121

استجاب الله لعباده ففتح أبواب السماء بماء منهمر وسيل دافق، وسرعان ما ربت الأرض واخضرت، فلم يبق للأعراب الذين قدموا المدينة أن يقيموا بها؛ لذلك جعل عمر يسير بينهم يقول: اخرجوا! اخرجوا! الحقوا ببلادكم! يخشى أن يظل منهم بالمدينة من يظنها ألين عيشا، بل إنه وكل بهؤلاء الأعراب من يخرجونهم إلى باديتهم ويعطونهم قوتا وحملانا تبلغهم منازلهم، ثم كان يخرج بنفسه من يحتاج خروجهم إلى أمره، فلما بلغوا مساكنهم عادوا إلى مألوف حياتهم وإن لم يجدوا من أعطيات الفيء ما يرفه عنهم، فقد شغل عمر بهذه المجاعة في شبه الجزيرة فشدد أوامره إلى جنده ألا يقاتلوا عدوهم إلا إذا أكرهوا دفاعا عن أنفسهم.

لم يبعث عمر جباته عام الرمادة ليقبضوا الزكاة، بل أخرهم إلى أن ارتفع الجدب، فلما اطمأن الناس إلى العيش وكثرت عندهم مادته، أمر الجباة أن يسيروا إليهم وأن يأخذوا من كل قادر حصتين: حصة عن عام الرمادة، وأخرى عن العام الذي بعده، وأن يقسموا إحدى الحصتين على المعوزين، ويقدموا عليه بالثانية، بذلك زاد في تخفيف الفقر عن الفقراء، ثم لم يرهق غيرهم ولم يحملهم ما لا طاقة لهم به.

يجدر بنا أن نقف هنيهة ها هنا ننظر في سياسة عمر كما تجلوها تصرفاته في أثناء هذه الشدة التي أصابته وأصابت قومه، ولسنا نريد بوقفتنا أن نبدي ما تثيره هذه التصرفات في النفس من إعجاب بعمر وإكبار له، وإنما نريد أن نستشف من هذه التصرفات فكرة مجملة عن صورة الحكم في ذهن رجل ألقت عليه الأقدار أن يكون أول بادئ بتفصيل نظام الحكم في الجماعة الإسلامية، وأشد هذه التصرفات أخذا بالنظر حمل عمر على نفسه وقسوته عليها، وأنه لم يكن يحمل عليها رغبة عن الطيبات مما رزق الله، فالإسلام لا يدعوه للرغبة عنها، وإنما كان يفعل ليشعر بشعور الضعفاء والمعوزين وذوي الحاجة، وذلك قوله: «كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسسني ما يمسهم!» لذلك نزل بعيشه إلى مستوى حياة الفقراء الذين لم يكونوا يجدون إلا مائدته يجلسون إليها مع الألوف من الجائعين لينالوا ما يبقي عليهم الحياة، فكان يأكل معهم ولا يرضى أن يتناول طعامه في بيته حتى لا يظن أحد أنه يؤثر نفسه بشيء لا يناله ذو الفاقة من قومه، وقد حقق بتصرفه هذا غرضين جليلين: أولهما الشعور بألم الناس شعورا يدفعه إلى مضاعفة الجهد في العناية بهم والعمل لرفع الضر عنهم، والثاني طمأنينة السواد إلى أن أمير المؤمنين يشاركهم في بأسائهم وضرائهم، فلا تثور نفوسهم، بل يظلون راضين بكل ما يصيبهم؛ لأن أكبر رجل في الدولة يشاركهم فيه، وقد بلغ عمر من هذين الغرضين خير ما يبلغه حاكم في أية أمة من الأمم.

كان عمر إذن يرى أن أول واجب على ولي الأمر أن يجعل حياته في مستوى الحياة لجمهور الشعب، لكنه كان يرى كذلك أن يدع القادرين على تثمير المال واستغلال الأرض يستمتعون بطيبات الرزق، ليزيدهم المتاع بها حرصا على إتقان العمل وسعيا لزيادة خبراته ومضاعفة ثمراته، بذلك يزداد جمهور الشعب لولي الأمر حبا، وبسياسته تعلقا، وعلى التضحية في سبيل هذه السياسة إقبالا، وتزداد مكانة ولي الأمر في نظر القادرين وذوي المكانة سموا إذ يرون تعلق الشعب به ومحبته له، فلا يدور بخلد أحدهم أن يناوئه أو يخرج عليه، ثم تزداد أواصر الود بين طبقات الشعب المختلفة تمكينا؛ لأن ولي الأمر يقوم من هذه الطبقات مقام القلب من جسم الإنسان يوزع بينها أسباب الحياة بالقسط، ويوجهها جميعا للخير العام.

