الدر المنثور في طبقات ربات الخدور المجلد الأول
حرف الألف
آمنة ابنة وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب أم النبي ﷺ
قال القرماني: أعطاها الله تعالى من الجمال والكمال ما كانت تدعى به حكيمة قومها، وكانت من الفصاحة والحكمة والبلاغة على جانب عظيم لم يسبقها إليه أحد من نساء العرب، توفيت بعد مولد النبي ﷺ بست سنوات، ودفنت بالأبواء.
قال ياقوت في "معجمه": "والسبب في دفنها هناك أن عبد الله والد رسول الله كان قد خرج إلى المدينة يمتار تمرا، فمات بالمدينة، فكانت زوجته آمنة تخرج إلى المدينة تزور قبره، فلما أتى على رسول الله ﷺ ست سنوات خرجت زائرة لقبره، ومعها عبد المطلب وأم أيمن حاضنة رسول الله، فلما صارت بالأبواء منصرفة إلى مكة ماتت بها.
ويقال: إن أبا طالب زار أخواله بني النجار بالمدينة، وحمل معه آمنة (أم رسول الله ﷺ، فلما رجع منصرفا إلى مكة ماتت آمنة بالأبواء) .
وقيل: دفنت بدار رائعة وهو موضع مكة.
وقيل: بمكة في شعب أبي دب، وكانت من شاعرات العرب المجيدات.
ومن شعرها قولها وهي في نزع الموت وكانت نظرت إلى النبي ﷺ، وهو يلعب بجانبها فتأسفت على تركه صغيرها وأنه سينشأ يتيما من الأب والأم، ولكن تأست بما يناله من الفخر والمجد في قومه وفي العالم بأسره مما رأته منه في حال صغره وهذا ما قالته:
بارك الله فيك من غلام ... يا ابن الذي في حومة الحمام
نجا بعون الملك العلام ... فودي غداة الضرب بالسهام
بمائة من إبل سوام ... إن صح ما أبصرت في المنام
1 / 16
فأنت مبعوث إلى الأنام ... تبعث في الحل وفي الحرام
تبعث بالتوحيد والإسلام ... دين أبيك البر أبراهام
فالله أنهاك عن الأصنام ... أن لا تواليها مع الأقوام
ثم قالت: كل حي ميت، وكل جديد بال، وكل كبير يفنى، وأنا ميتة وذكري باق. وسلمت روحها.
وقيل: إن بعضهم رثاها بهذه الأبيات:
نبكي الفتاة البرة الأمينة ... ذات الجمال العفة الرزينة
زوجة عبد الله والقرينة ... أم نبي الله ذي السكينة
وصاحب المنبر بالمدينة ... صارت لدى حفرتها رهينة
لو فوديت لفوديت ثمينة ... وللمنايا شفرة متينة
لا (تبقى) ظعانا ولا ظعينة ... إلا أتت وقطعت وتينه
أما دللت أيها الحزينة ... عن الذي ذو العرش يعلي دينه
فكلنا والهة حزينة ... نبكيك للعطلة أو للزينة
آمنة ابنة عتيبة بن الحارث بن شهاب اليربوعي
كانت شاعرة من شاعرات العرب في الجاهلية اللاتي يشار لهن بالبنان، وكان شعرها قليلا إلا أنه ذو بلاغة عجيبة. وكان أبوها عتيبة قتله ذواب بن ربيعة الأسدي يوم خو من أيام العرب، ثم أسر ذواب وقتل فورا بعتيبة ولآمنة في أبيها مراث كثيرة لم يصل إلينا منها إلا قولها:
على مثل ابن مية فانعياه ... بشق نواعم البشر الجيوبا
وكان أبي عيتبة سمهريا ... فلا تلقاه يدخر النصيبا
ضروبا للكمي إذا اشمعلت ... عوان الحرب لا ورعا هيوبا
آمنة ابنة أبان بن كليب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن
ولها يقول نابغة بني جعدة:
وشاركتم قريشا في تقاها ... وفي أنسابها شرك العنان
بما ولدت نساء بني هلال ... وما ولدت نساء بني أبان
وكانت آمنة هذه تحت أمية بن عبد شمس معاصرا لعبد المطلب بن هاشم جد النبي فولدت لأمية العاص وأبا العاص، وأبا العيص والعوص، وصفية، وتوبة، وأروى بني أمية وقد سموا بالأعياص وكانت دائما تفتخر بهم، فلما مات تزوجها بعده ابنه أبو عمرو، وكان أهل الجاهلية يفعلون ذلك يتزوج الرجل امرأة أبيه بعده فولدت له أبا معيط فكان بنو أمية من آمنة إخوة أبي معيط وعمومته.
وقيل: إن ابنها أبا العاص زوجها أخاه أبا عمرو، وكان هذا نكاحا تنكحه الجاهلية فأنزل الله تعالى تحريمه.
قال الله تعالى: (ولا تنكحوا ما نحك آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا) (النساء: ٢٢) فسمي نحاك المقت.
وكانت آمنة مسموعة الكلمة مطاعة عند قومها، وكانت موصوفة بالشجاعة والمنعة وطالما افتخرت على باقي العرب في عزها ورجالها.
آمنة الرملية ﵂
كانت من أهل القرن الثالث للهجرة، وكانت من الزاهدات العابدات المنقطعات للتبتل، وكان أكثر زهاد زمانها يترددون عليها، ويتبركون بها، وكان بشير بن الحارث ﵁ يزورها. ومرض بشير مرة فعادته
1 / 17
آمنة من الرملة فبينما هي عنده إذ دخل الإمام أحمد بن حنبل ﵁ يعوده كذلك فنظر إلى آمنة فقال لبشير: من هذه فقال له بشير: هذه آمنة الرملية بلغها مرضي فجاءت من الرملة تعودني فقال أحمد لبشير: فاسألها أن تدعو لنا فقال لها بشير: ادعي الله لنا. فقالت: اللهم إن بشير بن الحارث وأحمد بن حنبل يستجيران بك من النار فأجرهما يا أرحم الراحمين. قال الإمام أحمد: فلما كان من الليل رأيت فيما يرى النائم أن طرحت لي رقعة من الهواء مكتوب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم قد فعلنا ذلك ولدينا مزيد ﵃.
آن لويز جرمان ابنة الكونت نكر وزير مالية فرنسا
ولدت هذه الشهيرة بباريس سنة ١٧٦٦ م، وتولت أمها تعليمها ولكنها كانت تجهل مقتضيات التربية ومراعاة حال الأولاد من حيث مزاجهم وميلهم واتجاه عواطفهم، فشددت على ابنتها فيا لتعليم، واتخذت الصرامة ديدنا في التربية والتأديب، فلذلك لم يعلق قلب ابنتها بها ولا كان لكلامها وقع في نفسها، ومن جملة ما بين ذلك أنها كانت تحب اللعب بما يشبه التشخيص في المراسح، وتميل إلى ذلك ميلا شديدا فتعمل ملوكا وملكات من الورق، وتشخص لها مواقع من فكرتها، وتتكلم في التشخيص عنها. وكانت أمها تكره المراسح والتشخيص وتمنعها من اللعب بتلك الصور غير مراعية ميلها الشديد إلى ذلك فكانت ابنتها تختبئ وتلعب خفية عنها، ولا تكاشفها بشيء مما يخطر ببالها من ذلك.
وأما أبوها: فكان أوفر من أمها حكمة وأكثر معرفة في معاملة ابنته فيلاطفها ويمازحها ويحدثها حتى تأنس إليه وتكشف له قلبها، وكان رجلا عظيما ووزيرا على مالية (لويس السادس عشر) ملك فرنسا، مهيبا بعيد الصيت والسطوة والنفوذ يختلف إلى بيته عظماء فرنسا، وعلماؤها وشعراؤها، كانت أمها تأتي بها وهي صغيرة السن إلى قاعة الاستقبال، وتجلسها على كرسي مستدير بجانبها وتوصيها من حين إلى حين بالجلوس مستقيمة لئلا تكون حدباء الظهر متى كبرت فتجلس هناك شاخصة إلى الزوار وتلتقط كل كلمة تخرج من أفواههم وتصغي أتم الإصغاء إلى أحاديثهم، وتذوق معانيهم حتى يرى الناظر من علامات وجهها أنها لا تدع فائدة تفوتها، وأنها تبتلع المعاني ابتلاعا على صغر سنها، وكانوا كلهم يحدثونها كما يحدثون كبار السن ويباحثونها فيما تعلمته ويحدثونها على درس ما لم تتعلمه، فلم تكثر عليها السنون حتى بلغت قوى عقلها مبلغا قلما تدركه العقول في سنها ولم تجيء عليها السنة الخامسة عشرة حتى شرعت في التأليف واشتد حبها للعلماء والعظماء فكان قلبها ينبض شديدا عند رؤيتهم، وصيتهم يستفزها إلى مجاراتهم ومسابقتهم، ولما بلغت عشرين سنة من عمرها شاع ذكرها في الآفاق، وانطلقت الألسنة بوصفها تزوجت بسفير أسوج في فرنسا واسمه (روستايل) سنة ١٧٨٦ م فانفتح أمامها باب السياسة، وكانت في بداية عمرها تعتبر فلسفة (جان جاك روسو) اعتبارا عظيما.
ولما ابتدأت الثورة الفرنساوية وكان أبوها قد أنجد حزب الثائرين مالت إليها حاسبة أنها الطريقة الوحيدة لسعادة فرنسا ونعيمها، ولكن لما تفاقم خطبها ورأت فظائعها، وعلمت أن أحسن أهل وطنها يقتلون بها نفرت منها وجعلت همها تخليص الذين قد وقعوا في حبالها من الموت فسعت في نجاة العائلة الملكية وفرارها إلى بلاد الإنكليز، ولكنها خابت مسعى فعمدت إلى تخليص غيرهم وكانت كلما خلصت شخصا لا تستريح حتى تخلص كل من يتعلق به من الأقرباء والأصدقاء وتخاطر بنفسها لخلاص غيرها مخاطرة أعظم الناس بأسا، واتفق أن الدول المتحالفة ضيقت على الحكومة الثورية سنة ١٧٩٢ م، فقال رجال هذه الحكومة: لا نأمن على أنفسنا إن لم نقتل كل من له ضلع مع الملكية في باريس فاستباحوهم قتلا ونهبا. وكان لمدام (روستايل) أصدقاء كثيرون بينهم فخلصت بواسطتهم حياة كثيرين وبقي رجل اسمه (دومونتسكيو) فعزمت على أن تخرج به من باريس كخادم لها فلقيها الثائرون في الطريق فأنزلوها من مركبها كرها
1 / 18
وذهبوا بها إلى زعيمهم فاخترقت الصفوف مرتجفة والسيوف والبنادق قد سدت الآفاق من حولها، ولو زلت قدمها لقتلت دوسا، ولكنها ثبتت على ضعفها ست ساعات تسمع صراخ القتلى وأنين المعذبين حتى أطلق سبيلها، فخرجت من فرنسا فرحة بأنها قد لقيت ما لقيت فداء نفس خلصتها من الموت، وكتبت كتابا بليغا في الدفاع عن الملكة (ماري أنتوانيت)، لكنه لم يأت بالفائدة المقصودة فجزعت على قتلها جزعا شديدا.
