحا لكن عمر مثلا فذا في التاريخ، ولكان أدنى إلى مراتب الأنبياء والرسل منه إلى مراتب العظماء.
Halaman tidak diketahui
1
فهذا الرجل الذي بلغ أسمى مكانة في عصره، فكان العاهل المطلق اليد في الإمبراطورية الكبرى لعالم يومئذ، قد كان يأبى على نفسه كل ما يرفه عنها، ويحرص على أن يعيش عيش الفقير ليمسه ما يمسه. على أن زهده في الدنيا لم يكن زهد عائف عنها، بل كان زهد قادر عليها متحكم فيها؛ ولذلك كان - مع شدة ورعه وعظيم تقواه - ينكر صنيع أولئك المتنسكين الذين يرون في الحرمان متاعا ولذة، والذين يخفضون من أصواتهم إذا تكلموا ويتباطئون في مشيهم إذا ساروا، يريدون أن يقول الناس عنهم إنهم نساك؛ ذلك لأنه كان يمقت الضعف في كل مظاهره، وكان أشد مقتا للتظاهر به.
وزهد عمر في أنعم الحياة هو الذي طوع له أن يكون مضرب المثل في العدل؛ فقد كان لهذا الزهد لا يخشى إلا الله، ولا يرجو أحدا غيره. وكانت خشيته الله ورجاؤه إياه شديدين. وكان يعلم أن الله محاسبه عما ولي من أمر المسلمين فيزداد خشية، فتزيده الخشية حرصا على تحري العدل إرضاء لله جل شأنه؛ لذلك كان في عدله لا يفرق بين قريب له وبعيد عنه؛ فالمؤمنون عنده جميعا سواء، ومن دخل في ذمة المسلمين أصبح وله من الحق في عدل أمير المؤمنين ما لهم. وحبه العدل مجردا من الهوى جعله يطلب إلى عماله أن يكونوا مثله عدلا وإنصافا، ويطلب إلى الناس في أرجاء الإمبراطورية أن يرفعوا إليه ما قد ينزل بهم على يد عماله من حيف حتى ينصفهم إذا رأى إنصافهم حقا؛ فإن شكوا إليه عاملا كيدا بغير حق أنصف هذا العامل منهم، لتبقى للحكم هيبته، وليبقى للعامل العادل مكانه وسلطانه.
وزهد عمر في أنعم الحياة هو الذي دفع إلى قلبه من الرفق بالفقراء والعطف عليهم ما خشي الناس يوم استخلف ألا يكون له منه نصيب. فقد رأوه في عهد رسول الله عادلا صارم العدل، ورأوه في عهد أبي بكر شديد البطش بالظالمين؛ فلم يدر بخلد أحدهم أنه سيعرف الرحمة حياته. لهذا لم يلبث حين آل الأمر إليه أن احتفظ بكل شدته على الظالمين، ثم كان بالضعفاء والفقراء برا رحيما، بل كان أحن عليهم من آبائهم وأمهاتهم: يكفكف دموعهم ويحمل إليهم بنفسه حقوقهم، ويرعاهم صغارا وكبارا. والضعفاء والفقراء هم السواد في كل أمة؛ لذلك لم يلبث هذا السواد أن وجد في عمر ملجأه وملاذه، وأن أصبح هذا الرجل الباطش أحب إليهم من أنفسهم ومن أبنائهم.
لا أريد بما قدمت أن عمر بن الخطاب لم يكن يخطئ، أو أنه لم تكن له ميول تجعل الناس يختلفون في بعض أحكامه، وسنرى كيف اختلفوا فيما كان بينه وبين خالد بن الوليد؛ يرى بعضهم أنه ظلم القائد القاهر الذي وضع للإمبراطورية أساسها، ويرى آخرون أنه قصد إلى خير الإمبراطورية أكثر مما قصد إلى العدل في أمر خالد. وسنرى كذلك كيف عزل سعد بن أبي وقاص سياسة في غير عجز ولا خيانة. لكن اختلاف الناس فيما اختلفوا فيه من آراء عمر ومن تصرفاته وأحكامه، لا يغير من أنه لم يمل يوما مع الهوى ولم يخالف يوما ضميره، وأنه كان يحاسب نفسه أدق الحساب كلما اجتهد برأي أو قضى بحكم أو أصدر أمرا.
