تصدير ديوان أمير البيان
مقدمة
القسم الأول من الديوان
القسم الثاني
القسم الثالث
القسم الرابع
تصدير ديوان أمير البيان
مقدمة
القسم الأول من الديوان
القسم الثاني
القسم الثالث
القسم الرابع
ديوان الأمير شكيب أرسلان
ديوان الأمير شكيب أرسلان
تصدير ديوان أمير البيان
لما علم شاعر الأقطار العربية وشيخ الأدباء؛ الأستاذ خليل بك مطران، بقرب ظهور ديوان صديقه وعشير صباه، صاحب العطوفة الأمير شكيب أرسلان، أحب أن يضع له كلمة التصدير التي نثبتها في صدر الديوان، قال الأستاذ - حفظه الله:
هذا ديوان أمير البيان. أفي حاجة أنا إلى تسمية صاحبه بعد هذا النعت الذي نعته به الإجماع في الأمة العربية؟!
أتيح لي أن أصدره بهذه الكلمة وفي النفس داع من الود القديم، وباعث من الإعجاب والإكبار؛ فانتهزت الفرصة السانحة مغتبطا بها. ولا أبرئ اغتباطي من أثر فيه للأثرة؛ فإن حظي من الفخر بهذا التصدير أضعاف حظ الصديق الكريم.
بدأ الأمير شكيب أرسلان حياته الأدبية بنظم الشعر، فاشتهر به ولما يعد السابعة عشرة من عمره، وقد طبع في ذلك الوقت ديوانا جمع به أوائل شعره وسماه «الباكورة»، فتوسم مطالعوه أن ناظمه يرقى حثيثا إلى مقام لا يرام بين شعراء العربية. ولو ظل الأمير معنيا بذاك الفن الرفيع لصدق فيه ما ظنوه كل الصدق.
غير أن شأنا آخر من الشئون الضخام التي هي أشد إغراء للرجل البعيد المطمح في مطالب العلياء؛ صرفه وشيكا عن الهيام في مسابح الخيال، والضرب في آفاقه الأنيقة إلى منازلة الحوادث والأيام في معترك الحقيقة.
ففي هذا المفترق الأول من السبل التي يواجه بها المرء مستقبله آثر الأمير الترسل، ومضى فيه متدفقا تدفق الينبوع الصافي، مجلجلا أحيانا جلجلة السيل الكثير الشعاب. وما زال - حفظه الله - منذ خمس وأربعين سنة يتحف قراء العربية في مشارق الأرض ومغاربها بكتب قيمة، يقتبسون من أنوارها هدى، أو يفيدون من مختلف الآراء المنبثة فيها ما يهيئ لهم من أمرهم رشدا؛ إلى رسائل متنوعة يجتلون محاسن أغراسها وأزهارها، ويجتنون ما يغذي العقول ويفكه القلوب من أطايب ثمارها؛ إلى فصول ومقالات تنشرها المجلات الدورية والصحف اليومية في كل قطر؛ فما ينقضي يوم من أيام تلك البرهة إلا وله في كل منها قلائد تزهي بها صفحاتها، أو فرائد تزخر بها أنهارها. ولو تفرغت طائفة من حملة الأقلام، جم عديدها، فياضة قرائحها، فيما يشاء الله من مسائل السياسة والاجتماع والأدب، ومباحث التاريخ والأخلاق؛ لكتابة ما كتب من تلك الفصول والمقالات؛ لتعذر عليها أن تأتي مجتمعة بما أتى به ذلك العلم الفرد.
على أن الذين تتبعوا - كما تتبعت - آثار الأمير شكيب قد تبينوا منذ الساعة الأولى سر المزية التي امتاز بها شعره ونثره جميعا، فأحلاه الذروة المنيعة الرفيعة التي حلها بين الأفذاذ المبرزين من متقدمين ومتأخرين.
ذلك السر هو أنه ملك اللغة من أول أمره. ولا أتغالى إذا قلت: إنه جمع معجمها في صدره، بله ما استظهره في صدره من أساليب بلغائها، ورواه من روائع فحول شعرائها. وفي أثناء وروده تلك الموارد من فصح العربية كان يرى وجوه الانطباق بين المصطلحات القديمة والمصطلحات الحديثة، ويتبين كيف تصرف المتقدمون فيما وصل إليهم من الأصول ليفرعوا عليها المعاني الجديدة التي تعلق بها تصرفا لم يناف سلامة القول، ولم ينابذ مقتضى البلاغة على تحول الأحوال وتعدد العهود.
فلما اتسقت له هذه الخصال، وتوافرت لديه تلك الأسباب، وأفاض من واسع علمه بالعربية على ما أكسبته الخبرة آنا بعد آن من مزكونات المبتدعات الحديثة، ومقتضيات الأحوال العصرية، ما دق منها وما جل، بين حسي ومعنوي؛ عدل غير مبطئ عن تشبثه الأول بالمحض الخالص من الأساليب المأخوذة عن الصميم من القديم، ولم ير له بعد ذلك مكتوب إلا وهو مطبوع بطابع السلاسة والانسجام والغزارة، مع الحرص على شرف المفردات ورصانة التراكيب، مجتمعا كل أولئك في طابع الأمير شكيب.
تلك غاية لم يدركها غير هذا العبقري في الترسل. ولو قد رامها في الشعر لأدركها كما قدمت؛ غير أنه إذا كان قد رضي لنفسه في الشعر أن يكون المقل المجيد، فلا مشاحة في أنه انفرد بين المترسلين بأنه المكثر المجيد.
وإن من ينظر جملة إلى صنيع الأمير شكيب ليجد بحرا زاخرا في الأدب ليست اللؤلؤات المنظومة فيه إلا شقائق للآلئ المنثورة منه في كل جانب.
خليل مطران
القاهرة 25 مايو 1936
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا
هذا ديوان شعري من أيام الصغر إلى أيام الكبر، تتجلى فيه روحي حدثا وشابا، وكهلا وشيخا، ويعرف منه القارئ أنها روح لم تزل يشبه بعضها بعضا في جميع أدوار الحياة. لم يكن غرضي من نشر هذا الديوان إظهار فصاحة أفاخر بها، ولا إثبات براعة أتعلق بأسبابها، ولا حشد كلمات أتوخى إرسالها، ولا تسيير شوارد يقال: من ذا قالها؟ لا سيما وقد بلغت السن التي يضعف فيها التفكر في المفاخرة، ويقوى التذكر للآخرة. ولكني قصدت جمع هذا الديوان لخصال ثلاث:
إحداها:
أن الشعر لقائله، كالولد لناجله؛ فأخشى من بعد انصرافي من هذه الدنيا أن ينسب إلي ما لم أقله، ويلحق الناس بخاطري ما لم ينجله، ويعزى إليه من قداح الفكر ما لم يجله؛ فلقد وقع لي من هذه الأماثيل جم في أثناء حياتي، فكيف تكون الحال بعد وفاتي؟! والشاهد حينئذ يكون قد صار بعيدا، والثبت إذ ذاك يصبح مفقودا. وكما أنه يجوز أن ينسب إلي ما لم أقله يجوز أيضا أن ينسب كلامي إلى سواي، وأن يختلف الناس في ملكي له بما قد أهملت من دعواي؛ فرأيت الأصلح لأمري - والمرء مسئول عن نفسه في الحياة وبعد الرحيل، ومطالب بأن يثبت الحقائق عن نفسه، وأن يحتاط لذلك قبل أن يصير تحت الرمل المهيل - أن أجمع ما وجد في يدي من أشعاري، وأن أجتهد في ألا ينسب أثري إلى غيري، ولا ينسب إلي غير آثاري.
الخصلة الثانية:
أن بعض هذه القصائد متعلق بوقائع تاريخية مشهورة، وبعضها متضمن لمبادئ سياسية مأثورة؛ فنشرها حصة من التاريخ يتميز فيها من اعتدل عمن اعتدى، ويعرف من ضل ممن اهتدى؛ فلم يزل الشعر وهو الخيال المجسم أحسن قيد للحقائق، ولم تزل الوقائع التاريخية تأخذ من الوزن والقافية أثبت المواثق. وكم من واقعة تاريخية نشدها المؤرخون في أقوال المنشدين! وكم من رجل لم تخلده التواريخ، وجعله الشعر من الخالدين!
الثالثة:
أنه كان لي أصدقاء وأتراب وإخوان، ترافقني عليهم الحسرات إلى التراب، ومن الأعلام من لم أعرفه بوجهه، ولكني عرفته بآثاره، وقطفت من نواره؛ مثل الشيخ أحمد فارس صاحب الجوائب، وعبد الله باشا فكري الشاعر الكاتب؛ فأما الذين رثيتهم من أصحابي فهم: عبد الله باشا فكري، ومحمود باشا سامي، وأمين باشا فكري، ومحمد بك فريد، وكامل بك الأسعد، وأحمد باشا تيمور، والشيخ عبد العزيز شاويش، وأحمد بك شوقي، والشيخ عبد القادر الشيبي، والحاج عبد السلام بنونة، وأخي نسيب، وغيرهم ممن كانوا غرة في جبين الدهر، وكان ذكرهم عبيرا يأخذ منه كل زمن ما يأخذ الروض من الزهر، أفرغ الله عليهم سجال عفوه ورضوانه، وحياهم في آخرتهم بروحه وريحانه؛ فقد أحببت أن أبث أرواحهم الزكية الوجد الذي أجده من فراقهم، وأن أنشر بعد طي أجسادهم ما أعرف من محاسن أخلاقهم، فأكون وفيتهم بعض حقوق الوفاء، وأديت إليهم من الأمانة ما فيه للنفس شفاء.
هذا وقد كنت في السابعة عشرة من العمر طبعت في بيروت أوائل شعري في ديوان سميته «الباكورة»، ولم يكن بقي منه إلا نسخ نوادر، فراجعته في هذه المدة الأخيرة، فلم أجده دون أن ينسب إلي، ولا أصغر من أن يقيد علي، بل قد رأيت الشباب أشعر من المشيب، ووجدت أحسن القريض ما جاء في العهد الغريض؛ ولذلك ألحقت بديواني هذا أكثر ما كنت نشرته في الباكورة، بحيث قد نظم هذا الديوان حاشيتي العمر، وجمع ما قدم وما حدث من نتائج الفكر. والله أسأل أن يتداركني بلطفه، ويسددني بفضله، وأصلي وأسلم على محمد خاتم أنبيائه وسيد رسله، الهادي لأقوم سبله، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
شكيب أرسلان
جنيف 12 ربيع الأول سنة 1354
القسم الأول من الديوان
المراسلات السامية
أريد بها ما دار بيني وبين أمير الشعراء في وقته؛ محمود سامي باشا البارودي، رئيس نظار مصر سابقا، وذلك لما كان في منفاه بسيلان على إثر الحادثة العرابية، وقد كانت فقدت من عندي بعض هذه المراسلات، فاضطررت إلى طلب مجلة الزهور الأدبية من مصر؛ لأنها كانت قد نشرتها؛ وهكذا عثرت عليها كلها ما عدا قصيدة ميمية كنت بعثت بها إلى محمود سامي سنة 1902 من طبرية حيث كنت أبدل الهواء. وأما جواب محمود سامي على هذه القصيدة فقد وجدته بين أوراقي. ولنبدأ الآن بالمراسلات التي وجدت في مجلة الزهور، ولا بأس بأن ننشر المقدمة التي صدرها بها شاعر القطرين خليل بك مطران، وهو قوله عن صاحب هذا الديوان:
حضري المعنى، بدوي اللفظ، يحب الجزالة، حتى يستسهل الوعورة، فإذا عرضت له رقة وألان لها لفظه، فتلك زهرات ندية ملية شديدة الريا، ساطعة البهاء كزهرات الجبل.
نبغ منذ طفولته في الشعر، وكان أبكر الفتيان في نشر ديوان له،
1
وجاء ديوانه في وقته آية.
غير أنه لم يلبث أن ترك الشعر وانصرف إلى الترسل، فحبس فيه ما أوتيه من العبقرية، فهو الآن في مذهبي إمام المترسلين.
على أنه قد يدعوه داع من النفس أو من الطوارئ فينظم، ينظم كما ينثر، فياض الفكر غير تعب، لكن نظمه يحمل في عهده الآخر أثرا من نثره.
خليل مطران
قالت الزهور
استشهد الأمير شكيب في بعض كتاباته أولا وثانيا بأبيات للبارودي على غير معرفة شخصية سابقة، فكتب محمود سامي باشا إلى الأمير بالمقطوعة الآتية، قال:
أشدت بذكري بادئا ومعقبا
وأمسكت لم أهمس ولم أتكلم
وما ذاك ضنا بالوداد على امرئ
حباني به لكن تهيبت مقدمي
فأما وقد حق الجزاء فلم أكن
لأنطق إلا بالثناء المنمنم
فكيف أذود الفضل عن مستقره
وأنكر ضوء الشمس بعد توسم
وأنت الذي نوهت باسمي ورشتني
بقول سرى عني قناع التوهم
لك السبق دوني في الفضيلة فاشتمل
بحلتها فالفضل للمتقدم
ودونكها يابن الكرام حبيرة
من النظم سداها بمدح العلا فمي
فأجابه الأمير:
لك الله من عان بشكر منمنم
لتقدير حق من علاك محتم
وشهم أبي النفس أضحى يرى يدا
تذكر فضل أو جميل لمنعم
رأى كرما مني تذكر قوله
فدل على أعلى خلالا وأكرم
ولو كان يدري فاضل قدر نفسه
رأى ذكره فرضا على كل مسلم
أيعجب من تنويه مثلي بمثله؟
لعمري الذي قد شق في شعره فمي
ومهما يكن من أعجم فبفضله
يرى ثقفيا في الورى كل أعجم
إذا مطر الغيث الرياض بوابل
فأي يد للطائر المترنم؟
إذا ما تصبت بالعميد صباحة
بوجه فما فضل العميد المتيم؟
وهل ينكر الإحسان إلا لئامة
وينكر حسنا غير من طرفه عمي؟
وهل في شهود الشمس أدنى مزية
وقد جاء ضوء الشمس لم يتكتم؟
رويدك لا تكثر لدهرك تهمة
ولا تيأسن من أهله بالتوهم
فما زال من يدري الجميل ولم يكن
لتأخذه في الحق لومة لوم
وأنت الذي لو أنصف الدهر لم يكن
لغيرك في العلياء صدر التقدم
جمعت العلا من تلدها وطريفها
فجاءت كعقد في ثناك منظم
غدت خطتي إما يراع ومخذم
وأنك قطب في يراع ومخذم
ولم أر كفا مثل كفك أحسنت
إلى المجد إرعاف المداد مع الدم
جمعتهما جمع القدير بكفه
إلى محتد سام إلى المجد ينتمي
ولو كان يرقى المرء ما يستحقه
إذن لبلغت النيرات بسلم
وأنت الذي يا ابن الكرام أعدتها
لأفصح من عهد النواسي ومسلم
وأنشرت ميت الشعر بعد مصيره
لأعظم نثرا من رفات وأعظم
وأشهد: ما في الناس من متأخر
يدانيك فيه لا ولا متقدم
ولو شعراء الدهر تعرض جملة
بمنجدهم من كل حي ومتهم
لأبصرت شخص البحتري منك بحترا
وخلق أبي تمام غير متمم
لك الآبدات الآنسات التي نأت
وأنست عكاظ الشعر بل كل موسم
لكم أسهرت جفن الرواة وخالفت
حظوظك منها شرد غير نوم
شغفت بها طفلا فأروى بديعها
ولم أرو من وجدي بها نار مضرم
ولا عجب أني أحن صبابة
فيسري الهوى بالقول للمتكلم
أفي كل يوم فيك وجد كأنه
طوى جانحا مني على نار ميسم
أحمل ريح الهند كل تحية
فكم من صبا منها عليك مسلم
وقد طالما حدثت نفسي وعاقني
ترددها ما بين: أقدم وأحجم
حلفت بما بين الحطيم وزمزم
وبالروضة الزهرا ألية مقسم
لألفيت عندي دوس مشتجر القنا
وخوضي في حوض من الطعن مفعم
أقل بقلبي في المواقف هيبة
وأهون من ذاك المقام المعظم
وهب أنني باز
2
قد انقض أشهب
فهل يطمع البازي بلقيان ضيغم؟
ولكن لي من عفو مولاي ساترا
فها أنا ذا منه به بت أحتمي
أمحمود سامي إن يك الدهر خائنا
وطال عليك الزجر طائر أشأم
فما زالت الأيام بؤسا وأنعما
وحظ الشقا بالمكث حظ التنعم
ولولا الصدى ما طاب ورد ولا حلا
لك الشهد إلا من مرارة علقم
عسى تعتب
3
الأقدار والهم ينجلي
وينصاح صبح السعد في ذيل مظلم
وأهديك في ذاك المقام تهانئا
حبيرة مسد في ثناك وملحم
ثم كتب محمود سامي باشا إلى الأمير شكيب بهذه القصيدة:
أدي الرسالة يا عصفورة الوادي
وباكري الحي من قولي بإنشاد
ترقبي سنة الحراس وانطلقي
بين الخمائل في لبنان وارتادي
لعل نغمة ود منك شائقة
تهز عطف شكيب كوكب النادي
هو الهمام الذي أحيا بمنطقه
لسان قوم أجادوا النطق بالضاد
تلقى به أحنف الأخلاق منتديا
وفي الكريهة عمرا وابن شداد
أخي ودادا وحسبي أنه نسب
خالي الصحيفة من غل وأحقاد
أفادني أدبا من منطق شهدت
بفضله الناس من قار ومن باد
عذب الشريعة لو أن السحاب همى
بمثله لم يدع في الأرض من صاد
سرت بقلبي منه نشوة ملكت
بحسنها مسمعي عن نغمة الشادي
يا ابن الكرام عدتني منك عادية
كادت تسد على عيني بأسداد
فاعذر أخاك فلولا ما به لجرى
في حلبة الشكر جري السابق العادي
وهاكها تحفة مني وإن صغرت
فالدر وهو صغير حلي أجياد
فأجابه الأمير شكيب:
هل تعلم العيس إذ يحدو بها الحادي
أن السرى فوق أضلاع وأكباد
وهل ظعائن ذاك الركب عالمة
أن النوى بين أرواح وأجساد
تحملوا ففؤادي منذ بينهم
في إثرهم نضو تأويب
4
وإيساد
5
يرتاد منزلهم في كل قاصية
وحجبه لو درى أحرى بمرتاد
بين الجوانح ما لو أنت جائبه
أغناك عن لف أغوار بأنجاد
وفي الفؤاد كشطر الكف بادية
في جنبها تيه موسى ليس بالباد
كم بت أنشد أحبابي وأنشدهم
في الهند يا شد ما أبعدت إنشادي!