وفي سنة ١٧٩٧ م: عادت من سويسرا حيث كانت متوجهة إلى باريس فوقع خلاف بينها وبين (نابليون بونابرت) لأنها أوجست منه السوء بعد تعرفها به بقليل قالت: إني لما تعرفت به أعجبني خلقه وعقله وقلت: إنه قد انفرد بهما كما انفرد بنصراته، وإنه رجل معتدل الطباع من أهل الجد والوقار بعكس زعماء الثورة ذوي الطباع الصعبة الذين كانوا يحكمون قبله، ولكن لما هدأ الجأش من إعجابي به وعدت إلى نفسي شعرت بنفور عظيم منه لما وجدته فيه، فإنه كالسيف البارد الماضي يجمد جمودا حين يجرح جرحا، وعلمت أنه يحتقر الأمة التي يريد أن يملك عليها.
وجاهرت بمعاندته، فكنت ترى قاعتها غاصة بجماهير النافرين من (بونابرت) الناقمين عليه، فأوجس (بونابرت) خيفة منها، وحاول أن يرشوها بالمال لترجع عن معاندته فوعدها بأن يدفع لها مليوني ليرة كانا لأبيها على الدولة فرفضت قبول تلك الرشوة. فقال لها (جوزف بونابرت): (قولي إذا ماذا تشتهين) قالت: (لا أشتهي شيئا وإن سيري هذا طبق لما اعتقده) .
وكانت تحب سكن باريس محبة شديدة وتخاف النفي منها جدا ولا تسر إلا بمعاشرة الأدباء محفوفة بأهل الفضل والأصدقاء. وكان (نابليون بونابرت) يعلم ذلك فلما رأى إصرارها على معاداته أبى إلا أن ينتقم منها، فنفاها إلى مدينة سويسرا ولم يسمح لها بالاستبعاد عن منزلها أكثر من ميلين وحرمها من العودة إلى باريس فكان ذلك عليها مصيبة لا تطاق فقضت باقي أيامها حزينة على فراق باريس، وتولت تربية أولادها فكانت تعلمهم أكثر النهار ولم تنقطع عن ذلك في أشد أيامها حزنا وكآبة، وذلك كان أولادها يحبونها حبا عظيما، ويخاطرون بأنفسهم دفاعا عنها كما روى ذلك كثيرون من المؤرخين المشهورين، وقد اشتهرت مدام (روستايل) بمحامد كثيرة ظهر بعضها فيما مر نزيد عليه محبتها للحق والوقوف على حقائق الأمور ولذلك كانت تبذل جهدها في تعلم كل شيء ولو مهما كلفها من المشقة وكانت تقول: (جهل الناس للحق والحقائق أكبر دليل على انحطاطهم) . وقالت عن بونابرت: (إني علمت بانحطاطه منذ رأيته لا يهتم بحقائق الأمور) .
وكانت تحب الموسيقى وتلهو بها عن أشغال التأليف، وتزيد السامعين طربا بحلاوة صوتها، وكان لها ميل شديد إلى التشخيص، وموهبة عظيمة فيه فكانت تعرف كل المراسح الأجنبية جيدا، وتعلمت في كبرها اللغات التي فاتها تعلمها في صغرها ومن أقوالها: إن درس اصطلاحات اللغة أحسن المثقفات للعقل وأسهل السبل لمعرفة أخلاق أهلها. كما هي وأعظم ما اشتهرت به كتبها التي بلغ عددها ثمانية عشر مجلدا في كل فن مستظرف حتى سموها (فولتير النساء) لكثرة المباحث التي بحثت فيها وقد قضت مؤلفاتها ثلاث غايات من أسمى الغايات.
إحداها: توسيع علم الجمال عما كان في زمانها.
والثانية: مهاجمة فلاسفة فرنسا المؤدبين ك (ديدور) و(دولباش) و(كندلاك) وغيرهم. مهاجمة عنيفة زعزعت أركان فلسفتهم.
والثالثة: بث روح الحرية في صدور قومها إذ أبانت لهم أن الحرية أعظم شرط لسلامة الآداب والديانة الصحيحة، وكانت فاضلة تقية ورعة غير مترفضة.
وماتت في ١٤ تموز (يوليو) سنة ١٨١٧ م بعد أن جالت زمانا في النمسا وروسيا وأسوج وبلاد الإنكليز الذين كانت تعتبرهم اعتبارا عظيما.
إيت كججك ابنة السلطان أوزبك
قال ابن بطوطة في رحلته: اسمها "إيت كججك وأيت" (بكسر الهمزة وياء مد وتاء مثناة، وكججك بضم الكاف وضم الجيمين) . وقال: إنه لما كان عند السلطان (أوزبك) طلب منه أن يزور نساءه وبناته وخواص مملكته
1 / 19
على حسب عادة أهل ذلك الزمان فأذن له وكان من ضمن بناته (كججك) هذه قال: إنه لما توجه إلى هذه الخاتون وهي في محلة منفردة على نحو ستة أميال من محلة والدها أمرت بإحضار الفقهاء والقضاة والسيد الشريف ابن عبد الحميد، وجماعة الطلبة، والمشايخ، والفقراء، وحضر زوجها الأمير عيسى فقعد معها على فراش واحد وهو معتل بالنقرس لا يستطيع السعي على قدميه، ولا ركوب الفرس، وإنما يركب العربة، وإذا أراد الدخول على السلطان أنزله خدمه وأدخلوه إلى المجلس محمولا ورأى من هذه الخاتون ابنة السلطان من المكارم وحسن الأخلاق ما لم يره من سواها، وأجزلت له الإحسان وأفضلت، وأما معارفها وعلومها وكرمها فلم يضاهها فيها أحد سواها من نساء زمانها.
أتالانتا ابنة شيني ملك سكروس (مملكة يونانية)
كانت شديدة الكلف بالصيد، فاكتسبت من ذلك سرعة في العدو لا مزيد عليها حتى إنه لم يكن لأحد من الرجال الأقوياء السريعي الجري أن يجاريها في الميدان، وقتلت بالنساب حيتين كبيرتين تبعاها ليقتلاها وكانت ذات جمال باهر فتان فطلبها كثيرون للاقتران بها وألحوا عليها فأقسمت أن لا تقترن إلا بالذي يسبقها فيا لميدان بشرط أن يكون عاريا من السلاح، ويكون بيدها حربة تضربه بها إذا أدركته فهلك بمسابقتها كثيرون من طلابها وأتاها (إبومان)، وكان من المقربين عند الكهنة والفائزين بوقايتها فتسابقا ولما وصلا إلى نصف الميدان أخذ (إبومان) ثلاث تفاحات من ذهب كانت قد أعطته إياها الكهنة المذكورون، فرماها على الأرض بعياقة ولياقة، فتشاغلت (أتالانتا) بها فتمكن من سبقها؟، وتقرر له الفوز فاقترن بها، وبعد ذلك غضب عليهما الكهنة لأنهما دلسا هيكل الزهرة فقتلومها. وقد قيل في (أتالانتا) هذه غير ذلك، وهو أنها ولدت في (أركاديا) وأنها ابنة (باسيوس) كان أبوها قد طلب إلى معبوداته أن ترزقه ولدا ذكرا فولدت (أتالانتا) فاغتاظ من ولاتها وألقاها على الجبل البرتنباتي فرضعت من دبة وأخذت تنمو حتى بلغت مبلغ النساء، وحافظت على بكارتها، وصارت أسرع الناس جريا على قدميها، فغلبت الحيتين المقدم ذكرهما واشتركت مع الأبطال في قتل الخنزير وكان لها مواقع في الألعاب البليانية ثم رضي عنها أبوها وألح عليها بأن تتزوج، فكان من أمرها ما تقدم. ولعل الرواية الأولى أصح.
أديسا ابنة أدغر ملك إنكلترا
ولدت سنة ٩٦١ للميلاد ربتها أمها في (دير ولتون) بالقرب من (سلزيري)، ولما كانت السنة الخامسة عشرة من عمرها صارت راهبة، وبعد ذلك بثلاث سنين قتل أخوها (إدوارد) الذي خلف أباها، وذلك بأمر رايته (ألفريدا) فعرض عليها تاج الملك فرفضته باتضاع مسيحي وآثرت تخصيص نفسها لتقرية الفقراء والأيتام على تخت الملك، وصرفت أيامها في ذلك إلى أن توفيت سنة ٩٨٤ م. ودفنت في كنيسة (سان دنيس) التي بنتها في حياتها وتعتبرها الكنيسة الرومانية الكاثوليكية. ولها عندها تذكار في ١٦ أيلول (سبتمبر) من كل سنة.
إديلينه ديباتي المغنية
إن هذه المغنية كانت تربت من صغرها في المراسح وتخرجت بضروب الغناء، وساعدها الحظ بحسن صوتها وجمالها الذي جذب إليها الأنظار ولما آنست رشدها بلغت من الشهرة ما لم يبلغه غيرها من مغنيات الإفرنج وزادت شهرة في بلادها على شهرة مغنيات الخلفاء في مدة العباسيين والأمويين، ونالت من الثروة ما يبلغ دخله السنوي المليون فرنك، وقد حازت جملة (نياشين) افتخار من ملوك أوروبا وملكاتها والذي زاد افتخارها تشرف ملوك أوبوا بوضع إمضاءاتهم على مروحتها لأنها كانت تحمل مروحة فريدة من نوعها وبلا مثيل في العالم فإن جميع الملوك والمعاصرين لها كتبوا عليها بخط أيديهم أقوالا مختلفة تتضمن
1 / 20
الثناء عليها والرضا عنها، فكتب القيصر الروسي: (لا شيء يسكن مثل غنائك) . وكتب إمبراطور ألمانيا: (إلى بلبل جميع الأزمان) وكتب الملكة (خرستيان) في أسبانيا: (ملكة تفتخر بأن تحسبك في جملة رعاياها) . وكتبت (فكتوريا) ملكة إنكلترا: (إذا صدقت كلمات الملك ليار القائل: (إن الصوت العذب موهبة) تكونين أنت يا عزيزتي إديلنه أغنى النساء) . والإمبراطور النمساوي والملكة (إيزابلا) وضعا إمضاءهما أيضا وكتبت ملكة البلجيك صورة المشرع الأول للأغنية الشهيرة، ثم يوجد في وسط المروحة هذه الكلمات: (أمد إليك يدي يا مليكة الطرب) مذيلة بهذا الإمضاء (بترس) رئيس الجمهورية الفرنساوية إن هذا الافتخار وهذا الاعتبار لم ينله أحد في العالم وما ذلك إلا لحسن الآداب من هذه المرأة التي بها جذبت إليها قلوب أكبر أهل الأرض.
أرجى ابنة أدرستوس
هي زوجة (بوليلينكيوس) اشتهرت بمحبتها لزوجها فغنها بعد انهزام الرؤساء السبعة أمام (طيوه) عاصمة المصريين القدماء ذهبت مع (انتيقونه) امرأة أخيها لتقدم لزوجها الواجبات الأخيرة فقتلت بأمر (كريون) ملك ذاك الزمان وماتت صابرة حبا في زوجها لكي تلحقه في حفرته.
أراكة ملكة قسطيلة
هي بكر (ألفونس السادس) وأخت (بتريسة) زوجة ملك البرتوغال تزوجت أولا ب (ريمون البرغوني) الذي جعله (ألفونس السادس) كونت جيليقة، ثم تزوجت سنة ١١٠٩ م (بألفونس لوبانلبود) ملك (نواره) و(أراغون) ثم كرهها زوجها هذا لابتذال الحرية في سلوكها وعنادها في طلب حقوق الملك إرثا عن أبيها (ألفونس السادس)، ثم خلعت نائب ملك قسطيلة بواسطة زوجها الذي اتخذ له حزبا قويا هناك فأسرت وحجز عليها في (أراغون)، لكنها فرت من السجن وطلبت إلى الكرسي فسخ عقد زوجيتها، فصالحها (ألفونس) مؤقتا، ثم طلقها ثانيا سنة ١١١١ م فلجأت إلى محاربته لتطرده من مملكتها فاكنسرت ومضت إلى جيليقة وكان لها من زوجها ولد (ألفونس الثامن) فنادت باسمه ملكا سنة ١١١٢ م وحكمت اسم محبوبها كونت (لاراه) في سنة ١١١٢ م فخلعه كبار قسطيلة ونادوا باسم (ألفونس الثامن) فلم تقبل ذلك أراكة إلا بعد معاركة انتشبت بينها وبين ابنها فأسرت وحجز عليها في دير (سردتها) فماتت فيه بعد أربع سنوات.
