وليس صحيحا أن مكتبة البطالسة كانت باقية عند فتح العرب مصر؛ فقد أجمع المؤرخون على أن هذه المكتبة احترقت في سنة 48 للميلاد حين ذهب قيصر إلى الإسكندرية فأحيط به في مرفئها، فأحرق السفن التي فيه فامتدت النيران منها فأحرقت المكتبة وأفنتها. يتحدث أميانوس وسيلوس عن «مكاتب الإسكندرية التي كانت لا تقوم بثمن، والتي اتفق الكتاب الأقدمون على أنها كانت تحوي سبعمائة ألف كتاب بذل البطالسة في جمعها جهدا كثيرا، ولقوا في سبيل ذلك عناء كبيرا، وقد أحرقتها النيران في حرب الإسكندرية عندما غزاها قيصر وخربها.» ويقول أورسيوس: «وفي أثناء النضال أمر - قيصر - بإحراق الأسطول الملكي، وكان عند ذلك راسيا على الشاطئ، فامتدت النيران إلى جزء من المدينة وأحرقت فيها أربعمائة ألف كتاب كانت في بناء قريب من الحريق، فضاعت خزانة أدبية عجيبة مما خلفه آباؤنا الذين جمعوا هذه المجموعة الجليلة من مؤلفات النابغين.» ويقول ديوكاسيوس: «وامتدت النيران إلى ما وراء المراسي بالبناء فقضت على أنبار القمح ومخازن الكتب، وقيل: إن هذه الكتب كانت كثيرة العدد عظيمة القيمة.» وهذه الأقوال وغيرها لا تدع مجالا للريب في أن مكتبة البطالسة احترقت قبل الفتح العربي بستة قرون.
وليس صحيحا أن المكتبات التي نقلت إلى الإسكندرية، أو أنشئت بها بعد احتراق مكتبة البطالسة، كانت باقية عند الفتح، فقد أهدى مارك أنطونيو مكتبة برجاموس إلى كليوباترا، عوضا عن الخسارة التي لحقتها بضياع مكتبة آبائها ملوك مصر البطالسة، ولعل الإسكندرية كان بها مكتبات أخرى، أبقت ما كان للعاصمة المصرية من مكانة علمية سامية، جعلت جامعتها مقصد الطلاب والعلماء من أبناء الإغريق ورومية وكل محب للعلم في عالم ذلك العصر، لكن هذه المكتبات قضي عليها هي أيضا في الثورات التي اندلع لهيبها بين المسيحيين والوثنيين في النصف الثاني من القرن الرابع المسيحي، يقول تاريخ المؤرخ: «كان بالإسكندرية مكتبتان؛ إحداهما: مكتبة البروكيون التي أتلفت في عهد جاليناس سنة 293م، والثانية: مكتبة السرابيوم، وقد أصابها ما أصاب الأولى في ثورة تيوفيلوس سنة 361م، وكذلك انعدم كل أثر لهاتين المجموعتين قبل خمسين ومائتي سنة من فتح عمرو لمصر، ولم يذكر التاريخ أن أميرا أو بطريقا أو حاكما أراد أو قدر في هذه الفترة على أن يحل غيرها محلها.» ويقول بتلر: «رأيت فيما سبق كيف خرب القيصريون ونهب في سنة 366 في أثناء نضال ديني، وأغلب الظن أن المكتبة التي كانت فيه قد ذهبت ضحية في ذلك النضال.» ثم يقول: «وأهوى المسيحيون إلى المعبد العظيم، معبد سيرابيس؛ وعلى رأسهم تيوفيلوس، وجعلوا يهدمونه ويخربون فيه، وكان ذلك في عام 391م، ولا يختلف فيه اثنان، وقد ثبت أن المكتبة كانت في حجرات متصلة بهذا المعبد، وثبت أن ذلك المعبد كله قد هدم وخرب، فلا بد أن تكون المكتبة قد لحقها الخراب نفسه.»
11
أما وقد ثبت أن حنا النحوي لم يكن حيا حين الفتح، وأن مكتبة البطالسة احترقت في عهد قيصر، وأن المكتبات التي أنشئت بعد احتراقها أتلفت قبل دخول المسلمين مصر، فقد انهارت أقوال الرواة فيما اتهموا به عمر بن الخطاب من الأمر بإحراق مكتبة الإسكندرية، على أن ذلك لا يعني أن الإسكندرية انعدمت كل مكتباتها العامة والخاصة، وأن مصر لم يبق بأديارها وجامعاتها مكتبات خاصة بها؛ بل كانت عاصمة مصر عند الفتح العربي لا تزال محتفظة بسمعتها العلمية، وقد زارها قبيل الفتح رجلان من محبي العلم هما صفرنيوس وحنا مكسوس، وتنقلا في أرجائها وذكرا ما اطلعا عليه من الكتب في مكتباتها معجبين به أيما إعجاب، ثم لم يرد فيما كتبا أي شيء عن المكتبة العامة التي زعم رواة الأسطورة أنها أحرقت بأمر خليفة المسلمين، وهذا دليل جديد يضاف إلى ما تقدم من الأدلة على كذب الأسطورة وزيفها، فلما كتب حنا النقيوسي بعد الفتح وفصل أنباء عمرو بن العاص وأعماله، وأنحى بأشد اللائمة على المسلمين حتى فيما اضطروا إليه بحكم الحرب، لم يكتب مع ذلك كلمة عن مكتبة الإسكندرية وإحراقها، فانتفت هذه التهمة الباطلة انتفاء باتا، وزال كل ما يمكن أن يبقى في نفس أشد الناس للمسلمين عداوة من شبهة في أمرها.
