184

وهذا أمر يؤسف عليه أشد الأسف؛ فقد كانت الحرية العقلية جوهر الإسلام، والأساس المتين للحياة الإسلامية في عهودها الأولى، وهذه الحرية العقلية هي التي طوعت للمسلمين أن يبلغوا من الرفعة ما بلغوا، وأن تمتد إمبراطوريتهم في أعوام معدودة إلى المدى العظيم الذي امتدت إليه.

وهذه الحرية العقلية التي أقرها الإسلام هي التي زادت العرب اعتدادا بأنفسهم، واعتزازا بكرامتهم وحرصا على المساواة التي كانت سليقة فيهم من بدء نشأتهم، فقد كان العربي في باديته وفي حضره يجعل حياته ثمن حريته، يدفع عنها كل من ينتقص منها، ولا يرضاها إلا كاملة طليقة كالهواء الذي يتنفسه، على أن عقائدهم الوثنية كانت غلا في أعناقهم أثقلهم وقعد بهم عن التطلع إلى مثل أعلى يتوجهون إليه بقلوبهم، ويهبون له حياتهم، فلما حطم الإسلام هذا الغل وأطلق حريتهم العقلية من عقالها انتشروا في الأرض كما رأيت، ثم زادهم الإيمان الصادق بالمساواة والإخاء بين المؤمنين جميعا حرصا على حريتهم وعلى كرامتهم، فلم يكن أحدهم ينزل عنهما أو يفرط فيهما، ولم يكن يرضى من أحد ولا من أمير المؤمنين نفسه أن يمسهما، وظل ذلك شأنهم في القرون الأولى فزادهم قوة وسلطانا، فلما آن للزمن أن يدور دورته، ونزل المسلمون شيئا فشيئا عن الحرية ثم رضوا بالجمود العقلي، دب فيهم دبيب الانحلال، وبدءوا يصدقون أساطير كأسطورة عروس النيل، وحريق مكتبة الإسكندرية بأمر عمر.

هذه الحرية العقلية هي التي مكنت لعمرو بن العاص أن يسوس مصر كما رأيت، وأن يوفق غاية التوفيق في تألف أهلها مع اختلافهم مع العرب في الجنس واللغة والدين، وقد اغتبط عمر بما عرف من ذلك أول الأمر، ثم لم يلبث أن خالف عمرا فيما اتصل من سياسته بتخفيف الضرائب مخالفة بلغت مبلغ المؤاخذة، وكتب إليه في ذلك مرات فلم يغير عمرو من رأيه ولا من خطته، بل أصر على ذلك إصرارا أقام الشبهات في نفس عمر، وهذه الشبهات هي التي جعلت الرجلين يتبادلان من الكتب ما لا يستطاع تصور مثله في العصر الحاضر، وكيف تستطيع أن تتصوره وقد وقف ابن العاص من أمير المؤمنين موقف الند من نده، مع ما يعرفه من شدة عمر على عماله، حتى ليسرع إلى عزلهم متى زايلت نفسه الطمأنينة إلى عدلهم وأمانتهم!

فقد كان عمرو بن العاص حريصا كل الحرص على أن يتألف المصريين وألا يرهقهم وأن يقوم من إصلاح شئونهم بما يرضيه، فكان ينفق من خراج مصر ومن الجزية المضروبة على أهلها ما يحتاج إلى إنفاقه في حفر خلجانها، وإقامة جسورها، وبناء قناطرها وقطع جزائرها، ثم يبعث ما يبقى بعد ذلك إلى أمير المؤمنين، وقد احتاج تعمير البلاد أول الفتح إلى كثير من النفقة، فقد بدأ عمرو أول ما استقر به الأمر، فحفر خليج تراجان - وهو الخليج الذي أطلق عليه من بعد اسم خليج أمير المؤمنين - كما أخذ نفسه بإصلاح ما أفسده الروم من مرافق البلاد، هذا إلى أنه أعفى القرى التي أصابها الخراب من الجباية، وكان عمر في حاجة إلى المال لتنفيذ سياسته في شبه الجزيرة وكان لذلك يلح على عمرو ليبعث إليه بالخراج كاملا، فلا يجد منه إسراعا إلى تلبيته لما يريد تشبثا منه هو أيضا بسياسته، وضاق عمر بذلك ذرعا، فكانت بين الرجلين تلك الكتب العنيفة بلغ عنفها وبلغت شدتها حد الاتهام.