أريا الرومانية
قد اشتهرت بشجاعتها وذلك أن زوجها دخل في مؤامرة ضد الإمبراطور فحكم عليه بأن يقتل نفسه فكلي تشجعه أخذت خنجرا وطعنت به نفسها، ثم ناولته إياه وقالت: خذه فإنه لا يؤلم ففعل مثلها وماتا معا.
أرسلان خاتون
هي خديجة ابنة داود أخي السلطان (طغرلبك) السلجوقي تزوجها الخليفة القائم بأمر الله العباسي سنة ٤٤٨ هجرية، ثم لما وقعت الوحشية بينهما أخذها (طغرلبك) بصحبته إلى الري سنة ٤٥٥ هجري) ثم أعيدت إلى بغداد سنة ٤٥٩ هجري واستقبلها الوزير فخر الدولة بن جهير على بعد فرسخ.
وهي التي دعتها امرأة السلطان ملك شاه في تزويج بابنتها بالخليفة المقتدي من غير اشتراط المهر لأنها كانت تعززت واشترطت حمل مهرها أربعمائة ألف دينار، فأشارت عليها أرسن خاتون بان تزوجها بدون اشتراط مهر فوثقت بكلامها، وفعلت ما أرادت وكانت المترجمة من النساء الكريمات الخيرات محبة للعلماء ولها جملة أوقاف على محلات خيرية مثل
1 / 21
جوامع وتكايا وبيمارستانات ومدارس وخلافها في بغداد وغيرها من الممالك الإسلامية.
أرسولا العذراء
هي من الكنسية الرومانية الكاثوليكية قيل: إنها ابنة أمير مسيحي من بريطانيا، وقد اختلفوا في تاريخ استشهادها فقيل: سنة ٢٣٧ بعد الميلاد. وقيل: سنة ٣٨٣ م. وقيل: ٥٤١ م. وسبب ذلك قيل: إن أميرا طلب أن يتزوجها فأجابته في الظاهر خوفا على بيت أبيها من شره، لكنها اشترطت أن يعطيها فرصة ثلاث سنوات وإحدى عشرة سفينة وعشر رفيقات من بنات الأشراف، ولها ولكل واحدة منهن ١٠٠٠ عذراء فلما أعطيت ذلك أخذت تدرس معهن فن سلك البحار، ولما دنا وقت زفافها تضرعن إلى الله فأرسل فجأة عاصفة قذفت سفنها إلى مصب نهر (الرين) ومن هناك إلى (بازل) فتركن السفن ومضين ماشيات إلى رومية وبينما هن راجعات صادفن في (كولونيا) جيشا من الهوتيين، فلما رآهن أمير الجيش دعاهن إليه فلما حضرن أعجبته (أرسولا) فطلب أن يقترن بها فأبت عليه، فأمر بقتلهن جميعا وتركوهن وانصرفوا، فوارى أهل (كولونيا) أشلاءهن في التراب وأقيم لتذكارهن بعد ذلك معبد مخصوص إلى الآن يوجد في ذلك المعبد مجموع عظام يقال: إنها عظام (أرسولا) ورفيقاتها وجعل (لأرسولا) عيد في ٢١ تشرين الأول (أكتوبر) من كل سنة.
أرسينوي ابنة بطليموس الأول ملك مصر
تزوجت ب (ليسيماخوس) ملك تراقة بعد أن طلق امرأته لأجلها فحاولت (أرسينوي) أن يكون الملك لولدها بعده فسعت بقتل (أغاتوكليس) ابن زوجها، وهربت امرأته بأولادها إلى سوريا ملتجئة إلى (سلوقس)، وطلبت إليه أن يأخذ بثأرها فنشأت عند ذلك حرب بين ملك تراقة وملك سورية قتل بها (ليسيماخوس) سنة ٢٨١ قبلا لميلاد فمضت (أرسينوي) إلى (كسندريه) من مدن (مكدونية) وبقيت هي وأولادها مدة تحت ظل الأمان.
فلما قتل (بطليموس) (سيروتوس سلوقس) واستولى على (مكدونية) سنة ٢٨٠ ق. م طمعا في الزواج ب (أرسينوي) ليقتل أولاد (ليسيماخوس) .
فلما أجابته إلى الزواج واستولى على كسندرية قتل الأولاد بين يدي أمهم فهربت هي إلى تراقة ومنها إلى مصر فقبلها (بطليموس فلاذ) بالإكرام ثم تزوج بها.
أرسينوي ابنة بطليموس أقلية وأخت كليوباترا الشهيرة
أقامها الإسكندريون ملكة بعد أن أسر القيصر أخاها (بطليموس دنيسبيوس) سنة ٤٧ قبل الميلاد، ثم وقعت هي أيضا في قبضة القيصر المذكور سنة ٤٦ ق. م فأرسلها إلى رومية افتخارا بأسرها غير أن حسن سلوكها مال بالرومانيين إليها فأرجعت إلى مصر، ولما هربت من وجه أختها (كليوباترا) إلى هيكل (ديانا) أخرجها منه (أنطونيوس) بأمر (كيلوباترا) وقتلها في سنة ٤١ قبل الميلاد.
أرسينوي ابنة بطليموس أقرجيه
تزوج بها أخوها (فيلوباتر) ورافقته في حربه مع (أنطيوخوس الكبير) سنة ٢١٧ قبل الميلاد، وبعد سنين قليلة قتلها (فيلمون) أحد خواص امللك فنهض أصحابها وقتلوه بثأرها مع كل عائلته، و(أرسينوي) هذه هي أم (بطليموس أبيفانوس فيلوباتر) قد اشتهرت بحسن سياستها وخبرتها بالأحكام وخصوصا في الفنون الحربية، ولذلك كان زوجها دائما يرافقها ف غزواته، وقد انتصر على أعدائه جملة مرارا وكل ذلك بآرائها الصائبة.
أريانو ابنة منيوس ملك أكريت
هي ابنة (منيوس) من زوجته (باسيفا) قال: (أوميروس) أحبت (تيسيوس) لما أتى (أكريت) لمقابلة (فيوتود) مع
1 / 22
الأتيينين الذين أتوا ليقدموا له الجزية وأعطته ربطة من الخيطان استعان بها على الخروج من البربي التي دخلها لقتل (مينوثور) فعرض عليها (تيسيوس) أن يتزوجها مقابلة لها على صنيعها فأجابته (أريانو) إلى ذلك وسافرت معه إلا أنهما لما وصلا إلى جزيرة (نكسوس) تركها (تيسيوس) ورجع إلى بلاده قائلا: (إن التي لم يكن لها خير في وطنها وأهله لم يكن لها خير في غيره) وبقيت هناك إلى أن ماتت جوعا.
أريانو ابنة لاون ملك اليونان
تزوجت (زينون) الذي جلس على تخت الملك سنة ٤٧٤ للميلاد وساءها ما بدا من فواحش زوجها وخطئه ويقال: إنها دفنته في الأرض حيا وهو سكران، وتزوجت (أنسطاس) وأجلسته على تخت الملك بدلا عنه، وكانت وفاتها سنة ٥١٥ للميلاد ولها جملة مآثر في مملكتها.
أزدوجا خاتون زوجة السلطان أوزبك
اسمها (أردوجا) (بضم الهمزة وإسكان الراء، وضم الدال المهملة، وجيم وألف) وأورد: بلسانهم المحلة، وسميت بذلك لولادتها في المحلة، وهي ابنة الأمير الكبير (عيسى) بيك أمير الألوس (بضم الهمزة واللام) ومعناه أمير الأمراء.
قال ابن بطوطة في (رحلته): لما مررت بتلك البلاد وزرت السلطان أوزبك وامرأته ووزراءه وكان ذلك الأمير حيا وهو متزوج ببنت السكان (آيت كججك) وابنة (أردوجا خاتون) من أفضل الخواتين وألطفهن شمائل، وأشفقهن وهي التي بعثت إلي لما رأت بيتي على التل عند جوار المحلة، ولما دخلنا عليها رأينا من حسن خلقها وكرم نفسها ما لا مزيد عليه وأمرت بالطعام فأكلنا بين يديها ودعت بالشراب فشرب أصحابنا وسألت عن حالنا فأجبناها، وانصرفنا من عندها ونحن شاكرون معروفها.
ولها مآثر وخيرات دارة على مساجد وتكايا ومدارس في بلادها وكانت مقربة عند السلطان لتقرب أبيها منه ومسموعة الكلمة عنده.
أورجا ملكة كيلوكرى في بلاد طوالس
هذه الملكة بنت ملك (طوالس) وهي بلاد واسعة مجاورة لبلاد الصين كان أبوها يفتح الفتوحات ويضع فيه من يشاء من أولاده، ولما فتح (كيلوكرى) وضع ابنته (أورجا) لعلمها بالسياسة وشجاعتها بالحرب وإقدامها على الأهوال.
قال ابن بطوطة في (رحلته): (لما وصلنا إلى (كيلوكرى) ورسينا بميناها استدعت هذه الملكة الناخورة (أي القبودان) صاحب المركب والكواني - وهو الكاتب - والتجار على عادتها، ورغب الناخرة مني أن أحضر معهم فأبيت الذهاب.
فلما حضروا عندها قالت لهم: هل بقي أحد منكم لم يحضر فقال لها الناخورة: لم يبق إلا رجل واحد بخشي وهو القاضي بلسانهم (وبخشي بفتح الباء الموحدة وسكون الخاء وكسر الشين المعجمتين) وهو لا يأكل طعامكم فقالت: ادعوه، فجاء جنادرتها وأصحاب الناخورة فقالوا: أجب الملكة. فأتيتها وهي بمجلسها الأعظم وبين يديها نسوة بأيديهن الأزمة يعرضن ذلك عليها، وحولها النساء القواعد وهن وزيراتها، وقد جلسن تحت السرير على كراسي الصندل وعليه صفائح الذهب، وبالمجلس مساطب خشب منقوش، عليها (أوان) ذهب كثيرة من كبار وصغار كالخوابي والقلال واليواقيل، أخبرني الناخورة أنها مملوءة بشراب مصنوع من السكر مخلوط بالأفاويه يشربونه بعد الطعام وأنه عطر الرائحة حلو الطعم يفرح ويطيب النكهة، ويهضم.
لما سلمت على الملكة قالت لي بالتركية: - ما معناه -: كيف حالك، كيف أنت؟ وأجلستني بالقرب منها، وكانت تحسن الكتابة بالعربية فقالت لبعض خدمها: آتني دواة وقرطاسا
1 / 23
فأتى بذلك، فكتبت: بسم الله الرحمن الرحيم فقالت: ما هذا؟ فقلت لها: تنضري تنكري نام (وتنضري بفتح التاء الفوقية وسكون النون وفتح الضاد وراء وياء) ونام (بنون وألف وميم) ومعنى ذلك اسم الله فقالت: جيد، ثم سألتني من أي البلاد قدمت فقلت لها: من بلاد الهند. فقالت: بلاد الفلفل؟ فقتل: نعم، فسألتني عن تلك البلاد وأخبارها، فأجبتها. فقالت: لا بد أن أغزوها وآخذها لنفس فإني يعجبني كثرة مالها وعساكرها. فقلت لها: افعلي، وأمرت لي بأثواب وحمل فيلين من الأرز وبجاموسين، وعشرين من الضأن، وأربعة أرطال جلاب، وأربعة مرطبانات وهي ضخمة مملوءة بالزنجبيل والفلفل والليمون والضبا، وكل ذلك مملوح مما يعد للبحر.