ولو أناجي ضميري كنت مسمعهم
قولي كأنهم في الغيب أشهادي
من كان دون مرامي العيس منزعه
فلي هوى دون أمواج وأزباد
دون الخضارم إن ضل الحبيب سرى
فإن وجدي نعم القائف الهادي
هوى بأروع لو أن الزمان درى
لما أحل سواه الصدر بالنادي
سامي الأرومة في أعراقه نسب
في المجد لا يشتكي من ضعف إسناد
أرق من شمأل الوادي شمائله
وعند شد الليالي صخرة الوادي
من معشر لو يقيس الناس شأوهم
إلى العلا افتقروا فيه لأرصاد
يا من لنا رده من فائت عوض
يمحى به وزر أحقاب وآماد
إن يحجبوك فما ضر النجوم دجى
ولا زرى السيف يوما طي أغماد
لا بأس إن طال نجز السعد موعده
فأعذب الماء شربا في فم الصادي
عسى لياليك قد سلت ضغينتها
وقد صفت كأسها من سؤر أحقاد
واستأنف الدهر سلما لا يكدرها
فالدهر قد يرتدي حالات أضداد
لو كان يسعد قوم قدر فضلهم
ما لاق مثلك أن يحظى بإسعاد
وكتب محمود سامي إلى الأمير من جزيرة سيلان:
ردي التحية يا مهاة الأجرع
وصلي بحبلك حبل من لم يقطع
وترفقي بمتيم علقت به
نار الصبابة فهو ذاكي الأضلع
طرب الفؤاد يكاد يحمله الهوى
شوقا إليك مع البروق اللمع
لا يستنيم إلى العزاء ولا يرى
حقا لصبوته إذا لم يجزع
ضمنت
6
جوانحه إليك رسالة
عنوانها في الخد حمر الأدمع
فمتى يبوح بما أجن ضميره
إن كنت عنه بنجوة لم تسمعي؟
أصبحت بعدك في دياجر غربة
ما للصباح بليلها من مطلع
لا يهتدي فيها لرحلي طارق
إلا بأنة قلبي المتوجع
أرعى الكواكب في السماء كأن لي
عند النجوم رهينة لم تدفع
زهر تألق في السماء كأنها
حبب تردد في غدير مترع
وكأنها حول المجر حمائم
بيض عكفن على جوانب مشرع
وترى الثريا في السماء كأنها
حلقات قرط بالجمان مرصع
بيضاء ناصعة كبيض نعامة
في جوف أدحي
7
بأرض بلقع
وكأنها أكر توقد نورها
بالكهرباءة في سماوة مصنع
والليل مرهوب الحمية قائم
في مسحه كالراهب المتلفع
متوشح بالنيرات كباسل
من نسل حام باللجين مدرع
حسب النجوم تخلفت عن أمره
فوحى لهن من الهلال بإصبع
ما زلت أرقب فجره حتى انجلى
عن مثل شادخة الكميت
8
الأتلع
وترنحت فوق الأراك حمامة
تصف الهوى بلسان صب مولع
تدعو الهديل
9
وما رأته وتلك من
شيم الحمائم بدعة لم تسمع
ريا المسالك حيث أمت صادفت
ما تشتهي من مجثم أو مرتع
فإذا علت سكنت مظلة أيكة
وإذا هوت وردت قرارة منبع
أملت علي قصيدة فجعلتها
لشكيب تحفة صادق لم يدع
هي من أهازيج الحمام وإنما
ضمنتها مدح الهمام الأروع
هو ذلك الشهم الذي بلغت به
مشكاته حد السماك الأرفع
نبراس داجية وعقلة شارد
وخطيب أندية وفارس مجمع
صدق البيان أعض «جرول» باسمه
10
وثنى «جريرا» بالجرير
11
الأطوع
لم يتخذ «بدر المقنع» آية
بل جاء خاطره بآية «يوشع»
أحيا رميم الشعر بعد هموده
وأعاد للأيام عصر «الأصمعي»
كلم لها في السمع أطرب نغمة
وبحجرة الأسرار أحسن موقع
كالزهر خامره الندى فتأرجت
أنفاسه بالعنبر المتضوع
يعنو لها الخصم الألد ويغتذي
بلبانها ذهن الخطيب المصقع
هي نجعة الأدب التي من أمها
ألقى مراسيه بواد ممرع
ملكت هوى نفسي وأحيت خاطري
وروت صدى قلبي ولذت مسمعي
فاسلم شكيب ولا برحت بنعمة
تحنو إليك بأيكها المتفرع
فلأنت أجدر بالثناء لمنة
أوليتها والبر أفضل ما رعي
أرهفت حدي فهو غير مفلل
ورعيت عهدي فهو غير مضيع
وبثقت لي من فيض بحرك جدولا
غمر البحار بسيله المتدفع
عذبت موارده فلو ألقت به
هيم السحاب دلاءها لم تقلع
وزهت فرائده فصارت غرة
لجبين كل متوج ومقنع
هو ذلك النظم الذي شهدت له
أهل البراعة بالمقال المبدع
أبصرت منه «أخا إياد» خاطبا
وسمعت «عنترة الفوارس» يدعي
وحلمت أني في خمائل جنة
ومن العجائب حالم لم يهجع
فضل رفعت به منار كرامة
صرف العيون عن المنار لتبع
فمتى أقوم بشكر ما أوليتني
والنجم أقرب غاية من منزعي؟
فاعذر إذا قصر الثناء فإنني
رزت المقال فلم أجد من مقنع
لا زلت ترفل في وشاء سعادة
وحبير عافية وعيش أمرع
فأجابه الأمير:
أترى يحل هواك بين الأضلع
ويحل لي بسواك ذرف الأدمع
وأبيت أشرك فيك في دين الهوى
وأكون للتوحيد أول مدع
وتظل تشرد بي لغيرك صبوة
هي من سجونك في المحل الأمنع
وأسيم في روض الحسان موزعا
قلبا وهى بالحمل غير موزع
قلب عليك تختمت أبوابه
ما نحوه لسواك طرفة مطمع
إني طويت عن النسيم شغافه
أن جاءني من غير تلك الأربع
وحجبت عن كل العواطف حجبه
إلا الحنين لبدر ذاك المطلع
وأبحت إلا في الغرام هوادة
ومنعت إلا أنة المتوجع
أضحت تغاير في هواك جوارحي
حتى ليغضب ناظري من مسمعي
وأغار من طرفي لغيرك ناظرا
لمحا ولو شيم البروق اللمع
ولو استطعت الشمس ذدت لعابها
عن وجنتيك ولو سعت في برقع
ولقد أغار لهاجس من خاطر
من سر مهجة راهب متورع
يمشي إليك ولو بأعمق قلبه
ويشير بالأفكار لا بالإصبع
درعت حسنك بالكمال وفتية
من حول خدرك حاسرين ودرع
في كلة تذر الضراغم عندها
من ذلة أمثال عفر الأجرع
12
ما للمطامع في الوصال ودونه
خفر الشريعة والرماح الشرع
نفسي الفدا لمقنع
13
هجرت له
أجفانهن شفار كل مقنع
14
تتهافت الأوهام عن حجراته
ويرد خاطره المتيم إذ يعي
ذاك الحمى إلا على من أمه
مني بممتنع الوجيب مشيع
15
أكنهت بالأقدام سر ضميره
وحللت بالأقدام قلب المصنع
هي زورة تحت الظلام وردتها
فردا بلا عضد، بلى قلبي معي!
فنظرت من ذاك الهلال لنير
وعلقت من ذاك الغزال بأتلع
وأسغت في نهل الشفاه وعلها
ما ليس يعذب بعده من مكرع
بتنا كأنا خطرة في خاطر
أو وهلة حلت فؤاد مروع
نبهت بالأغزال هاجع حبها
وحماتها من غافلين وهجع
وسقيتها كأس الهوى دهقا ولم
يحل الهوى إلا بكأس مترع
متمليين من العناق كأننا
قوس خلا لزيادة من منزع
أروي غريب حديث أحوال الجوى
والراح ليس يطيب غير مشعشع
وصل أعاد الشمل أي موصل
لكن أعاد القلب أي مقطع
عاطيتها صرف الهوى وعفافنا
طول التلازم لم يشب من موضع
كانت مضاجعنا تنث كمالنا
لو كان يوجد منطق للمضجع
والليل يكتم ما ينم بسره
أرج النسيم سرى بمسك أضوع
وترى المجرة في السماء كأنها
در تناثر من سماء مضرع
16
حتى إذا شق الدجنة شوقها
للقا ذكاء وشاب فود الأسفع
ورأيت أسراب النجوم تتابعت
بفرارها مصع
17
النعام الأمزع
18
ما كان أحوجنا بذاك لآية
تأتي لنا في عكس آية يوشع!
زحزحت عنها ساعدي وتركتها
دون الكرى من تحت عبء مضلع
وطلعت أعثر بالسيوف ولو درى
أهل السيوف مقامتي لم أفزع
أيغول مهجتي الكماة وما لهم
فخر سواي إذا اغتدوا في مجمع
وترى تخون الخيل فارسها وهل
يردى الحسين على يد المتشيع؟
أو من لهم مثلي إذا عبس الوغى
وتضاحكت أنياب ثغر المصرع؟
وتشاجرت سمر القنا وتجاذبت
بذوائب والسيف شبه الأصلع
ولقد بذذت السابقين فمن لهم
بوقوف سير بالمكارم موضع؟
19
وبلغت من سامي الفخار وجاءني الت
قريظ من «محمود سامي» الأرفع
خنذيذ
20
هذا الدهر واحد أهله
مقدام حلبته الأغر الأبتع
القائل الفصح التي عن مثلها
يثنى «المقفع» في بنان مقفع
لو جاء في العصر القديم لما روى
إلا قصائده لسان «الأصمعي»
قد قاد مملكة الكلام وحازها
أخذ الأعزة للذليل الأضرع
إن يعصه قول فلم يك لفتة
حتى يذلل مستقيم الأخدع
21
سهل البيان عصيه للمحتذي
فلأنت منه بين عاص طيع
خلقت له عليا اللغات فلو هفا
نحو الركاكة جاء كالمتصنع
تغدو المعاني حوما حتى إذا
سامين فكرته هبطن بموقع
ما زال يبدع قائلا حتى يرى
بدعا على الأيام إن لم يبدع
إن أجدبت أرض الخلائق بالثنا
فخلاله للحمد أمجد مرتع
أو حار قوم في الشعاب فإنه
رب المضي على المضيء المهيع
أضحى يطارحني القريض وهل ترى
من أصبع يوما يقاس بأذرع؟
أملى إلي قصيدة فأذابني
خجلا وهيبة خاشع متصدع
يابن الغطارفة الألى لم ينتموا
إلا بأزهر في الندي سميذع
22
لا غرو إن يرتج علي بحضرة
إن قابلت شمس الضحى لم تسطع
فلو ان سحبان الفصاحة قائم
في بابها ما قال غير متعتع
فهناك ما بهر الخواطر هيبة
وزرى بعارضة الخطيب المصقع
كل العقائل في حماك وصائف
والمنشآت
23
من الجواري الخضع
فاسلم رعاك الله سابغ نعمة
وأعاد عيشك للزمان الأمرع
واعذر إذا قصرت عن حق فلو
أمليت أسود مقلتي لم أقنع
انتهى النقل عن مختارات الزهور. •••
وكنت سنة 1908 شاتيا في طبرية عند ابن عمي الأمير أمين المصطفى أرسلان، حيث كان قائمقام في تلك البلدة، فأرسلت إلى محمود سامي باشا في مصر قصيدة ميمية من بحر الخفيف فقدت من بين أوراقي، وكان قد فقد إحدى كرائمه، فكان موضوع القصيدة التعزية والتسلية، وإني أتذكر منها بعض أبيات:
لا تخل كنت في الفجيعة فردا
كل قلب لجرح قلبك دام
ومنها في المديح:
إن أزالوك عن رآسة حكم
لم تزل صدر دولة الأفهام
ومما أتذكره من هذه القصيدة وصف طبرية وغورها:
في ضفاف الأردن يجري على الغو
ر كساق يدير كأس المدام
وتباشير للربيع أضاءت
في عرار من زهره وبشام
ومنها:
وسلامي على الخليل وشوقي
وعلى حافظ بديع النظام
الثريا التي قدمت عليها
بضئيل السهى وشبه القتام
فأجابني محمود باشا سامي بهذه القصيدة:
حي مغنى الهوى بوادي الشآم
وادع باسمي تجبك ورق الحمام
هن يعرفنني بطول حنيني
بين تلك السهول والآكام
فلقد طالما هتفن بشدوي
وتناقلن ما حلا من هيامي
ولكم سرت كالنسيم عليلا
أتقرى ملاعب الآرام
في شعار من الضنى نسجته
بخيوط الدموع أيدي الغرام
كلما شمت بارقا خلت ثغرا
باسما من خلال تلك الخيام
والهوى يجعل الخلاج يقينا
ويغر الحليم بالأوهام
خطرات لها بمرآة قلبي
صور لا تزول كالأحلام
ما تجلت على المخيلة إلا
أذكرتني ما كان من أيامي
ذاك عصر خلا وأبقى حديثا
نتعاطاه بيننا كالمدام
كلما زحزحت بنانة فكري
عنه ستر الخيال لاح أمامي
يا نسيم الصبا فديتك بلغ
أهل ذاك الحمى عبير سلامي
واقض عني حق الزيارة واذكر
فرط وجدي بهم وطول سقامي
أنا راض منهم بذكرة ود
أو كتاب إن لم أفز بلمام
هم أباحوا الهوى حريم فؤادي
وأذلوا للعاذلين خطامي
أتمناهم ودون التلاقي
قذفات من لج أخضر طام
صائل الموج كالفحول تراغى
24
من هياج وترتمي باللغام
وترى السفن كالجبال تهادى
خافقات البنود والأعلام
تعتلي تارة وتهبط أخرى
في قضاء بين السها والرغام
هي كالدهم جامحات ولكن
ليس يثنى جماحها بلجام
كل أرجوحة ترى القوم فيها
خشعا بين ركع وقيام
لا يفيقون من دوار فهاو
ليديه وراعف الأنف دام
يستغيثون فالقلوب هواف
حذر الموت والعيون سوام
في وعاء يحدونه بدعاء
لجلال المهيمن العلام
ذاك بحر يليه بر ترامى
فيه خوض المطي مثل النعام
فسوادي بمصر ثاو وقلبي
في إسار الهوى بأرض الشآم
أخدع النفس بالمنى وهي تأبى
وخداع المنى غذاء الأنام
فمتى يسمح الزمان فألقى
بشكيب ما فاتني من مرام
هو خل لبست منه خلالا
عبقات كالنور في الأكمام
صادق الود لا يخيس بعهد
وقليل في الناس رعي الذمام
جمعتنا الآداب قبل التلاقي
بنسيم الأرواح لا الأجسام
وبلغنا بالود ما لم ينله
بحنان القربى ذوو الأرحام
فلئن لم نكن بأرض فإنا
لاتصال الهوى بدار مقام
وائتلاف النفوس أصدق عهدا
من لقاء لم يقترن بدوام
ألمعي له بداهة رأي
تدرك الغيب من وراء لثام
وقريض كما وشت نسمات
بضمير الأزهار إثر الغمام
هزني شعره فأيقظ مني
فكرة كان حظها في المنام
سمتها القول بعد لأي فبضت
بيسير لم يرو عود ثمام
فارض مني بما تيسر منها
رب ثمد فيه غنى عن جمام
ولو اني أردت شرح ودادي
واشتياقي لضاق وسع الكلام
أنا أهواك فطرة ليس فيها
من مساغ للنقض والإبرام
وإذا الحب لم يكن ذا دواع
كان أرسى قواعدا من شمام
فتقبل شكري على حسن ود
رحت منه مقلدا بوسام
أتباهى به إذا كان غيري
يتباهى بزينة الإنعام
دمت في نعمة يرف حلاها
فوق فرع من طيب أصلك نام
القسم الثاني
في مساجلات شعرية، ومفاكهات أدبية
لما طبعت ديواني المسمى بالباكورة، وأنا إذ ذاك ابن سبع عشرة سنة، بعثت به من بيروت إلى المرحوم عبد الله باشا فكري، بإشارة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وكان في بيروت؛ وذلك مع كتاب مني مصدر بأبيات ما عدت أتذكرها جيدا، وإنما أذكر منها الآن ما يلي:
إذا ما رمت من مهديك كفؤا
لقد أنفدت لؤلؤ كل بحر
فكيف يقوم عندك نزر شعر
يذيب الرعب منه كل شطر؟
ومنها:
جعلت القول في سيف ورمح
وعفت النظم في قد وخصر
فإني عاشق غرر المعالي
ولي نفس فداؤك نفس حر
إذا فكرت يوما في كلام
يكون بمدح «عبد الله فكري»
فأجابني على ذلك بما يلي، وهي في «الآثار الفكرية»:
أتت تختال في حبر وحبر
على العشاق لا كبر وكبر
منعمة الشبيبة لم يرعها
مشيب في العذار أقام عذري
سعت نحوي على سحر تريني
بدائع نظمها نفثات سحر
إلى أن صيرتني في هواها
أسير القلب مبتهجا بأسري
سرت لي من ربى بيروت تهدي
شذى لبنان معلنة بسري