وأول ما يورده المؤرخون من هذه الكتب كتاب من عمر إلى عمرو يقول فيه:

أما بعد، فإني فكرت في أمرك والذي أنت عليه، فإذا أرضك أرض واسعة عريضة رفيعة، وقد أعطى الله أهلها عددا وجلدا وقوة في بر وبحر، وإنها قد عالجتها الفراعنة وعملوا فيها عملا محكما مع شدة عتوهم وكفرهم، فعجبت من ذلك، وأعجب مما عجبت أنها لا تؤدي نصف ما كانت تؤديه من الخراج قبل ذلك على غير قحوط ولا جدوب، ولقد أكثرت في مكاتبتك في الذي على أرضك من الخراج، وظننت أنه سيأتينا على غير نزر ورجوت أن تفيق فترفع إلي ذلك، فإذا أنت تأتيني بمعاريض تبعث بها لا توافق الذي في نفسي، ولست قابلا منك دون الذي كانت تؤخذ به من الخراج قبل ذلك، ولست أدري مع ذلك ما الذي نفرك من كتابي وقبضك، فلئن كنت مجزئا كافيا صحيحا إن البراءة لنافعة، وإن كنت مضيعا نطفا إن الأمر لعلى غير ما تحدث به نفسك، وقد تركت أن أبتغي ذلك منك في العام الماضي رجاء أن تفيق فترفع إلي ذلك، وقد علمت أنه لم يمنعك من ذلك إلا عمالك عمال السوء، وما توالس عليه وتلفف، اتخذوك كهفا، وعندي بإذن الله دواء فيه شفاء عما أسألك عنه، فلا تجزع أبا عبد الله أن يؤخذ منك الحق وتعطاه، فإن النهز يخرج الدر، والحق أبلج، ودعني وما عنه تلجلج، فإنه قد برح الخفاء، والسلام.

هذا كتاب لحمته اللوم وسداه التهديد، فهل تراه أزعج عمرا أو دفعه لأن يعدل عن سياسته؟! كلا! بل أجاب أمير المؤمنين بكتاب جمع إلى الاعتداد بالنفس والاعتزاز بالكرامة، حرصا أصدق الحرص على هذه السياسة، ودفعا للتهمة التي وجهت إليه بلغة لا تقل شدة في لهجتها عن لغة أمير المؤمنين، فقد أجاب كتاب عمر يقول:

أما بعد، فقد بلغني كتاب أمير المؤمنين في الذي استبطأني فيه من الخراج، والذي ذكر فيه من عمل الفراعنة قبلي وإعجابه من خراجها على أيديهم ونقص ذلك منها منذ كان الإسلام، ولعمري قد كان الخراج يومئذ أوفر وأكثر، والأرض أعمر؛ لأنهم كانوا على كفرهم وعتوهم، أرغب في عمارة أرضهم منا منذ كان الإسلام، وذكرت أن النهز يخرج الدر فحلبتها حلبا قطع ذلك درها، وأكثرت في كتابك وأنبت وعرضت وثربت، وعلمت أن ذلك عن شيء تخفيه على غير خبير، فجئت لعمري بالمفظعات المقذعات، ولقد كان لك فيه من الصواب رصين صارم بليغ صادق، وقد عملنا لرسول الله

صلى الله عليه وسلم

ومن بعده، فكنا بحمد الله مؤدين لأمانتنا، حافظين لما عظم الله من حق أئمتنا، نرى غير ذلك قبيحا والعمل به شينا، فيعرف ذلك لنا ويصدق فيه قيلنا، معاذ الله من تلك الطعم، ومن شر الشيم والاجتراء على كل مأثم، فاقبض عملك فإن الله قد نزهني عن تلك النعم الدنية والرغبة فيها بعد كتابك الذي لم تستبق فيه عرضا ولم تكرم فيه أخا، والله يا ابن الخطاب لأنا حين يراد ذلك مني أشد لنفسي غضبا ولها إنزاها وإكراما، وما عملت من عمل أرى علي فيه متعلقا، ولكني حفظت ما لم تحفظ، ولو كنت من يهود يثرب ما زدت، يغفر الله لك ولنا! وسكت عن أشياء كنت بها عالما وكان اللسان بها مني ذلولا، ولكن الله عظم من حقك ما لا يجهل، والسلام.

Halaman tidak diketahui