هذه صورة مجملة من حياة عمر ومن تصرفاته، وهي مفصلة في هذا الكتاب تفصيلا أرجو أن يجلوها بينة واضحة، وهذه الصورة تدلك على ما كان لشخصه من أثر في بناء الإمبراطورية العظيمة في الزمن الوجيز الذي قامت فيه، وتكشف لك عن السبب الذي أبقى على التاريخ اسم هذا الرجل العظيم يتحدث الناس عنه على مر الأجيال في مشارق الأرض ومغاربها حديث إكبار وإعجاب.
على أن ما فصل في هذا الكتاب لم يتخط التاريخ السياسي لهذه الفترة القصيرة من حياة المسلمين الأولين. أما ما جاء في فصوله عن حياة العرب الاجتماعية وعن الفرس والروم فإنما جاء مجملا أريد به إيضاح هذا التاريخ السياسي، ولم يقصد به إلى تفصيل ما حدث من تطور الحياة الاجتماعية في بلاد العرب بقيام الإسلام، ولا إلى تفصيل الحياة السياسية نفسها في البلاد التي فتحها المسلمون. كذلك لم يتناول الفصل الذي أفرد لاجتهاد عمر تفصيل هذا الاجتهاد. وقد تناول بعض العلماء الباحثين في عصرنا طائفة من هذه النواحي ببحوث ممتعة أيما إمتاع. وللمستشرقين في مثل هذه البحوث فضل تقترن به أسماؤهم مع أسماء علماء العربية وكتابها. مع ذلك لا يزال هذا الميدان مفتقرا إلى التنقيب. وما أشك في أنه سيلقى من العناية ما هو جدير به.
وأختتم هذا التقديم بالضراعة إلى الله أن يوفقنا جميعا للحق في كل ما نعرض له من بحث. فالحق خير ما يرجو الباحث المنصف. والله خير حافظا من الزلل، وهو الحكم العدل اللطيف الخبير.
محمد حسين هيكل
هوامش
Halaman tidak diketahui
الفصل الأول
عمر في جاهليته
استهل ذو القعدة لسنوات قبل مبعث النبي، فأقبل العرب أفواجا يحدون إبلهم من شتى الأرجاء في شبه الجزيرة ليقيموا سوق عكاظ كعادتهم قبل الحج من كل عام، وكانت السوق تضطرب بمن جاءوا إليها من مختلف القبائل، وفيهم من أهل مكة عدد غير قليل، وقد أقام هؤلاء العرب مضاربهم في فسحة البطحاء المترامية التي تقوم السوق عليها، ثم جعلوا ناحية منها للتجارة، وفي هذه الناحية أقام جماعة أمام مضاربهم متاجر يعرضون فيها سلعا قل منها ما كان من صناعة الحجازيين أنفسهم، في حين قد جاء أهل مكة ومن إليهم بأكثرها من اليمن ومن الشام في رحلتي الشتاء والصيف، والناس يؤمون هذه المتاجر رجالا ونساء، يبتاعون منها ما يشاءون، وأكثر ما تقف النسوة عند البزازين بائعي الأقمشة والثياب، يقلبن بين أيديهن شتى ألوانها، ثم يخترن من نسج اليمن أو صناعة الشام ما تهوي إليه قلوبهن، فإذا كانت بينهن مليحة جذبت إلى المضرب من الشبان والرجال من يتظاهرون بالشراء، وإن كانوا أشد حرصا على اجتلاء جمال المليحة منهم على مس الحرائر والمتاع بألوانها واقتناء ما يعجب منها، وعلى مقربة من هذه المتاجر قامت حلقات اللهو يؤمها الشبان طرفا من النهار وأطرافا من الليل؛ ولا تأبى الحسان أن يكن على مقربة منها، فإذا أقبل الليل ذهب الشبان يحتسون الشراب حتى تميل أعناق بعضهم، ثم تركوا لنوازع اللهو والهوى العنان، وكم أدت هذه النوازع إلى مهاترات ومصاولات بدأت طفيفة ثم تجسمت، حتى انتهت إلى قتال بين القبائل امتد على السنين.