وأخبرني الناخورة أن هذه الملكة لها في عسكرها نسوة وخدم وجوار يقاتلن كالرجال وأنها تخرج في عساكر من رجال ونساء فتغير على عدوها وتشاهد القتال، وتبارز الأبطال.
وأخبرني أنه وقع بينها وبين أعدائها قتال شديد، وقتل كثير من عسكرها وكادوا ينهزمون فدفعت بنفسها وخرجت الجيوش حتى وصلت إلى الملك الذي كانت تقاتله فطعنته طعنة كان فيها حتفه وانهزم عسكره، وجاءت برأسه على رمح فافتكه أهله منها بمال كثير فلما عادت إلى أبيها ملكها تلك المدينة التي كانت بيد أخيها.
وأخبرني أن أبناء الملوك يخطبونها فتقول: لا أتزوج إلا من يبارزني فيغلبني فيحتشمون مبارزتها خوفة المعرة أن تغلبهم.
ولهذه الملكة غارات ووقائع غريبة مع ملوك الهند ومولك الصين من المسلمين وعبدة الأوثان وما زالت مالكة تلك البلاد مدة من الزمان حتى توفي والدها وإخوتها جميعا وملكت سائر ملك أبيها وأخيرا قتلت بفراشها بدسيسة أحد ملوك الصين وانقرض ملكها بموتها.
أربلاي المؤلفة
مدام (دو أربلاي) مؤلفة إنكليزية ولدت سنة ١٧٥٢ م، توفيت سنة ١٨٤٠ م، وكانت في حداثتها قليلة الكلام جبانة، لكنها لما كبرت هذب العلم أخلاقها فكتبت سنة ١٧٧٨ م قصة تشهد ببراعتها وطول باعها في هذا الفن، ثم كتبت عدة روايات غيرها واتخذتها الملكة لخدمتها الخصوصية.
وبعد أن خدمت ٥ سنوات ألحأها ضعف جسمها إلى الاستعفاء، واقترنت سنة ١٧٩٣ م برجل فرنسي واستمرت على التأليف حتى إن مؤلفاتها زادت جدا وبقيت بعدها ميراثا لورثتها حتى أغنتهم غنى فائق الحد وطبعت جميع مؤلفاتها وانتشرت في جميع أنحاء العالم الغربي.
أرتمسيا ملكة هاليكرناسوس من كاريا
هذه الملكة كانت من ذوي الحكمة والدراية بالأمور الحربية والسياسية، وكان قورش ملك فارس لما هاجم بلاد اليونان اشتركت معه لكونها كانت خاضعة له، وأخذت معها أسطولا مؤلفا من خمس سفن.
واشتهرت بما كان منها من البسالة والحكمة في معركة (سلاميس) التي انتشبت سنة ٤٨٠ قبل الميلاد، وذكر في رواية مشكوك في صحتها أنها شغفت بحب شاب من (أبيذوس) اسمه (وردانوس) إلا أنه لم يشاركها في حبها فسلمت عينيه لكنها ندمت فيما بعد على قساوتها، واستشارت المعبودات فيما يجب أن تفعل كفارة عن ذنبها فقالت لها: من الواجب أن تطرح نفسها في البحر عن منحر جزيرة (لوكاريا) ففعلت ذلك وماتت غريقة.
أرجون جارية أبي العباس الذخيرة
وهو محمد بن القائم (بأمر الله) العباسي بسببها بقيت الخلافة في ولد القائم لأنه لم يكن له سوى أبي العباس هذا، وتوفي في حياة أبيه ولم يعقب فحزن القائم في أواخر أيامه حزنا لا مزيد عليه، وانقطع أمل الناس من خلافة
1 / 24
عبقه وظنوا أن دولة البيت القادري قد انقرضت، وكان أبو العباس يختلف إلى هذه الجارية فاتفق أنها حملت منه، فلما رأى الناس هذه الحالة، وما ألم بالقائم من الهم والحزن أعلنت حملها فتعلقت آمال الناس بها وتوجهت الأفكار إليها، ثم إنها ولدت بعد وفاة مولاها بستة أشهر غلاما ففرح القائم فرحا مفرطا، وفرح الناس لبقاء الخلافة في بيته، وهذا هو الذي لقب بالمقتدر، وكان من أمره ما جاء في تاريخه وأرجو أن هذه أم ولد أرمنية تدعى قرة العين وأدركت خلافة ابنه المستظهر بالله وخلافة ابن ابنه المسترشد بالله.
أروى ابنة عبد المطلب
أروى ابنة عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشية عمة رسول الله ﷺ. ذكرها أبو جعفر في الصحابة وذكر أيضا أختها عاتكة ابنة عبد المطلب قال محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي لما أسلم طليب بن عمير دخل على أمه أروى بنت عبد المطلب فقال لها: قد أسلمت وتبعت محمدا أو تتبعينه فقد أسلم أخوك حمزة. قالت: انظر ما تصنع إخوتي ثم أكون مثلهن.
قال: فقلت: إني أسألك بالله ألا أتيته وسلمت عليه وصدقته، وشهدت أن لا إله إلا الله. فقالت: فإني أشهد أن لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم كانت بعد تعد النبي لصلى الله عليه وسلم وتتبعينه بلسانها وتحض ابنها على نصرته والقيام بأمره وكانت من الشاعرات الأديبات والمتكلمات في العرب.
ومن قولها ترثي والدها عبد المطلب مع باقي أخواتها حين طلب منهن ذلك قبل موته ليعلم قوتهن في الرثاء:
بكت عيني وحق لها البكاء ... على سمح سجيته الحياء
على سهل الخليفة أبطحي ... كريم الخيم شيمته العلاء
على الفياض شيبة ذي المعالي ... أبيك الخير ليس له كفاء
طويل الباع أملس شيظمي ... أغر كان غرته ضياء
أقب الكشح أروع ذو فضول ... له المجد المقدم والثناء
أبي الضيم أبلج هبرزي ... قديم المجد ليس له خفاء
ومعقل مالك وربيع فهر ... وفيصلها إذا التمس القضاء
وكان هو الفتى كرما وجودا ... وبأسا حين تنسكب الدماء
إذا هاب الكماة الموت حتى ... كأن قلوب أكثرهم هواء
مضى قدما بذي رأي مصيب ... عليه حين تبصره البهاء
وقد أسنت وماتت في خلافة عمر بن الخطاب ودفنت بما يليق بها من الإكرام.
أروى ابنة الحارث بن عبد المطلب بن هاشم
كانت فريدة زمانها وبليغة عصرها وأوانها إذا خطبت أعجزت، وإن تكلمت أوجزت، ولا غرو ابنة البلاغة ومعدن الفصاحة والحصافة.
قيل: إنها وفدت على معاوية بن أبي سفيان لما ولي الخلافة وكانت عجوزا كبيرة فلما رآها معاوية قال: مرحبا بك وأهلا يا خالة فكيف كنت بعدنا فقالت: يا ابن أخي، لقد كفرت يد النعمة، وأسأت لابن عمك الصحبة وتسميت بغير اسمك، وأخذت غير حقك من غير دين كان منك ولا من آبائك، ولا سابقة في الإسلام بعد أن كفرتم برسول الله ﷺ فأتعس الله منكم الجدود، وأضرع منكم الخدود، ورد الحق إلى أهله ولو كره المشركون، وكانت كلمتنا هي العليا ونبينا ﷺ هو المنصور فوليتم علينا من بعده وتحتجون بقرابتكم من رسولا لله ونحن أقرب إليه منكم وأولى بهذا الأمر فكنا فيكم
1 / 25
بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون، وكان علي بن أبي طالب ﵀ بعد نبينا بمنزلة هارون من موسى فغايتنا الجنة وغايتكم النار، فقال لها عمرو بن العاص: كفى أيتها العجوز الضالة وأقصري عن قولك مع ذهاب عقلك إذ لا تجوز شهادتك وحدك. فقالت له: وأنت يا ابن الباغية، تتكلم وأمك كانت أشهر امرأة بغي بمكة وآخذهن للأجرة ادعاك خمسة نفر من قريش فسئلت أمك عنهم فقالت: كلهم أتاني فانظروا أشبههم به فألحقوه به فغلب عليك شبه العاص بن وائل فلحقت به. فقال مروان: كفى أيتها العجوز وأقصري لما جئت له. فقالت له: وأنت أيضا يا ابن الزرقاء تتكلم، ثم التفتت إلى معاوية فقالت: والله ما جرأ علي هؤلاء غيرك فإن أمك القائلة في قتل حمزة:
نحن جزيناكم بيوم بدر ... والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان لي عن عتبة من صبر ... وشكر وحشي علي دهري
=حتى ترم أعظمي في قبري فأجابتها ابنة عمي وهي تقول:
خزيت في بدر وبعد بدر ... يا ابنة جبار عظيم الكفر
فقال معاوية: عفا الله عما سلف يا خالة هات حاجتك. فقالت: ما لي إليك حاجة، وخرجت عنه. وبعد خروجها التفت معاوية إلى أصحابه وقال لهم: والله لئن كلمها كل من في مجلسي لأجابت كل واحد منهم بجواب خلاف الآخر بدون توقف.
وهكذا فإن نساء بني هاشم أصعب في الكلام من رجال غيرهن وأمر لها بجائزة تليق بمقامها، وبقيت مكرمة بين قومها إلى أن توفيت بالمدينة بخلافة معاوية.
أروى ابنة كريز بن عبد شمس
كذا نسبها ابن منده وأبو نعيم والصواب ابنة كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس وهي أم عثمان بن عفان وأمها أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب عمة النبي ﷺ ماتت في خلافة عثمان، وكانت عاقلة ورعة لها صحبة بالنبي ﷺ وروت عنه الحديث وحدثت أناسا كثيرين.
أزرميدخت ابنة أبرويز
كانت من أجمل النساء وجهًا وأحسنهن ذكاء، وأوفرهن عقلا، وأليقهن فعلا ولتعلق الفرس بمحبتها ورغبتهم في علو همتها ملكوها عليهم بعد قتل (خشينده) من بني عم (أبرويز) والدها الأبعدين، وكان عظيم الفرس يومئذ: (هرمز أصبهبد) خراسان فأرسل إليها يخطبها فقالت: إن التزوج للملكة غير جائز وغرضك قضاء حاجتك مني فسر إلي وقت كذا ففعل وسار إليها تلك الليلة فتقدمت إلى صاحب حرسها أن يقتله فقتله وطرح في رحبة دار المملكة، فلما أصبحوا رأوه قتيلا فغيبوه. وكان ابنه رستم وهو الذي قاتل المسلمين بالقادسية خليفة أبيه بخراسان فسار إليها في عسكر حتى نزل بالمدائن وحاصرها حتى ضاقت به ذرعا فطلب أهلها منه الأمان فأمنهم بشرط تسليم الملكة إليه فقبلوه منه ذلك ودخل المدينة وألقى القبض على (أزرميدخت) وسمل عينيها وقتلها. وقيل: بل سملت نفسها وكانت مدة ملكها ستة عشر شهرا.