تخبرني وقد ألفت خبيرا
قريب العهد من خبر وخبر
بأن ذوي هواي بها على ما
عهدت مبرة وكمال بر
ألا حيا ربى بيروت عني
ولبنان الحيا منهل قطر
بدر يملأ الأرجاء درا
ويمزج ترب أرضيها بتبر
وحيا من بها ربي وحيا
زمانا مر فيها غير مر
وحيا حي وافدة أتتني
برياها تضوع بنفح عطر
وسرت بالتحية من سري
حري بالوداد علي قدر
سليل كرامة وربيب عز
ونسل صيانة ورضيع طهر
وفرع نجابة من عود مجد
أثيل الأصل من أثلات فخر
كمي من سلالة أرسلان
1
ذؤابة قومه الأسد الهزبر
فتى خطب العلا وصبا إليها
فكان لها صباه خير مهر
ومن خطب الحسان فلا شفيع
لهن سوى الصبا مقبول أمر
تعلق قلبه من عهد مهد
بكسب المجد مجتنبا لخسر
وأولع بالمعالي والمعاني
ونظم الشعر لا لطلاب وفر
2
ولا لصبابة في ورد خد
ولا لصبابة
3
من خمر ثغر
ولا مستبطئا وعدا لدعد
ولا مستبطنا أمرا لعمرو
ولكن لاقتناص شرود معنى
يعن وحكمة تبدو وسر
وإن يلعب فما لعب بعيب
لعهد صبا وشرخ شباب عمر
ولكن تأنف الهمم العوالي
على رغم الصبا سفساف أمر
تحرم قرب أمر فيه إمر
وتوجب هجر كل مقال هجر
4
وكتبت للشاعر المشهور المرحوم إسماعيل باشا صبري يوم كان محافظا لثغر الإسكندرية، وهذا منذ 40 سنة:
دع عنك ما قال العذول ولاكا
هيهات أصبو عن حنين ولاكا
قالوا لك اختار السلو وإنما
أسلو إذا كان الحبيب سواكا
أما هواك فذاك غير مفارقي
ونعيم روحي أن تكون فداكا
في كل يوم لوعة قد غادرت
جسمي لقا دنفا لأجل لقاكا
وحنين نفس لا هناء لها سوى
تذكار شخصك أو شذى ذكراكا
تهفو لتعتنق النسيم لعله
قد مر من جهة بها مثواكا
وتود من فرط الغرام جوانحي
لو كن أجنحة إلى مرآكا
قد حل حبك في الفؤاد فما جلا
عنه فلا ملك سواك هناكا
ويلومني العذال فيك ولو رأوا
ما قد رأيت تتيموا بهواكا
بل لو رأى النساك في قتراتهم
تلك الشمائل ما اغتدوا نساكا
يكفيهم منك المحيا طلعة
البدر فيها لو سفرت وراكا
قسما بمن برأ الحسان ومن برا
عقد القلوب على الحسان ركاكا
إني لأحيا أن تجود بطلعة
متبذلا وأموت عند حياكا
وأبيت أرعى البدر في غسق الدجى
إن لم أصبك فقد أصبت أخاكا
لا تحسبن البعد مال بصبوتي
بل زاد في التعذيب بعد مداكا
والله لا يدري البعاد ولا النوى
إلا الذي قد ذاق مر نواكا
كم ليلة حيران أرقب نجمها
ترد المجرة في السماء عراكا
5
أحييتها حتى إذا رق الدجى
باتت تهاوى في الصفيح دراكا
ذعرت نفور الآبدات كأنما
نصب الصباح لصيدهن شباكا
ليلي: أما للشهب عندك مربط
كي لا تفر إذا الصباح أتاكا؟
كن لي وحقك في المواقف شاهدا
فلطالما أحييت من أحياكا
جهلوا السريرة جملة وتحدثوا
ولأنت أعلم يا ظلام بذاكا
من لم يذق بعد الأحبة لم يزل
أولى العجائب أن يخاف هلاكا
فسقى الأحبة والذي حلوا به
غيث همى لا يعرف الإمساكا
وسقى عهودهم العهاد وهز في
وادي الأحبة أيكة وأراكا
ورعى بوادي النيل عني عصبة
أضحى لهم حفظ الوداد ملاكا
لا أنس أيامي بأنس لقائهم
كلا ولا يا نيل طيب هواكا
يا حبذا واديك من متربع
زاه ونعم الحوم حول حماكا
ورعى بأرضك سيدا أضحت به ال
إسكندرية ثغرك الضحاكا
شهم لعمري ما أفضت بلاغة
عنه قصرت عن المدى إدراكا
كالبحر من كل الجهات أتيته
لترى الحقيقة جاء ملء حجاكا
وال توشح بالكمال فقل له
سبحان من ولاك بل أولاكا
أسرت محبته القلوب فقيدت
فيها ولكن لا تريد فكاكا
قل للمطاول مثل غاية فضله
هيهات تظفر بالنجوم يداكا
من يرعه في لطفه ووقاره
يلقى الملائك فيه والأملاكا
مهلا أيا اسماعيل في طرق العلا
واستبق فيها فضلة لسواكا
لله ما أهدى فعالك للثنا
وأضل في ليل المريب سراكا
حسب المزاحم من علاك مناصبا
أن يستظل بظل فضل رداكا
تاهت بك الإسكندرية بهجة
بلغت نهاية حظها بنهاكا
لم تدر مثلك في الولاة ولا درت
تلك المنار الغر مثل هداكا
وإليك يا ملك القريض قصيدة
وقفت على خجل بباب علاكا
قدمت على اسماعيل وهي عريقة
في لخم طامعة بنيل رضاكا
بينما أنا ذاهب من سورية إلى الآستانة مبعوثا عن حوران في أيام الحرب العامة، نزلت ضيفا في طرسوس على سعادة الشهم الأمثل محمد بك راسم من كبار أعيان مصر المقيم هناك، وكانت حصلت حادثة على فتاة حسناء تشتغل في معمله القطني، وضويقت الفتاة لأجل جمالها، والبك المشار إليه لا يعلم بالواقع، فلما بلغه الخبر امتعض ومنع من التعرض لها وجعلها في مأمن من سطوة العاشق، وصادف وجودي هناك، فقلت على سبيل المداعبة:
أقسمت إذ طلعت علي شموسها
وزهت بها الأرجاء وهي عروسها
أعلى محل في الجمال محلها
وبها فأجمل بلدة طرسوسها
لم أحسد العشاق إلا واحدا
أحظاه رب العرش فهو جليسها
في مجلس يدع الحليم مرنحا
سيان فيه لحاظها وكئوسها
ما إن رأتها مهجة إلا فدت
ذاك المحيا نفسها ونفيسها
ومن العجائب وهي ريمة رامة
تعنو لها غلب الرجال وشوسها
هي جؤذر ولكم سبت من ضيغم
لا يستبيه من الجيوش خميسها
جارت عليها وهي بعد ظبية
نكباء تصطلم الأسود ضروسها
فعدا عليها مذ نعومة ظفرها
خببا نعيم الحادثات وبوسها
بعد القصور العاليات رأيتها
في كسر بيت قصرها ناموسها
بعد الثراء الجم حلة صانع
ولكل حال في الزمان لبوسها
تمضي لها في الغزل بيض أنامل
ظلم الذي هو بالحرير يقيسها
القطن يهزأ بالدمقس بكفها
والخز ود لو انه ملموسها
في الغزل أصبح شغلها ولنا به
متحركا قطع تضيق طروسها
يرجو الملوك نظيرها لبنيهم
فيعود رب الملك وهو يئيسها
أحببت عيسى والصليب لأجلها
حتى يكاد يؤم بي قسيسها
وأخالف الشيخ التميمي الذي
ما كان يطرب سمعه ناقوسها
لو كان شاهد وجهها وعفافها
مع حسنها ما آده تقديسها
بطشت بنا وهي الضعيف بذاتها
بطشات أنور بالعداة يدوسها
هو ذلك البطل الذي في ذكره
أبدا يضيء من الوجوه عبوسها
عادت به الآمال خضرا نضرا
من بعد ما عم البسيط يبيسها
أبقى الإله سعوده موصولة
فبها تغيب عن الديار نحوسها
وأراه كل الكاشحين أذلة
مخفوضة بذرى علاه رءوسها
وكانت صورة هذه القصيدة وصلت إلى الشام، فبعث إلي الأديب الكبير خليل بك مردم بك من سراة دمشق بالأبيات التالية على سبيل المداعبة:
ما للصبابة منك هاج رسيسها
ولنار قلبك عاد فيه حسيسها
عهدي بقلبك والأوانس والدمى
لا تستبيه سعادها ولميسها
شمست عن التهيام نفسك يافعا
هل ريض بعد الأربعين شموسها
لله فاتنة تملك قلب من
تحنى لديه من الرجال رءوسها
فعلت به ألحاظها ما قصرت
عن فعله أقداحها وكئوسها
يا من سحرت بقوله، هل ذاك من
تأثير عينيها وأنت جليسها؟
إن كنت أحببت الصليب لأجلها
وشجا فؤادك قارعا ناقوسها
والروح والإنجيل حلفة صادق
ويمين حق لا يرد غموسها
إني لهجت بذكر يوحنا ومر
قس وازدهى في ناظري جرجيسها
وشريت تكريس البتول ويوسف
وحفظت ما قد قاله قديسها
هذا ولولا حب دين محمد «من دون كاد» لأم بي قسيسها
هامت بها نفسي لوصفك حسنها
حتى كأن موهومها محسوسها
فأجبته بما يلي، وهو أيضا من باب المفاكهة:
والله مذ طلعت علي شموسها
ريضت لها نفسي وزال شموسها
والشمس ما طلعت علت أنوارها
وعرا الكواكب والبدور خنوسها
ألقت على قلبي المتيم لحظة
خضعت لها روحي ولان شريسها
رق الفؤاد لها فصار رقيقها
وحنى لها رأس العلو رئيسها
تدعى الأسيرة غير أن غزاتها
عادت لها أسرى تذوب نفوسها
قد غيبوها في السجون فلم يطل
أن صار رب الحبس وهو حبيسها
خلصت تجرر منه ذيل صيانة
هي منه في لمعانه طاووسها
وكذا الجمال إذا سرت أجناده
سالت بأودية القلوب تجوسها
مذ صوبت نحوي سهام لحاظها
وهنت دروع مفاصلي وتروسها
نفذت لها بين الجوانح نظرة
فيها يضل الطب جالينوسها
باتت تقلب في ضعيف بنانها
أسدا تضيق به الأسود وخيسها
هيهات أطمع بالثبات أمامها
بل يجذب الصوان مغناطيسها
من ذا يعارضها بملك عبيدها
مذ فوق عرش الحسن كان جلوسها؟
شاهدت منها منظرا تحيا به
روح ولو بلغ الفصال نسيسها
وسرقت نظما من مباسم ثغرها
دررا يعز بمثلها قاموسها
قل للخليل يتيه في فيحائه
ويروض كل كريمة ويسوسها
ويرود مرجتها عشية سبتها
6
وله بكل محطة جاسوسها
ويصيد عفر ظبائها في كنسها
وإليه تجبى جوبر وكنيسها
7
أظننت شطر الحب خصك مفردا
وسواك في أقسامه مبخوسها؟
وحسبت ما في الركب غير «خليلها»
و«أديب»
8
ذلك وحده نقريسها
أوإن قطعت الأربعين أينبغي
أن تستوي غزلانها وتيوسها؟
أوما علمت الأربعين رجالها
نعم الفوارس إذ يفور وطيسها
وهم الجهابذة الأساتذة الألى
ليسوا أصيبية تعاد دروسها
وهمو إذا ضمتهمو أعراسها
مثل الضراغم ضمها عريسها
9
أيكون مثلي شاعرا وأكون من
لم يجتذبه من الوجوه أنيسها؟
ما زال سلطان الجمال محكما
تأتيه من كل القلوب مكوسها
وبعث لي سنة 1334 سعادة خليل مردم بك الشاعر الكبير من عيون أعيان الشام قصيدة رائية من بحر الطويل، يلتمس مني فيها أن أجيزه فأجبته بالقصيدة الآتية:
أرى جملة في صفحة الكون لا تقرا
وعاطفة في النفس تدري ولا تدرى
ونارا بأحناء الأضالع كلما
تخللها برد اليقين ذكت جمرا
هي النار في الأحشاء لكنها هدى
لمن كان لا يرضى بإيمانه الكفرا
على ضوئها سار الأئمة قبلنا
وهزوا على الأملاك ألوية حمرا
وكم شاهدوها بالحجاز ونورها
يضيء بأعناق الأيانق من بصرى
ولولا سناها ما درى ذو بصيرة
أقلبا حوى بين الجوانح أم صخرا
ولولاه لم تعرف عن الروح سيرة
ولا أثرا عنها قصصنا ولا إثرا
لقد غاب عنها كنهها ومكانها
ولكن على الأكوان آثارها تترى
لها كل آن في البرية مظهر
يخبر أن الله أودعها سرا
يقولون خلق كل ما فيه آية
أجل إنما سر الهوى الآية الكبرى
دخان بلا عود وعرف بلا كبا
وبرق بلا سلك وسري بلا إسرا
فمن يتأمل في البعيد يجد لدى
جوانبه أشياء لا تقبل الحصرا
ومن يترو في دموع يسيلها
يخض عندها من بين أعينه البحرا
رأيت على طرس الوجود صحائفا
يداول فيها ربها النظم والنثرا
منظمة حبا مشتتة قلى
مؤلفة عرفا مخلفة نكرا
جنود من الأرواح قد أصبح الهوى
لأشكالها سمطا وأصبحت الدرا
لها في صبابات القلوب مذاهب
فأشرفها حبا بأشرفها مغرى
كما هام قلبي بالخليل بن مردم
هناك الهوى العذري قد صحب العذرا
أجل سراة الشام بيتا وإنه
لأحدثهم سنا وأكبرهم قدرا
وأرحبهم ذرعا وأطولهم يدا
وأكرمهم نجرا وأصدقهم فجرا
وأقسم إني ما رأيت نظيره
فتى سبق الأشياخ في قطره خبرا
ولألأ نور المصطفى في نجاره
10
فعم عديا مجد نسبته الزهرا
أتاني قصيد منه يبغي إجازتي
وهل لضئيل النجم أن يقبس البدرا
وكيف يجيز المرء من بان شأوه
عليه وهل للفتر أن يعدل الشبرا
وجاد بشعر كدت عند نشيده
أشكك هل بالشعر جاد أم الشعرى
يساجلني حر القريض وهل ترى
يساجل هذا الترب ذيالك التبرا
إجازة مثلي مثله خالص الدعا
بتوفيقه والله يربي له العمرا
وإني أرى فيه مذ اليوم مفردا
كذاك يرجى البدر من شهد الشهرا
شهدت به في الحسن بدرا وفي التقى
شهدت به سيماء من شهدوا بدرا
أما قصيدة خليل بك مردم بك، فهي هذه، وهي من أوائل شعره:
أحس بشيء في الحشا يشبه الجمرا
أهذا غرام هيجته لي الذكرى؟
أبيت وجنبي لا يلائم مضجعا
ودمعي لا يرقى وطرفي لا يكرى
أصيخ لما يوحي الغرام لمسمعي
فأنثره طورا وأنظمه أخرى
أأخت الدمى قلبا خلا ونعومة
وأخت الظبا طرفا كقلبي أو نحرا
أتدرين فوق الحب منزلة لكم
تقربني فالحب جر لي الهجرا
فعند هبوبي أنت أول خاطر
وآخره - والله - أنت إذا أكرى
أمر على الصخر الأصم تعلة
فألثمه إذ قلبها يشبه الصخرا
وما كنت ممن يعجم الحب عوده
ولكنما يصبو الحليم لها قسرا «وما أنا ممن تأسر الخمر لبه»
ولكن سقتني في نواظرها خمرا
فتور كشعر الصب بالهجر رقة
إذا هام وجدا أو شعور الشجى المغرى
فلو كان لي شيء من الشعر بين من
هم أولياء الشعر عرفتها الشعرا
أجزني أمير الشعر بالشعر إنني
أراني لم أسلك به مسلكا وعرا
رددت عليه حسنه بعدما زوى
قرونا فأضحى غصنه بك مخضرا
أعدت لنا عصر النواسي ومسلم
فبوركت يا عصر القريض به عصرا
فمن مبلغ شيخ المعرة شيخنا
وأحمد والطائي الألى نظموا الدرا
وشيخ القريض البحتري مع الرضى
ومهيار من كانوا لأعصرهم فخرا
بأنا رأيناهم جميعا بشخصه
فقروا عيونا فالقريض لقد قرا •••
إليك أمير السيف والقلم انتهت
رئاسة كل فاعملن لذا شكرا
بأكنافك العليا تلوذ صيانة
لقد كنت - والرحمن - في صونها أحرى
لك الله من شهم قد اجتمعت به
كرام خصال قد تجاوزت الحصرا «عفاف وإقدام وحزم» ومنعة
ومجد تسامى رد عين العلا حسرى
إلى ظلك العالي زففت خريدة
إجازة شعر منكم أبتغي مهرا (1) حادثة سياسية «استحالت فكاهة أدبية»