قام شاعر يوما في جانب السوق ينشد قصيدة له؛ يتغزل في مطلعها، ثم ينتقل من الغزل إلى المفاخرة بنفسه وبقبيلته، ثم إلى التعريض بقبيلة نازعت قبيلته العام الفائت وإلى النيل منها، والتف حول هذا الشاعر المجيد حلقة من أهل السوق تسمع له وتستجيد غزله، فلما انتقل من الغزل إلى الفخر صفق له قوم طربا، وصاح به آخرون إنكارا واستهجانا، أما إذا انتقل إلى التعريض بالقبيلة التي خاصمت قبيلته وإلى النيل منها، فها هي ذي صيحات الطرب وصيحات الإنكار تنقلب نزاعا عنيفا يحرك السيوف في غمودها، فلما أتم الشاعر قصيدته قام شيخ ذو حكمة ودعا القوم إلى السلم، وما زال بهم حتى جنحوا لها.
كان بين الذين يستمعون لهذا الشاعر شاب تجاوز سنه العشرين، ضخم جسيم مديد القامة، تعلو هامته هامات الجمع كله، أبيض اللون تعلوه حمرة تضرب بلونه إلى السمرة، وقد كان ينصت إلى الشاعر إنصات إعجاب يدفعه ليهز رأسه الحين بعد الحين، آية اغتباطه بما سمع وطربه له ودقة تذوقه إياه، لم يشارك الصائحين في صياحهم؛ لأن مفاخرة الشاعر بقبيلته لم تعنه، وتعريضه بالقبيلة الأخرى لم يعنه كذلك؛ فهو ليس من هذه القبيلة ولا من تلك، بل لعل القبيلتين كانتا بعيدتين عن موطنه بعدا زاده انصرافا عن أمرهما إلى المتاع بجمال الشعر الذي يسمعه، وأتم الشاعر قصيدته فأقام الفتى ينصت لما يقول الحكيم، فلما جنح القوم للسلم انصرف يتقدم جماعة من أصحابه مسرعا في مشيته حتى لقد شق على تابعيه أن يلحقوا به، ذلك لأنه كان أروح في رجليه سعة فلا يعرف في المشي بطئا، وكان أصحابه يحادثونه علهم يستوقفونه فلا يفوتهم بسعة خطوه، واتصل هذا الحديث متنقلا من الحوار الهادئ إلى جدل فيه عنف وشدة، عند ذلك وقف الشاب، وقد احمرت عيناه وبدت عليه أمارات الغضب، فنفخ وفتل شاربه الطرير وقال: بهذا الفتى تخوفوني! لست للخطاب إن لم أصرعه لأول ما ألقاه!
