1
ومضى قبل الكعبة، والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعا متمكنا، ثم أتى المقام فصلى، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة يقول لهم: شاهت الوجوه! لا يرغم الله إلا هذه المعاطس! من أراد أن يثكل أمه أو يوتم ولده أو يرمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي.»
فابن هشام وابن سعد والطبري لا يثبتون هذه الرواية، بل يذكر ابن هشام في السيرة وابن سعد في الطبقات أن رسول الله أذن للناس في الهجرة، على أن يتركوا مكة متفرقين حتى لا تثور قريش بهم، فجعل المسلمون يخرجون أرسالا، يركب أهل القوة ويعتقبون، فأما من لم يجدوا ظهرا فيمشون، قال عمر بن الخطاب: «فكنت قد اتعدت أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص بن وائل، وكنا إنما نخرج سرا، فقلنا: أيكم ما تخلف عن الموعد فلينطلق صاحباه، فخرجت أنا وعياش بن أبي ربيعة، واحتبس هشام بن العاص ففتن فيمن فتن، وقدمت أنا وعياش فنزلنا قباء.» ثم تذكر الرواية بعد ذلك أن عياشا عاد إلى مكة استجابة لطلب أمه، وأنه حبس هناك ثم فتن فافتتن.
هل تتناقض هاتان الروايتان؟ أم يستطاع التوفيق بينهما بأن عمر تحدى المشركين على ما جاء في الرواية المنسوبة إلى علي بن أبي طالب، ثم هاجر بعد ذلك فخرج سرا على رواية ابن هشام وابن سعد؟ نرجح أن عمر لم يتحد أحدا، وأنه هاجر من مكة في سر من أهلها، وهو لم يفعل ذلك ضعفا منه أو جبنا، فهو لم يعرف الجبن ولا الضعف حياته، لكنه كان رجل نظام، فهو يتبع الجماعة ويحمل غيره على اتباعها، وقد كان المسلمون جميعا يخرجون في هجرتهم سرا فلا عجب أن يجاريهم عمر في ذلك حرصا على نظامهم، وحتى لا يشعر الذين يخرجون سرا بأنهم دون عمر في قوة إيمانه بالله ورسوله.
بلغ عمر قباء، فنزل بها في بني عمرو بن عوف على رفاعة بن عبد المنذر، ونزل أهله على رفاعة معه فلما جاء رسول الله مهاجرا وفي صحبته أبو بكر، كان عمر فيمن استقبله وسار في ركبه إلى المدينة، وعمل عمر مع رسول الله والمسلمين في بناء المسجد وبناء بيت رسول الله، حتى انتقل عليه الصلاة والسلام إليه من بيت أبي أيوب الأنصاري.
كانت الهجرة إلى المدينة بدء عهد جديد وسياسة جديدة في حياة الإسلام والمسلمين، اجتمع الذين هاجروا من مكة إلى الذين أسلموا بالمدينة، فكانوا قوة رفعت صوت المسلمين وأعلت كلمتهم، وأراد رسول الله أن يزيد هذا الصوت رفعة، وهذه الكلمة قوة، بأن يزيد ما بين المهاجرين والأنصار من رابطة، فيضاعف في نفوسهم الشعور بوحدتهم وعزتهم؛ لذلك دعاهم ليتآخوا في الله أخوين أخوين، فكان هو وعلي بن أبي طالب أخوين، وكان عمه حمزة مولاه زيد بن حارثة أخوين، وكان أبو بكر وخارجة بن زيد أخوين، وتآخى كذلك كل واحد من المهاجرين مع واحد من الأنصار إخاء جعل له الرسول حكم إخاء الدم والنسب، وفي هذا الإخاء كان عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك، أخو بني سالم بن عوف بن عمرو بن عوف الخزرجي، أخوين.
2
عززت هذه المؤاخاة مكانة المسلمين بالمدينة فخشي أهل يثرب من المشركين ومن اليهود بأسهم، لذلك لم يتردد اليهود فوادعوا رسول الله، وعقدوا معه عهدا يقرر حرية العقيدة وحرية الرأي وحرمة المدينة وحرمة الحياة وحرمة المال وتحريم الجريمة، وأضعف هذا العهد الذين أقاموا على شركهم من أوس المدينة وخزرجها، كما قوى المسلمين وزادهم بأسا وعزة.
هذه المكانة التي بلغها المسلمون في حياة المدينة العامة قد فتحت لعمر بن الخطاب ميادين لم تكن مفتوحة أمامه بمكة، إنه رجل نظام، ورجل رأي يناضل عنه في سبيل النظام، وقد كان المسلمون بمكة قلة عصمها إيمانها بالله ورسوله فلم تفتن ولم تضعف، متخذة من المقاومة السلبية سلاحها لدفع من يحاول فتنتها عن دين الله، والمقاومة السلبية لا تتفق وطبيعة عمر الثائرة القوية المتحفزة لتحدي من يتعرض لصاحبها؛ لذلك لم يكن بمكة متسع لنشاطه يبدو فيه وتظهر آثاره، أما وقد أصبح للمسلمين في حياة المدينة ونظامها هذا الأثر، فقد آن لعمر أن تظهر شخصيته وأن يكون له في الحياة العامة أثره.
بل لقد بدت في عمر صفات لم تعرف له بمكة: بدا أنه رجل محدث، يلهم الرأي وكأنما حدث بما ظن. لما اطمأن رسول الله بالمدينة كان الناس يجتمعون للصلاة حين مواقيتها بغير دعوة، وأراد رسول الله أن يجعل للمسلمين بوقا كبوق اليهود يدعون به لصلاتهم؛ لكنه كره البوق، فأمر بناقوس يدق ساعات الصلاة كما يدق الناقوس للنصارى، فنحت الناقوس وكلف عمر أن يشتري الغداة له خشبتين، وبينما عمر نائم في داره إذ رأى في المنام: «لا تجعلوا الناقوس، بل أذنوا للصلاة.» فذهب إلى رسول الله يخبره بما رأى فإذا الوحي سبقه به.
Halaman tidak diketahui