هذه الصفات التي اجتمعت لعمر مالت به إلى إيثار الخير العام على نفسه وعلى أهله وذويه، وهذا التفكير الذي انتهى به إلى أن يؤمن بسياسة أبي بكر في التوسع بالعراق والشام، جعلت أبا بكر يراه أجدر من يخلفه على سياسة المسلمين، لكن في عمر شدة وغلظة ترغبان بالكثيرين من أولي الرأي عن مودته، وأصحاب الرأي هم أعوان الخليفة في سياسة الدولة، فإذا انقطعت المودة بينه وبينهم لم يسرعوا إلى معاونته بالرأي، فشق عليه أن يسوسهم وأن يسوس الدولة بهم، أفلا يجمل بأبي بكر أن يوازن بين صفات عمر وحسن سياسته وبين ما فطر عليه من غلظة قد تفسد عليه الأمر ثم لا تكافئها سائر مزاياه؟
فكر الصديق في هذا الأمر حين شعر في مرضه بأنه مشف على الموت، أتراه يدع المسلمين يختارون لأنفسهم، فلا يشير عليهم في الأمر برأي ولا يستخلف منهم أحدا، وله أسوة في رسول الله؟! هذا أيسر طريق وأهونه، لكن الصديق ذكر سقيفة بني ساعدة وموقف الأنصار بها، وذكر ما كان موشكا أن يحدث لولا أن جمع الله كلمة المسلمين على بيعته، ولئن اختلف المسلمون حين وفاته ليكونن اختلافهم أجسم خطرا، فلم يبق الأمر دائرا بين المهاجرين والأنصار دون غيرهم بعد أن جاهد العرب ولا يزالون يجاهدون في العراق والشام، يواجهون فارس والروم، فإذا قبض واختلفوا، أدى اختلافهم إلى فتنة قد تثور في بلاد العرب كلها، فتفسد الأمر وتقضي على سياسة التوسع وهو لا يزال في بداءته، فأما إذا استخلف وجمع كلمة المسلمين على من استخلفه فقد اتقى ما يخشى، وإذا كان رسول الله لم يستخلف، فذلك لئلا يظن الناس أن من استخلفه قد استمد الأمر على المسلمين بوحي من عند الله، فأصبح خليفة الله، ولا خوف من مثل هذا الظن إذا استخلف أبو بكر، فجنب المسلمين الاختلاف، وكفل لسياسة التوسع الاستمرار والنجاح، فليفعل! وليكن عمر خليفته! وليجمع كلمة المسلمين عليه! وهو إن استطاع أن يجمعها فذلك التوفيق من الله توفيقا ينصر دينه.
وأصبح فدعا إليه عبد الرحمن بن عوف فسأله عن عمر، فقال: «هو والله أفضل من رأيك فيه من رجل، ولكن فيه غلظة.» قال أبو بكر: «ذلك لأنه يراني رفيقا، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيرا مما هو عليه، ويا أبا محمد قد رمقته فرأيته إذا غضبت على الرجل في الشيء أراني الرضا عنه، وإذا لنت له أراني الشدة عليه.» وانصرف عبد الرحمن، فدعا الخليفة عثمان بن عفان فسأله عن عمر، فقال: «اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله.» وبعد انصراف عثمان شاور أبو بكر سعيد بن زيد وأسيد بن حضير وغيرهما من المهاجرين والأنصار، حريصا على أن يجمع كلمتهم على خلافة عمر، وسمع بعض أصحاب النبي بمشاورات أبي بكر في استخلاف عمر، فأشفقوا من غلظة ابن الخطاب وشدته أن يفرق ذلك كلمة المسلمين، فاجتمع رأيهم على أن يهيبوا بالخليفة ليرجع عن عزمه، واستأذنوا فدخلوا عليه، فقال طلحة بن عبيد الله: «ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا، وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه، فكيف به إذا خلا بهم بعد لقائك ربك؟!» وغضب أبو بكر لما سمع من ذلك وصاح بأهله: أجلسوني، فلما أجلسوه قال، ولا يزال الغضب آخذا منه مأخذه: «أبالله تخوفوني! خاب من تزودكم من أمركم بظلم! أقول: اللهم استخلفت على أهلك خير أهلك!» ثم اتجه إلى طلحة فقال له: «أبلغ عني ما قلت لك من وراءك.»
أشفق أبو بكر من هذا الحديث ألا يكون قد جمع كلمة المسلمين على الرضا بخلافة عمر له، فقضى ليله مؤرقا، فلما أصبح دخل عليه عبد الرحمن بن عوف فبادله التحية، ثم تحدث الصديق وكأنما عناه ما حدث بالأمس فقال: «إني وليت أمركم خيركم في نفسي، فكلكم ورم أنفه من ذلك يريد أن يكون الأمر له دونه.» وأجابه عبد الرحمن: «خفف عليك رحمك الله! فإن هذا يهيضك، إنما الناس في أمرك بين رجلين: إما رجل رأى ما رأيت فهو معك، وإما رجل خالفك فهو مشير عليك، وصاحبك كما تحب، ولا نعلمك أردت إلا خيرا، ولم تزل صالحا مصلحا.»
لم يكتف أبو بكر بمشاروة أولي الرأي من المسلمين وبخاصة بعد أن رأى منهم من خالفه في رأيه؛ لذلك أشرف من حجرة بداره على الناس بالمسجد، فقال يخاطبهم جميعا: «أترضون بمن أستخلف عليكم؟ فإني والله ما ألوت من جهد الرأي، ولا وليت ذا قرابة، وإني قد وليت عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا!» وأجاب الناس: «سمعنا وأطعنا.» عند ذلك رفع يديه إلى السماء وقال: «اللهم إني لم أرد بذلك إلا صلاحهم، وخفت عليهم الفتنة فعملت فيهم ما أنت به أعلم، واجتهدت لهم رأيا فوليت عليهم خيرهم وأقواهم عليهم وأحرصهم على ما أرشدهم.» وسمع الناس دعاءه فازدادت كثرتهم اطمئنانا لما صنع.
ودعا أبو بكر عمر فعهد إليه وأوصاه بمتابعة الحرب في العراق والشام من غير هوادة، وذكره بما يجب على من ولي أمر المسلمين من تحري الحق، وبأن الله ذكر آية الرحمة مع آية العذاب، ليكون العبد راغبا راهبا لا يثني على الله غير الحق، فإن فعل لم يكن غائب أحب إليه من الموت، يحاسبه الله بعده فيثيبه عن الحق واتباعه، فلما فرغ من وصيته خرج عمر من عنده وهو يفكر في هذا الأمر الذي ألقي على عاتقه فود لو أن الصديق برئ من مرضه ليواجه موقفا ما أدقه.
لكنه لم يتردد في قبول ما ألقي عليه متى آن له أن ينهض بتبعته، إنها تبعة عظيمة وعبء جم المتاعب، لكن! من لهذا العبء كابن الخطاب يحمله وينهض به! ولقد حمله عمر بعزم وقوة، فلم يترك هذه الدنيا حتى امتد الفتح الإسلامي فشمل فارس والشام ومصر، وحتى قامت الإمبراطورية الإسلامية على أمتن دعامة وأقوى أساس.
هوامش
الفصل الخامس
عمر يستفتح عهده
Halaman tidak diketahui