واندفع في طريقه أكثر إسراعا، حتى كانت خطوات أصحابه من خلفه أدنى إلى الهرولة منها إلى السير، فلما بلغوا حلقة المصارعة المنصوبة في جانب من عكاظ ألفوا فتيانا أشداء مفتولي العضل يشهدون أحدهم جاثما على صدر صاحبه وقد ألقاه إلى الأرض صريعا، وما لبث القوم حين رأوا عمر بن الخطاب يسير إليهم أن فسحوا له طريقا، وقام المتصارعان فوقفا مع النظارة وأيقنا أن عمر لم يجئ شاهدا، وإنما جاء مصارعا، وأدار عمر بصره في الحاضرين ولا يزال الغضب آخذا منه، فلما صادف الفتى الذي دار عنه الحديث بينه وبين أصحابه دعاه لينازله، وابتسم الفتى وتقدم حتى توسط الحلقة، وهو أشد ما يكون اطمئنانا إلى نفسه وثقته بقوته ومقدرته، إنه لم يصارع عمر من قبل، فهذه أول مرة جاء فيها مع قبيلته إلى عكاظ؛ لكنه لم يغلب مرة منذ جاء، حتى لقد هابه الأقران وحسبوا حسابه، وكان يقرب عمر طولا وجسامة، وتقدم إليه عمر يصاوله، وحاول الفتى البدوي أن يصرع عمر، وأبدى من ضروب المهارة في النزال ما جعل النظارة يتكاثرون ويزداد عددهم إلى ما لم يألفه أحد من قبل، وأقبلت فتيات كن على مقربة من المكان سمعن اسمي المتصارعين، فحرصن أن يرين ما سيكون منهما، فقد عرفن، كما عرف الناس في الأعوام التي خلت، أن ابن الخطاب لا غالب في المصارعة له، فلما أقبل هذا البدوي وصرع كل الذين صارعوه، رجا أهل عكاظ جميعا أن يصارع ابن الخطاب، وراهن بعضهم بعضا لأي الفتيين يكون الغلب، فلما دعا عمر صاحبه للمصارعة سرى النبأ في السوق كلها مسرى البرق، وأقبل كل من لم يمسكه عمله، يريد أن يأخذ من هذا المشهد نصيب، وترك عمر صاحبه زمنا يحاوره ويحتال ليصرعه، وهو منه في موقف المدافع، لا يبذل من الجهد ما يبذل البدوي البارع، فلما أحس به هاضه الجهد انقض عليه فركب أكتافه وألقاه على الأرض صريعا، وضجت الحلقة بذكر عمر ومقدرته، وتذاكر شهودها سابق فعاله في مثل هذه المواقف، ولم تكن الفتيات والنساء أقل من الرجال والفتيان إشادة بالفتى القرشي النبيل ذي الأيد.
بدأت الشمس بعد قليل تنحدر إلى المغيب، وبدأ النظارة ينصرفون كل إلى مقصده، وصار عمر يجوس خلال السوق وأصحابه من حوله يبدون من الإعجاب به ما يكافئهم عنه بابتسامة قلما كانوا يرونها مرتسمة على محياه، وهو لم يكن يخص أصحابه بهذه الابتسامة؛ فقد كان يرى أبصار من يمر بهم شدت إليه وهم أشد من أصحابه إعجابا به، ويرى فتيات يشرن إليه ويتهافتن يردن أن يحظين منه بنظرة رضا عنهن أو هوى لحسن المليحة منهن، فيبعث ذلك إلى نفسه من أسباب الرضا ما تعبر هذه الابتسامة عنه.
وجن الليل فمال في أصحابه إلى ملهى قام على حافة السوق، تنفسح البادية من ورائه إلى مدى الأفق، وتخير عمر أدنى مكان من البادية فجلس فيه بعد أن أهدى تحية المساء لمن مر بهم من معارفه الكثيرين الذين ردوا تحيته بأحسن منها، وأضافوا من عبارات الإعجاب به والثناء عليه ما أعجبه، وأقبلت خمارة هيفاء تتهادى وكل نظرها إلى الفتى الظافر، وقد طوقت ثغرها ابتسامة بدت من خلالها ثناياها الغر العذاب، وأبدى عمر في حديثه إليها سماحة لم يبدها منذ أقيمت السوق، فلم تأب أن تتيه دلا عليه، وبعد هنيهة عادت أدراجها ثم كرت راجعة تحمل الخمر المعتقة لهؤلاء الشاربين الأوفياء الذين لم يقضوا من ليالي السوق ليلة في غير حانتها، وكان عمر بين أصحابه يشرب بالكبير، ويشرب سائرهم بالصغير، وتقدم الليل والفتيان يشربون ويسمرون، ينتقل بهم الحديث من الجد إلى المجانة، ومن الغزل بالنساء إلى ركوب الخيل، ومن أيام العرب إلى أنسابها، وعمر يفيض في ذلك كله إفاضة عليم حلت الخمر عقدة لسانه، وزاده الظفر بصاحبه البدوي إقبالا على الحديث واسترسالا فيه، وفيما يتذاكرون فارسا رأوه ضحى يركب جوادا ينهب به الأرض، صاح عمر: واللات والعزى لقد خلتني إياه إعجابا بقدرته على رياضة جواده!
