180

وكان هذا الخليج يجري مبتدئا من شمال بابليون متجها شمالا بشرق إلى بلبيس، فإذا جاوزها اتجه شرقا إلى بحيرة التمساح، ليخرج من جنوب هذه البحيرة فيتابع جريانه خلال البحيرات المرة فيبلغ البحر الأحمر عند السويس، ولا شك أن القيام بهذا العمل العظيم وإتمامه في هذا الزمن الوجيز مما يشهد لعمرو بالقدرة الإدارية الممتازة، وبخاصة إذا عرفنا ما قيل من أن الخليج كان في ذلك الوقت قد خفي أثره، حتى احتاج عمرو إلى دليل من القبط يرشده إليه، وقد أجاز عمرو هذا القبطي برفع الجزية عنه.

ولعل عمرا قد لجأ في تنفيذ هذا العمل إلى السخرة فجند الألوف من العمال المصريين للقيام به، وربما جاز لمؤرخ في هذا العصر أن يؤاخذه بما صنع من ذلك، وأن يعتبر هذه السخرة قسوة بأهل تلك البلاد لم يكن له أن يلجأ إليها، وهذه المؤاخذة تشتم من كلام بتلر، ومن استشهاده بكلام حنا النقيوسي إذ يقول عن المسلمين: «وكان نيرهم على أهل مصر أشد وطأة من بني فرعون على بني إسرائيل، ولقد انتقم الله منه انتقاما عادلا بأن أغرقه في البحر الأحمر بعد أن أرسل صنوف بلائه على الناس والحيوان، ونسأل الله إذا ما حل حسابه لهؤلاء المسلمين أن يأخذهم بما أخذ به فرعون من قبل.» ولا أراني أشارك من يذهب هذا المذهب في التثريب على الفاتح العربي؛ فقد كانت السخرة في مصر من مألوف ذلك العصر، ثم ظلت مألوفة بعده أكثر من ألف سنة، فلجأت إليها شركة قنال السويس الدولية حين بدأت تشق القناة في القرن التاسع عشر المسيحي، وليست السخرة في الواقع إلا نوعا من التجنيد الإجباري للقيام بعمل عام، وإنما عيبها، والسبب الذي وجهت من أجله المطاعن إليها، أن القائمين بهذا التجنيد لم يكونوا يرعون فيه عدلا ولا نظاما، وأن المجندين لم يكونوا يتناولون أجرا عن العمل العام الذي يقومون به، ولولا هذا العيب الجدير بأشد النقد، ولو أن التجنيد للتعمير وضع على نظام عادل وفرض للقائمين به أجر معقول، لما كان للتثريب عليه موضع.

ولعل المؤرخين الذين آخذوا عمرا بهذا التجنيد إنما اشتدوا في مؤاخذته لاعتبارهم أنه فتح خليج تراجان لمصلحة بلاد العرب لا لمصلحة مصر، ولا شبهة في أن بلاد العرب كان لها من فتح هذا الخليج فائدة كبرى، ولكن لا شبهة في أن مصر كانت أكثر استفادة من هذا العمل، فقد أعاد لها طريقا أيسر من طريق القوافل للتجارة مع الهند وبلاد الشرق الأقصى، ويسر لها بذلك أن تستعيد حظا من المكانة التجارية العظيمة التي كانت لها أيام سؤددها وعزها، ومصلحة مصر كانت بعض ما قصد إليه عمرو حين تفكيره، ولا أدل على ذلك من أنه كان يريد حفر خليج بين بحيرة التمساح وبحر الروم، يصل مياه البحرين، بحر القلزم وبحر الروم، على نحو ما هو حادث اليوم، مقتديا في ذلك بما صنعه بطليموس الثاني، وبما صنعه الفرعون «نخاو» من قبله، ولقد كان معتزما أن يقوم بهذا العمل الضخم، لولا اعتراض الخليفة بأنه يسهل للروم اختراق هذه القناة وتسيير سفنهم إلى بحر القلزم، ولم يكن للعرب إلى يومئذ أسطول تجاري أو أسطول حربي يقف في وجه أسطول الروم أو ينافسه، فكان العدول عن حفر قناة تصل مياه البحرين بعض ما يقضي به الحذر، وإذا نحن ذكرنا موقف إنجلترا في القرن التاسع عشر ومعارضتها في شق قناة السويس خوفا على مكانتها في الهند، تجلى لنا أن خليفة المسلمين كان له أبلغ العذر عن تخوفه من شق هذه القناة منذ ثلاثمائة وألف سنة خلت.

لم يكن عمرو أقل تفكيرا في خير مصر منه في خير بلاد العرب، ولا يغلو من يقول إنه كان يتجه بسياسته إلى بث الطمأنينة في ربوع مصر وتخفيف الأعباء عن أهلها وإقامة العدل بينهم، ويرى في هذه السياسة خير توفيق بين مصالح الأمتين العربية والمصرية، وخير توطيد لقواعد الإمبراطورية الإسلامية، ومما يشهد بأن هذه كانت خطته أنه أخذ بنصيحة بطريق القبط بنيامين في أمر الخراج وجبايته، وأنه ذهب إلى أبعد من ذلك في تخفيف وطأته؛ فقد كان هذا الخراج يزيد وينقص تبعا لحال الفيضان وغلة الزراعة، وكان أعيان كل قرية وبلد يجتمعون كل عام في لجنة تحدد مقدار ما يجبى منها حسب هذه الأحوال، فإذا زاد المال الذي يجبى من بلد على الخراج المفروض عليها أنفق الزائد في إصلاح أحوالها، ولقد جعلت في كل بلد قطعة أرض خصص ريعها للمنافع العامة، كإصلاح الكنائس والحمامات والطرق وما إليها، وكان ما يجبى من الخراج أقل بكثير مما كان الروم يجبونه من الضرائب الكثيرة الفادحة التي فرضوها على المصريين فيما سوى العاصمة من أرجاء البلاد، فكان هذا التخفيف مدعاة لطمأنينة القبط جميعا إلى الحكم الجديد ولإشادتهم به.

