بل إن من الأفكار ما يظهر ثم لا يحتمل النضال، فيختفي إلى غير عودة، ولدينا من ذلك مثل يقابل قيام الإسلام حين نشأته، ذلك ما حاوله هرقل من توحيد المذاهب المسيحية وإدماجها في مذهب رسمي يفرض في أرجاء الإمبراطورية كلها، فقد بذل هرقل غاية جهده لتنجح محاولته: جمع المجامع من كبار رجال الدين وفرض عليهم أن يتفقوا، واتفق من هؤلاء الرجال من اتفق، وأقام على رأيه من أقام، ثم إن الإمبراطور أرسل عماله إلى الشام وإلى مصر وإلى غيرهما من البلاد الخاضعة لسلطانه يدعون الناس إلى المذهب الرسمي طوعا وكرها، ولجأ هؤلاء العمال إلى كل الوسائل لتنفيذ ما أمرهم هرقل بتنفيذه، مع ذلك التوى القصد عليهم، وثار الناس في كل البلاد بهم، فأخذوا الثائرين بألوان النكال، فكانت مآس ومذابح انتهت كلها إلى إخفاق الإمبراطور فيما حاول، وقد رأى هذا الإخفاق بعينه قبل أن يموت، ولعله سأل نفسه مرات وظل يسأل إلى ساعته الأخيرة: كيف نجح النبي العربي ولا سلطان له في إقامة دين جديد، وأخفق هو، وله من الأيد والسلطان ما له، في جمع الناس حول مذهب موحد لدين استقر في العالم أكثر من ستة قرون؟!
وهو قد عجز، ولا ريب، عن أن يظفر بجواب على سؤاله، فلو أنه ظفر بهذا الجواب لما ترك عماله يمعنون في إرهاق الناس وفي تعذيبهم وقتلهم، حتى يفتح المسلمون سورية ويفتحوا مصر ويجلوه وجنوده عنهما ويضطروهم إلى الفرار منهما، ولو أن بطش الملك لم يطغ على تفكيره ولم يحجب الجواب عنه لاهتدى إليه، فهذا الجواب بسيط كل البساطة؛ وهو أن النبي العربي نجح؛ لأنه لم يكن له سلطان غير سلطان العقيدة السلمية التي دعا الناس طوعا بأمر ربه إليها، وأن هرقل أخفق؛ لأنه أراد إكراه الناس على مذهب لم تهتد بصائرهم إلى أنه خير مما يؤمنون به، وقد نجح النبي العربي؛ لأنه لم يكن يتعصب لغير الحق، فكان يقول بوحي ربه:
آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ، وأخفق هرقل؛ لأنه تعصب لمذهب على غيره من مذاهب تنسب كلها لعيسى عليه السلام ولحوارييه، ونجح النبي العربي؛ لأنه لم يكن يبتغي للناس غير الهدى إلى سبيل ربهم، فكان يقول لوفد النصارى الذين جاءوا من نجران يجادلونه:
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون .
وأخفق هرقل لأنه أراد أن يتخذ بعض الناس بعضا أربابا من دون الله، فثار الناس به حين رأوا دعوته وليس فيها من الحق ما يصرفهم عما وجدوا عليه آباءهم. لهذه الأسباب نجح النبي العربي بإذن ربه، وقامت على أساس دعوته إمبراطورية استقر فيها ما دعا إليه. وكانت هذه الإمبراطورية قمينة أن تضم العالم كله في كنفها لولا أن غير أصحابها ما بأنفسهم فغير الله ما بهم.
وإنما غير المسلمون ما بأنفسهم يوم افترقوا مذاهب وشيعا، فنقلوا تفكير الناس وعنايتهم من جلال العقيدة في صفاء جوهرها، إلى الخوض في التفاصيل والجدل فيها جدلا زاد بينهم شقة الخلاف وجعل بعضهم لبعض عدوا. وطالما عاب رسول الله ثم عاب أبو بكر وعمر من بعده من دار مثل هذا الجدل بخواطرهم. بل لقد نبههم رسول الله إلى أن من هلك قبلهم من الأمم إنما هلك بسبب المجادلة في أمور لا يؤدي الجدل فيها إلى حق ولا ينشأ عنه غير الخلاف والتنازع والبغضاء. فقد رأى المسلمون الأولون ما في ذلك من حق فامتثلوا أمر النبي، وأيقنوا أن الذين يجادلون في الدين إنما مثلهم كمثل اليهود والمنافقين الذين كانوا يندسون بين المسلمين يسألونهم: إذا كان الله قد خلق الخلق فمن خلق الله؟ أو يسألونهم عن الروح، يحاولون بهذه المسائل وبمثلها أن يدسوا إلى عقولهم الشك في عقيدتهم. وقد كان الوحي ينزل بالجواب على بعض هذه المسائل في إيجاز حاسم، فيقول الله تعالى:
قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد ، ويقول:
ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ، ويقول:
ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ، ويقول:
إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء .
Halaman tidak diketahui