أسباسيا زوجة بركليس
كانت من أشهر نساء اليونان حسنا وجمالا وعقلا، وفصاحة، وبلاغة، وأدبا، وفطنة، وخطابا لها اليد الطولى على جميع نساء عصرها بموفقتها لزوجها حتى إنها كانت تسير معه أين سار، وتشاركه في كل أعماله العقلية والفعلية، والأتعاب الرياضية وميادين النزال، وتعمل أعمالا يعجز عنها أقوى الرجال حتى أنها اكتسبت بذلك
1 / 26
شجاعة وشهرة لم يسبقها عليها أحد من نساء اليونان، وتقاطرت على بابها العلماء والشعراء والفلاسفة والرياضيون والبلغاء، وكان ناديها أحسن ناد جمع فيه العلم والأدب، ولذلك وصفتها المؤلفة الشهيرة مدام (أون) في كتابها المشتمل على سير أبطال النساء عند ترجمتها إذ قالت: إن بيتها أعظم بيت من بيوت عظماء اللاتينيين فلذلك لو نظرت إلى جدرانه تجدها مرصعة بتماثيل الرجال العظام، وأمام بابه رواق رفيع العماد وعلى الباب أسجاف الأرجوان، وبجانبه أفاريز من المرمر الأصفر وكوى البيت مشكبة كلها بقضبان النحاس على أشكال وضروب شتى، وأرضه مغطاة بالفسيفساء البديعة الأشكال، وعليها أرائك من القرمز والأرجوان، أهدابها مطرزة بالذهب، وفي البيت مكتبة من الخشب الثمين مملوءة بالدروج من الرق والحلفاء فلو نظر القارئ في الصباح إلى هذا البيت يرى (أسباسيا) قد نزلت من غرفتها على درج من المرمر الأبيض ومشت فيا لصحن، وخرجت إلى الرواق الجنوبي الذي يطل على بستان البيت لتستنشق نسيم الصباح مضمخا بأريج الأزهار والرياحين، وخرج (بركليس) وهو ماش بجانبها وتجاذبا أطراف الحديث في السياسة والفلسفة وهي طويلة القامة ممشوقة القد جعدة الشعر شقراؤه، نجلاء العينين حوراؤهما، شماء الأنف صغيرة الأذنين، حمراء الوجنتين والشفتين.
تفتر عن لؤلؤ رطب وعن برد ... وعن أقاح وعن طلع وعن حبب
لابسة رداء أبيض على ردنيه أبازيم من الذهب وفوقه رداء قصير من الأرجوان بل أردان أذياله مطرزة بالذهب وعلى كتفيها رداء ثالث مسدول عليهما سدلا، والنسيم يبعث به في ذهابها وإيابها فتخالها ملكا ناشرا جناحيه للطيران وفي أصابعها خواتم الذهب مرصعة بالحجارة الكريمة ولم تكن (أسباسيا) من ربات الغنج والدلال اللواتي يباهين بالحلي والحلل، بل من أهل الحجة المربين مع الفلاسفة والحكماء، وكان بيتها هذا ناديا تتقاطر إليه الفلاسفة ورجال السياسة كسقراط وأفلاطون وغيرهما فتباحثهم في أسماء المواضيع الفلسفية والسياسية حتى إذا كل عصب الدماغ منها ومنهم أدارت أزمة الحديث إلى الفكاهات واللطائف تديرها عليهم صرفا فتسكرهم بعذوبة كلامها كما أسكرتهم بسمو معانيها، وكان سقراط الحكيم يعترف بفضلها عليه ويشهد بأنها هذبت أخلاقه وكملت معارفه و(بركليس) زوجها كان ينسب إليها كل شهرته في الخطابة وقال: إنه تعلم منها البلاغة والسياسة.
وكان نساء أثينا يترددن على بيتها أيضا ويتعلمن منها التهذيب واللباقة، وكانت الفنون الجميلة كالتصوير والبناء والنقش في أوج مجدها فعضدتها (أسباسيا) بيمينها وسعت جهدها في رفع شأن ذويها ولم تكن هذه الفاضلة من الأثينيات، ولذلك لم تحسب زوجة شرعية ل (بركليس) لأن شريعة أثينا كانت تحرم على الأثينيين اتخاذ الزوجات من الأجانب إلا أن جمالها المفرط وسمو عقلها وغزارة معارفها، وكثرة فضائلها ألجمت ألسن الناس عن الطعن عليها زمانا طويلا، والحسد - وقاك الله منه - عدو وألد لا يبهره الجمال، ولا تتغلب عليه الفضائل فنفخ في آذان بعض ذويه فقاموا عليها واتهموها باحتقار الأثينيات وبلغت القحة منهم حتى طعنوا في عرضها واتهموا معها (آتكفوراس) الفيلسوف (وفيدياس) النقاش فقتلوا أحدهما ونفوا الآخر نفيا مؤبدا وحامى (بركليس) عنهما بكل جهده فلم يستطع إنقاذهما.
ولما وصل الدور إلى (أسباسيا) صار كله ألسنة وبلاغة فدافع عنها في مجمع (أرنوس باغوس)، وكان من أفصح أهل زمانه لسانا، وأثبتهم جنانا، وأقواهم حجة، ولما عجز لسانه عن أقوال إربه دافع عنه بدموع عينيه حتى قيل: إنه أنقذها من الموت بالدمع ولم يكن من ضعاف العزائم الذين تفيض دموعهم عند أخف النكبات ولا كان من المتعلقين بحبال الهوى المنقادين بزمام الشهوات فإنه لما فشا الوباء واختطف ابنته البكر وأخته وكثيرين من أقاربه تحمل هذه النكبة الشديدة بصدر أرحب من البيد، وصبر أغزر من البحر، ولم يسكب عليهم دمعة، ولكنه لما رأى الفضيلة مهانة بإهانة زوجته، والعفة والطهارة مهتوكة أستارها ظلما وعدوانا
1 / 27
لم يتمالك عن البكاء، وكذا لما اختطفت أيدي المنون ابنته الصغرى وحمل إكليل الفرهر ليكلل به جبينه غلبت عليه الشفقة واقترن بها (بركليس) بعد أن هجر زوجته الأولى، وانقاد إليها الانقياد حتى قال (أرستوفاينس): إنها هي التي حملته على إثارة حرب (ساموس) و(بلويومتبسوس) ولكن (فلوطرخس) المؤرخ الثقة نفى عنها هذه التهمة وتوفي (بركليس) بالطاعون فتزوجت (أسباسيا) بعده رجلا من التجار فصار بسببها من مشاهير أثينا وخطبائها.
إستير ستنهوب ابنة كارلوس الثالث في عائلة ستنهوب
امرأة إنكليزية شريفة ذات أطوار غريبة ولدت في لندن في ١٢ آذار (مارس) سنة ١٧٧٦ م، وتوفيت في جون التابعة إقليم الخروب من جبل لبنان في ٢٣ حزيران (جونيو) سنة ١٨٣٩ م، وكانت أكبر أولاد (كارلوس الثالث أرلات ستنهوب) من زوجته (إستير) ابنة (إرل تشتام) دخلت في السنة العشرين من عمرها بيت عمها (وليم بت) فكان يعتمد عليها ويكاشفها أسراره، واستمرت عنده إلى أن مات سنة ١٨٠٦ م، وقبل وفاته أوصى بها الأمة الإنكليزية فيعن لها مرتب سنوي قدره ٢٠٠ ليرة إنكليزية غير أن المبلغ لم يكف لسد المصاريف التي كان يقتضيها مركزها وبذخها فانفردت في (والسن) ثم تركتها وطافت أوروبا وكانت حينئذ فتية نضرة جميلة غنية، فقوبلت في البلدان التي زارتها بالتكريم والتعظيم اللذين تقتضيهما صفاتها إلا أنها أبت الزواج مع أن خاطبيها كانوا من أهالي الرفعة والشأن وبعد أن زارت أكبر عواصم أوروبا لاح لها أنها تحصل في الشرق على مركز عظيم فسارت إلى القسطنطينية، وأقامت فيها بضع سنين واختلف الناس ي سبب خروجها من بلادها فذهب بعضهم إلى أنه حملها على ذلك حزنها على جنرال إنكليزي شاب قتل في إسبانيا وكانت تحبه فأثر فيها موته تأثيرا شديدا حتى لم تطب لها الإقامة بعده في إنكلترا، وذهب آخرون إلى أن الذي حملها على ذلك إنما هو ميلها إلى القيام بعظائم الأمور وحب الشهرة.
ثم خرجت من القسطنطينية قاصدة سورية سنة ١٨١٠ م في سفينة إنكليزية كان فيها قسم كبير من ثروتها وأنواع كثيرة مختلفة من الحي والتحف، فلما وصلت السفينة إلى الجون (مكري) تجاه جزيرة (رودس) صدمت صخرا فتحطمت على مسافة بعض أميال من الساحل، وغرت أمتعة (إستير ستنهوب) وأموالها ولم تنج هي من الموت إلا بعد عناء شديد فحملت على لوح السفينة إلى جزيرة صغيرة قفرة فقامت فيها ٢٤ ساعة لم تذق طعاما ولم يكن لها منقذ ولا مجير إلا أن جماعة من صيادي (مرموريزا) وجدوها في تلك الجزيرة في أثناء تفتيشهم على بقايا السفينة، فساروا بها إلى (رودس) وهناك أخبرت قنصل إنكلترا فجمعت ما بقي لها من المتاع وباعت قسما من أملاكها، بأبخس الأثمان وركبت سفينة ملأتها تحفا نفيسة وهدايا ثمينة للبلدان التي عزمت على السياحة فيها لم يصادفها في مسيرها نوء. وأتت اللاذقية فأقامت هناك، وتعلمت اللغة العربية وعرفت عادات الأهالي وطباعهم، وجهزت قافلة كبيرة، وحملت إلى البدو هدايا نفيسة على ظهور الجمال، وطافت أنحاء سورية كلها، فزارت القدس، ودمشق، وحمص، وبعلبك، وتدمر. ولما وصلت إلى تدمر اجتمع إليها كثيرون من قبائل البدو ومكنوها من الوصول إلى تلك المدينة، وكان عددهم حينئذ من ٤٠ إلى ٥٠ ألفا وكانوا كلهم يتعجبون من جمالها ولطفها، وأبهتها فجعلوها ملكة لتدمر وعاهدوها على أن جميع الإفرنج الذين يحصلون على حمايتها يمكنهم أن يزوروا (بعلبك) وتدمر آمنين على أرواحهم، ولكن بشرط أن يدفع كل منهم ضريبة قدرها ألف قرش، واستمرت تلك المعاهدة مدة طويلة يعمل بها وعند رجوعها من تدمر عزمت قبيلة قوية من البدو عدوة لتدمر التعدي عليها، غير أن أحد حشمها أنبأها في الحال بوقوعها في ذلك الخطر الجسيم فأخذت في السير ليلا، وكان خيلها من أجود الخيل فاجتازت في مدة ٢٤ ساعة
1 / 28
مسافة طويلة وبذلك تمكنت هي ومن معها من النجاة وأتت دمشق وأقامت فيها أشهرا عند الوالي العثماني الذي كان الباب العالي قد وصاه بإكرامها وإعزازها وصرفت زمانا طويلا فيا لطواف والجولان في البلاد الشرقية وأذهل الأهالي ما شاهدوه ومن أعمالها وغناها فكانوا يعاملونها كملكة، وكانت هي تحاول بحذاقتها أن تضاهي (زينوبيا) ملكة الشرق في أعمالها وسنة ١٨١٣ م.