وابتسم صاحبه الذي حاوره من قبل في أمر البدوي المصارع وقال: تغفر العزى لابن عمك زيد بن عمرو قوله:
فلا العزى أدين ولا ابنتيها
Halaman tidak diketahui
ولا صنمى بنى طسم أدير
أربا واحدا أم ألف رب
أدين إذا تقسمت الأمور!
وتجهم عمر لما سمع من ذلك قال: تبا له! ولا غفرت العزى كفرانه! خيرا فعل الخطاب إذ أخرج ابن أخيه من مكة ومنعه من أن يدخلها منذ فارق ديننا، وعادى أوثاننا، وصبا يلتمس إلها عند اليهود والنصارى، فلم يظفر من هؤلاء ولا من أولئك بخير فزعم أنه على دين أبيه إبراهيم، ولو أن الخطاب ترك لي أمره لصرعته فأوردته حتفه.
وينتقل الحديث من بعد إلى شئون أدعى إلى طمأنينة النفس، وإن القوم لفي سمرهم إذا طرقت سمعهم أصوات ناعمة لعذارى خرجن من مضاربهن إلى فسحة البادية ينعمن فيها بأسرار الليل أو يقضين فيها بعض شأنهن، وأمسك عمر عن الحديث وكأنما لعبت هذه الأصوات بفؤاده، فلما رآه أصحابه أمسك أجالوا فيه أبصارهم، فإذا هو يهم بالقيام ويقول: سأدعكم هنيهة لبعض شأني وسرعان ما أعود، وابتسموا، فصاحبهم صاحب نساء كما أنه صاحب خمر، وقصد عمر إلى ناحية الصوت الناعم، فسمع غانية تقول لصاحباتها: هذا عمر يقدمنا؛ فلنخيل إليه أننا نفر منه كي لا يصرعنا، فلما اقترب منهن تظاهرت كل بالفرار إلى ناحية، ولم تبق إلا هاته الغانية أسقطت خمارها، وزعمت أنها تصلحه، وعرفها ابن الخطاب صاحبته التي لقيها منذ أيام، فسعد معها بأحلى سويعات عكاظ هذا العام، وأدركت صاحباتها حيلتها فتعالت أصواتهن بضحكات السخط والسخر والغيرة، وعاد عمر إلى أصحابه على موعد منها، ولم يطل به المقام حتى نقد الخمارة قدر ما شربوا، ثم انصرف عن أصحابه إلى حيثما اتفق.
كان النهار ضحى حين لقي عمر أصحابه كرة أخرى، وقد تذكروا مصارعة أمس وما أبدى عمر فيها من مهارة، وتمنوا لو أن عمر صارع صاحبه كرة أخرى حتى يصرعه، فلا تقوم لهذا البدوي من بعد في ميدان المصارعة قائمة، وخالهم عمر ورأى في قولهم ما لا تقره الشهامة، إنه الفائز، فإذا أراد صاحبه أن يثأر لنفسه فلن يتردد في مصاولته، لكنه لن يبدأ بالدعوة إلى هذه المصاولة ولن يتحداه، والسوق بعد موشكة على ختامها، فبعد ثلاثة أيام ينصرف الناس عن عكاظ إلى مجنة ليتجهزوا للطواف بالبيت، فتقدم كل قبيلة هديها قربانا لصنمها، فإذا نحر الناس ذهبوا إلى ذي المجاز يتروون منه لصعود عرفات، وفي الأيام الثلاثة التي تسبق مجنة يشغل الناس بالتجهز للحج عن كل مصارعة أو مصاولة.