وكان للإسكندرية أن تتذمر من هذا النظام الذي فرضه عمرو بقدر ما كان للبلاد كلها أن تستريح له وتغتبط به؛ فقد أعفى الإسكندر أهل المدينة التي شادها من الجزية من يوم إنشائها، وجعل لليهود والروم الذين جاءوا معه واستقروا بها امتيازات في التقاضي رفعت مكانتهم على المصريين الذين ساكنوهم فيها، وجرى البطالسة على سنة الإسكندر، ثم توسع الرومان من بعد فامتد الإعفاء إلى أبناء رومية الحاكمين، ولم يقف الإعفاء عند الجزية والتقاضي، بل أعفي أهل الإسكندرية من السخرة، وأعفيت الأرض المحيطة بها من الخراج.

7

لم يكن إلغاء الإعفاء الذي تتمتع به الإسكندرية ليسد النقص الذي أصاب إيراد الدولة بسبب تخفيف الضرائب؛ فقد هاجر من الإسكندرية في أثناء الحصار وبعد الفتح كثيرون، وترتب على ذلك أن أقفلت متاجر كثيرة، وقد اختلف المؤرخون في تقدير ما كان يجبى من مصر اختلافا كبيرا، لكنهم متفقون جميعا على أنه يقل كثيرا عما كان الروم يجبونه، مع ذلك لم يغير عمرو من سياسته في هذا الأمر طيلة السنوات التي تولى فيها إمارة مصر، والتي عدها المصريون خيرا وبركة عليهم.

اختلف المؤرخون في تقدير ما كان يجبى من مصر؛ فذكر البلاذري أن عمرا كان يجبي من خراجها ألف ألف دينار، وذكر المقريزي أنه كان يجبي منها اثني عشر ألف ألف، وقيل في تأويل هذا الاختلاف إن بعض المؤرخين يذكر الخراج وحده، وبعضهم يذكر الجزية وحدها، وبعضهم يذكر مجموعهما، وهم مع هذا الاختلاف متفقون على أن متوسط الجزية كان دينارين على كل مكلف بها، مع تفاوت بين الطبقات في تقديرها، أما من فرضت عليهم الجزية من أهل مصر، فبلغ عددهم ستة آلاف ألف في رواية، وثمانية آلاف ألف في رواية أخرى، والاختلاف على تقدير ما كان يجبى من مصر لا يغير من أنه كان على كل حال أخف وطأة مما كان الروم يجبونه.

قام العمال الذين ولاهم عمرو من الروم والقبط بإدارة شئون الدولة في الحدود التي رسمها، ثم بقي نظام الإدارة في دواوينها جاريا مجراه من قبل، واغتبط عمرو بنجاح سياسته، وكان أشد اغتباطا بخصب مصر وما فيها من ظل وارف ونعيم مقيم، وكتابه المشهور إلى عمر بوصف مصر ينم عن ذلك ويشهد عليه، فقد كان عمر، فيما رأيت، حريصا على أن يصف عماله البلاد التي يكونون فيها وصفا يجعله كأنه شاهدها، فلما كتب إلى ابن العاص يطلب إليه أن يصف مصر بعث إليه يقول:

ورد كتاب أمير المؤمنين - أطال الله بقاءه! - يسألني عن مصر، اعلم يا أمير المؤمنين أن مصر قرية غبراء، وشجرة خضراء، طولها شهر، وعرضها عشر، يكنفها جبل أغبر، ورمل أعفر، يخط وسطها نيل مبارك الغدوات، ميمون الروحات، تجري فيه الزيادة والنقصان، كجري الشمس والقمر، له أوان يدر حلابه، ويكثر فيه ذبابه، تمده عيون الأرض وينابيعها حتى إذا ما اصلخم عجاجه، وتعظمت أمواجه، فاض على جانبيه، فلم يمكن التخلص من القرى بعضها إلى بعض إلا في صغار المراكب، وخفاف القوارب، وزوارق كأنها في المخايل، ورق الأصائل، فإذا ما تكامل في زيادته، نكص على عقبيه كأول ما بدأ في جريته، وطما في درته، فعند ذلك يخرج أهل ملة مخفورة يحرثون بطون الأرض، ويبذرون بها الحب، يرجون بذلك النماء من الرب، لغيرهم ما سعوا من كدهم، فناله منهم بغير جدهم، فإذا أحدق الزرع وأشرق، سقاه الندى وغذاه من تحته الثرى، فبينما مصر يا أمير المؤمنين لؤلؤة بيضاء، إذ هي عنبرة سوداء، فإذا هي زمردة خضراء، فإذا هي ديباجة رقشاء، فتبارك الله الخالق لما يشاء، الذي يصلح هذه البلاد وينميها؛ ويقر قاطنيها فيها، ألا يقبل قول خسيسها في رئيسها، وألا يستأدى خراج ثمرة إلا في أوانها، وأن يصرف ثلث ارتفاعها في عمل جسورها وترعها، فإذا تقرر الحال مع العمال في هذه الأحوال تضاعف ارتفاع المال، والله تعالى يوفق في المبدأ والمآل!

Halaman tidak diketahui