استوطنت دير القديس إلياس المهجور الواقع في جوار قرينه على مسافة ساعة من صيدا، فبنت هناك عدة بيوت محاطة بسور أشبه بالأسوار التي كانت تبنى في القرون المتوسطة، وأنشأت هناك بستانا على نسق البساتين التركية فغرست فيه الأزهار والأشجار والفاكهة وكروما، وأقامت كشوكا مزينة بالنقوش والصور العربية، وجعلت للماء قنوات من الرخام وكانت تنبعث من نافورات وسط بلاط من الرخام مزين بأنواع النقوش أيضا، وكانت أشجار البرتقال والين والأترج الملتفة تزيد ذلك البستان جمالا ونزهة ولم يمكث ذلك الدير حتى صار حصنا وملجأ يلتجئ إليه المظلومون فتجيرهم، فبقيت هناك عدة سنين في أبهة شرقية محاطة بتراجمة سوريين وأوربيين وحاشية كبيرة من النساء، وجماعة من العبيد السود وكانت تلبس لبس أمير وتتقلد السلاح وتدخن وكان لها علائق حبية وسياسية مع الباب العالي، وعبد الله باش، والأمير بشير الشهابي حاكم لبنان، والشيخ بشير جان بلاد ومشايخ البدو في براري سورية وبغداد.
ثم اتخذت لها مسكنا في بيت أخذته من رجل دمشقي مسيحي غني واقع على مرتفع يعرف بظرف جون نسبة إلى قرية (جون) التابعة لمديرية إقليم الخروب من جبل لبنان على مسافة ٨ أميال من صيدا، ووسعت دائرة ذلك البيت، وأقامت حوله جنينة وسورا وبقيت فيه إلى أن توفيت، ثم أخذت ثروتها العظيمة تتناقص لعدم انتظام مصالحها التي لم يكن من يحسن القيام عليها في غيابها فبلغ دخلها السنوي ١٣٠ و٤٠ ألف فرنك وكان مع ذلك غير كاف لسد المصاريف التي تقتضيها حالتها، غير أنه مات بعض الذين صحبوها من الإفرنج وتركها البعض الآخر وخمدت محبة الأهالي لها لأن توافدها كان موقوفا على مواساتهم بالهدايا والعطايا فأمست منفردة وقلت علائقها مع الناس، ولكن ظهر منها في هذه الأحوال ما يدهش الخواطر ويحيرا لعقول لأنها صبرت وتجلدت ولم يخطر لها البتة أن ترجع عن الأعمال التي أقبلت عليها، ولم تتأسف على ما فات ولا على العالم أجمع ولم يحزنها ترك خلانها وثروتها وميليها إلى الشيخوخة فأقامت وحدها من غير كتب ولا جرائد ولا رسائل من أوروبا ولم يكن عندها صديق يؤانسها ولا سمير يجالسها، بل بقي لها فقط جماعة من الجواري السود وعبيد سود صغار السن، وبضعة فلاحين سوريين يعتنون بشأنها وخيلها، ويسهرون عليها من الطوارق.
وقد تحققت أن ما امتازت به من الصبر والعزم والحزم لم يكن ناشئا عن طباعها فقط، بل عن مبادئها الدينية المؤذنة بالشطط وكان في تلك المبادئ ما يدل على أنها جمعت بين الحقائق وعوائد شرقية خرافية ولاسيما غرائب فن التنجيم وعجائبه وقصارى الكلام أنها حصلت بأعمالها على شهرة عظيمة في الشرق وزهدت أوروبا كلها وكان الأهالي عموما يسمونها بالست الإنكليزية. وأما الإفرنج فتعرف عندهم ب (لاري ستنهوب) .
ولما عزم إبراهيم باشا على فتح سورية سنة ١٨٣٣ م اضطره الأمر إلى أن طلب إليها أن تكون على الحيادة، ويقال: إن بعد حصار عكا في السنة نفسها آوت مئين من الفارين وكانت تتعاطى فن التنجيم وغيره من الفنون السرية، واستمسكت ببعض عقائد دينية مستغربة فلم تعدل عنها حتى مماتها، ومما يدل على أن عقلها لم يخل من الاختلال في بعض الأمور أنها ربت حجرتين في إسطبل لتركب المسيح واحدة منها عند مجيئه إلى الأرض وتركب هي الأخرى مرافقة له إلى القدس، وفي السنين الأخيرة من حياتها كان قد بلغ أهلها في إنكلترا ما كان من أمرها، وإسرافها فقطعوا عنها الإمدادات المالية فتراكمت عليها الديون التي كانت تقترضها من الأهالي بسعي رجل يعرف باللقمجي فتوفيت ولم تقدر على وفائها، وهكذا الذين كانوا يحسبون أن في القرب منها
1 / 29
ربحا لهم آل الأمر إلى خسارتهم.
ويقال: إن مضايقاتها المالية مما كان بينها وبين الأمير بشير الشهابي من الاختلاف والضغينة، وقد سبب ذلك فيها من الخوف الذي أوقعها في مرض عضال قضت به نحبها ولم يكن عندها حال وفاتها أحد من الإفرنج، بل أحاط بها جماعة من خدامها من أهل البلاد فنهبوا بيتها حالما أدركتها المنية وعند وفاتها حضر قنصل الإنكليز من بيروت لأجل دفنها، ودفنت بالبستان المجاور لدارها، وقد روى الأهالي عنها قصصا كثيرة غريبة تكاد أن تكون من الخرافات لا يوثق بها وكتب الدكتور (مريون) الذين بقي عندها بضع سنين طبيبا لها سيرة حياتها بالإنكليزية في ثلاثة مجلدات رواية عنها وقصة أسفارها في ثلاثة مجلدات طبعت بالإنكليزية بعد وفاتها بمدة قصيرة.
وقد زارها كثير من السياح الأوروبيين ومن جملتهم (دو لامرتين) الشاعر الفرنساوي المشهور فإنه لما كان في سورية سنة ١٨٣٢ م يطوف في نواحيها ويتفرج على بلدانها ومناظرها رغب في زيارة تلك الخاتون إلا أنه كان في ذلك الوقت من أصعب الأمور على الإفرنج أن يقابلوها ولاسيما الإنكليز ومن كانوا من ذوي قرابتها فبعث إليها مع رسول بالرسالة الآتية ترجمتها:
سيدتي، من سائح مثلك في الشرق وغريب في هذه الديار جاءها ليتأمل في مناظر الطبيعة وآثارها وأعمال الله فيها، وقد وصل إلى سورية منذ مدة مع عائلته وهو يحسب يوما يتمكن فيه من مقابلة امرأة هي نفسها من عجائب الشرق الذي جاءه زائرا من أجمل سياحته وألذها، فإذا شئت أن تقابليني فاذكري لي اليوم الملائم لذلك وقولي لي أينبغي أن أتوجه وحدي أو يمكنني أن أسير إليك بجماعة من خلاني يرغبون مثلي كل الرغبة في التشرف بمقابلتك، وأرجو يا سيدتي أن لا يكون هذا الطلب سببا لتكلفك ما يزعجك في عزلتك فإنني أعرف من نفسي قيمة الحرية ومحاسن الانفراد ولذلك لا يسوءني البتة رفضك مقابلتي، بل أتلقى ذلك بالتوقير والاحترام إلى آخره.
وفي ٣٠ أيلول (سبتمبر) من السنة نفسها سار إليه طبيبها ودعاه إلى جون فذهب مع الدكتور (ليوزدي) والموسيو (يرسيقال) ولما وصلوا نزل كل منهم في غرفة ضيقة لا نوافذ لها ولا أثاث فيها ولم يتمكنوا من مقابلتها حال وصولهم لأنها لم تكن تقابل الناس قبل ساعة الثالثة بعد الظهر، فلما حان الوقت أتاه غلام أسود وأدخله غرفتها قال: وكان الظلام قد أسبل عليها ذيله فلم أتمكن بسهولة من أن أتبين هيئتها اللطيفة المؤذنة بالهيبة والجلال وذلك الوجه الأبيض الصبيح، فنهضت وهي في زي الشرقيين، ودنت مني، ومدت إلى يدها مسلمة علي فأمعنت بها بالنظر، وإذا فيها من لطف المعاني ما لا تستطيع السنون محوه.
نعم، إن نضارة الوجه واللون والرونق تمضي مع الفتوة إلا أنه متى كان الجمال في القد وهيئة الوجه مع العظمة والجلال، وطرأ عليه تقلبات باختلاف أزمان الحياة لا يزول تماما، وهذا كله على (لاري ستنهوب) وكان على رأسها عمامة بيضاء وعلى جبهتها عصابة من الكتان أرجوانية اللون طرفاها مرسلان على كتفيها وعلى بدنها شال من الكشمير الأصفر وفستان تركي كبير من الحرير الأبيض، كماه متدليان وهو مشقوق عند الصدر يظهر من تحته فستان آخر من نسج الفرس تتصاعد منه أزهار تكاد أن تصل إلى عنقها وهي مرتبطة بعضها ببعض بخرز من اللؤلؤ، وكان في رجليها خفان تركيان أصفران وهي تحسن لبس ذلك جميعه كأنها تعودته من صغرها.
وبعد السلام قالت لي: قد أتيت من مكان بعيد وكلفت مشاق السفر لترى ناسكة فأهلا بك وإنني قلما يزورني الأجانب فيراني منهم في السنة واحد أو اثنان في الأكثر غير أن مكتوبك أعجبني وودت أن اعرف إنسانا يحبا لله والطبيعة والانفراد، وذلك نفس ما أحبه ولاح أيضا أن يجمعنا متحابين وإننا نتوافق في المشرب ويسرني الآن أني لم أخطئ في ظني وقد توسمت فيك عندما رأيتك أمورا تجعلني أن لا أندم على رغبتي في مشاهدتك، وناهيك أنني لما سمعت وقع قدميك وأنت داخل خالجني نفس تلك الخواطر فاجلس ودعنا
1 / 30
نتحدث لأنك قد صرت لي صديقا فقلت لها: يا سيدتي، وكيف تشرفين بهذا اللقب رجلا لا تعرفين اسمه ولا سيرته قالت: نعم إنني لا أعرف حالك قدام الله ولا تحسبني مجنونة كما يسميني العالم في الغالب لأن صدري قد انشرح لك فلا أستطيع أن أخفي عليك شيئا وقد نشأ في الشرق علم ضاع الآن في بلادكم غير أنه لم يزل باقيا إلى الآن في البلاد الشرقية، وقد تعلمته وأتقنته فإنني أرصد الكواكب وأدرك أسرارها فكل منا ولد لنار من تلك النيران المساوية التي تولت أمر ولادتنا وتأثيرها، إما حسن وإما رديء وهو يظهر في عيوننا وجباهنا وهيئتنا وأسارير أيدينا وشكل أرجلنا وحركاتنا ومشيتنا، وبذلك عرفتك حق المعرفة كأننا معا منذ قرن كامل مع أنني لم أرك إلا منذ بضع دقائق.
فقلت باسما: مهلا يا سيدتي إنني لا أنكر ما أجهل ولا أثبت ما لا يوجد في الطبيعة المنظورة وغير المنظورة التي تتجاذب فيها الأشياء أو يرتبط بعضها ببعض كائنات كالإنسان دونه الكائنات تحت سلطة كائنات أعظم منها كالكواكب والملائكة إلا أنني أحتاج إلى وحيهم لأعرف نفسي التي هي عبارة عن فساد وسقم وشقاوة.