لم تكد المجاعة تنقضي ويرفع الله عن الناس الضر حتى روعهم النبأ بانتشار الوباء في الشام وامتداده إلى العراق، فقد فشا الطاعون في عمواس من أرض فلسطين، ثم انتقلت عدواه إلى الشام، فجعل يفتك بكل من يصابون به فتكا ذريعا مزعجا، لم يكن الواحد منهم يكاد يطعن حتى يدركه الموت، وما أكثر الذين كانوا يطعنون! وطال هذا الوباء شهرا هلك في أثنائه من المسلمين خمسة وعشرون ألفا، فيه من أكابر الناس وأشرافهم عدد غير قليل، منهم أبو عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، ويزيد بن أبي سفيان، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وعتبة بن سهيل، وغيرهم ممن في طبقتهم، وكان الحارث بن هشام قد خرج من المدينة إلى الشام في سبعين من أهل بيته فماتوا جميعا لم يبق منهم إلا أربعة وقيل: إن أربعين من ولد خالد بن الوليد ماتوا في هذا الطاعون الذي انتشر في الجند كما انتشر بين المدنيين، فأفزع الناس وأخافهم عواقبه، فلو أن أعداءهم حاولوا العود إليهم لعجزوا هم عن مقاومتهم، لكن الروم أشفقوا من الوباء أن يصيبهم منه ما أصاب المسلمين، فلم يفكروا في الرجعة إليه خوفا على أنفسهم من هذا الهول الذي فدح عدوهم.

لم تكن أنباء هذا الوباء مزعجة أول انتشاره، وكان عمر قد أزمع الذهاب إلى الشام ينظم شئونه بعد ما تم فتحه، وسار من المدينة، حتى إذا بلغ سرع على مقربة من تبوك لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة فأخبروه أن الأرض سقيمة، وذكروا له طرفا من أنباء الطاعون وشدة إصابته، وراع عمر ما سمعه منهم، فلما أمسى جمع المهاجرين الأولين يستشيرهم: أيتابع طريقه إلى الشام مع ما فيها من وباء أم يعود أدراجه إلى المدينة؟ واختلف رأيهم، فمن قائل: خرجت لوجه تريد فيه الله وما عنده، وما نرى أن يصدك عنه بلاء عرض لك؛ ومن قائل: إنه لبلاء وفناء وما نرى أن تقدم عليه، واختلف الأنصار كما اختلف المهاجرون كأنما سمعوا قولهم فأعادوه، هنالك جمع عمر مهاجرة الفتح من قريش فاستشارهم، فلم يختلف عليه اثنان، بل قالوا جميعا: ارجع بالناس فإنه بلاء وفناء، وأمر عمر فنادى ابن عباس في الناس ليعدوا رواحلهم، فلما صلوا الصبح التفت عمر إليهم وقال: «إني راجع فارجعوا.»

لم يكن أبو عبيدة حاضرا مشاورات عمر وما انتهى إليه من رأي، فلما عرف ذلك قال له: «أفرارا من قدر الله يا عمر!» ودهش الخليفة لهذا الاعتراض، ونظر مليا إلى أبي عبيدة ثم قال: «لو غيرك يقول هذا يا أبا عبيدة! نعم! فرارا من قدر الله إلى قدر الله.» وأطرق هنيهة ثم أردف «أرأيت لو أن رجلا هبط واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس يرعى من رعى الجدبة بقدر الله، ويرعى من رعى الخصبة بقدر الله!»

خلا عمر بأبي عبيدة بعد هذا الحديث يتذاكران في شئون الشام وفيما يجب أن يقابل الوباء به، وإنهما لفي حديثهما إذ أقبل عبد الرحمن بن عوف فرأى الناس في هرج، فسألهم ما شأنهم، فلما أخبروه الخبر قال: عندي من هذا علم، سمعت رسول الله

صلى الله عليه وسلم

يقول: «إذا سمعتم بهذا الوباء فلا تقدموا عليه، وإذا وقع وأنتم به فلا تخرجوا فرارا منه.» واطمأن عمر لهذا الحديث وقال: الحمد لله، انصرفوا أيها الناس!

Halaman tidak diketahui