وفي أيام السلطان عبد الحميد وشى واش بالأستاذ العلامة محمد أفندي كرد علي في دمشق، فأرسل الوالي ناظم باشا، فكبس منزله وعثر على بعض أوراق يعد حفظها يومئذ من الجرائم، فجاء من أخبرني بالقصة وأن الكرد علي فر وتوارى في الغوطة، فذهبت في الحال إلى ناظم باشا، وأبديت وأعدت حتى غض النظر عن هذه المسألة، وأبلغت الأستاذ أن يعود آمنا، فعاد إلى داره، وبعدها جاء هو والأستاذ الكبير الشيخ طاهر الجزائري ليشكراني على ما قمت به من تفريج هذه الأزمة عن الكرد علي فصرت أداعبه ببعض أبيات ارتجالية في الموضوع، فطرب لها الشيخ طاهر واقترح إكمالها قصيدة، فأكملتها ثاني يوم، وانتشرت في كل ناد، وهي في كتاب خطط الشام تأليف الأستاذ الكرد علي:
ألا قل لمن في الدجى لم ينم
طلاب المعالي سمير الألم
ومن أرقته دواعي الهوى
فدون الذي أرقته الحكم
فكم في الزوايا تخبا فتى
طريد الكتاب شريد القلم
يرى الأرض ضيقا كشق اليراع
ويهوي على ذا الوجود العدم
وكم ذا بجسرين
11
من ليلة
على مثل جمر الغضا في الضرم
تمنى الأديب بها ندحة
ولو بات يرعى هناك الغنم
وكم سروة تحت جنح الظلام
كسر بصدر الأديب انكتم
يخاف بها حركات الغصون
ويخشى النسيم إذا ما نسم
وإن تشد ورقاء في أيكة
تؤرقه في صوتها والنغم
وكم بات للنجم يرعى إذا
أديم السما بالنجوم اتسم
وطال به الليل حتى غدا
يظن عمود الصباح انحطم
ومن ذعره خال أن النجوم
لتهدي إلى مسكه عن أمم
إذا ما السماك بدا رامحا
توهمه نحوه قد هجم
ولولا الدجى لم يتم النجا
وقد أمكن الظلم لولا الظلم
ولله در القرى إذ خفته
12
فما بالسهولة يخفى العلم
فجسرين زبدين والأشعري
13
ديار بها قد أوى واعتصم
ونحو المليحة
14
رام الخفا
وكم بالمليحة من متهم
ديار أبى أهلها غدره
وآواه منها الوفا والكرم
ولا شك رقوا لأحواله
طريدا يعاني الجوى والسقم
ليالي كانون في الأربعين
وبرد العشيات أغلى الفحم
بأرض ثراها سماء وماء
ففوق السواقي وتحت الديم
يجول وقد صار مثل الخيال
ودق فلو لاح لم يقتحم
وفوق الخدود كلون البهار
وتحت المآقي كلون العنم
وفي كل يوم سؤال وبحث
وأنى تولى وأين انهزم؟
وقد كان في كبسهم بيته
بجلق قال وقيل عمم
فكانت على كتبه غارة
كغارات عرب الصفا
15
بالنعم
وقالوا سينفى إلى رودس
وقالوا سيجزى بما قد جرم
وقالوا سيحمله أدهم
بمرقاه لا تستريح القدم
وبعض بسجن عليه قضى
وبعض بضرب عليه حكم
وكرد علي غدا عبرة
فغاث ومنه الرجاء انصرم
فيا كرد لا تحزننك الخطوب
فإن الهموم بقدر الهمم
ومن رام أن يتعاطى البيا
ن توقع أن يبتلى بالنقم
فذي حرفة القول حريفة
وكم أدركت من لبيب وكم
وكم كتبة أعقبت نكبة
وكم من كلام لقلب كلم
ومن بالكتابة أبدى هوى
فإن الكآبة منه القسم
فيا كرد صبرا على محنة
فكم محنة شيبت من لمم
وصبرا على ورقات لها
عيون المعاني يبكين دم
وواها لباقات زهر غدوت
لها جامعا يا أخي من قدم
أزاهر تسهر في جمعها
فلا غرو أن فاح عرف فنم
وما نم إلا بنشر ذكي
وطيب يفوق عرار الأكم
فقولوا لواش بكرد علي
نشرت الثنا حين حاولت ذم
فما كان كرد سوى صادق
لدولته طالما قد خدم
وما وجدوا عنده ريبة
تعد ولو في صغار اللمم
فهل يطفئون بأفواههم
من النور ما قد رآه الأمم
وما دام ناظم في شامنا
فما نستضام ولا نهتضم
ولولا العناية من ناظم
لما كان شمل لنا منتظم
وقانا دسائس أهل النفا
ق ورد الوشاة وجلى الغمم
وقد أضحت الشام في عهده
يصوب عليها عهاد النعم
وباتت من الزور في مأمن
وحق الأمان بباب الحرم
وأطلعني في مرسين صديقي المجاهد الأكبر السيد أحمد الشريف السنوسي على قصيدة همزية، قيلت في عمه السيد محمد المهدي - رضي الله عنهما - فعارضتها قائلا من البحر والقافية:
هل ترى ينتهي عليه الثناء
سيد ينتهي إليه السناء
وتؤدي له البلاغة حقا
ويوفي أخباره الإنشاء
ويجلي القريض صورة معنا
ه ولو بالشعرى أتى الشعراء
قد كفانا من وصفه أنه المه
دي مذ قد تجلت الأسماء
نجل قطب قد كان في الشرق والغر
ب سراجا بنوره يستضاء
هو بحر الشريعة ابن السنوسي
الذي عنه سارت الأنباء
لم يدع في العلوم علما ولم يق
تله والعلم قتله إحياء
جمع العلم والولاية فائتم
به العالمون والأولياء
استفاضا لديه نورا على نو
ر وكل على الورى لألاء
فيه لاقى العلم اللدني علما
سهر الليل أصله والعناء
لا يرى العلم في سوى العمل الصا
لح فالعلم آلة ووعاء
فلهذا ترى الطريق السنوسي
على الفعل قام منه البناء
بات فعلا هدى مريد السنوسي
وأن ليس بالكلام اكتفاء
كلهم عامل لذلك فيهم
تتبارى العقول والأعضاء
كم تولى بالكف سكة حرث
حبر علم حفت به القراء
حققوا سنة المعلم للخي
ر الرسول الذي به الاقتداء
بث ما بين مطلع الشمس والمغ
رب رشدا ضاءت به الأرجاء
وزوايا في كل غور ونجد
ليس يسطيع حصرها الإحصاء
وبدا بالبناء في الجبل الأخ
ضر حيث البنية البيضاء
16
في ذرى السيد الجليل الصحابي
سيدي رافع عليه الرضاء
حيث قد لاح ذلك السيد المه
دي بدرا ضاءت به الظلماء
أي فرع لأي أصل لعمري
قد تحاكى الآباء والأبناء
لا بل الإبن جاء أوفى علوا
ولئن فاق، من أبيه العلاء
الهمام المهدي والسيد الصا
دع بالحق والسحاب الرواء
أزهر الوجه ناصع اللون لم تن
جب بأبهى من شخصه الزهراء
أكحل الطرف مستدير المحيا
لاح فيه الهدى وجال الحياء
أبيض الخد والثناء وفي أي
من خديه شامة سمراء
أروعي صلت الجبين إذا قا
بلته قلت: كوكب وضاء
ربعة قده قوي عريض
منكباه وأذرع فتلاء
واسع الثغر باسم عنه درا
والثنايا في ثغره فلجاء
شثن كف لكن أيديه الشث
نة بالجود سبطة سمحاء
هاشمي أشم أنف كذا مع
شمم الأنف همة شماء
يتجلى كماله في عيون
زينتها حواجب وطفاء
يملأ العين هيبة وجلالا
وهو مع ذاك لحظه إغضاء
من رآه يقول: هذا هو المه
دي حقا وللهدى سيماء
أشبه الناس بالنبي ومن يش
به أباه فليس منه اعتداء
نشر الدين في بلاد السوادي
ن جميعا فعمها الاهتداء
وبأسيافه طرابلس الغر
ب أجيرت وبرقة الحمراء
سوف يدري الطليان أن في السويدا
ء رجال حروبهم سوداء
في مجال الطعان أسد محاري
ب ولكن عند المحاريب شاء
ينصرون الإسلام بالسيف والمص
حف فالقوتان فيهم سواء
يعمرون الأرض التي أورث الله
عبادا له هم الصلحاء
لم يحلوا قفرا من الأرض إلا اه
تز منه حديقة غناء
فاسأل القرو والجغابيب والكف
رة
17
ينطق عمرانها والنماء
واسأل الواح كلها كيف عاشت
بالسنوسي تلكم الصحراء
ليس يخشى الإفرنج مثل السنوسي
وما هم في خوفهم أغبياء
عرفوا قدره وبعد مرامي
ه فأشهاد فضله الأعداء
كم غدت من سطاه ترجف رعبا
دولة ملء أنفها الكبرياء
رد أزر الإسلام صلبا سويا
بعد أن كان شفه الانحناء
وأعاد الإسلام غضا كما كا
ن عليه الأسلاف والقدماء
لم يقم مثله لإرشاد خلق
ذلك الحق ليس فيه مراء
مدحتي لسمو الخديوي توفيق باشا
أول مرة خرجت فيها من سورية كانت رحلتي إلى مصر، وكنت في الواحدة والعشرين من العمر، وأقمت بالقاهرة أكثر من شهرين وأنا ملازم أستاذنا الإمام الشيخ محمد عبده، وتلك الحلقة التي كانت تجتمع بالقرب من قصر عابدين في بيت المرحوم سعد أفندي زغلول الذي صار فيما بعد زعيم مصر، ثم برحت مصر قاصدا الآستانة ومررت على الإسكندرية، وذهبت إلى سراي رأس التين حيث أكرمني الجناب الخديوي يومئذ محمد توفيق باشا بمقابلته، وكنت هيأت قصيدة لسموه لكنني لم أقرأها بحضرته، بل سلمتها عند خروجي منها لرجال المعية السنية؛ ففي اليوم التالي نشرتها المعية في جريدة الوقائع المصرية، وكان محرر الوقائع المرحوم الشيخ عبد الكريم سلمان، فكتب فوقها تقريظا جميلا. وليست جريدة الوقائع الآن تحت يدي لأنقل القصيدة برمتها، وإنما أتذكر منها الأبيات التالية:
أقول لنطقي اليوم: إن كنت مسعدي
إذن أرق أسباب السماء بمصعد
وأنظم من القول النفيس فرائدا
تنزل شعرى الأفق في شعر منشد
إذا أنا لم أوف المكارم حقها
من الشكر في سلك القريض المنضد
فلا شغفت لي بالمكارم مهجة
ولا عز آبائي ولا طاب محتدي
ولا بلغت بي رتبة من مكانة
أنال بها لقيا العزيز محمد
وأذكر علياه، وذكر محمد
ألذ كلام قيل بعد التشهد
عزيز حمدت الدهر عند لقائه
ومن لقي التوفيق للسير يحمد
ولا غرو أن حنت لتقبيل كفه
على البعد نفس تلمس النجم باليد
وشاقت له رب الرقائق طلعة
لعمرك تذكي الشوق في قلب جلمد
ومنها:
فدونكها يا غرة الملك غادة
تميس كغصن البانة المتأود
وإني إذا أهدي العزيز مدائحي
أبوء بصدق القول غير مفند
ومن رام من إدراك كنهك غاية
يجد غاية ما تدن للوصل تبعد
وإلا فما حاولت إدراك غاية
بشعري ولا نظم القصائد مقصدي
ولي من عبث الشباب تقليدا للشعراء:
أرى في غزال الدو منه شمائلا
فأهفو إليه كلما مر سانحه
وتخطر قضبان العذيب فتنثني
معاطفه في خاطري وجوانحه
أكاد لمرأى كل غصن أراكة
أعانقه من أجله وأصافحه
وأعشق نور البدر ليلة تمه
لأن قد بدت منه عليه ملامحه
يقول عذولي: شف مسكتك الهوى
فأنت لعمري ذاهب الفكر سائحه
فقلت: جميع الرشد في سبل حبه
إذا لاح لي من ذلك الوجه لائحه
وقالوا: أضعت العمر في حب أغيد
ومن علق الغزلان ضاعت مصالحه
فقلت لهم: يا حبذا ما أضعته
بمن حبه كنز تنوء مفاتحه
فدا كل ظبي بين سلع وحاجر
لمهجة ظبي في الفؤاد مسارحه
ومهما يعذبني فعذب مذاقه
ومهما يؤرقني فإني مسامحه
وما أسعد الليل الذي أنا ساهر
وما أقدس الدمع الذي أنا سافحه
وقالوا: قطعت الأربعين فما الهوى
وقد صاح في فوديك للشيب صائحه
ولم يعلموا أن المهار وإن زكت
لتعجز عما طال في الجري قارحه
بلى أنا سلطان الغرام وهذه
صحائفه في راحتي وصفائحه
إذا في كتاب الحب طالع مغرم
فقلبي ممليه ودمعي شارحه
أنا الصب متبولا بذكر حبيبه
وشرط المعنى أن تغيب جوارحه
خلي إذا رام الصلاة تداخلت
تحياته مع ذكره وفواتحه
وامتدحني بعض الشعراء المفلقين في جريدة الفتح، فأجبتهم بالأبيات الآتية:
يقرظني قومي بأني مدحتهم
كما يمدح الروض الذكي على النفح
ولو أنهم قد أنصفوني لما رأوا
بمعرفتي للحق عارفة المنح
إذن لرأوا آثارهم شاهدا لهم
يكاد لديها الطير يهتف بالصدح
شهدت بما شاهدت ما من علاقة
ولا صلة توهي الشهادة بالجرح
ولكن من شأن الفصاحة أنها
إذا بهرت تعطو إلى خلق سمح
سيوف نضاها الله إذ حمس الوغى
ونادى منادي الدين للرمي والنضح
تواصل في جيش الضلال قراعها
فما برحت تشفي الصدور من البرح
تلألأ في قطع من الليل مظلم
سناها فكان الليل أضوا من الصبح
فلا تأخذنكم في الغواة هوادة
وفلوا جموع الشر بالضرب والطرح
لقد خوضوا في الدين والعرض جهرة
ولجوا فعاد القرح ينكأ بالقرح
فليس بغير الكسر حسم لدائهم
وغير العصا، والجوز يؤكل بالشقح
وكل ذنوب العالمين مصيرها
إلى العفو إلا الشرك ممتنع الصفح
سينصركم من تنصرون كتابه
ويؤتيكم الفتح القريب من الفتح
ولي هذه الأبيات السينية المنشورة في جريدة الفتح عدد 258، وقد قدمت عليها هذه الجملة:
إلى الشاعر المفلق النجمي، زاده الله إبداعا:
قرأت - أيها الأخ - أبياتك السينية، فهاجت بي خاطر الشعر برغم كل هذه الشواده وهذه العوادي، فأخذت القلم وسالت القريحة بالأبيات الآتية، والله يشهد أنها وليدة بضع دقائق، إلا أني لا أخالني إذا أطرقت ونمقت آتي بأحسن منها، فخذها على علاتها:
ما أدهشتنا من النجمي قافية
كأنها الغادة الحسناء في العرس
لها سوابق قد جاءت مسلسلة
على اطراد كعوب الذبل الدعس
قل في حبيب وبشار ورهطهما
والبحتري ولا تضنن به وقس
هيهات أفرق إعجابي بأيهما
من تلكم النفس أم من ذلك النفس
شعر به تسكر الألباب سائحة
كما تسافر بنت الحان بالجلس
لا يعرف السامع الولهان نشوته
من سبكه الجزل أم من نسجه السلس
رويه العذب في تحكيم موقعه
من أول الشطر يدرى غير ملتبس
لا يحرم الله حزب الحق طائفة
إن تنصلت في مجال الكر تفترس
قد آن للظلم أن ينجاب عن فرج
لم يبرح الفجر مشتقا من الغلس
تاريخ مولود عزيز
وكنت في أوائل سنة 1920 مسيحية في جبل سان مورتز بسويسرة، وكان هناك الشهم المفضال عزيز عزت باشا من عيون أعيان المصريين، وصهره الأمير محمد علي حسن من العائلة الملكية المصرية، فولد للأمير مولود سماه «عزت حسن»، فنظمت له التأريخ الآتي:
قل للعزيز أدام الله بهجته
وبات يخدم سامي بابه الزمن
اهنأ بسبط به من الإله ولا
زالت تلازمك الآلاء والمنن
وليهنأن الأمير الشهم والده
أنعم بغصن نضير جاءه غصن
لما تطايرت البشرى بمولده
وقرت العين مما تسمع الأذن
أهدى محبك تأريخا وقال به
بعزة قد تجلى وجهه الحسن
تاريخ لزفاف محمد بك ناجي نجل صديقنا المرحوم حنفي بك ناجي من أعيان مصر:
يا أيها الحنفي الذي لو أنني
كاتبته بسواد عيني ما كفى
هيهات أقدر أن أوفي واجبا
لثناك يا سلطان أرباب الوفا
ما زلت أضرب في البلاد ولم يزل
بحشاك قلب أخ علي مرفرفا
أهديت لي البشرى بعقد محمد
تلك البشارة، ما ألذ وألطفا!
