عرفت بوران ما حل بجابان، وعرفه رستم، فأمر الجالينوس أن يسير لنصرة زملائه وأن يلحق نرسي بكسكر، وفصل الجالينوس يغذ السير إلى غايته، لكن أبا عبيد كان أسرع منه سيرا، فإنه ما لبث حين هزم جابان أن أمر جنده بالسير لمواجهة نرسي، ولاقوه والمنهزمين الذين فروا إليه من النمارق بمكان يدعى السقاطية على مقربة من كسكر، وذلك قبل أن يصله الجالينوس، ولم يثبت نرسي للمسلمين أكثر مما ثبت جابان، ففر في جنده تاركا لعدوه مغانم كثيرة، وعرف أبو عبيد أن الجالينوس في جنده قد بلغ قرية بارسما فواجهه وهزمه، ففر كما فر نرسي في المنهزمين حتى بلغوا المدائن .
ووجه أبو عبيد قواده، والمثنى في مقدمتهم، فاحتلوا سواد العراق من أعلاه إلى أسفله، وأذاعوا الرعب في الناس، وأعادوا إلى ذاكرتهم أيام خالد بن الوليد وفعاله، ورجع الدهاقين إلى أبي عبيد يصالحونه ويعتذرون عما كان منهم في ممالأة الفرس على العرب، ويذكرون أنهم غلبوا على أمرهم، فلم يكن لهم فيما حدث نهي ولا أمر، ولما أتم أبو عبيد الصلح معهم جاءوا بآنية فيها ألوان من طعام فارس الشهي وقالوا: هذا قرى لك وكرامة أكرمناك بها، قال: أكرمتم الجند بمثله وقريتموهم؟! قالوا: لا! فرده وقال: «لا حاجة لنا فيه! بئس المرء أبو عبيد إن صحب قوما من بلادهم وأهراقوا دماءهم دونه، أو لم يهريقوها، فاستأثر عليهم بشيء يصيبه! لا والله لا يأكل مما أفاء الله عليهم إلا مثلما يأكل أوساطهم!» ولم يأكل من طعام أتى به الدهاقين غداة ذلك اليوم حتى علم أنهم قربوا مثله لأصحابه.
أفاء الله على المسلمين بعد غزوة السقاطية مغانم كثيرة، بينها من الأطعمة مقادير عظيمة، فلم يفرحوا منها بشيء فرحهم بلون من التمر يدعى النرسيان كان ملوك فارس يحبونه، وقد اقتسموه بينهم وجعلوا يطعمون منه الفلاحين، ثم بعثوا بخمسه إلى عمر بالمدينة وكتبوا له: «إن الله أطعمنا مطاعم كانت الأكاسرة يحبونها، وأحببنا أن تروها لتذكروا إنعام الله وإفضاله.»
وعاد المثنى ودخل الحيرة واستقر بها وكله الرجاء أن يستتب له الأمر فيها كما استتب لخالد بن الوليد من قبل، فقد ظل خالد بها سنة كاملة لم يجرؤ جيش من جيوش فارس على التصدي له في أثنائها، ترى أيواتي الحظ المثنى ما واتى خالدا، فيقيم بالحيرة زمنا ثم يفتح المدائن؟ كان ذلك كله أمامه، وكان له في تحقيقه أكبر الرجاء.
لكن أمله سرعان ما ذوى، فقد عظم على رستم، وفيه من الطموح والكبرياء ما ذكرنا أن تنهزم جيوش فارس أمام هؤلاء الأجلاف من العرب، فسأل خاصته: «أي العجم أشد على العرب فيما ترون؟» وأجابوه: «إنه ذو الحاجب بهمن جاذويه.» فدعاه إليه ووجهه على قوة عظيمة، ورد الجالينوس معه وقال له: إن عاد لمثل ما فعل فاضرب عنقه، وليظهر للناس مبلغ عنايته بالموقف وحرصه على رفع ما أنزل المسلمون بجند فارس، جعل في مقدمة الجيش راية كسرى، وكانت من جلود النمر، عرضها ثماني أذرع وطولها اثنتا عشرة ذراعا؛ وسار بهمن من المدائن يقصد مواجهة عدوه والقضاء عليه.
وتراجع أبو عبيد وجنوده إلى قرية قس الناطف، فعبروا النهر إليها، وتحصنوا ينتظرون عدوهم بها، وأقبل بهمن عليهم فلم يكن إلا النهر بينه وبينهم، ثم بعث إلى أبي عبيد يقول له: «إما أن تعبروا إلينا وندعكم والعبور، وإما أن تدعونا نعبر إليكم.» وأشار أصحاب أبي عبيد ألا يعبر، وأن يدع الفرس يعبرون، لكن أبا عبيد أخذته العزة فقال: «لا يكونوا أجرأ على الموت منا، بل نعبر إليهم!» فناشده سليط بن قيس ووجوه الناس وقالوا: «إن العرب لم تلق مثل جنود فارس مذ كانوا، وإنهم قد حفلوا لنا واستقبلونا من الزهاء والعدة بما لم يلقنا به أحد، وقد نزلت منزلا لنا فيه مجال وملجأ ومرجع من فرة إلى كرة.» فقال: «لا أفعل! جبنت والله إذن وجبن سليطا.» فرد عليه سليط بقوله: «أنا والله أجرأ منك نفسا، وقد أشرنا عليك بالرأي فستعلم.»
