80

Air Mata Bilyatcu

دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة

Genre-genre

تتطلع عبد الرحيم أمامه وقال كأنه يكلم نفسه: عندي مكتبة كاملة، ولكن كل كتبها في موضوع واحد، التهريج والمهرجين.

توقف وحيد عن السير، نظر في الوجه الصارم الذي بدا له كوجه نسر عجوز أو غراب صامت: غير معقول، لا أصدق، أنت عبد الرحيم الصامت الجاد على الدوام تحب التهريج، قال عبد الرحيم دون أن يلتفت إليه: ولا يفوتني عرض واحد للسيرك، هل تعلم أنني أذهب أساسا للفرجة على البلياتشو؟ أقصد ...

قال وحيد الذي لم يخف ذهوله: صحيح من لا يعرفك يجهلك، من يصدق أنك ... قاطعه عبد الرحيم: لو قرأت عن المضحكين العظام لعرفت أنهم كانوا أكثر الناس في عصرهم حزنا وجدية، أنت سيد العارفين ولا أريد أن أستعرض أمامك أسماء المضحكين من أرسطوفان إلى جحا والكسار، ولا أريد أن أصدع دماغك عن ألعاب السيرك وأشكال التهريج والمهرجين عند البابليين والصينيين والمصريين القدماء، لن يغيب عنك أنهم جميعا يضحكون ويضحكون والدموع تتساقط في قلوبهم أو من عيونهم، وبعضهم كان يحتضر بينما ...

قال وحيد مؤمنا على كلامه: مفهوم مفهوم، هل فكرت أنهم كانوا يضحكون الناس على أنفسهم وواقعهم، هل خطر لك أنهم ثوار عظام وأن ضحكاتهم لا تزال تتردد عالية من فوق رماد حضاراتهم التي بادت أو التي في سبيلها للفناء؟

أطلق عبد الرحيم ضحكة عالية وهو يمد يده لزميله: رجعت لطموحك يا صاحبي، وأنا مجرد إنسان يريد أن يعيش مستورا ويستر طفليه، سأتركك لتغيير العالم وألحق أنا بالأوتوبيس، أنت لا تعلم أن البلياتشو في انتظاري!

وقف وحيد في ذلك اليوم وقفة تمثال حجري على الرصيف المزدحم بالناس، وربما قال لنفسه وهو يرى عبد الرحيم ينحشر في الأوتوبيس مستسلما لقدره اليومي: كيف يخرج منك كل هذا؟ لا، لا أصدق، ولكن الشيء المؤكد أنه هتف بزميله المعلق على سلم الأوتوبيس: سلم لي على البلياتشو، لا تنس يا عبد الرحيم!

3

نزل من الأوتوبيس في حي زينهم، واتجه مع قرطاسيه إلى شقته في المساكن الشعبية التي يعيش فيها مع زوجته الطيبة الراضية زينب وطفليه بدر وعائشة، وطالعته المناظر التي اعتادتها عيناه وأذناه ومسام جلده كل يوم: المساكن المتهرئة المباني القبيحة المداخل والمخارج والجدران والسطوح، والبلكونات المزدحمة بأقفاص الدجاج وقطع الأثاث البالية والأطفال شبه العراة الذين يطلون منها ولا يكفون عن النداء والصياح، عشش الصفيح والجريد العشوائية التي تحيط بها من كل جانب، جبال القمامة المتناثرة التي تزكم الأنوف بروائحها العفنة، عيون الأطفال والكلاب السارحة التي تسيل منها الأحزان، المجاري الطافحة والمياه العكرة المتدفقة من حنفية لم يستطع الزمن نفسه إصلاحها، صرخات الراديو والكاسيتات التي تتصادم وتتلاطم وتسمم الروح والأذن بدويها وإسفافها، والملل الملل الملل المخيم على كل شيء كسحابة كثيفة معلقة فوق المكان ومنذرة بكوارث الزمان، وهو ينظر كل شيء ويسمع كل إنسان ويمني نفسه بالنور الوحيد في حياته الذي سيشع عليه بعد قليل من وجه البلياتشو بدر ووجه ابنه الشقي الصغير الذي سماه على اسمه. ومع أنه - لطول يأسه أو لانعدام طموحه كما اتهمه زميله - قد أصبح مع مرور الأيام وتجاوزه للخمسين من عمره لا يعيش إلا كما يعيش الحي الميت أو الميت الحي، ولا يفكر إلا في الستر وصلاح الأحوال، فقد ألحت عليه فكرة النقل من وظيفته العتيدة كمحاسب دبلوم تجارة وكأنها هي الأمل الوحيد فيما بقي له من أيام على وجه الدنيا الكئيب. هل يحرم أيضا من هذا الأمل الذي تحييه في نفسه ابتسامة البلياتشو كل يوم مع صيحات ابنه بدر في الضحك والبكاء؟ أم يطيح به طاغية الروتين والعفن الذي مكن لكل الطغاة أو مكنوا له لا يدري على وجه التحديد؟ لم تبق إلا خطوات ويصعد السلالم الحجرية المتآكلة إلى شقته في الدور الثالث من الوحدة السكنية رقم ثلاثة ويندفع كعادته كل يوم ليطالع النور المشرق من وجه بدر الخزفي ووجه بدر العفريت، لكن طلب النقل يلح عليه ومعه الأمل الممزوج باليأس كما تختلط الخيوط السوداء بنسيج الكتان الناصع البياض.

قال له رئيسه الأستاذ عبد المعين بعد أن قرأ الطلب ونظر في عينيه ووجهه الطويل المستكين: وتريد أن تتركنا يا عبد الرحيم بعد العشرة الطويلة؟ غمغم دون أن يرفع رأسه خشية أن يرى رئيسه الحزن في عينيه: العشرة لا تهون إلا على الكافر يا أستاذ عبد المعين، لكن ...

سأله عبد المعين: لكن عشرة الأسود والنمور والدببة والخيول أعز عليك من عشرتنا؟ تشجع ورفع رأسه وهتف متوسلا: أستغفر الله يا ريس، ولكن عشرة ... أرجوك لا تضحك علي ولا تسئ فهمي.

Halaman tidak diketahui