أسعد بها من ليلة فيها جرى
ذاك الزفاف على سمي المصطفى
يا أيها الخل الذي شوقي له
بعد البعاد أجل من أن يوصفا
يدعو لك اليوم المؤرخ شاعرا
لزفاف نجلك بالبنين وبالرفا [شاعرا = 572، لزفاف = 198، نجلك = 103، بالبنين = 145، وبالرفا = 320]
جواب عالم في بوسنة
وكتبت إلى حضرة الفاضل شاكر أفندي مسيحو قتش الهرسكي من أعضاء مجلس العلماء بسراي بوسنة، وذلك في جواب كتاب منه:
لما حللت بأرض بوس
نا وانجلت تلك المناير
أيقنت أني وسط رب
ع بات بالإسلام عامر
ولقيت من ألطافكم
ما تستبين به السرائر
ما نال ما قد نلته
منكم لعمري أي زائر
فأنا الحقيق بأن أتي
ه إذا أردت وأن أفاخر
قد كنت طول إقامتي
ضيفا تحف به الجماهر
ألقى الحنو على الوجو
ه علي مثل الشمس ظاهر
إن الوجوه من الرجا
ل لنعم عنوان الضمائر
ورأيت وجهك كيفما
أقبلت ينظر وهو سافر
والعطف إن حل الفؤا
د غدت تؤكده النواظر
فأنا محبك ما حييت
وشاكر أبدا لشاكر
ذكرى شاعر الألمان الحكيم
ولما زرت في فرانكفورت بيت «غوتة» شاعر ألمانيا الأكبر، وقدموا لي الدفتر المعتاد أن تكتب فيه أسماء الزائرين، كتبت الأبيات الآتية ارتجالا مع تضمين البيت الأخير:
مذ قيل: هذا بيت «غوتة» زرته
إذ كان للشعراء كعبة قاصد
هذا أمير الشعر عند قبيله
منه لجيد الدهر عقد فرائد
طأطأت رأس قريحتي في بابه
ولكم رأت عتباته من ساجد
إن لم يكن من أمتي وعشيرتي
فالناس في الآداب أمة واحد
أو فاتنا نسب، يؤلف بيننا
أدب أقمناه مقام الوالد
وبعد أن ذهبت من فرانكفورت استدعت البلدية الأستاذ المستشرق هوروفيتس، الذي كان يدرس العربية نفسها في كلية عليكر في الهند، وله ترجمة إلى الألماني لديوان الكميت فيما أتذكر وغيره، فترجم هذه الأبيات ونشر الترجمة في جرائد ألمانيا، ومهد لها بمقدمة جاء فيها بالإطراء الزائد، وقال: هذا إكرام شاعر الشرق لشاعر الغرب.
زيارة قبر سيف الله ورسوله وقائد جيوش العرب والإسلام الأكبر
ولما زرت مقام سيدنا خالد بن الوليد - رضي الله عنه - في مدينة حمص، وذلك منذ ثلاثين سنة فأكثر، كتبت على حائط المقام هذين البيتين:
مغيبك سيف الله في غمدك الثرى
دليل بأن الله لا شك واحد
فلو أن فذا خلدته فتوحه
لما كان في الأقوام إلاك خالد
ما أنشد في حفلات تكريم كبار الشعراء
منذ نحو من ثلاثين سنة قام بعض أدباء مصر بحفلة تكريمية لحافظ إبراهيم؛ الشاعر المشهور، وكتب لي بعض الإخوان من مصر إلى سورية يقترحون علي إرسال بعض أبيات لتقرأ في الحفل، ومن جملة ما ذكروا لي من محاسن حافظ أنه يحب السوريين، وكان ذلك قبيل عيد الأضحى؛ فأرسلت أبياتا ليست عندي نسختها الآن، وإنما أنا أملي منها ما أتذكره وهو:
ورهط دعوني أن أجيب نداءهم
فلما دعوني لم يروني بقعدد
18
أإخواننا الداعين بي لأجيبهم
إليكم تروا مني اهتزاز المهند
حلفت بما بين الحطيم وزمزم
وأقسمت بالبيت العتيق المشيد
وبالطائفين
19
العاكفين بهذه ال
ليالي تراهم من ركوع وسجد
يؤمون مثوى للخليل ومرقدا
تلألأ نورا بالنبي محمد
مشاة وركبانا على كل ضامر
ومن فوق قضبان الحديد الممدد
فما في حديث الحج لين وقد غدا
يجيء على شرط البخاري بمسند
لعمري لقد أحيت قريحة «حافظ»
عهود أغان للسريج ومعبد
20
يقولون لي شيد عن الشام ذكره
ألم يك ولى الشام شطر التودد؟
فقلت لهم أثني عليه بصالح
عن العرب طرا ذاك أصلي ومحتدي
وما عربي بين الضاد نطقه
بشامي ولا مصري ولا متبغدد
ومنها خطابا لحافظ:
وقبلي قد أولاك «سامي»
21
شهادة
ومثلي بمحمود السجية يقتدي
فأنت إمام النثر غير مدافع
وأنت أمير الشعر من بعد أحمد
22
وأقيمت حفلة لشاعر القطرين خليل بك المطران، فأرسلت إلى الحفلة بالأبيات الآتية، وذلك سنة 1912:
لك يا خليل من القلوب مكان
هو فوق ما بسمائه كيوان
لم يختلف أحد عليك كأنما
لك كل أرباب النهى خلان
كل الخواطر في ولائك خاطر
وجميع ألسن عارفيك لسان
ويرى التكلف في سواك وإنما
شرع عليك السر والإعلان
يكفيك ما بين العناصر أنك ال
وطني لا بغض ولا شنآن
عجبا له جمع القلوب على الولا
قلم بكفك ساحر فتان
وإذا تجرد للنضال فإنه
لأعز ما نصرت به الأوطان
هيهات يبلغ شأو فتكك بالعدى
من في يديه صارم وسنان
قد زين الأدب الذي أوتيته
جما أن الأخلاق فيك حسان
ووفاء طبع ما تخلف عن أخ
وزماننا إخوانه خوان
تالله في الأجياد منك قلائد
غر وفي الآذان منك جمان
لو جئت في عصر القريض لما علت
يوما بنابغة لها ذبيان
ولئن عداك موازنوك فكم فتى
مذ خف عنك علا به الميزان
أو كانت الدنيا قسوس فصاحة
بحذا عكاظ فإنك المطران
القصيدة التي بعثت بها من أمريكا إلى المهرجان الذي أقيم لأحمد شوقي أمير الشعراء سنة 1927 مسيحية، وتلاها في المحفل شاعر القطرين خليل المطران، وكان نظمي هذه القصيدة في البحر قبل وصولي إلى نيويورك:
ناد القريحة ما استطعت نداءها
إن الحقوق لتقتضيك أداءها
مهما ينل منها الجمود فإن من
إعجاز أحمد ما يفجر ماءها
مهما تراكمت الغيوم بأفقها
فاليوم عندك ما يعيد جلاءها
لا تعتذر عنها بكر نوائب
سدت عليها نهجها وسواءها
فأهم ما همت السحاب إذا مرت
هوج العواطف درها وسخاءها
والحك يستوري الزناد وإنما
تربى الصوارم بالصقال مضاءها
والرمح يكسب بالثقاف متانة
والخيل يظهر عدوها خيلاءها
حاشا القرائح أن تضن بودقها
ما دام شوقي كافلا أنواءها
الشاعر الفذ الذي كلماته
ضمن النبوغ على الزمان بقاءها
أنست فصاحته أوائل وائل
وغدت هوازن مع ثقيف فداءها
في كل كائنة يزف قصيدة
توتي جميع الكائنات بهاءها
غدت المعاني كلها ملكا له
فأصاب منها كل بكر شاءها
وكسا اللسان اليعربي مطارفا
هيهات ينتظر الزمان فناءها
ستخلد الأوطان من تكريمه
ذكرى تطبق أرضها وسماءها
لو أنصفت لغة الأعارب قدره
صلت عليه صباحها ومساءها
من كل موضوع أصاب شواكلا
23
بلغت بمقتلها الصدور شفاءها
يبكي «شكسبير» على أمثالها
ويبيت «غوتة» حاسدا علياءها
ولو ان آلهة الفصاحة عندهم
أدركن شوقي خففت غلواءها
صناجة الشرق الذي نبراته
تجلو المشارق عندها غماءها
في كل حرف من حروف يراعه
وتر يثير سرورها وبكاءها
ما حل بالإسلام بأس ملمة
إلا ورجع شعره أصداءها
يبدي فظاعتها ويوسع هولها
وصفا ويذكر داءها ودواءها
كانت قصائده لبعث بلاده
صورا أراد من البلى إحياءها
24
وأرى الليالي لا تعزز أمة
إن لم يكن سواسها شعراءها
كم أثبت التاريخ في صفحاته
أمما غدا إنشادها إنشاءها
ضلت لعمري في الحياة قبيلة
لم تصطحب أفعالها أسماءها
والعرب لا تبدا بجمع جموعها
إلا سمعت نشيدها وحداءها
أكرم بأحمد شاعرا وافى لنا
في روح أحمد
25
حاملا سيماءها
أتلو قصائده فتملأ مهجتي
فرحا يزيل همومها وعناءها
وأظل مفتخرا بها فكأن لي
دون الأنام ثناءها وسناءها
نخلت له نفسي مودة وامق
وفى عهاد
26
عهودها إنماءها
نعزو إلى لخم متانة أصلها
وتمز من ماء السماء صفاءها
27
لا ترتجي منها النمائم ثلمة
كلا ولا توهي الهنات بناءها
ناشدت شعري أن يفي بمودتي
وأراه يعجز أن يجيء كفاءها
قد صار عهدي بالقريض كأنه
دمن تقاضتها الرياح عفاءها
أدعو فلا يأتي الذي أرضى به
والشعر أن تجد النفوس رضاءها
والشعر ما رسم الضمائر ناثلا
منها الكنائن نافجا أحناءها
والشعر ما ترك المعاني مثلا
فتكاد تلمس بالأكف هباءها
والشعر حيث يقال: من ذا قالها؟
ما الشعر حيث يقال: من ذا قاءها؟
وهناك نفس مرة ما تأتلي
تملي علي من العلا أهواءها
إن لم تجدني في العجاجة أولا
نكرت علي ثلاثها وثناءها
وفرت يا شوقي السباق على الورى
برياسة بات السباق وراءها
تتقطع الأعناق عن غاياتها
حتى الأماني لا تحوم حذاءها
تالله أعطيت الرياسة حقها
وعقدت حبوتها
28
ونلت حباءها
وبذذت أهل العبقرية كلهم
وبززت
29
جنة عبقر أشياءها
لما رأيتك قد نزحت قليبها
ألقيت عني دلوها ورشاءها
فاسعد بعرش إمارة الشعر التي
ألقت إليك لواءها وولاءها
وتهن وابق لأمة عربية
لا زلت قرة عينها وضياءها
وأقيمت حفلة عيد الخمسين سنة لأستاذنا اللغوي العلامة الشيخ عبد الله البستاني
30
طاب ذكره، وذلك في بيروت، فنظمت هذه القصيدة وبعثت بها من برلين:
أحق الأيادي أن تجل وتعظما
وتسلك في الأعناق سمطا وتنظما
وتلبسها الأيام حليا وكسوة
وتسني لها الأحقاب عيدا وموسما
أيادي الألى كانوا مصابيح عصرهم
لمدرع ليلا من الجهل مظلما
ومن أوضحوا للحائرين محجة
فساروا بهم في العيش نهجا مقوما
لعمري إذا الأعلام قيست جهودها
وكل أتى عما فراه مترجما
وجاء الكرام الكاتبون فقيدوا
لكل عصامي حسابا مرقما
فمن مثل عبد الله في الشرق عالم
له مثل من ربى ورقى وعلما
تلاميذه عد الحصى وتراهم
بدورا بآفاق البلاد وأنجما
أفاض على الأرجاء عيلم علمه
فعج ومن للبحر كفو إذا طمى
وبث لسان العرب خمسين حجة
يقوم منآدا ويوضح مبهما
وسل سيوفا من قراب دماغه
ففل بها للحن جيشا عرمرما
ومن يبتذل في خدمة العلم نفسه
فأجدر بأن يغدو عزيزا مكرما
رقى من ذرى التحقيق في النحو ذروة
يقصر عنها من مضى وتقدما
فلو كان لاقى سيبويه ورهطه
لعاد لعمري سيبويه ابن أعجما
ولم يك ذياك الكتاب مرجبا
ورائحة التفاح لم تك مغنما
ولو كان في العصر القديم مجيئه
لفت بعين الجاحظ العين حصرما
وأصبح معه الفارسي وابن فارس
وقد برئت تلك الفراسة منهما
لباتت بأحشاء المبرد غلة
وكاد ابن جني يجن تألما
وصار ابن عصفور مهيضا جناحه
ولو كان قبل اليوم طار إلى السما
ولو ناظروه في الفرائد مرة
رأوا من علاه ما يفوق التوهما
وأصبح معه المجد قد قل مجده
وآب صحاح الجوهري مثلما
ولو كان جار الله جاراه بذه
وما افتخرت منه زمخشر بانتما
31
لقد سعدت منه العروبة بالذي
توله فيها مستهاما متيما
وثارت له في نصر أمة يعرب
عزائم شوق خالط اللحم والدما
قضى عمره سيفا يقد عداتها
فيرمي بهم شلوا فشلوا مقسما
يبلج من أنوارها كل ساطع
وقد ينكر الأنوار من رزق العمى
ويكشف عن أسرارها كل غامض
عليه حجاب الجهل كان مخيما
فما عن في يوم شعوبي فرقة
لمنقصة إلا وخلاه ملجما
وما لاح قرن القرن إلا انبرى له
برمي الذي يصمي لعمري إذا رمى
فلو شاءت الفصحى وفاء جهاده
لنصت له فوق السماكين مجثما
فمن للألى مثلي ارتووا من معينه
بأن ينقعوا من ذكر معروفه الظما
عرفنا له فضلا علينا ومنة
ولم يك ما نرعاه عهدا مذمما
وما أنا إلا من تلقى بضاعة
فنمق منها جهد معي ونمنما
وما الفضل إلا للقسامي
32
عندما
يراني الورى دبجت بردا مسهما
وما هو إلا بعض مرجوع صوته
وتقليد ما قد كان جاد وأنعما
حنانيك أستاذ الأساتيذ إننا
جميعا نحيي فيك من شرف الحمى
ولو أنصفتك العرب لم يبق معرب
على سطحها إلا أتاك مسلما
ولو كان لبنان يوفيك شكره
لأوشك فيه الصخر أن يتكلما
تقبل ثناء لو غدا رمل عالج
بكثرته لم نوف حقا محتما
وقابل بغض الطرف ميسور وامق
قصارى مناه أن تعيش وتسلما
قصيدة حفلة عبد الحميد بك الرافعي
واحتفل أدباء الشام بعيد الخمسين سنة للشاعر الكبير المرحوم السيد عبد الحميد الرافعي في طرابلس الشام، فاقترحوا علي إرسال شيء، وكنت في برلين، وذلك سنة 1929 مسيحية، فبعثت إلى طرابلس بهذه الأبيات، وتليت في الحفل ونشرت في جريدة الشورى:
إياك في الشرق أن تعدو طرابلسا
إن كنت تبغي كرام الإنس والأنسا
وحج منها لقصاد الهدى حرما
أمنا وجاور لأرباب النهى قدسا
مدينة جادها الباري برحمته
من الخصائص ما عن غيرها حبسا
لم يكفها بحرها العجاج بل جمعت
من أهلها أبحرا في شطه جلسا
أكارم بهم باتت طرابلس
مصرا يقصر عنها كل ما يبسا
ناهيك بالرافعيين الذين لهم
من المآثر ما يستنطق الخرسا
الرافعين من الأعلام أرفعها
والخافضين من الأعداء ما رأسا
لقد رعوا تلعات المجد أجمعها
وجددوا من دروس العلم ما درسا
وآثروا من أيادي الفضل ما قربت
ثماره ومن العلياء ما قعسا
ساروا على أثر الفاروق جدهم
ولن يضل الذي من نوره اقتبسا
مثل السيوف المواضي في ضرائبها
صفا أقيمت لشرع المصطفى حرسا
وكل ذي أدب يبغي الكمال فمن
عبد الحميد يروم الإذن ملتمسا
الشاعر الفذ لو جاءت قريحته
تعارض العارض الهطال ما انبجسا
تغدو عذارى المعاني قيد خاطره
وطالما امتنعت عن غيره شمسا
من معدن كله صاف ولا عجب
من تلكم النفس نلقى ذلك النفسا
إني أقول وخير القول مجمله
لو جاء في عصره الكندي ما نبسا
هذي طرابلس الفيحاء حافلة
تختال في حلل من عيده وكسا
عيد لخمسين حولا قد تنجزها
في خدمة اللغة الفصحى صباح مسا
وقد أبت غربتي أني أرى وطني
وأن أشاهد فيه ذلك العرسا
القسم الثالث
في مراثي العلماء والأدباء والكبراء
رثاء إمام اللغة وفارس ميدان الإنشاء الشيخ أحمد فارس الشدياق.
