وأشركهم في الأمر، ولا تجتهد مسرعا حتى تتبين، فإنها الحرب، والحرب لا يصلحها إلا الرجل المكيث الذي يعرف الفرصة والكف.
هذه مشكلة معقدة ألهم الله عمر فيها الرأي، فحلها في أربعة الأيام الأولى من خلافته، ثم لم يصرفه اشتغاله بها عن التفكير في المشاكل الأخرى القائمة أمامه، فقد فكر في أمر الشام، وفي أمر نصارى نجران، وفي سائر الأمور التي كان يرى فيها غير رأي أبي بكر، وفكر في الخطة التي يجب أن يسير عليها لينفذ رأيه ويجمع المسلمين حوله، وكان حين تنفيذه رأيه في هذه المشاكل صريحا كعهد المسلمين به، حازما غاية الحزم، لا يعرف التردد ولا المداراة، ولا يأبى أن يحمل التبعة كاملة؛ لأنه كان يؤمن بأنه على الحق، وأن الله مؤيده لذلك لا محالة.
لقد عرف الناس جميعا سوء رأيه في خالد بن الوليد، وحرصه في حادث مالك بن نويرة على أن يقيد أبو بكر منه، ولم يتغير رأي عمر في خالد من بعد هذا الحادث، وقد فصل خالد من العراق إلى الشام بأمر أبي بكر وولي الإمارة على قوات المسلمين فيه، ثم قضى به أكثر من شهر فلم يتغلب على قوات الروم، بل لم يواجههم، أية فرصة خير من هذه لعزل خالد عن إمارة الجيش ورد هذه الإمارة إلى أبي عبيدة! وهذا ما فعل عمر، فقد كتب إلى أبي عبيدة غداة قبض أبو بكر، يخبره بوفاة الخليفة، ثم كتب بعزل خالد وتولية أبي عبيدة إمارة الجيش مكانه، وأن يكون خالد أمير اللواء الذي كان أبو عبيدة أميره، وبعث بوفاة أبي بكر مع يرفأ مولاه، وبعزل خالد وإمارة أبي عبيدة مع محمية بن زنيم وشداد بن أوس، وأوصى أبا عبيدة في كتاب توليته بقوله: «لا تقدم المسلمين إلى هلكة رجاء غنيمة، ولا تنزلهم منزلا قبل أن تستر يده لهم وتعلم كيف مأتاه، ولا تبعث سرية إلا في كثف من الناس، وإياك وإلقاء المسلمين في هلكة! وقد أبلاك الله بي وأبلاني بك، فغمض بصرك عن الدنيا وأله قلبك عنها، وإياك أن تهلك كما أهلكت من كان قبلك فقد رأيتم مصارعهم !»
كيف غامر عمر بعزل خالد وخالد على رأس قوات المسلمين بالشام، وهذه القوات في موقف دقيق! فقد كانوا هناك بإزاء الروم لا يواجهونهم ولا يقدرون من أمرهم على شيء، ولا يقدر الروم من أمر المسلمين على شيء، كان ذلك موقفهم قبل أن يذهب خالد بن الوليد من العراق إليهم، ثم ظلوا فيه بعد أن أقدم خالد بينهم، كان كلا الفريقين يتحين الفرصة التي يخرج فيها من جموده، ويوقع فيها بعدوه، أفلا يخشى الخليفة أن يفت أمره بعزل خالد من أعضاد المسلمين فيزيد موقفهم دقة؟ أولم يكن الأجمل به أن يتريث حتى يخرج خالد بالمسلمين من المأزق الذي هم فيه، وله بعد ذلك أن يأمر بما يشاء؟!