من عجب أن يقف أبو عبيد من أصحابه هذا الموقف، وأن ينسى نصيحة عمر إياه أن يستشير أصحاب رسول الله، وأن يشركهم في الرأي معه، وأن يقيم لرأي سليط وزنه، وأعجب من ذلك أن ينسى قول عمر: «إنك تقدم على أرض المكر والخديعة والخيانة، تقدم على قوم قد جرءوا على الشر فعلموه، وتناسوا الخير فجهلوه.» وألا يذكر أن الخليفة أمره ولم يؤمر سليطا؛ لأن الحرب لا يصلحها إلا الرجل المكيث، وسليط سريع إلى الحرب، وفي التسرع إلى الحرب ضياع إلا عن بيان، لكنها الأقدار تنسي البصير بصره، والحكيم حكمته، ومن يدري! فلعل مشورة سليط بألا يعبر المسلمون النهر إلى الفرس زادت أبا عبيد عنادا وتشبثا برأيه، ولذلك أمر جنوده بالعبور فعبروا من المروحة حيث تحصنوا، إلى قس الناطف حيث أقام الفرس ، وعبر سليط بن قيس في مقدمة العابرين.
كان جند المسلمين دون عشرة الآلاف، مع ذلك ضاق بهم المكان الذي تركه لهم الفرس وراء الجسر، فلم يكن لهم فيه مرجع من فرة إلى كرة، ولم يمهلهم بهمن حين تم عبورهم أن أمر جنوده فحملوا عليهم، وفي مقدمتهم الفيلة عليها الجلاجل، ونظرت خيل المسلمين إلى هذه الفيلة وسمعت رنين جلاجلها، فأنكرت ما رأت وما سمعت، وفرت فلم يثبت منها إلا القليل على كره، ورشق الفرس المسلمين بالنبل فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وحز الألم في نفوس المسلمين لما أصابهم وألا يصلوا إلى عدوهم، ورأى أبو عبيد أن صفوفه توشك أن تضطرب؛ فترجل وترجل جنوده، ومشوا إلى الفرس فصافحوهم بالسيوف فقتلوا منهم ستة آلاف، فاشتد بذلك ساعدهم، لكن الفيلة تقدمت إليهم فجعلت لا تحمل على جماعة إلا دفعتهم، ونادى أبو عبيد رجاله أن يقطعوا بطن هوادج الفيلة وأن يقلبوا عنها أهلها وأن يقتلوهم، ففعلوا فلم يتركوا فيلا إلا قلبوا راحلته وقتلوا أصحابه، بذلك تداول الفريقان التقدم والتراجع، فكانت المعركة سجالا بينهما ساعات من النهار.
كان أبو عبيد شديد الحرص على أن ينتصر ذلك اليوم، وزاده حرصا ما كان من مخالفته سليط بن قيس والذين أشاروا عليه ألا يعبر الجسر إلى عدوه، فلو أن النصر تم للفرس لركبه عار الهزيمة وحده، ولكان هذا العار مسبة الدهر له؛ لذلك كان مضطرب النفس تتداوله الانفعالات كلما تغير مصير المعركة؛ يغتبط ما رأى الفرس يتراجعون، فإذا تقدموا ملكته خشية العار ودفعته للمغامرة، وقد اطمأن حين قلب جنوده عن الفيلة أهلها فلم يبق عليها من يقودها، لكنه رأى على مقربة منه فيلا أبيض عظيما يضرب بخرطومه يمنة ويسرة فيشتت المسلمين من حوله، وكأنه بطل بارع يعرف مواقع ضرباته، وأيقن أبو عبيد أن قتل هذا الفيل يقوي روح المسلمين ويضعضع روح الفرس، فتقدم إليه فضرب خرطومه بسيفه، وهاج حر الضربة هائج الفيل، فتقدم إلى أبي عبيد فضربه برجله فألقاه على الأرض، ثم وقف فوقه فأزهق روحه، وكان أبو عبيد قد أوصى إن مات أن يتأمر مكانه على التعاقب سبعة من قومه بني ثقيف سماهم بأسمائهم، فلما رأى أولهم ما حل بأميره أخذ اللواء مكانه، وقاتل الفيل حتى تنحى عن أبي عبيد، فجر جثته إلى المسلمين ثم عاد يحاول قتل الفيل، لكنه لقي حتفه كما لقي أبو عبيد حتفه، وتتابع الثقفيون السبعة كل منهم يأخذ اللواء فيقاتل حتى يموت،
1
Halaman tidak diketahui