جدا تدرك دقائق الأمور إلا أنها لم تكن تهتم كثيرا بالأمور الخطيرة وكانت خالية عن الانفعالات النفسية التي تجعل للطبع البشري قوة وثباتا غير أنه كان لها صفة أدبية سامية جدا وهي الشجاعة فاستمرت ثلاثين سنة عاكفة على قتل الناس ولم يلحق بعقلها من جراء ذلك خلل ولا هالها أمر القساوة وكانت تحتقر التنعم والحلم في غير موضعهما وتحب البساطة في المعيشة وتقوم بأشغال صعبة، وتسلك مسلك الاقتصاد في بيتها ومع أن غرورها لم يفق عند حد لم يحل لها التملق ألبتة.
وكانت إذا سمعت غيرها يتكلم بالكذب لا تنفر منه ولذلك هان عليها ارتكاب الكذب، وكانت كثيرة الدهاء والحيل لا تلوح عليها البساطة إلا عندما تخايل وتخادع وكانت إذا وعدت بشرفها تنسى ما وعدت به فضلا عن أنه لم يظهر منها ألبتة ما يدل على أنها تفهم معنى الشرف، ولاغترارها بدرايتها وفهمها كانت لا تقوم بتغيرات يسددها إليها "بورليغ" من دون أن تلحق ضررا بالمملكة وبنفسها معا ولم تعدل عن مقاومة أو مضادة إلا بعد وقوعها في المشاكل وكانت حذاقة "بورليغ" المذكور وحذاقة "ولسنفهام" مما لا تكاد تكفي لتخليصهما منها، والنتائج العظيمة التي حصلت عليها إنكلتر في أيامها لم تنشأ عن سياستها بل عن سياسة رجالها التي كان من رأيها أن تضعفها وتوهنها مع أن الأمرو كانت تقتضي عزما وحزما وإجماعا ولم تركب في إبرام الأمور متن الشتت والعجلة ونسبوا ذلك إلى حكمتها لأنه طالما كانت له نتائج حميدة فربحت بذلك وقتا وأعقد مشاكلها ما كان حله حلا مرضيا مما يقدر عليه الوقت فقط، وكانت تحب أن تملك بالراحة إلى حين وفاتها تاركة للأجيال التابعة حل ما يعرض فيها من المشاكل، وكانت ترغب كل الرغبة في أن تشتهر بالحلم والرأفة التي عاملت بها المتآمرين هي من الأمور الغريبة التي لم يبارها فيها أحد إلى الآن، وكان بينها وبين أبيها في هذا الباب بون عظيم فإنه كان يعاقب رؤساء المتآمرين ويعفو عن أتباعهم.
أما "أليصابات فقلما تمكنت من حمل نفسها على إمضاء أمر بقتل بعض الأشراف على أنها كانت تستطيع أن تأمر بخنق فلاحي "يوركشير" عشرات بموجب النظام الحربي من دون أن يؤاخذها ضميرها في ذلك. والحاصل أنها طالما كانت صارمة عند وجود الحلم وحليمة عند وجود الصرامة وسبب نجاحها وسلامتها إنما هو انقسام أعدائها وضعفهم لا حكمتها وثبات عزمها".
أليصابات ملكة إسبانيا
ولدت سنة ١٦٠٢ م، وتوفيت سنة ١٦٤٤ م، وهي ابنة "هنري الرابع" ملك فرنسا من زوجته "ماريا رومديشي" زفت إلى "فيليب" ابن ملك إسبانيا سنة ١٦١٥ م.
وسنة ١٦٢١ م جلس زوجها على تخت الملك وسمي "فيليب الرابع" فعهد زمام المملكة إلى كونت "اوليفارز"، وانهمك في اللذات والملاهي فحاولت "أليصابات" أن تبهه من غفلته وتحمله على مقاومة سياسة وزيره التي كان من شأنها أن تفضي بالبلاد إلى الخراب، فحبط مسعاها.
وسنة ١٦٤٠ م حدثت ثورة في "قطلونية"، وانفصلت البرتوغال عن إسبانيا وساعدت عسكر مؤلفا من خمسين ألف مقاتل ثم سارت على القصر الذي كان ينعم فيه الملك في "بون رتيرو" فأخذت ولدها من يده وقالت للملك: سيدي، إن هذا الغلام ولدنا الوحيد سيكون أفقر إنسان في أوروبا إن لم تعزل جلالتكم في الحال وزيرا ساق إسبانيا إلى الخراب فنفى "أوليفارز" ودبت الحماسة مؤقتا في عروق "فيليب" أما "أليصابات" فقطعت كل علائقها مع بيت أبيها لأنهم أمسو ألداء أعداء إسبانيا وقبضت على زمام المملكة بيدها وأخذ "فيليب" يحاول في مقدمة عساكره استرجاع ما خسره من بلاده فلم يصادف نجاحا، وأبدت "أليصابا" في إدارة مصالح البلاد حكمة ومحبة لوطنها ووفقت بين الأحزاب بإنذاراتها وفصاحتها، وباعت حليها وقللت مصاريف بيتها كثيرا مساعدة للخزينة حتى حسب الإسبانيول وفاتها مصيبة وطنية وحزنوا عليها حزنا شديدا.
1 / 49