هذه اعتبارات لها من غير شك قيمتها في تطور القتال، وسنرى من بعد أن أبا عبيدة قدرها قدرها دون أن يخشى برم الخليفة به، أو غضبه عليه، لكن عمر نظر في الأمر من غير هذه الناحية، فلو أنه أرجأ الأمر بعزل خالد إلى ما بعد المعركة لأضر ذلك بسياسته وأفسد عليه خطته، فليس للمعركة مصير إلا أن ينهزم المسلمون فيها أو ينتصروا، فإن انهزموا لم يغن عزل خالد عن هزيمتهم، وإن انتصروا وخالد قائدهم لم يكن لعمر أن يعزل قائدا في أوج نصره، فإن فعل أتى أمرا إدا، وعمر حريص على ألا يبقى خالد على القيادة العامة بالشام أو بغير الشام؛ لذلك أسرع فأصدر الأمر بعزله، وله من العذر أن خالدا لم يحقق ما ندبه أبو بكر لتحقيقه، فإذا انتصر المسلمون بعد هذا فلا تثريب على عمر فيه، فهو إنما صنع ما اقتنع بأنه الحق، وصنعه وخالد في موقف لا يظلمه فيه من يأمر بعزله.
يتساءل الناس إلى يومنا هذا عن السر في عزل عمر خالدا، وخالد سيف الله على لسان رسول الله، وهو الذي قضى على الردة وفتح العراق، وهو البطل لا يشق غباره، وعبقري الحرب غير منازع، أحقا أن مقتل مالك بن نويرة وتزوج خالد من امرأته قد بقي له من الأثر في نفس عمر ما حمله على هذا التصرف؟ أم خشي عمر أن يفتتن خالد بالناس كما افتتنوا به لانتصاره المتصل في الحرب، وقد يجر افتتانه على الدولة شرا؟ يرى بعضهم هذا الرأي الأخير، ويذكرون أن خالدا رجع إلى المدينة يسأل عمر عما حمله على عزله فأجابه: «ما عزلتك لريبة فيك ولكن افتتن بك الناس، فخشيت أن تفتتن بالناس.» وهذه رواية لا سند لها، فالثابت أن خالدا لم يذهب إلى المدينة بعد عزله، وأنه بقي بالشام يتابع غزواته بإمرة أبي عبيدة حتى عزله عمر عن كل عمله بالجيش في السنة السابعة عشرة من الهجرة. ولا أحسب كذلك أن مقتل مالك بن نويرة كان سبب العزل، فقد انقضت سنتان بين هذا الحادث واستخلاف عمر، وفي هاتين السنتين بلغت عبقرية خالد في القيادة أوجها، وكانت فعاله في غزوة اليمامة وفي حرب العراق حديث الناس جميعا في شبه الجزيرة وفي فارس والروم، وعندي أن عمر إنما عزل خالدا؛ لأن الثقة بين الرجلين لم تكن قائمة قبل خلافة عمر ولا في أثنائها.
ولست أقصد ثقة عمر بعبقرية خالد، أو ثقة خالد بعدل عمر، وإنما أقصد الثقة القائمة على ما يكون للرجل من حسن الرأي في صاحبه حتى ليغضي عن هناته، وحتى لتذهب الحسنة التي يأتيها صاحبه أضعافها من سيئاته، وقد كان عمر يرى في خالد زهوا يدفعه إلى التسرع في الحرب، وإن لم يكن للتسرع مسوغ، وإن خالف به أمر ولي الأمر، وقد دفعه الزهو والتسرع إلى القتال يوم فتح مكة، حين نهى النبي عن القتال، كما دفعه للسير إلى بني تميم وقتل مالك بن نويرة دون إذن من أبي بكر، وكان خالد ينسب كل ما يوجهه الخليفة الأول إليه من لوم إلى تحريض عمر، حتى ليقول حين أمره الصديق بمغادرة العراق إلى الشام: «هذا عمل الأعيسر ابن أم سخلة، حسدني أن يكون فتح العراق على يدي.» وإذا ضاعت الثقة بين رجلين على هذا النحو، لم يكن تعاونهما مستطاعا، وبخاصة إذا كان أحدهما رئيس الدولة والآخر أمير جندها وصاحب لوائها، لا عجب إذن بعزل عمر خالدا حتى لا تكون بينهما صلة مباشرة، بل يكون أبو عبيدة هو الذي يوجه خالدا ويصدر إليه أوامره، وقد كانت الصلة بين خالد وأبي عبيدة صلة مودة وحسن رأي.