وأما أسار مستقبلي فأحب أن لا أعرفها وعندي أنني أجازف على الله الذي أخفاها عني إذا طلبت إلى مخلوق أن يوضحها لي، فأمر المستقبل بيد الله وإني لا أعتقد إلا فيه، وفي الحرية والفضيلة. قالت: ما لي ولهذا فاعتقد فيما يحلو لك، أما أنا فأرى أنك خلقت تحت سلطة ثلاثة أنجم سعيدة، قادرة، صالحة فاعتقد مثل تلك الصفات وهي تشوقك إلى غاية يمكنني أن أكاشفك بها الآن إذا شئت ذلك وقد أرسلك الله إلي لأنير عقلك وأنت من الرجال الذين حسنت نواياهم وطابت سريرتهم ويستنفذ منك الله بإنقاذ الأعمال العجيبة التي يريد أن يجريها بين الناس وهذا جواب كاف وبعد أن أطالا الجدال في هذا الباب.
قالت له: وهل ترى في سياسته ودينه ومعشره كامل الانتظام ولا تشعر بما يشعر به العالم أجمع من أنه لابد من موح وفاة وهو المسيح الذي تنتظره وتطير شوقا إليه فلا ترى أحد موافقا لك في ذلك، وأن العالم أجمع محتاج إلى الإصلاح، وأني أتوقع أكثر من الناس كلهم قدوم مصلح يقوم المسالك ويرشد الناس إلى سواء السبيل فإن كان ذلك المصلح هو ما تسميه مسيحا فهذا أنتظره مثلك، وأرجو أن يظهر بعد أمد وجيز وأطالت الكلام في هذا الباب وقالت لي: اعتقد كما تشاء، أما أنا فعندي أنك رجل من الذين كنت أنتظرهم وقد أرسلتك العناية إلي وسيكون لك دخل كبير في العمل المزمع حدوثه، وسترجع أوروبا إلا أن أوروبا قد مضى زمانها وبقي لفرنسا وحدها أن تقوم بعمل عظيم، ستشترك فيه، ولم أعلم بعد كيف يكون ذلك، ولكنني إن شئت أذكر لك في هذا المساء عندما أستشير أنجمك ولم أعرف إلى الآن أسماءها كلها فقد رأيت منها أكثر من ثلاثة فهي أربعة أو خمسة وربما كانت أكثر ولا شك أن عطارد من جملتها فهو يهب العقل نورا، واللسان طلاقة وطلاوة، وأنت شاعر لا محالة لن في عينيك، والقسم الأعلى من وجهك ما يدل على ذلك إلى أن قالت: فاشكر الله على هذه النعمة لأنه قلما ولد تحت سلطة أكثر من نجم وندر من كان نجمه سعيدا وإذا كان سعيدا فلما يخلو من مفاعيل نجم آخر خبيث يقارنه أما أنت فقد كثرت نجومك وأجمعت كلها على أن تخدمك وهي تتعاون على ذلك فما اسمك؟ فذكرت لها اسمي قالت: هذه أول مرة سمعت به، ثم ذكرت لها ما نظمته من الشعر وأن اسمي مشهور عند أهل العلم في أوروبا إلا أنه لم يتمكن من اجتياز البحور والجبال حتى يصل إلى الشرق قالت: سيان عندي كونك شاكرا أو غير شاعر فإنني أحبك ولي فيك أمل أتحقق أننا سوف نلتقي ثانية فإنك سترجع إلى الغرب، ولكن لا تلبث حتى تعود إلى الشرق فإنه وطنك، قلت: إن لم يكن وطني فهو ميدان أفكاري. قالت: دع عنك المزح فإن وطنك الحقيقي ووطن آبائك وقد تحققت ذلك الآن فانظر إلى رجلك فإنها أشبه برجل رجل عربي، وما زلنا نتحادث حتى دخل عبد أسود فخر على وجهه ساجدا أمامها ويداه على رأسه؟، وخاطبها بكلمات عربية لم أفهمها، فالتفتت إلي وقالت: قد هيئ لك الطعام فاذهب فكل، أما أنا فلا أواكل أحدا لأن عيشتي عيشة نسكية فاغتذي بالخبز والثمار عندما أحس بالجوع
1 / 31
ولذلك لا ينبغي لي أن أكره ضيفي على مجاراتي.
وبعد أن فرغت من مناولة الطعام استدعتني إليها، فلما حضرت وجدتها تدخن بقضيب طويل، واستحضرت لي قضيبا لأدخن أيضا قال: وكنت قد رأيت أجمل نساء الشرق وأظرفهن يدخن مثلها فلم أستغرب ذلك، وكان الدخان ينبعث من شفتيها اللطيفتين على شكل أعمدة فتعطرت به الغرفة، وأقمنا نتحدث في أمورها وأطلت فيها التفكر فتبين لي أنها أشبه بالساحرات القديمات المشهورات وهي أشبه ب (سيرسه) معبودة الأقدمين، وأن عقائدها الدينية وإن كانت غامضة فهي مقتطفة بحذق من أديان مختلفة فقد جمعت بين أسرار (الدروز وتسليم المسلمين واعتقادهم القدر، وانتظار اليهود مجيء المسيح، وعبادة النصارى للمسيح، وممارسة تعاليمه وآدابه، وزد على ذلك التصورات البعيدة الغريبة الناشئة عن فكر مشغوف بالشرق، ومتوقد بطول العزلة والانفراد وبعض إيضاحات أوضحها لها المنجمون العربيون فإذا تصورت ذلك كله انجلى لك شيء من هذا السر العظيم المستغرب الذي يؤثر في الإنسان ما يسميه جنونا ليتخلص من مشقة البحث وإمعان النظر فيه.
والحق أولى أن يقال: إن هذه المرأة غير مجنونة فإن للجنون أمارات واضحة تظهر في العنيني وليس له أثر البتة في تلك الألحاظ اللطيفة ويظهر الجنون أيضا في الكلام فإن صاحبه كثيرا ما ينقطع عن الحديث فترى فيه اختلالا وشططا أما حديثها فسامي المعاني رمزي متسلسل مرتبط منتسق قوي وفي مذهبي أن جنونها اختياري وأنها تعرف نفسها حق المعرفة ولها أسباب تحملها على التظاهر بما قد تظاهرت به وما أخذ القبائل العربية المجاورة للجبال من العجب من حذقها وبراعتها يدل دلالة واضحة على أن ما ترجم به من الجنون إنما هو وسيلة لبلوغ بعض مآرب ولا يخفى أن سكان أرض أجريت فيها العجائب وكثرت فيها الصخور والبراري وتلونت تصوراتهم بألوان جوهم لا يصيخون سمعا إلا إلى كلام نبي أو إلى كلام من كان ك (لاري ستنهوب) فإنهم يميلون إلى فن التنجيم والنبوات والوحي وما أشبه وقد عرفت ال (لاري) المذكورة ذلك واتضحت لها الحقيقة لما هي عليه من قوة الحذق، ولكن ربما ساقتها القوة المذكورة كما هو الغالب في أمثالها إلى الاهتداء إلى مذهب وضعته لغيرها.
وبعد أن جالت هذه التصورات في فكري قلت لها: لا ألومك إلا على أمر واحد، وهو أنك حسبت للحوادث حسابا فعاقك ذلك عن الوصول إلى مركز كان في طاقتك أن تصلي إليه. فأجابته: إنك تتكلم كمن يعتقد اعتقادا صحيحا في الإرادة البشرية، ويشك في فعل القدر، فقوتي على حالها لم تتغير غير أنني انتظر سنوح الفرصة ولا أجد في طلبها وقد أمسيت وحدي مهجورة بين هذه الصخور القفرة عرضة لمفاجئ جسور يطرق منزلي فينهب أمتعتي وحولي جماعة من الخدم الخائنين والعبيد الكنودين وهم ينهبونها في كل يوم ويتهددون حياتي أحيانا وفي المدة الأخيرة لم ينجني من الموت الأحمر إلا هذا الخنجر (وأرته إياه) الذي اضطرني الأمر إلى استخدامه لأدفع عني عبدا أسودا لئيما ربي في بيتي، ومع ذلك تراني سعيدة بقولي: الله كريم وأتوقع المستقبل الذي أخبرك به ويا حبذا لو كنت تحققه مثلي.
وبعد أن تباحثنا كثيرا وشربنا القهوة التي كان يأتي بها العبيد كل ربع ساعة مرة قالت لي: هلم، فإني سأسير بك إلى مكان مقدس لا يدخله أحد من البشر وهو بستاني فدخلناه وجلسنا فيه مسروري الفؤاد لأنه من أجمل البساتين الشرقية التي رأيتها وكنا من وقت إلى آخر نجلس في الكشوك براحة ونتحدث على النسق الأول فلبثنا مدة على هذه الحالة ثم التفتت إلي وقالت: إذا كان القدر قد ساقك إلى هذا المكان وما بين نجمينا من الاتفاق يمكنني من مكاشفتك بأمور أخفيها عن كثيرين من بني البشر سأريك بعينك عجيبة من عجائب الطبيعة لا يعرف مستقبلها إلا أنا وأتباعي وهي التي ذكرها الأنبياء الشرقيون منذ قرون عديدة في نبواتهم، ثم فتحت بابا من أبواب البستان يشرف على حوش صغير فوقع نظري على حجرتين عربيتين جميلتين من أطيب أصل وأكمل شكل فقالت لي: هيا بنا فأريك هذه المهرة الكميت، ألم تتحفها الطبيعة بكل ما هو مكتوب عن المهرة التي ينبغي أن يركبها المسيح (وستوله مسرجة)
1 / 32
فأمعنت بها النظر فرأيت فيها من غرائب الطبيعة ما يقوي ذلك الاعتقاد عند قوم لم يزح عنهم الجهل ستاره، لأن لها في مكان المنكبين تجويفا عميقا واسعا يشبه السرج وشيئا أشبه بركابين في مكان ركوبها من دون سرج صناعي ولاح لي أن تلك المهرة أحست بما لها من المنزلة والاعتبار عند (لاري ستنهوب) وعبيدها بما سيكون من أمرها في المستقبل، لأنها لم تركب البتة، وقد عهدت سياستها إلى سائسين عربيين يسهران عليها ليلا ونهارا ولا يفارقانها لحظة، وبالقرب منها مهرة أخرى بيضاء أجمل منها تشاركها فيما لها من المنزلة عند ال (لاري) المذكورة وهي كأختها لم يركبها أحد، وفهمت من كلام مضيفتي أنه وإن كان مستقبل المهرة البيضاء دون مستقبل المهرة الكميت قداسة فهو سري، وهي وإن كانت لم تقل لي ذلك قولا صريحا استنتجت منه أنها تركبها هي حين تسير بجانب المسيح إلى أورشليم ثم أمرت السائسين أن يخرجا الحجرتين إلى مرج خارج السور ففعلا وبعد أن أطلت النظر فيهما وتأملت في محاسنها رجعت إلى الدار وطلبت منها بإلحاح أن تأذن لموسيو (برسيفال) بمقابلتها فإنه كان صديقي وتبعني رغما عني وأقام منذ الصباح ينتظر صدور الإذن بمقابلتها وهي تبخل عليه بذلك فأجابتني إلى طلبي وببعد التردد مدة ودخلنا جميعا إلى غرفتها لنصرف فيها ليلتنا فأقمنا ندخن ونشرب القهوة بعد مباحثة طويلة دارت بيننا في أمور السياسة ونظام الحكومات فانتقلت أنا منها إلى أمور مزحية عن طريقة تنبئها.