وانقضت ثلاثة الأيام وقد أذعن الفتى البدوي لما أصابه؛ إذ رأى ابن الخطاب قرنا لا يقهر، وتجهز الناس للانصراف من عكاظ، فكان عمر أسبقهم إلى هذا التجهز: دعا غلامه فأتاه بجواده حين أضحى النهار، ورأى شبان من نبلاء القبائل المختلفة هذا الجواد، فأعجبوا بلونه الأدهم وأذنيه الصغيرتين ورأسه المترفع وساقيه الدقيقتين وبطنه الضامر، وكأنما أدركت بعضهم الغيرة لما رأوا من اعتزاز عمر بنفسه وبجواده، اعتزازا فيه صلف وغلظة، فدعوه للسباق، فإذا فرغوا من السباق استراحوا ثم انحدروا إلى مجنة بعد أن تكسر القيلولة.
وقبل عمر دعوتهم، فدعوا فجيئوا بجيادهم، وساروا جميعا إلى فسحة البادية، فاختاروا حلبة سباق فيها، وامتطى كل جواده ودفعه حين أشار المشير، فإذا عمر وجواده كأنهما قطعة واحدة لا يدري الشاهد أهي تنهب الأرض أم تلقي في يد الريح التراب، ولم يكن إعجاب أهل السوق بفوز عمر في السباق دون إعجابهم بفوزه في المصارعة، ولم يقف أمر الفتيات عند الإعجاب به؛ فقد أخذ منهن بمجامع القلوب وملك عليهن كل الجوارح، وكانت صاحبته التي أمتعته بأحلى سويعات عكاظ هذا العام تبتسم بينهن ابتسامة زادتهن غيرة، وجعلتهن يرمقنها من عيونهن العربية الجميلة بنظرات لعلها بعض ما عناه عمر بن أبي ربيعة حين قال:
حسدا حملنه من أجلها
وقديما كان في الناس الحسد
Halaman tidak diketahui
وأفاض الناس من عكاظ إلى مجنة ثم إلى ذي المجاز، فقضوا المناسك لأصنامهم، ورجعت كل قبيلة منهم إلى مقامها من شبه الجزيرة.
واستدار العام وجاء موسم عكاظ، فكان لعمر فيه مثل ما كان له في العام الذي سبقه، وظل ذلك شأنه عدة سنوات.
ثم إنه تأخر عاما عن مفتتح السوق، فافتقده الناس وتساءلوا عن سبب تخلفه، وزاد تساؤلهم أنه كان قد بدأ يزاول التجارة ويشتغل بها، وكيف لتاجر له من المكانة ما لعمر أن يغيب عن سوق العرب العامة ومعرضهم السنوي الأكبر! لكنهم عرفوا أنه اضطلع بالمهمة التي كان يضطلع بها آباؤه من قبيلة عدي بن كعب، مهمة السفارة بين قريش وغيرها من القبائل كلما حدث بينهم خلاف، وأن هذه المهمة وكلت إليه في أمر ذي بال جد بين إحدى قبائل قريش وجماعة ثقيف، ولشد ما اغتبط أهل السوق جميعا حين علموا أن عمر جاء إليهم ليقضي معهم ما بقي من أيام السوق، وأنه أتم سفارته على خير حال، جاء ممتطيا جواده الأدهم، فبدأ يباشر تجارته وكانت قد سبقته، ثم لم تثنه مباشرتها عن المصارعة، ولم يزعزع ما له من شهرة بين أصحابه أنه صاحب خمر وصاحب نساء.
وبعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بعد هذا العام، ثم أذاع في الناس رسالته، فانبرى له عمر يحاربه بحمية الشباب والفتوة حربا جاهلية عنيفة أشد العنف، فإذا جاء إلى عكاظ، وجلس إلى الناس وصادف حديثهم سيرة الرجل الذي قام في قريش يدعوها إلى نبذ الأصنام وعبادة الواحد الأحد، هاج عمر وماج، وأطلق لسانه في محمد، وعابه بما فرق من كلمة قريش وبما صبأ عن دين آبائه وأجداده، ولقد كان الغضب يبلغ منه لخروج محمد على قومه، فلا يحجم عن التهديد بقتله لولا منع بني هاشم له وما يجره هذا القتل من ثارات لا قبل لمكة بها.
وظل ذلك شأنه حتى أسلم، فصار يدافع عن دين الله وعن رسول الله بمثل الحمية التي كان يحاربهما بها قبل إسلامه.
هذه صورة من شباب عمر بن الخطاب، ترتسم أمامك واضحة تمام الوضوح كلما ازددت إمعانا في قراءة كتب التاريخ الإسلامي قديمها وحديثها، فإذا أردت أن تعود إلى ما قبل شبابه لم تجد في هذه الكتب ما يعينك على رسم صورة من طفولته وصباه في هذا الوضوح، وإن أسعفتك في أمره بخير مما تسعفك في أمر الكثيرين ممن عاصروه.
فهو من قبيلة عدي بن كعب، وهي قبيلة عدنانية من قريش، انتهى إليها الشرف كما انتهى إلى عشرة رهط من عشرة أبطن في مقدمتها هاشم، وأمية، وتيم، ومخزوم، على أن عديا لم تبلغ من المكانة في مكة قبل الإسلام ما بلغه بنو هاشم وبنو أمية؛ فلم يكن لها من مناصب مكة الدينية أو الزمنية، ولم يكن لها من الثروة ما لهم، مع ذلك كانت تنافس بني عبد شمس الشرف، وتحاول أن تبلغ مكانتهم، وظل هذا التنافس ممتدا على الأجيال، حتى اضطر بنو عدي في حياة الخطاب بن نفيل والد عمر إلى الجلاء عن منازلهم القائمة عند الصفا والانحياز إلى قبيلة بني سهم والمقام في جوارهم، وقد حفز هذا التنافس أجداد عمر، فكانوا، على قلة عددهم وعلى ضعف مكانتهم من القبائل الكبرى، ذوي دراية وعلم وحكمة.
وقدمهم علمهم وقدمتهم حكمتهم إلى مكان السفارة والحكم في المنافرات، فكانوا المتحدثين عن قريش إلى غيرها من القبائل فيما ينجم من خلاف يتسنى حسمه بالمفاوضة، وكانت حكومتهم ترضى في المنافرات، وكانوا ذوي بلاغة وحسن عبارة، وقد أدت بهم الحكمة إلى أن ظهر بينهم زيد بن عمرو أحد من اعتزلوا عبادة الأوثان وامتنعوا من أكل ذبائحها، ثم كان بينهم عمر بن الخطاب، وحسبك به فخرا لقبيلة ينتمي إليها.
Halaman tidak diketahui
هذه قبيلة عمر، أما أبوه فهو الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب، وعدي هو أخو مرة الجد الثامن للنبي، فأما أمه فحنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم.