لا حاجة لنا بعد هذه الأدلة كلها إلى بيان السخف الذي تنطوي عليه عبارة المؤرخين عن توزيع الكتب على الحمامات لتوقد فيها، وأن هذه الحمامات ظلت توقد منها ستة أشهر، وإذا كان لهذه العبارة دلالة فعلى أن المؤرخين لم يتورعوا فنسجوا أباطيلهم من أوهام خيالهم ليختموا عبارتهم بمثل قول القفطي: «فاسمع لما جرى واعجب!» ولو أن النقد العلمي عرف في تلك العصور لما بقيت هذه الأسطورة أسابيع قبل أن يفندها الناقدون، ولعد راويها مهرجا لا يصح الاعتداد برأيه أو الاستماع إلى قوله.
كيف تسنى لأسطورة تقوم هذه الأدلة الكثيرة على بطلانها أن تبقى قرونا، وألا يرى بعض المؤرخين المسلمين بأسا بروايتها وبتصديقها؟ السبب عندي واضح بين، وهو الفرق بين عقلية المسلمين في القرن الأول، وعقلية المسلمين في القرن السابع الهجري والقرون التي تلته.
كان المسلمون في عهد الرسول وفي عهد الخلفاء الأولين يرون واجبا عليهم أن ينظروا في الكون، وأن يلتمسوا أسراره ليقفوا على سنة الله فيه، ولم يكن لوسائلهم في هذا النظر وفي التماس هذه الأسرار حد بل كانت حرية التفكير مطلقة لهم وكانت السبب في قوة إيمانهم، كان الاطلاع على تفكير غيرهم والوقوف على ما كتبه الأولون جائزا عندهم بل واجبا عليهم، لم يكونوا يهابون مواجهة الباطل؛ لأن قلوبهم كانت سليمة وبصائرهم كانت مستنيرة، ولأن التفاصيل لما تكن قد طغت عليهم فقيدت عقولهم وأفئدتهم وسجنتها في قوالب صلبة لا يجدون عنها حولا، لذلك كانوا يجتهدون، فلا ينقص اختلافهم قدر أي منهم؛ لأنهم كانوا جميعا متضامنين، يؤمن كل واحد منهم بأن صاحبه يريد باجتهاده خير الإسلام والمسلمين جميعا، وقد رأيت كيف اختلف عمر وأبو عبيدة عام الطاعون، فلم يغير ذلك من احترام أمير المؤمنين لأمين الأمة، ولا من إكبار أمين الأمة لأمير المؤمنين.
وأدى اجتهادهم إلى سعة في آفاق الفهم، بلغت بالخلفاء في عهد العباسيين أن يأمروا بترجمة كتب اليونان والفرس وغيرهم من الأمم في الطب والرياضة والحكمة والفلسفة ، ثم لم يخشوا أن تزيغ ترجمتها العقائد أو تفسد النفوس، قوم ذلك شأنهم لا يمكن أن يعزى لأحدهم أن يقول: «أما الكتب فإذا كان ما جاء بها يوافق ما جاء في كتاب الله فلا حاجة لنا به، وإذا خالفه فلا أرب لنا فيه.» فقد كانوا يعلمون أن كتاب الله لم يفصل علوم الطب والرياضة والهندسة وغيرها من العلوم والفنون الكثيرة، وأن معرفة ما كتب في هذه العلوم على حقيقته من أقوم السبل لمعرفة سنة الله في الكون.
فلما بدأ المسلمون يتراشقون بالاتهام بزيغ العقيدة عند الاختلاف في الرأي، تدهورت العقلية الإسلامية إلى الهاوية التي تدهورت إليها العقلية المسيحية من قبل، فجمد الناس على مذاهبهم، وأصبح الاتهام بالمروق والزندقة أيسر ما يجري على ألسنتهم، وصار التعرض بالنقد لأمر مقرر تجديفا لا يغامر به إلا مجازف بأن يتهم في دينه، وأن يصيبه من جراء ذلك أعظم الحيف في رزقه وفي حريته وفي حياته، وذلك هو السبب في أنك قلما تعثر في كتب المتأخرين على نقد لرأي سلف، بل تراهم يكتفون بإثبات ما ذكره الذين من قبلهم وإن اختلفت الروايات فبلغ اختلافهم حد التناقض والتضارب، فإذا لم يطق أحدهم على تناقضها صبرا لم يفكر في تقويم معوجها وتصحيح باطلها، بل يكتفي بعد إيراد الروايات جميعا بقوله: «والله أعلم، كذلك قيل.»
وقد أصابهم الجمود أول الأمر في شئون العقائد والعبادات وأصول النقد، لكن هذا الجمود سرعان ما امتد إلى سائر العلوم والفنون، والتاريخ من بينها، ذلك لأن العقل لا يمكن أن يكون حرا طليقا في ناحية جامدا مقيدا في ناحية أخرى، وهو متى رضي أن يرسف في القيود فجمد عن البحث في أصول العقائد والتشريع، أصبح الجمود عادة له ونظاما يجري عليه في كل شئونه، ولا عجب! فأنت لا تستطيع أن تقيم حدا فاصلا بين علم وآخر، أو بين علم من العلوم وفن من الفنون تتداخل كلها وتتعاون، فإذا كان العقل حرا في ناحية لم يستطع أن ينزل عن حريته في ناحية أخرى، وإذا جمد في ناحية جمد في سائر النواحي فركد نشاطه وذبلت حيويته، وذلك ما حدث في العهود الإسلامية المتأخرة فأدى بالمؤرخين المسلمين إلى تصديق أسطورة باطلة كأسطورة مكتبة الإسكندرية وإحراقها بأمر الخليفة العظيم عمر بن الخطاب.
Halaman tidak diketahui