قال: وأردت أن أختبرها فسألتها عن سائحين أو ثلاثة من أصحابي مروا بها منذ ١٥ سنة فأدهشني كلامها عن اثنين منهم لأنني رأيتها مصيبة في حكمها كل الإصابة ومن العجب العجاب أنها وصفت بحذق وبلاغة لا مزيد عليهما واحد من ذينك الاثنين كنت أعرفه حق المعرفة مع أن من أصعب الأمور أن يعرف إنسان طباعه من أول وهلة لأن ظواهره تؤذن ببساطة تامة ويخدع أبعد الناس عن الانخداع، ومما أذهلني أيضا قوة ذاكرتها لأن السائح المذكور لم يصرف عندها إلا ساعتين ومضى بين زيارتي لها وزيارته ١٦ سنة كاملة فلا جرم أن العزلة تجمع قوى النفس وتقويها وقد تحقق ذلك الأنبياء والقديسون وأكابر رجال الدنيا والشعراء فكانوا يطلبون البراري والقفار ويعتزلون وهم بينهم.
ثم تكلمنا عن بونابرت وعن مواضيع أخرى بحرية تامة ومازلنا على تلك الحالة إلى أن مضى أكثر الليل. قال: ولما حان الافتراق ظهر الحزن والكدر على وجهينا فقالت لي: لا تودعني لأننا سنلتقي مرارا في هذه السياحة ونلتقي كثيرا في سياحات أخر مل تخطر لك ببال بعد فاذهب واسترح واذكر أنك قد تركتني في قفار لبنان، ثم مدت إلي يدها فوضعت يدي على قلبي على عادة العرب مودعا وكان خاتمة اجتماعنا.
هذا ملخص ما دار بينها وبين (لامرتين) من الكلام والمقام يضيق دون ما ذكره بالتفصيل أما بينها في (جون) فقد استولى عليه صاحبه الدمشقي الذي مات بعدها بقليل فانتقل إلى ابن له وحيد مسلم، ثم اقتضى به الأمر إلى أن شنق نفسه فأخذت امرأته تبيع كل ما يمكن بيعه من أدوات البناء خوفا من أن يؤخذ البيت منها. وهكذا عجلت خراب تلك الدار الجميلة حتى أمست الآن خاوية على عروشها يأوي إليها البوم وينعق الغراب وكذلك تكاد آثار الضريح الذي أقيم لها تمحى.
وهكذا لم يبق لتلك المرأة التي حاولت أن تضاهي ملكة الشرق ولا أعمالها أثر في بطون التواريخ حفظت ذكرها ليكون عبرة لمن يعتبر وتذكرة لأولي الألباب.
أسماء ابنة أبي بكر الصديق
هي أسماء ابنة أبي بكر الصديق، وأمها قتيلة بنت عبد العزى وهي أخت عائشة لأبيها تسمى ذات النطاقين لأنها صنعت للنبي ﷺ طعامًا لما هاجر فلم تجد ما تشده به فشقت نطاقها، وشدت به الطعام فدعيت ذات النطاقين. تزوجها الزبير بن العوام فولدت له عبد الله وعدة أبناء، وكان عبد الله أول مولود ولد
1 / 33
في الإسلام بعد الهجرة، ثم طلقها الزبير فكانت مع عبد الله ابنها بمكة المشرفة حتى قتل ابنها فبلغت من العمر مائة سنة حتى عميت، وماتت بمكة سنة ٧٣ هجرية و٦٩٢ ميلادية.
ولها شعر قليل في رثاء زوجها وابنها ومن كلامها لابنها عبد الله حين قاتل الحجاج إذ دخل عليها وقال لها: يا أماه قد خذلني الناس حتى ولدي وأهلي، ولم يبق معي إلا اليسير، ومن ليس عنده أكثر من صبر ساعة والقوم يعطونني ما أدرت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: أنت أعلم بنفسك إن كنت تعلم أنك على حق، وإليه تعود فامض له فقد قتل عليه أصحابك ولا تمكن من رقبتك تلعب بها غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت أهلكت نفسك ومن معك، وإن قلت كنت على حق فلما وهن أصحابي، ضعفت فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، ولم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن.
فقال: يا أماه، أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي ويصلبوني قالت: يا بني إن الشاة لا تتألم بالسلخ فامض على بصيرتك، واستعن بالله.
فقبل رأسها وقال: هذا رأيي والذي خرجت به رائيا إلى يومي هذا ما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله وأن تستحل حرماته ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فقد زدتني بصيرة فانظري يا أماه فإني مقتول في يومي هذا فلا يشتد حزنك وسلمي الأمر إلى الله فإن ابنك لم يعهد بإيثار منكر ولا عمد بفاحشة، ولم يجز في حكم الله، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم أو معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به، بل أنكرته، ولم يكن شيء آثر عندي من رضا ربي اللهم لا أقول هذا تزكية لنفسي، ولكني أقوله تعزية لأمي حتى تسلو عني.
فقالت أمه: لأرجو أن يكون عزائي فيك جميلا إن تقدمتني احتسبتك وإن ظفرت سررت بظفرك أخرج حتى أنظر إلام يصير أمرك فقال: جزاك الله خيرا فلا تدعي الدعاء. قالت: لا أدعه لك أبدا فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام بالليل الطويل وذلك النحيب والظمأ في هواجر مكة والمدينة، وبره بأبيه وبي اللهم قد سلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت فأثبني فيه ثواب الصابرين الشاكرين، فتناول يدها ليقبلها فقالت: هذا وداع فلا تبعد فقال لها: جئت مودعا لأني أرى هذا آخر أيامي من الدنيا.
قالت: امض على بصيرتك وادن مني حتى أودعك، فدنا منها فعانقته وقبلته فوقعت يدها على الدرع فقالت: ما هذا صنيع من يريد ما تريد؟ فقال: ما لبسته إلا لأشد متنك. قالت: إنه لا يشد متني، فنزعها ثم درج لمته وشد أسفل قميصه وجبته تحت أثناء السراويل وأدخل أسفلها تحت المنطقة وأمه تقول له: البس ثيابك مشمرة، فخرج وهو يقول مرتجزا:
إني إذا أعرف يومي أصبر ... وإنما يعرف يومه الحر
إذ بعضهم يعرف ثم ينكر
فسمعته فقالت: تصبر إن شاءا لله أبوك أبو بكر والزبير وأمك صفية ابنة عبد المطلب، ثم حمل على القوم وقاتل حتى قتل وصلب وطلبته أمه من الحجاج فأبى عليها إعطاءه، فكتبت لعبد الملك، فسمح لها بذلك فغسلته ودفنته، وبقيت بعده قليلا وماتت بعدما أضرت وذلك في سنة ٧٣ هجرية.
ومن قولها في زوجها الزبير بن العوام حين قتله عمرو بن جرموز المجاشعي وهو منصرف من وقعة الجمل بوادي السباع.
غدر ابن جرموز بفارس بهمة ... يوم الهياج وكان غير معرد
يا عمرو لو نبهته لوجدته ... لا طائشا رعش الجنان ولا اليد
ثكلتك أمك إن قتلت المسلما ... حلت عليك عقوبة المتعمد
أسماء ابنة سلمة
أسماء ابنة سلمة وقيل: سلام بن مخرمة بن جندل بن أبير بن نهشل بن دارم التميمية الدارمية وهي أم الجلاس، قاله أبو عمر. وقال ابن منده وأبو نعيم: أسماء ابنة محزبة التميمية، وهي أم الجلاس، وأم عياش وعبد الله بن ربيعة. روى عنها عبد الله بن عياش والربيع بن معوز وذكر ابن منده وأبو نعيم حديث
1 / 34
عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة قال: دخل النبي ﷺ بعض بيوت أبي ربيعة إما لعيادة مريض أو لغير ذلك فقالت له أسماء التميمية - وكانت تكنى أم الجلاس وهي أم عياش بن أبي ربيعة -: يا رسول الله ألا توصيني؟ قال: "ائتي إلى أختك بما تحبين أن تأتي إليك" ثم أتى بصبي من ولد عياش به مرض فجعل يرقي الصبي ويتفل عليه، وجعل الصبي يتفل على النبي ﷺ، وجعل بعض أهل البيت ينهى الصبي وقال أبو عمر - ذكر نسبها كما تقدم - وقال: "كانت من المهاجرات هاجرت مع زوجها عياش بن أبي ربيعة إلى أرض الحبشة وولدت له بها عبد الله بن عياش ثم هاجرت إلى المدينة وتكنى أم الجلاس روت عن النبي ﷺ. وروى عنها عبد الله بن عياش وجملة من التابعين وتوفيت في خلافة عمر بن الخطاب".
أسماء ابنة عميس
أسماء ابنة عميس بن معبد بن الحارث بن تميم بن كعب بن مالك بن قحافة بن عامر بن ربيعة بن عامر بن معاوية بن زيد بن مالك بن بشر بن وهب الله بن شهران بن عفرس بن حلف بن أقبل وهو خثعم، وأمها هند ابنة عوف بن زهير بن الحارث الكنانية أسلمت أسماء قديما وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب فولدت له بالحبشة عبد الله وعونا ومحمدا، ثم هاجرت إلى المدينة، فلما قتل عنها جعفر بن أبي طالب تزوجها أبو بكر الصديق فولدت له محمد بن أبي بكر ثم مات عنها، فتزوجها علي بن أبي طالب فولدت له يحيى لا خلاف في ذلك.
وزعم ابن الكلبي أن عون بن علي أمه أسماء بنت عميس ولم يقل ذلك غيره وأسماء أخت ميمونة ابنة الحارث زوجة النبي ﷺ وأخت أم الفضل امرأة العباس وأخت أخواتها لأمهم وكن عشر أخوات لأم. وقيل: تسع أخوات. وقيل: إن أسماء تزوجها حمزة بن عبد المطلب فولدت له بنتا، ثم تزوجها بعده شداد بن الهاد ثم جعفر وهذا ليس بشيء وإنما التي تزوجها حمزة سلمة ابنة عميس أخت أسماء ابنة عميس أكرم الناس أصهارا فمن أصهارها النبي ﷺ وحمزة والعباس ﵄ وغيرهم.
أسماء ابنة النعمان بن شراحيل
وقيل: أسماء ابنة النعمان بن الأسود بن الحارث بن شراحيل بن النعمان قال أبو عمر. وقال ابن الكلبي: أسماء بنت النعمان بن الحارث بن شراحيل بن كندي بن الجون بن حجر آكل المرار بن عمرو بن معاوية بن الحارث الأكبر الكندية، تزوجها رسولا لله صلى عليه وسلم فاستعاذت منه ففارقها. وقال يونس عن أبي إسحاق: كان رسول الله صىل الله عليه وسلم تزوج أسماء ابنة كعب الجونية فمل يدخل بها حتى طلقها. قال أبو عمر: أجمعوا على أن رسول الله ﷺ تزوجها، واختلفوا في سبب فراقه لها، فقال قتادة: تزوج رسول الله ﷺ من أهل اليمن أسماء بنت النعمان بن الجون فلما دخل عليها دعاها فقالت له: تعال أنت فطلقها، قال: وزعم بعضهم أنها قالت: أعوذ بالله منك، قال: قد عذت بمعاذ وقد أعاذك الله مني فطلقها.
وقيل: إنما التي قالت له كانت امرأة من بلعنبر من سبي ذات الشقوق، كانت جميلة فخاف نساؤه أن تغلبهن على النبي ﷺ فقلن لها إنه يعجبه أن يقال: نعوذ بالله منك وذكر نحو ما تقدم في فراقها قال: وقال أبو عبيدة: كلتاهما
1 / 35