وقد كان الخطاب شريفا في قومه، لكنه لم يكن ذا مال ولا خدم. كتب عمر إلى عمرو بن العاص وهو على مصر كتابا يسأل فيه عن أصل المال الذي جمعه بها؛ فغضب ابن العاص وكان مما أجاب فيه: ... ووالله لو كانت خيانتك حلالا ما خنتك وقد ائتمنتني؛ فإن لنا أحسابا إذا رجعنا إليها أغنتنا عن خيانتك، وذكرت أن عندك من المهاجرين الأولين من هو خير مني، فإذا كان ذلك فوالله ما دققت لك يا أمير المؤمنين بابا ولا فتحت لك قفلا.
وبلغ الغضب من ابن العاص لكتاب عمر أن قال لمحمد بن مسلمة حين ذهب إليه من قبل عمر يحاسبه: ... لعن الله زمانا صرت فيه عاملا لعمر! والله لقد رأيت عمر وأباه على كل واحد منهما عباءة قطوانية
1
لا تجاوز مأبض ركبتيه، وعلى عنقه حزمة حطب، والعاص بن وائل في مزررات الديباج.
فقال له محمد:
إيها عنك يا عمرو! فعمر خير منك، وأما أبوك وأبوه فإنهما في النار ...
وكان الخطاب فظا غليظا، مر عمر في خلافته يوما بمكان كثير الشجر يقال له ضجنان، فقال:
لقد رأيتني وإني لأرعى على الخطاب في هذا المكان، وكان والله ما علمت فظا غليظا.
وفي رواية الطبري أن عمر لما مر في خلافته بضجنان قال:
Halaman tidak diketahui
لا إله إلا الله المعطي ما شاء من شاء! كنت أرعى إبل الخطاب في مدرعة صوف، وكان فظا يتعبني إذا عملت، ويضربني إذا قصرت، وقد أمسيت وليس بيني وبين الله أحد ...
ثم تمثل بأبيات من الشعر.
2
ولم يكن الخطاب يتزوج من النساء لشهوة، بل ليكثر ولده؛ فقد كانت كثرة الولد بعض ما تفاخر به العرب، وأنت تذكر أن عبد المطلب جد النبي عليه السلام أحس قلة حوله في قومه لقلة أولاده، فنذر إن ولد له عشرة بنين ثم بلغوا معه أن يمنعوه لينحرن أحدهم لله عند الكعبة، وقد ذكرنا أن بني عدي كانوا يحسون قلة حولهم لقلة عددهم، ولذلك أجلاهم بنو عبد شمس عن منازلهم عند الصفا، فلا عجب أن يلتمس الخطاب كثرة الولد يمتنع بها ما استطاع.
وكان الخطاب رجلا ذكيا، موفور الاحترام في قومه، شجاعا يخوض المعارك على رأس بني عدي في جرأة وثبات جنان، اشتركت بنو عدي في حرب الفجار، فكان على رأسها زيد بن عمرو بن نفيل والخطاب بن نفيل عمه وأخوه لأمه؛ ذلك أن نفيلا كان على جيداء فولدت له الخطاب وعبدنهم، ثم مات نفيل فتزوج ابنه عمرو زوجته جيداء، وكان من أم غيرها، وقد كان هذا نكاحا ينكحه أهل الجاهلية، وولدت جيداء لعمرو زيد بن عمرو، فكان للخطاب أخا وابن أخ،
3
وتقارب الرجلين في السن هو الذي جعلهما على رأس قومهما في حرب الفجار.
ولما اعتزل زيد بن عمرو عبادة الأوثان وامتنع من أكل ما يذبح لها، جعل يقول لقومه: «أيرسل الله قطر السماء، وينبت بقل الأرض، ويخلق السائمة فترعى منه وتذبحوها لغير الله! والله ما أعلم على ظهر الأرض أحدا على دين إبراهيم غيري!» ثم قال الشعر يدعو إلى نبذ عبادتها،
4
عند ذلك خاصمه الخطاب واشتد في خصومته وألب عليه جماعة من قريش أخرجوه من مكة ومنعوه أن يدخلها، وكان الخطاب أشدهم في ذلك وأقساهم عليه.
Halaman tidak diketahui