ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا
هذا ديوان شعري من أيام الصغر إلى أيام الكبر، تتجلى فيه روحي حدثا وشابا، وكهلا وشيخا، ويعرف منه القارئ أنها روح لم تزل يشبه بعضها بعضا في جميع أدوار الحياة. لم يكن غرضي من نشر هذا الديوان إظهار فصاحة أفاخر بها، ولا إثبات براعة أتعلق بأسبابها، ولا حشد كلمات أتوخى إرسالها، ولا تسيير شوارد يقال: من ذا قالها؟ لا سيما وقد بلغت السن التي يضعف فيها التفكر في المفاخرة، ويقوى التذكر للآخرة. ولكني قصدت جمع هذا الديوان لخصال ثلاث:
إحداها:
أن الشعر لقائله، كالولد لناجله؛ فأخشى من بعد انصرافي من هذه الدنيا أن ينسب إلي ما لم أقله، ويلحق الناس بخاطري ما لم ينجله، ويعزى إليه من قداح الفكر ما لم يجله؛ فلقد وقع لي من هذه الأماثيل جم في أثناء حياتي، فكيف تكون الحال بعد وفاتي؟! والشاهد حينئذ يكون قد صار بعيدا، والثبت إذ ذاك يصبح مفقودا. وكما أنه يجوز أن ينسب إلي ما لم أقله يجوز أيضا أن ينسب كلامي إلى سواي، وأن يختلف الناس في ملكي له بما قد أهملت من دعواي؛ فرأيت الأصلح لأمري - والمرء مسئول عن نفسه في الحياة وبعد الرحيل، ومطالب بأن يثبت الحقائق عن نفسه، وأن يحتاط لذلك قبل أن يصير تحت الرمل المهيل - أن أجمع ما وجد في يدي من أشعاري، وأن أجتهد في ألا ينسب أثري إلى غيري، ولا ينسب إلي غير آثاري.
الخصلة الثانية:
أن بعض هذه القصائد متعلق بوقائع تاريخية مشهورة، وبعضها متضمن لمبادئ سياسية مأثورة؛ فنشرها حصة من التاريخ يتميز فيها من اعتدل عمن اعتدى، ويعرف من ضل ممن اهتدى؛ فلم يزل الشعر وهو الخيال المجسم أحسن قيد للحقائق، ولم تزل الوقائع التاريخية تأخذ من الوزن والقافية أثبت المواثق. وكم من واقعة تاريخية نشدها المؤرخون في أقوال المنشدين! وكم من رجل لم تخلده التواريخ، وجعله الشعر من الخالدين!
الثالثة:
أنه كان لي أصدقاء وأتراب وإخوان، ترافقني عليهم الحسرات إلى التراب، ومن الأعلام من لم أعرفه بوجهه، ولكني عرفته بآثاره، وقطفت من نواره؛ مثل الشيخ أحمد فارس صاحب الجوائب، وعبد الله باشا فكري الشاعر الكاتب؛ فأما الذين رثيتهم من أصحابي فهم: عبد الله باشا فكري، ومحمود باشا سامي، وأمين باشا فكري، ومحمد بك فريد، وكامل بك الأسعد، وأحمد باشا تيمور، والشيخ عبد العزيز شاويش، وأحمد بك شوقي، والشيخ عبد القادر الشيبي، والحاج عبد السلام بنونة، وأخي نسيب، وغيرهم ممن كانوا غرة في جبين الدهر، وكان ذكرهم عبيرا يأخذ منه كل زمن ما يأخذ الروض من الزهر، أفرغ الله عليهم سجال عفوه ورضوانه، وحياهم في آخرتهم بروحه وريحانه؛ فقد أحببت أن أبث أرواحهم الزكية الوجد الذي أجده من فراقهم، وأن أنشر بعد طي أجسادهم ما أعرف من محاسن أخلاقهم، فأكون وفيتهم بعض حقوق الوفاء، وأديت إليهم من الأمانة ما فيه للنفس شفاء.
هذا وقد كنت في السابعة عشرة من العمر طبعت في بيروت أوائل شعري في ديوان سميته «الباكورة»، ولم يكن بقي منه إلا نسخ نوادر، فراجعته في هذه المدة الأخيرة، فلم أجده دون أن ينسب إلي، ولا أصغر من أن يقيد علي، بل قد رأيت الشباب أشعر من المشيب، ووجدت أحسن القريض ما جاء في العهد الغريض؛ ولذلك ألحقت بديواني هذا أكثر ما كنت نشرته في الباكورة، بحيث قد نظم هذا الديوان حاشيتي العمر، وجمع ما قدم وما حدث من نتائج الفكر. والله أسأل أن يتداركني بلطفه، ويسددني بفضله، وأصلي وأسلم على محمد خاتم أنبيائه وسيد رسله، الهادي لأقوم سبله، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
شكيب أرسلان
Halaman tidak diketahui