لما توفي إمام اللغة وفارس ميدان الإنشاء الشيخ أحمد فارس الشدياق كنت لا أزال في السابعة عشرة من العمر، وكنت معجبا بأسلوبه، فضلا عن صداقة قديمة بيننا - الأرسلانيين - وبين آل الشدياق، فلما جاءوا بتجاليده من الآستانة إلى بيروت، وصلي عليه في الجامع العمري الكبير تليت عليه مراث متعددة لشعراء الوقت، ومنها مرثية لي لم تذكر في ديواني الأول المسمى بالباكورة؛ لأن الباكورة كانت قد طبعت قبل وفاة أحمد فارس - رحمه الله - وقد فقدت من بين أوراقي هذه المرثية إلى أن عثرت عليها هذه السنة في رسالة نشرها الفاضل الدكتور فيليب الشدياق تتضمن ترجمة أحمد فارس، وهي هذه:
تمادت علينا بالخطوب الدوامس
ليال لها بالمجد عصف الروامس
1
وأصمت رجالا للزمان وإنهم
لنعم رجال الدهر شم المعاطس
أحقا عباد الله ذا اليوم أنه
وجوما قد اسودت وجوه المدارس
وأصبح مضمار البلاغة خاليا
لدن غاب عنه اليوم «أحمد فارس»
هو الفارس السباق في كل حلبة
تجمع فيها كل قرن ممارس
أجل مجل في رهان براعة
وأبتع
2
فرسان البيان المداعس
إذا صال لم يترك مصالا لفارس
وإن قال لم يترك مقالا لنابس
أقام منارا هاديا كل حائر
وأوقد نارا أمها كل قابس
غدا ذكره ملء الزمان ولم تكن
لآثاره الأيام غير فهارس
وشيد للفصحى قصورا شواهقا
على عفو هاتيك الرسوم الطوامس
لقد جابت الدنيا جوائبه
3
التي
بإنشائه كانت طراز المجالس
تبلج نور الشرق عن وجه سافر
بها وتثنى العصر عن عطف مائس
فمن لفصول كان يكسو بيانها
من الوشي والديباج أبهى الملابس
وآيات فضل كان يمحو بنورها
دجى الشك محو الصبح ليل الحنادس
فما كل من رام العلا أدرك العلا
ولا كل من يعلو السروج بفارس
وقلت أرثي المرحوم محمود بك نجل المرحوم إبراهيم فخري بك وشقيق صاحب السمو أحمد نامي بك:
يا عين مهما كنت ذات جمود
فلأبكينك دما على محمود
ولأمطرنك من الدموع سحائبا
تروينها عن كفه في الجود
ولأنت يا كبدي فمن نار الأسى
ذوبي ويا نار الضلوع فزيدي
ما كنت يا قلب الحديد فإن تكن
فالنار قد تلوي
4
بكل حديد
أتعز في محمود دمعة ناظر
لو كان فيه قسوة الجلمود
من بعد ما ملأ النواظر قرة
وغدا مسرة قلب كل ودود
ما كنت أحسب أن مثل جبينه
شرخ الشباب يعود طعم الدود
ما كنت آمل أن شعلة ذهنه
تعدو عليها اليوم كف خمود
ما كنت آمل أن نكباء الردى
تودي بغصن شبابه الأملود
وبكل نفس من أمائر نبله
إيماض بارقة ولمح شهود
سهر الليالي في وصال حقائق
والغير يسهر في وصال الغيد
ما غره زهو ولا حسب العلا
إلا بمجمع طارف وتليد
نظمت به زهر الخلال كأنها
في الخود عقد اللؤلؤ المنضود
ما كان من يمضي وهذا شأوه
في الست والعشرين غير شهيد
ما راع مثل القصف في شرخ الصبا
والقطف قبل حلاوة العنقود
5
يوم غدا في كل دار مأتما
فينا وفي الفردوس يوم العيد
لبس النهار به دجنة غاسق
ولقد يكون ضيا الليالي السود
ولى وخلف في ذويه من الأسى
حالا أشق من الحمام المودي
لو كان ينظر للحقيقة ناظر
فالموت للموجود لا المفقود
هذا يموت بكل يوم حسرة
إذ ذاك راح بيومه الموعود
يا أيها المحمود رفقا بالألى
دفنوك بين جوانح وكبود
قد كنت سباقا إلى حوض العلا
فسبقت نحو المورد المورود
والكل ركب سائرون وإنما
أهل النباهة فوق خيل بريد
رفقا بوالدك الكريم فقد وفى
شجو الفقيد بفرحة المولود
غادرت بعدك كل باك جفنه
يمتاح من بحر البكا بمديد
ومضيت قاصد جنة وتركتنا
من حزننا في النار ذات وقود
قد عز فيك الصبر لولا أنه
فرض وأن الحزن غير مفيد
قد كنت تفدي في مقام كريهة
لو أن ثمة موقفا لجنود
الموت حتم والمسافة بيننا
نزر وما من قادم ببعيد
يتخيل الإنسان أبعد مطمع
والموت منه مثل حبل وريد
لا تستحق من الهموم حياتنا
لو أنصف الأقوام غير زهيد
ما كان سفاح الدموع لفاجع
رأيا بمهدي ولا برشيد
لكن حق الطبع محكوم به
والعقل مرتبط ببعض قيود
يا ثاكل المحمود صبرا بعده
فبقاء أحمد سلوة المفئود
إن جل خطبك بالذي أثكلته
فالركن باق ليس بالمهدود
ومن الإله على الفقيد تحية
وفراق عاجلة لدار خلود
مهما تعاظمت الخطوب على الفتى
فعزاؤه في العدل والتوحيد
وتوفيت والدة نعوم باشا متصرف جبل لبنان، وكان صديقا لنا، فرثيتها وعزيت ابنها بالقصيدة التالية، وقد مضى عليها أكثر من أربعين سنة:
ألا هل لجفن ساهر الليل ساهد
تألف غمض منذ بينك شارد؟
وهل لشئون أن يؤمل غيضها
ومن دونها ما فاض صم الجلامد؟
وهل لفؤاد أن يرجى شفاؤه
بغير لغام الزفرة المتصاعد؟
وهل لشجي من سلو وقد ذكت
من الوجد في جنبيه نار المواقد؟
تبيت إذا دبت أساود ليله
حشاياه من أنياب رقش الأساود
وهل لرعاة النجم في مهمه الدجى
من الود إلا صحبة للفراقد؟
تحدر سيل الدمع طلقا عنانه
وألقت قلوب للأسى بالمقاود
وكيف يقاوي الدهر قلب مهلهل
يشف وذي آثاره في الجوامد
أباد الخوالي والبواقي رهائن
لديه فما باق به غير بائد
ولم يبق قلبا لم يصبه ولم يكن
يصاب وما يرمى بكف وساعد
تأمل فما في العمر غير مصائب
وما الناس إلا بين باك وواجد
ولو سبر الناس الأمور لأصبحوا
بأسرهم من فيلسوف وزاهد
وليس الجديدان اللذان تعاقبا
سوى جلمي
6
أعمارنا عند ناقد
وما اليوم إلا ما ينم على الورى
ولا الليل إلا للفناء بقائد
أهلته الأسياف في كل مفرق
وما تلكم الأسياف غير حدائد
وخطب لعمري لو أناخ بيذبل
لزحزح منه كل راسي القواعد
أناخ بأكناف الوزير فصده
من الصبر جيش مرصد للشدائد
وما كان مرزوءا بذلك وحده
وقد فت في عضد التقى والمحامد
أصيبت بأم برة فمصابها
مصاب يتيم قد خلا من مساعد
وقد كان يستسقى العهاد بذكرها
إذا أظمأ الوسمي أرض المعاهد
مضت لم يرنق من صفاها كدورة
ولا احتملت إصرا يجوز لعابد
ولو لم يكن والله من حسناتها
سواك كفاها ذاك دون زوائد
ولم يك فضل قد حوته بواحد
وإن تك ضمت كل فضل لواحد
لمستوزر من رهط عثمان بالغ
لعمرك من مولاه أسنى المقاصد
توليت من لبنان خطة شامخ
له شعفات لا تذل لماهد
فأنهجته من عدل حكمك شرعة
أعادته أعنى من وليد لوالد
وأوردته من عفة ونزاهة
بإقرار من يشنوك أصفى الموارد
فلو كلفوه أن يبثك شكره
لحياك من أغصانه كل مائد
لك اليقظة العظمى التي باتباعها
حللت محل النوم من جفن راقد
فإن كان لبنان يشاطرك الأسى
فكم من سرور نحوه بك وافد
تعز فكم من موقف لك صالح
وكم من جميل عن سليلك ذائد
رأيناك تأتي في أمورك كلها
من القصد ما يعيى على كل قاصد
فعال امرئ يخشى الإله بخلقه
ويعلم أن المرء ليس بخالد
فلا زلت محروسا من السوء راقيا
مراقي تلقى الشمس بين الحواسد
ولا زلت في كل الشئون مسددا
لخدمة سلطان البلاد المجاهد
مقامك منه ما أردت ولا تزل
رجا لصديق أو شجا لمعاند
وذكرك في الغبراء أسرى من الضيا
وأسير في آفاقها من قصائدي
عندما توفي المرحوم عبد الله باشا فكري الشهير كنت في مصر، وكانت وفاته يوم عيد الأضحى سنة 1307، وهو صديق وفي للأستاذ الإمام، وكانت سبقت بيني وبينه مراسلة شعرية ذكرت في هذا الديوان، فرثيته بقصيدة نشرتها جريدة المؤيد، ولكني فقدتها أيضا من بين أوراقي، ثم وجدتها في كتاب الآثار الفكرية، وهي هذه:
إلى مثل هذا في الخطوب العظائم
أرى منتهى بطش الليالي الغواشم
وهل بعد هذا الخطب خطب نعده
مصابا بعلم أو بلاء بعالم؟
مصاب لما قد فات أنسى، ومأتم
به ختمت آلام سود المآتم
ولا غرو فيه فاجعا عم رزؤه
فموت رجال العلم موت العوالم
مصابيح في الدنيا إذا هي أطفئت
دجى الناس في ليل من الجهل قاتم
وأعلام رشد في البرية يهتدي
بها كل سار في المجاهل هائم
ولكنها الدنيا لعمري أولعت
بنكب العلا من عهدها المتقادم
يرجى التهاب النار بالماء عندها
وليس يرجي صفوها كل حازم
أحقا عباد الله ذا اليوم قد خبا
شهاب العلا واندك طود المكارم؟
وأن المعالي والمعاني فجعت
بخطب لسمر الخط والبيض ثالم
وما لشئون العلم سالت شئونها
على وجنات الفضل سح الغمائم؟
أجل مات من قد كان للفضل سيدا
بفاجئ خطب داهم أي داهم
قضى اليوم عبد الله فكري الذي سعى
لنيل المعالي منذ نوط التمائم
وخلفت الأقلام والصحف بعده
بحزن إلى يوم القيامة دائم
وأضحى به أضحى وقد كان يومه
ولذاته قد نغصت بالعلاقم
وباتت ثغور كن فيه بواسما
وغادرها ذا النعي غير بواسم
نعي سرى ملء المسامع وقعه
إذن لصحا من غفلة كل نائم
كذا فليكن غور الكواكب في الثرى
كذا فليكن غيض البحار الخضارم
مصيبة مجد أسكرت بسماعها
نهى الناس حتى أقعدت كل قائم
فقدنا أميرا كان غرة عصرنا
وحلية أجياد العلا والمعاصم
فقدنا أمير النظم والنثر راقيا
من الأمر أعلا ما ارتجت نفس رائم
فواها لأقوال له قد أعارها
سلاسته واللطف مر النسائم
ورقة ألفاظ صحاح أعارب
كساها بتفويف طراز الأعاجم
نظام مبان يخجل الروض بهجة
وصيد معان في شرود النعائم
محاسن روح ما ابتغت في زمانها
سوى الخير والمعروف يوما لآدمي
ولا وردت غير الشهامة موردا
ولا عرفت من أين باب المآثم
خلائق أمثال الرياض نواضر
تضوع منها عرف زهر الكمائم
وقد كان أذكى من سنا النار ربها
وأقطع رأيا من شفار الصوارم
فلما ثوى تحت الرغام وذللت
بمصرعه للعلم شم المراغم
بكته عيون المكرمات وأعلمت
عليه المعالي كيف نوح الحمائم
ولم أر خطبا مثله أوهن القوى
به وقد انحلت عقود العزائم
سأندبه لا زاخرا در مدمع
ولا سامعا في الحزن لومة لائم
ولا أنس عندي من نفائس لفظه
قلائد أغلى من لآلي العيالم
وكنت مللت الشعر حتى كرهته
وأصبح عندي في عداد المحارم
إلى أن قضت أوصافه برثائه
فأصبح عندي اليوم ضربة لازم
على أنني إن لم أكن قبل ناظما
أعد ولنطقي فيه مهجة ناظم
فمن وصفه در المحامد والثنا
ومن نوحه در الدموع السواجم
أيا راحلا عنا إلى الملك الذي
دعاه إلى عيش من الخلد ناعم
لعمرك هذي غاية الخلق كلهم
ولو عمر المخلوق عمر القشاعم
حباك إلهي كل روح وراحة
وجادت ثرى مثواك سحب المراحم
وإن لنا في نجلك اليوم سلوة
وتعزية يؤسى بها قلب واجم
يدوم لنا الشهم الأمين مؤيدا
ونسأل رب العرش حسن الخواتم
ثم رثيت صديقي المرحوم أمين بك فكري نجل العلامة المرحوم عبد الله باشا فكري بهذه القصيدة، وكانت وفاته سنة 1316ه (فسبحان الحي الذي لا يموت):
بقية مجد ودعت يوم ودعا
وآمال عز آن أن تتقطعا
ولم تنعه الأيام إلا وأدمجت
من الشرق شطرا في منيته معا
لقد جادنا نوء الزمان مصائبا
يلوح لنا أن مزنها ليس مقلعا
وسبحان من ساق الردى بوجوهه
فلقى لعمري الجمع والفرد مصرعا
7
إذا شن جيش النحس في القوم غارة
فما أجدر الأرزاء أن تتنوعا
وما كنت حتى اليوم أحسب دهرنا
إذا ساء لا يرتاد للعذر موضعا
ألم يكفه ما غال من كل غاية
وأفسد من معنى وعطل مرجعا
وضيق أرجاء الرجاء فسدها
وراخا مجالات المراثي وأوسعا
كذا فليجل الخطب وليفدح الأسى
وتنقلب العليا بمارن أجدعا
أجل ويجلي الدهر للناس شأوه
إذا شاء فيهم أن يصيب ويفجعا
حلفت فلا تمري النوادب عبرتي
على فائت ولينع دهرك من نعى
فهيهات ما إن أستطار لفاجع
إذا كان من أودى الأمين المشيعا
أحبتنا إن قيل في الصبر رجلة
فإني فتى أبغي أنوح وأجزعا
تركت لكم فضل التصبر صبرة
وقلت لطرفي اليوم: لا تأل مدمعا
وشعشع كئوس الدمع بالدم ساقيا
فكل شراب زينه أن يشعشعا
وأعتدها نحو الأمين خيانة
إذا أنا لم أشتف كاسك مترعا
فما كان ودي للأعزة ضائعا
وما كان قلبي من أخي الود بلقعا
حملت له بين الضلوع أمانة
لو احتملتها الشم مالت تصدعا
وأصفيته مني إخاء لو انه
أعار الليالي صفوه رقن مشرعا
وما زلت أرعاه على البعد صاحبا
وقبلي نجوم الأفق مثلي من رعى
فإن يك هذا الترب غرب بدره
فلا زهرت تلك الكواكب مطلعا
ولا لمعت تلك البروق وقد خبت
بروق أمان كن بالأمس لمعا
أما في دجى الخطب المخيم حاجب
لكل منير أن يضيء ويسطعا
قضى اليوم من راع البرية رزؤه
وليس يراع الناس إلا لأروعا
ولم يأت فيه الموت مصرع واحد
ولكنه كان المصارع أجمعا
أصاب الحجى والعلم والحزم والمضا
وصدق المبادي والذمام الممنعا
وما بقيت في المكرمات سجية
ولا خطة إلا ثوت معه مضجعا
فلو نفعت عند المنون شفاعة
كفته فريدات الخصال مشفعا
ودافع عن حوبائه طيب الثنا
وخلده لو أن في الخلد مطمعا
ولكن داعي الموت لا يقبل الرشى
وأنفس منه ليس يلقى وأرفعا
تصيده عن ساعد الغدر فجأة
فكان كرجع الطرف أو كان أسرعا
مصاب له الأقطار إذ شاع زلزلت
فلا ركن للعلياء إلا تزعزعا
أذل إباء الدمع من كل جامد
فلم يبق عاص منه إلا تطوعا
ولم أر في الأرزاء أبعد غارة
ولا من قلوب الخلق أقرب موقعا
عشية لا في الناس مالك عبرة
ولا زفرات الصدر إلا تصنعا
عشية آب الناس سكرى وإنما
بما لم يكن يوما له الكرم منبعا
عشية لم تبق الفجيعة مسكة
ولا حزم للمحزون إلا مضيعا
عشية وارى الناس شمسا وأظلمت
لها الشمس حتى لا ترد بيوشعا
وقيل أمين المجد فاجأه الردى
فلا قلب إلا عاد نهبا موزعا
فكم من يد أضحت تدق بأختها
وكم شفة باتت تجاور أصبعا
فإن يك وادي النيل أشعر فقده
فلا جبل في الشام إلا تضعضعا
كريم به لفظ الكريم مقصر
إذا قيل عن قوم: كرام؛ توسعا
توخى طريق الخير محضا كأنه
من المهد حتى اللحد جاء لينفعا
له خلق سهل ونفس أبية
وحسن خلال دونها الروض ممرعا
وأقلام صدق راجع في ولائها
لأكتب من أوتي الكتاب وأبرعا (؟)
ومن بعد عبد الله كان مؤملا
بأن لم يغب ذا الأصل إلا وفرعا
فما زال حتى أتبع الفرع أصله