قد يعترض على رأينا هذا بأن الخليفة لا يلي أمر الدولة لحسابه، بل لحساب المسلمين جميعا، وكان من الواجب لذلك على عمر أن ينسى ما بينه وبين خالد، وأن يدع سيف الله يمضي لا يشيمه، متأسيا في ذلك بأبي بكر، وما صنع ضاربا المثل للمسلمين في تقدير الرجال بأعمالهم، والسمو بهذا التقدير على الآراء والميول الذاتية، وهذا اعتراض له وجاهته في المنطق النظري لا ريب، لكن وجاهته هذه تتضاءل كل التضاؤل أمام الواقع من أمر هذه الحياة، فنحن معشر الناس، لا نتصرف في شئون الحياة بعقولنا وحدها، بل إن لعواطفنا علينا لسلطانا أي سلطان، وسواء أكان ما نتصرف فيه من خاصة شئوننا أو بعض ما وكل إلينا من شئون غيرنا فإنا نتأثر حين التصرف فيه بشعورنا كتأثرنا بعقولنا، وقد يكون الشعور أكبر من العقل أثرا في اتجاهاتنا، ومن المحال أن نقيم بين حكم الشعور وحكم العقل حدا فاصلا، صحيح أن بعض الناس أكثر تأثرا بشعورهم، وبعضهم أكثر تأثرا بعقلهم، لكن اختلاف الكم لا يغير من تزاوج الشعور والعقل في توجيه أحكامنا، ولا ريب أن قد تأثر عمر بشعوره نحو خالد، ولعله كذلك قد ظن أن خالدا حسده على الخلافة، كما ظن خالد من قبل أن عمر حسده على فتح العراق، والرجلان بالغان غاية القوة كل في ناحيته، فإذا تعارض شعور كل منهما نحو صاحبه على هذا النحو، خيف أن يتصادما، وأن يكون لتصادمهما أثر سيئ في شئون الدولة وفي مصيرها؛ لذلك أخذ عمر الأمر بحزم حاسم لا يعرف هوادة، غير ناظر إليه من ناحية العدل وما يوجبه، بل من ناحية النظام العام ومن ناحية أمن الدولة وسلامتها.
على أن تصرف عمر بعزل خالد لم يكن شذوذا منه، وإن كان الأول من نوعه ، بل كان سياسة جرى عليها مع الولاة والأمراء طيلة عهده، وسنرى من بعد أن مؤاخذة هؤلاء الولاة والأمراء بالشدة كانت من مألوف خطته، وأنه كان يدعوهم إليه، ويحاكمهم عما يبلغه من شكايات، ويعزل من لا يقتنع بدقته وأمانته في أداء عمله، ذلك أنه كان يحرص على تركيز السلطة كلها في يديه، وذلك قوله أول ولايته: «والله لا يحضرني من أمركم شيء فيليه أحد دوني، ولا يتغيب عني فآلو فيه عن الجزء والأمانة، ولئن أحسنوا لأحسنن إليهم، ولئن أساءوا لأنكلن بهم.» إذا اجتمع هذا الرأي في سياسة الدولة إلى ما عرف عن عمر وسوء رأيه في خالد وضياع الثقة والألفة بين الرجلين، تكشف السر في عزل خالد، وتكشف مكان هذا السر من نفس عمر.
عزل عمر خالدا عن إمارة الجيش بالشام وردها إلى أبي عبيدة، لكن ذلك لن يغير من موقف المسلمين بإزاء الروم، ولن يشد أزرهم في قتالهم، بل لعله يؤدي إلى النقيض فتكون الطامة الكبرى.
Halaman tidak diketahui