زمان لتنقاد الكرام تتبعا
وما زال فقد البدر للناس موجعا
وفي الليلة الدهماء أنكى وأوجعا
فإن تطوه أيدي المنون فما طوى
كرور الليالي ذكره المتضوعا
وإن تكن الأكفان بيضا نواصعا
فإن له من أبيض الذكر أنصعا
ألا في ذمام الله سيرك إنه
مسير فتى ماض أغذ وأوضعا
سبقت إلى حوض كأنك ناهل
على نكظ
8
خاف الزحام فأهرعا
ونازلت قرن الموت لا متهيبا
وحسبك ألفاظ الشهادة أدرعا
أناديك لا راجي الجواب فقد مضى
ويا لهف قلبي أن أقول وتسمعا
أخلفت ثغرا بعد بعدك باسما
وطرفا تمنى أن ينام ويهجعا
ولو ساكنات الأيك يعلمن من ثوى
لما نحن إلا في رثائك سجعا
رجوناك للأوطان أحوج ما غدت
إلى من يرقيها وأوحش أربعا
فلم تسمح الدنيا ولم نعلم الوفا
ولم تر إلا أن تغر وتخدعا
وما هذه الدار التي لفنائها
يشد ويهوى أن يمال وينزعا
متاع قليل ثم مأوى لحفرة
فماذا عسى الإنسان أن يتمتعا؟
وقلت أرثي اللغوي العلامة الشيخ إبراهيم اليازجي، وتلوتها في محفل كبير في بيروت بعد الوحشة التي وقعت بيني وبينه بسبب شوقي، وكانت وفاته سنة 1324ه/1906م:
قصار
9
كل فتى مستكمل الخطر
10
أن ينحني لقضاء الله والقدر
وأن يقابل صرف الدهر كيف جرى
بالخلق في عبرات العين والعبر
وأن يرى غيره مع عينه شرعا
11
فليس بينهما فرق سوى الصور
فما أرى ناعيا حيا بمفرده
إلا نعى لو عقلنا سائر البشر
ليس الحياة سوى تشييع آخرنا
لأول فهي هذي فسحة العمر
وإن تغب المنايا في مواردها
فرب ترك يليه أخذ مقتدر
من سامحته بيوم في مصارعها
فقد أحيل على أيامها الأخر
لم يبرح الدهر فتاك المضارب عن
أيامه البيض أو ليلاته السمر
كفى بريب المنايا واعظا وجزا
رشدا لمن كان من دنيا على غرر
تخالف الناس في الأهواء حين حيوا
وجمع الموت منهم كل منتثر
وقد يلج ببعض كيد شانئه
ولو درى لصفا صفوا بلا كدر
وقد يحاول في أعدائه ظفرا
وأنه بين ناب الموت والظفر
كم وترت قوس ضغن كف ذي ترة
فأذهب الموت عزم الوتر والوتر
12
والدمع يغسل ما بالقلب من وضر
كما يزول غبار الأرض بالمطر
لو أنصف اليازجي دمع لكان له
كعلمه بحر دمع غير منحصر
أو لو درت نار إبراهيم مصرعه
لأصبحت من جوى لفاحة الشرر
أودى الردى حينما أودى بمهجته
بأكتب الوقت من بدو ومن حضر
بذي الضياء تكاد العمي تبصره
وذي البيان الذي يشفي من الحصر
13
من بعد ما خمدت ريح البيان غدت
له به دولة وضاحة الغرر
عبارة لا ترى في رصفها قلقا
كالعدل لم يشك من طول ولا قصر
لا تلتقي موضعا فيها له بدل
كأنما جاءت المعنى على قدر
بكت له اللغة الفصحى وحق له
بكاء كل كلام جاء عن مضر
يا راحلا شكت الأقلام غربته
وليس بعدك منها غير منكسر
نهجت في بلغاء العصر واردة
بالحق لولاك لم تسفر ولم تنر
إليك حقك لا ظلم ولا سرف
لا ينكر الشمس إلا فاقد البصر
وإن يؤاخذك نقاد ببادرة
فليس يرجم إلا مثمر الشجر
وقد يعاب الذي في البدر من كلف
وليس يسلب معنى الحسن في القمر
إليك مني تحيات برقتها
كسحر لفظك أو كالنفح في السحر
فاذهب عليك سلام الله من رجل
ماضي الحشاشة لكن خالد الأثر
رثائي للمرحوم محمود سامي باشا رئيس نظار مصر قبل الاحتلال البريطاني وأمير الشعراء في وقته، توفي سنة 1323ه/1904م:
يا ناظري ألأيا تبكيان دما
أهكذا عهدنا أن نحفظ الذمما؟
لو صار كل سواد منكما يققا
على الصديق لما أنصفتماه لما
وطالما ذبتما شوقا لرؤيته
وخلتماها أماني النفس والنعما
فالآن شطت نوى ما عندها أمل
في القرب فاكتحلا من بعده الظلما
ماذا أقول لقلبي في الدفاع إذا
أقام قاضي الهوى ما بيننا حكما
ويلمها حسرة في القلب باقية
تظل تحت الثرى تستصحب الندما
لو أن لي طير يمن ما صبرت لها
ولا تبدلت من بئزانها الرخما
ولا عداني عن الأحباب عادية
ولا حثثت لغير الصفوة الرسما
ولا تخلفت عن مصر ومقدمها
وقد غدت دارها من دارنا أمما
ألوذ بالدمع كي أطفي اللهيب به
فأستزيد كأني نافخ ضرما
الآن حق بأن أسخو بأسخنه
إن المدامع يتلو حرها الشبما
وما بكائي لخطب قد فقدت به
وحدي خليلا براني فقده ألما
لكن بكائي على المبكي بمصرعه
أهل المشارق بل من غيرهم أمما
ولو سبقت به الورقاء ما لحقت
مناحتي صاحبيه: السيف والقلما
والمجد مكتسيا من كفه حللا
والفضل مرتقيا في ظله أطما
والشعر أدرك ما أعيا زهير وما
فات الكريم على علاته هرما
خطب هوى بخباء الفضل فانحطمت
أوتاده وغدت أطنابه رمما
14
نبا بمحمود سيف لو ضربت به
حد الزمان بكف السعد لانثلما
مصيبة أرجفت صم الجماد فقل
في الشارق انقض أو في الشاهق انهدما
نتيجة الوقت لو آلى به رجل
بأنه فذ هذا الدهر ما أثما
لو أنصفته الليالي في مقاسمها
لأوطأته على هام السهى قدما
لو لم يكن فضله من حظه بدلا
ما سامه الدهر إرهاقا ولا حرما
أو كان للحق في تلك الأمور يد
نجت به الحجة البيضا وما اتهما
ما كان يأمل إلا خير أمته
ولا يرجي لها إلا عزيز حمى
فإن يكن طاش سهم عن رميته
فكم ملوم على رمي سواه رمى
كم ساء أمر بحمل الجاهلين له
وربما حل عقدا بعض من نظما
15
لا يحسن الأمر إلا من تعوده
ما كل راكب خيل يحفظ اللجما
وما نجاح الفتى كاف لتزكية
ولا الحبوط دليل أنه وهما
والفضل والنقص محتوم لزامهما
كأن بين الرزايا والنهى رحما
ما زاد جوهر سامي الحك غير سنى
ولا عرا قدره نقص بما اهتضما
وقلما الدهر ناوى مثله أسدا
ممن رعى تلعات المجد والأكما
مهذب لا ترى في خلقه عوجا
وصاحب ليس يدري وده السأما
لم يكفه النسب العالي فضم له
أصلا وفصلا لعمري ما رسا وسما
كان الأوائل في الأنظار مزعجة
حتى أتى فشأى من جد من قدما
وليس من نابت في عصرنا أدبا
إلا بغيث معانيه زكا ونما
ما الجاهلي ولا ذاك المخضرم لا
ولا المولد معه حائز قسما
وكل نابغة في الشعر ملتمس
من كأسه رشفات كي يبل ظما
لو جاء في الزمن الماضي وعاصره
حكيم كندة
16
لم يزعم بما زعما
أو كان أدرك عصرا قد تقدمه
عي حبيب عن الإنشاد معتصما
يصطاد كل شرود في قصائده
فليس بيت له عن صيدها حرما
أوهت فصاحته الأقوال أمتنها
حتى تكاد عليها تؤثر البكما
ورد فارسها في الجري راجلها
حتى تساوى أخو جهل ومن علما
فانعوا لنا الشعر والآداب قاطبة
معه وقولوا لشوقي إنه يتما
من للبدائع أو من للصنائع
17
أو
من للوقائع إما داهم دهما؟
من للصوارم أو من للمكارم أو
من للمغارم يقضيها عن الغرما؟
من للكتائب من للكتب تشبهها؟
تلك المحاسن أضحى عقدها انفصما
يا يوم محمود ما أبقيت محمدة
إلا وأوردتها في نحبه العدما
تلك الخلال فهل آت يجددها
أو هل ترى أمل العليا بها حلما؟
هيهات يسعدها شهم يتاح لها
فالدهر ألأم من هذا الندى شيما
لن يهتدي بعد محمود دليل ثنا
ولست تبصر هذا الجرح ملتئما
والله ما عجبي من فوته، عجبي
لمثله كيف حتى الآن قد سلما
وطالما قلت إذ جاد الزمان به:
من علم الدهر هذا الجود والكرما؟!
يا حلية الشرق أضحى بعدها عطلا
وبيضة الدهر عن أمثالها عقما
إن كان لم تألك الدنيا معاركة
فلست أول حر صادف النقما
ما شاب منك بلاء نية خلصت
ومن عزا لك من ظلم فقد ظلما
كم قاصد لم تعب مسعاه خيبته
وقائد لم ينل خزيا أن انهزما
ورب مسدي يد يلقى البلاء بها
ورب جان سعيد بالذي جرما
إن التقادير إن أجرت سفائنها
ألحقن من كان غمرا بالذي حزما
18
لا تبعدن ولا يبخس ثناك فلم
تجر إلا إباء الضيم والشمما
والله لو كنت تدري ما بنا كمدا
لكنت أنت لنا الراثي ومن رحما
ليس الذي جاور الديماس في نكد
كمن يزجي إليه الهم والسقما
إن كان حبل حياة المرء أجمعه
أحبولة كان خير الحبل ما انصرما
فاذهب عليك تحيات المهيمن ما
همى بتربك دمع المزن منسجما
هانت بمصرعك الأرزاء أجمعها
فليس يجزع من رزء ولو عظما
وقلت أرثي المرحوم محمد بك فريد رئيس الحزب الوطني المتوفى في ألمانيا سنة 1338ه/1919م:
قد عشت فذا في الرجال فريدا
فقضيت فذا في البلاد فريدا
جاهدت عمرك ثم مت مغربا
فغدوت من كل الجهات شهيدا
كانت حياتك حفظ مصر لأهلها
ما غير ذلك مطلبا منشودا
جاهدت نصف العمر في أرجائها
علما ونصفا في الغروب شريدا
لله وفيت الأمانة حقها
وبذلت فيها طارفا وتليدا
وأذبت في حسراتها كبدا
19
بها
أوديت تحرق من ذويك كبودا
لم تدخر في حب مصر وأهلها
وسعا ولا جهدا هناك جهيدا
ما عز عندك أن تركت لأجلها
وطنا وقصرا كالسدير مشيدا
ولذائذا ونفائسا أورثتها
عنها صرفت وعيلا ووليدا
غادرته طفلا وطال بك النوى
فحرمت منظره وصار رشيدا
لخلاص مصر قد تركت مآثرا
بيضا سهرت لها ليالي سودا
كنت المتيم والعميد بحبها
فلذا لفتيتها غدوت عميدا
20
كم خطئوك وعاندوك وكل من
يفري فريك
21
لم يزل محسودا
حتى تمخضت السنون حقائقا
خروا لديها ركعا وسجودا
علموا بأنك لم تكن متهورا
بل كنت تنظر مذ نظرت بعيدا
عمدوا لرأيك فانقلبت وتلك من
نعم الإله مؤيدا تأييدا
لم تحتضر إلا ومصر كلها
لنظير صنعك تستحث وفودا
فلشد ما قرت عيونك عندما
حف الجميع لواءك المعقودا
فانظر إلى مصر العزيزة بعضها
مثل البريم
22
ببعضها مشدودا
تمشي إلى التحرير لا هيابة
خطرا ولا الموت الزؤام مبيدا
صارت جميعا دنشواي وإنما
صار الأنام عن الحمام مصيدا
حاشا، ولو جار القوي ولو طغى،
أحرار مصر أن تكون عبيدا
مهما استعز الغالبون بجندهم
فالحق أعظم قوة وجنودا
قد أقبل الزمن الذي أبناؤه
لا يحملون سلاسلا وقيودا
نم يا فريد على يقينك إنه
يوم تأذن بالخلاص عتيدا
لا بد من فرج قريب عنده
مصر تؤمم شخصك الملحودا
ويبشرونك بالخلاص إلى الثرى
أن قم وشاهد يومك الموعودا
يبقى مع الأهرام ذكرك ثابتا
ويظل قبرك مثلها مشهودا
وهناك تنقلب المدامع قرة
ويعود مأتمك المفجع عيدا
رثاء نظمناه في جنيف في 18 مارس سنة 1919، وبعثنا به إلى ابن عمنا المرحوم الأمير توفيق مجيد أرسلان لدى علمنا بوفاة ولده ملحم وكان نجيبا، وذلك بعد أن رجع من منفاه في الأناضول:
لقد كنت أرجو أن تعود وتغنما
وتنسى عناء قد مضى وتصرما
وتعتذر الأيام عما تحاملت
عليك ويمحو اليوم ما الأمس قدما
فما راعني إلا مصابك تاركا
ليالي أياما ويومي مظلما
وسهم تلقاه فؤادي وإنه
لآلم ما لاقى نبالا وأسهما
أجل لم تزل حتى أصبت ب «ملحم»
فتفتأ حتى الموت تذكر ملحما
مصاب تشاطرناه طرا فكلنا
يبكى على مفقودك الدمع والدما
رأينا عظيما قبله حادث النوى
لعمري فجاء البين أدهى وأعظما
وكنا نرجي فرحة بزفافه
فوا حسرتا اعتضنا من العرس مأتما
وصارت به تلك التهاني مراثيا
وناح الذي قد شاء أن يترنما
فتى لم يكن إلا بأعوامه فتى
فقد كان في عقل الرجال وأحلما
تقبل بالصبر الجميل بلاءه
وحلى بشهد الطبع ما كان علقما
تحمل من بلواه وهو مراهق
لعمري ما لو حل طودا تهدما
23
كأن الذي فيه من العقل قد أتى
لنزداد فيه حسرة وتألما
فأي فؤاد لا يذوب لمثله
وأي سرور لا يكون محرما؟
أتوفيق ثق ما أنت في الخطب واحدا
ولكنه حزن علينا تقسما
وإن كنت مجروح الفؤاد فكلنا
غدا لك مجروح الفؤاد مكلما
تناثر دمعي فوق طرس أخطه
لذاك غدا نثري ونظمي توأما
يخيل لي مبكاك عند وداعه
خيالا على بعد الديار مجسما
مضى وبقيت العمر تذكر فقده
فيا ليت شعري من تروح منكما
مضى ولو الماضي يهنا على الردى
لقلت له: اضحك ضاحكا متبسما
فما هذه الدار العزيزة عندنا
بأهل لعمري أن تعز وتكرما
إذا سبر الناس الأمور بدت لهم
حقائق لا تبقي فؤادا متيما
فكم فرح فيها بخير أصابه
يعود عليه حسرة وتندما
وكم نعمة تبدو فترجع نقمة
ومغنم قوم عاد من بعد مغرما
عزاءك يابن العم هل ثم حيلة
تصد بها ذاك القضاء المحتما؟
ومثلك من قد غلب العقل والحجى
على حسه عند المصاب وحكما
رجوت إلهي في بنيك الألى بقوا
بأن يسلموا في جانبيك وتسلما
ويملأ مرآهم عيونك قرة
ويغدوا بدورا في البلاد وأنجما
رثاء للمرحوم الأمير عبد القادر نجل جناب الخديوي عباس حلمي، توفاه الله إلى رحمته في 20 أبريل سنة 1919، وذلك في برلين، وكنا حينئذ في مونترو من سويسرة نازلين في فندق مونترو بالاس، وكان في الفندق نفسه جناب الأمير محمد علي عم الأمير الفقيد، فعزيناه بالأبيات الآتية:
أسائل
24
دمعي هل غدوت مجيبي
إذا شئت أطفي حرقتي ولهيبي؟
وهيهات أن يقوى على النار صيب
وريح الرزايا آذنت بهبوب
لئن بكت الخنساء صخرا فإنه
لقد بات يبكي الصخر طول نحيبي
يقولون لي: صبرا فقد ذبت لوعة
وما ذوب مثلي في الأسى بعجيب
أأحسب قلبي من حديد وإن يكن
فكم من شرار للحديد مذيب
وقالوا ألا مهلا تأس بمن مضوا
فليس مصاب جازع بمصيب
فقلت ذروني والأسى ليس مغنيا
كلام خطيب مع كلام
25
خطوب
أجل مقامي في المحبة والوفا
عن اللهو والسلوان بعد حبيب
ورب محب بات يسلو حبيبه
ألا تلك أجسام بغير قلوب
أفي كل يوم للمنية حادث
يسيل من الأجفان كل صبيب؟
تعمدنا ريب المنون بضربة
أبى الدهر أن يأتي لها بضريب
أصبنا ب «عبد القادر» اليوم إذ غدت
تناط به آمال كل لبيب
هوى كوكبا باتت لوقع غروبه
جميع المآقي مترعات غروب
26
هوى كوكبا كالبدر تما وإن غدا
قريب المدى من مشرق لمغيب
فقل أي وجد في الجوانح محرق
على أي غصن في التراب رطيب؟
لئن لم يجاوز ست عشرة حجة
لقد جاز في الإدراك أهل مشيب
قرأت له كتبا قبيل نعيه
بأمثالها يختال كل أديب
27
أبى نكد الأيام إلا أفوله
وهل تؤثر الدنيا حياة نجيب؟
وكان الذي لو عاش أحيا جدوده
وأمسى بوادي النيل كل خصيب
عزيز نماه عرش مصر وقد قضى
منية ناء في البلاد غريب
من العلويين الأعاظم فضلهم
على كل قاص عنهم وقريب
يرجيهم الإسلام في كل مأزق
وفي كل يوم للزمان عصيب
قضى العدل أنا في الكوارث كلها
نشاطر من أحزانهم بنصيب
سألت لهم طول البقاء وسيلة
لنصرة أقوام لهم وشعوب
ورفعة أوطان وعزة ملة
وكبت عدو كاشح ورقيب
وقلت أرثي المرحوم أحمد مختار بيهم عين أعيان بيروت في وقته، وكانت وفاته سنة 1920:
هلا وأنت الجوهر المختار
عن نيل مثلك تصبر الأقدار
وتكون عن دار العلا متأخرا
وإلى العلاء لك السباق شعار
سابقت في الدنيا إلى ما بعدها
وكذا الفناء إلى البقا مضمار
أبقيت من غرر الفعال مآثرا
اليوم هن براحتيك منار
وتركت من ظلم الحياة لياليا
هي عند ربك كلها أسحار
إلا تكن تلك الحياة طويلة
فلقد يساوي العام منك نهار
أو كنت ودعت الأحبة عبطة
28
بكرا فعمرك وحده أعمار
كم في الشباب الغض منك كهولة
وعليه من دون المشيب وقار
سرعان ما اخترت الرحيل أشد ما اح
تاجت لك الأوطان والأوطار
لو لم نكن ندري وفاك وأنه
أجل لقلنا جفوة ونفار
لبيت من ملأ الملائك داعيا
فورا وشأنك في الأمور بدار
وجدوك أجدر بالجنان وشاقهم
يوم تجاورهم ونعم الجار
غارت من الأرض السماء نفاسة
بك والضرائر بعضهن يغار
فازت بك الخضرا ؛ لذا غبراؤنا
تبكي نواك ودمعها أنهار
لا غرو أن نرزا بفقدك ماجدا
فبكل مجد للمنية ثار
أو أن تكون لسهم دهرك معرضا
هدفا فأغراض الكبار كبار
ما كان خطبك سيدا قد غاب بل
جمعا يضيع وجانبا ينهار
قد كنت في الأوطان قبلة معشر
يهدون هديك إن سروا أو ساروا
كانوا إذا ما أبصروك أمامهم
رشدوا وإن ضلوا سبيلك حاروا
ذكروا مكان أبيك في أيامه
علما إليه بالبنان يشار
فحذوت حذو أبيك بل جاوزته
إن البنين لأهلهم أسرار
لم تجتزئ بتليد مجدك عالما
أن الرجال إذا مضت أخبار
فنهضت للعليا بنفسك طالعا
أنجادها والفضل ليس يعار
أمسيت في العرب الكرام منارة
تعشو لضوئك يعرب ونزار
بعزائم مشبوبة ومكارم
عنهن بيعان الكرام قصار
كانت خلالك في الأنام فريدة
بنظيرها تستطرف الأشعار
لم يقصر المداح فيك وربما
سكت اللسان وقالت الآثار
الهمة القعساء يربض تحتها
جأش بركن ذراه ليس يطار
تلقى الخطوب بقلب شهم عنده
أبدا كبار الحادثات صغار
حرمت بلادك في مصابك واحدا
هو في الحقيقة جحفل جرار
أتخيل الأرجاء بعدك قد خلت
فكأنما تلك الربوع قفار
لا الثغر ثغر إذ غدوت برمله
رهن الضريح ولا الديار ديار
أعزز علي أبا أمين أنه
أملي بقربك عاد وهو بوار
قد كنت أرجو أن أراك وإذ به
ما بعد ذياك العشي عرار
29
قد كنت طول البعد نصب نواظري
ويرى الفؤاد ولا ترى الأبصار
أبدا أطارحك النجي
30
كأننا
رغم المساوف كلها سمار
ما مر عن بيروت سانح خاطر
إلا ومثل شخصك التذكار
أولا تكون كذا وأنت بأرضها
قطب الرحى وعلى القطوب يدار
أعزز علي أبا أمين إنني
أرثيك نظما والدموع نثار
سدك
31
البكاء بمقلتي فأدمعي
بهما غزار والرقاد غرار
32
أعزز علي بأن مضيت ولم تزل
تلك المنى وفنيقهن حوار
33
والناس شائمة بوارق لمعا
تخبو وتومض والقلوب حرار
يتذكرونك كل حزة مأزق
ولدى الحنادس تنشد الأقمار
إذ سيف رأيك في الحوادث فيصل
وندى يمينك ديمة مدرار
ومن القلوب معاصم ومعاقل
ومن العقول أسنة وشفار
قد كان عهدك للرفاق: تذكروا
حق البلاد وأنكم أحرار
حق البلاد بأن تكون لأهلها
ملكا صريحا ما عليه غبار
أوطاننا في الأرض خالصة لنا
نحن الطيور وهذه الأوكار
لا تبعدن فإن تغب يا أحمد
تحت الثرى فلأحمد أنصار
لاحت تباشير الخلاص وإنما
يبدو الصباح وقبله الإسفار
ضل الألى حسبوا البلاد غنائما
تلك الجنان جنان جلق نار
والطامحون إلى الفرات ودجلة
مجرى الفرات ودجلة تيار
والبائعون القدس رهط صيارف
ما للصيارف عندنا دينار
قد كان أم بلادنا آباؤهم
أمما فلاقى ريحهم إعصار
لو يذكرون من الحوادث ماضيا
ما غرهم لمقامنا استحقار
لكنهم أمنوا الزمان كأنما
بين الزمان وبينهم آصار
وتوهموا تلك العصور وقد خلت
ليست تعاد وما لها تكرار
كلا وربك ما أصاب حسابهم
ولكل قوم نهضة وعثار
إن الزمان هو الزمان تقلبا
ما دام إلا الواحد القهار
مرثيتي للأخ الأبر والأستاذ الأشهر الشيخ عبد العزيز جاويش، أرسلتها من لوزان إلى مصر، وتليت في حفلة الأربعين لوفاته - رحمه الله - سنة 1347:
لم تبق بعدك في الخطوب جليلا
مذ شئت يا عبد العزيز رحيلا
خلفت للإسلام أي مناحة
طمت وعمت عرضه والطولا
في كل أرض نص فيها منبر
يتذكرونك بكرة وأصيلا
يتذكرون مواقفا مشهورة
لك ليس تترك للمراء سبيلا
ومآثرا في الخافقين حديثها
ومعاليا رنت حلى وحجولا
ما العبقرية والتي يصفونها
إلا حياتك مثلت تمثيلا
الخاطر الوقاد إن يبدر مضى
في الحادثات أسنة ونصولا
والمنطق الفياض إن يهدر غدا
يتدفق الإبداع منه سيولا
لا فرق بين السامعيك وقد وعوا
ما قلته والشاربين شمولا
وإذا جررت على الطروس يراعة
بات الصرير براحتيك صليلا
تلك اليراعة ود أكبر قائد
لو أنها في كفه ليصولا
تتجاوب الآفاق عن أصدائها
ويرتلون فصولها ترتيلا
هيهات يا عبد العزيز أخو علا
من درك شأوك يبلغ المأمولا
لم يعلم الخلق الكريم ولا الحيا
من ليس يعلم خلقك المعسولا
لم يعلم الآداب كيف تجسمت
بشرا فتى لم يصطحبك طويلا
فكأن ربك عند خلقك قد أبى
ألا تكون مكملا تكميلا
تغدو أرق من النسيم فإن عرا
خطب غدوت الصارم المسلولا
في نعمة الحمل الوديع فإن عدا
عاد ترى أسدا يفارق غيلا
أسد متى يزأر لأمة أحمد
ملأ الفرات زئيره والنيلا
شيحان لم يبصر عليها ذلة
إلا ومد ذراعه المفتولا
رضي المصائب والنوائب والنوى
والحبس حتى لا يعيش ذليلا
يعفو الجرائر نحوه طرا ولا
يعفو إذا الإسلام غض فتيلا
جعل الجهاد نصيبه عن قومه
فقضى الحياة مغربا مجفولا
34
لا تعظم الأخطار في أبصاره
ما دام يبصر حقهم مأكولا
يا راحلا أبقى فراغا هائلا
هيهات تملؤه الرجال فحولا
آليت لا أنفك عهدك راعيا
حتى أغرب في التراب مهيلا
غادرت لي قلبا عليك مقطعا
دامي الصميم ومدمعا موصولا
وسألت دمعي أن يجيب جوانحي
فانباع يجري سائلا مسئولا
أنسى لعمري والدي وعترتي
إن كنت أنسى فضلك المسجولا
35
إذ أنت بر بي كما نفسي وإذ
تغدو عليلا أن أكون عليلا
إني أحن إلى اجتماع الشمل في ال
أخرى كأنا في الحياة الأولى
رب الوفاء وصفوة الخلان قل
أتركت بعدك من أعد خليلا؟
يا صاحب القدح المعلى في العلا
أتركت مثلك ياسرا فيجيلا؟
أبقت عليك الحادثات كلومها
والسيف يكسب بالجلاد فلولا
شفت وجودك همة جبارة
تجد الصعود إلى السماك نزولا
أتظن أن تمضي وأبقى وافرا
هيهات قد صار البقاء قليلا
يا أيها المولى بحبك قد مضى «عبد العزيز» متيما متبولا
أمطر على ذاك الثرى غيث الرضى
واجعله رب لدى علاك نزيلا
قد كان فعال الجميل حياته
فأثبه في دار المعاد جميلا
ولما اطلعت على مرثية شوقي للشيخ جاويش أعجبت بها، فارتجلت هذه الأبيات وقد نشرت في جريدة الشورى:
تفوق شوقي بأشعاره
جميعا فكل يتيم فريد
وما دمت تجتاز أرجاءها
تعود بكل طريف جديد
توالى الهتاف لدى كل بيت
ألا إن ذلك بيت القصيد
إذا هو أبكى فزاد المعاد
وإن هو غنى فأنس الوجود
ولكن قصائد شوقي اللواتي
لهن سجل بلوح الخلود
فداء لمرثية قالها
بعبد العزيز: العزيز الشهيد
أعار الرثاء جلال الفقيد
فأصبح هذا لهذا نديد
وقد كان من قبل هذا مبينا
بشأو محال عليه المزيد
تكاد لإحراز أقوال شوقي
تكون المنايا أماني الفقيد
ورثيت صديقي عين أعيان جبل عاملة، ومبعوث بيروت في مجلس النواب، حاتم عصره، كامل بك الأسعد، رئيس آل علي الصغير، وكانت وفاته - رحمه الله - سنة 1343:
هوى لفقدك ركن الشرق وا حربا
يا كامل من يسلي بعدك العربا
كل المصائب يفني الدهر شرتها
إلا رداك فيفني الدهر والحقبا
كنا نرجيك للجلى تذللها
فاليوم من ينبري للخطب إن وثبا
تلقى النوازل بالأفعال صادقة
والناس في الخطب تسدي القول والخطبا
ردت مصيبتك الأرزاء هينة
من بعدها وغدت أكبادنا صلبا
هيهات تدخر الآماق سائلة
من المدامع تبغي بعدك الصببا
لو كنت مع حاتم الطائي في زمن
ما نال في الكرم الإسم الذي كسبا
نداك بالعين مشهود ونائله
هيهات نعلم منه الصدق والكذبا
قد كنت تهوى من الأخلاق أسمحها
لقاصد ومن العلياء ما صعبا
لله درك سباقا لمكرمة
كالسيف منصلتا والسيل قد زعبا
يا أمة سكنت أكناف عاملة
وأوطنت شعفات العز والهضبا
هل عندكم قومنا عن كامل خبر
فقد أتانا نبا أن قد نأى ونبا
اللامع الرأي إن يدج الزمان بكم
والخالف الغيث إن تستبطئوا السحبا
كانت عيالا عليه منكم زمر
من كان منهم يتيما راء
36
فيه أبا
كانت بكاملكم أرجاء عاملكم
تتيه عجبا على الدنيا ولا عجبا
قالوا عميد بني النصار قلت لهم
بل ركن كل امرئ في يعرب انتسبا
لو أنصفت حقه أفناء عاملة
من البكا رق فيها الصخر وانتحبا
لهفي على كامل الأوصاف كيف ثوى
ذاك المحيا ظلام الرمس واحتجبا
لهفي على البدر قد غابت مطالعه
لهفي على البحر ذي الأمواج قد نضبا
لهفي على السيد الغطريف تحرمه
طوائف طالما استكفت به النوبا
لهفي على الكامل الفذ الذي فقدت
به الورى المثل الأعلى لمن وهبا
على الذي لو قضيت الدهر تصحبه
لم تلق إلا الوفا والصدق والأدبا
تقرا على وجهه آيات شيمته
وتنثني قائلا سبحان من كتبا
أخ أشد به أزري لنائبة
ولا أعز عليه إخوتي نسبا
في كل يوم أرى منه أخا ثقة
إذ من سواه أرى الحساد والرقبا
كم كنت آمل أن أحظى بطلعته
يوما وأطفئ من أشواقي اللهبا
كم كنت أذكره في غربتي كلفا
أحدو إلى وجهه الوضاح ريح صبا
حتى أتاني نعي غير منتظر
ألفيت ناضر آمالي به حطبا
ويلمها جملة لما بصرت بها
خلت المنايا أماني والحياة هبا
من لي بأن أمسك الدمع الهتون على
خدي وأن أدرك النوم الذي هربا
مهلا بني الأسعد الأمجاد خطبكم
خطب به الوطن المحبوب قد نكبا
تبكي له العرب العرباء أجمعها
من ساكن مدرا أو ضارب طنبا
ولو عقدنا عليه كل شارقة
مناحة ما قضينا بعض ما وجبا
لكنما الموت حتم لا يحيك به
حزن ولا عارض للدمع منسكبا
زعمت أني أعزيكم بموعظتي
فيا ترى من يعزيني بمن ذهبا
وإنما نحن طرا ركب قافلة
وكلنا شارب الكأس الذي شربا
يا رب أمطر ثراه كل غادية
تخضل منها بقاع حوله وربى
آتيته كرم الأخلاق منقبة
فكن كريما عليه ربنا حدبا
رثائي للمرحوم أخي نسيب، المتوفى في 10 جمادى الآخرة سنة 1346:
نسيب قد كان ساري الطيف أبدى لي
رؤيا تناهى بها ذعري وإجفالي
رأيت في دارنا الأفواج أشبه بال
أمواج ما بين إدبار وإقبال
37
فقمت والبال مني كاسف قلقا
مستقبلا من حياتي كل ذي بال
وما مضت ساعة إلا أذنت بها
مصيبة حققت خوفي وأوجالي
غدت علي سلوك البرق ناقلة
نبا يقطع أسلاكي وأوصالي
تلك التعازي التي الإخوان تبرقها
38
وذي المدامع منها كل هطال
أيقنت حقا بأني قد فقدت أخي
ومن أرجى لأهوالي وأوهالي
أيقنت أنك بعد اليوم مغترب
عني ولست مجيبا بعد تسآلي
شعرت إذ ذاك أن لا أزر ينهض بي
وأنني رازح من تحت أثقالي
كأنني في فلاة لا أنيس بها
والأرض صارت جميعا ربعها الخالي
نسيب غادرتني من بعد بعدك في
عيش تبدل آلامي بآمالي
لك الخلاص من الدار التي طبعت
على الشقاء، ولي حزني وإعوالي
قد كنت أطمع أن ألقاك وا لهفي
ولو تطاول بي حلي وترحالي
حتى أتاني نبا قد رد لي أملي
وا حسرتى أمل الظمآن في الآل
لم يبق لي بعد ذاك النعي من أمل
إلا بدمع طوال الليل سيال
أبكيك في غربتي مضنى نوى وتوى
بالبعد والموت فانظر أي إذلال
أبكيك حين ألاقي الناس مجمعة
تبكي بكائي من دان ومن عال
هم يعرفونك من قد كنت معرفتي
فما يزكيك إلا شاهد الحال
ما كنت تعدو ولا تبغي على أحد
ولا تغير على عرض ولا مال
ولا ذكرت امرأ يوما بمنقصة
يا أبعد الناس عن قيل وعن قال
لم تعرف الكبر في قول ولا عمل
كلا ولا سرت يوما سير مختال
فيك التواضع خلق لا تكلفه
وأنت تلبس منه ثوب إجلال
ولم تكن لجميع الناس متضعا
إلا على ثقة في النفس والآل
لك المزايا التي الأقوام تحسدها
وما اشتغلت بحساد وعذال
لو كانت الناس في الدنيا نظيرك لم
تحتج لعمري لحكام وعمال
ما كنت تنشد في الأعمال محمدة
ولا تبالي بألقاب وإبجال
39
بل تلك عاطفة النفس التي طبعت
على الجميل لغير الجاه والمال
وكنت في الشعر فذا لا يشق له
أدنى غبار وتعيي ناره الصالي
لك القوافي التي أعيت نظائرها
نوابغ الشعر أهل الشيح والضال
كم من شرود لعمري قد جررت بها
على جرير القوافي فضل أذيال
لها من الحضر الأكياس رقتهم
في لفظ بادية رواد أطلال
أدركت في اللغة العرباء منزلة
لها على كل فحل كل إدلال
كم يدعي الشعر قوم لو وزنت بهم
هدرت بحرا وساحوا سيح أوشال
قد يفقد الناس حقا في تواضعهم
ويحسب الصمت عيا عند جهال
وكم مجال به بان السكيت على
شأو المجلى وبذ العاطل الحالي
40
يعطيك حقك دهر لن تضيع به
إن الحقائق فيه غير أغفال
ما مر ذكرك في ناد وحاضره
لم يتبعوك ثناء غير بخال
ذكراك باقية في الناس سائرة
كما تضوع عرف المندل الغالي
إن طالما كانت الأحزان زائلة
مع الزمان فحزني غير زيال
جرح أتى حين شمس العمر قد دلفت
إلى الغروب ودانت بين آجال
ولوعة البين لا تنفك تسفع في
قلبي على مر أسحاري وآصالي
يا غرب لبنان ألق السمع وابك على
بكا غريب بأقصى الغرب نزال
41
فلم يعد في اندمال الجرح من أمل
وما بقى مهلة يسلو بها السالي
رثائي لفقيد العلم والوجاهة؛ اللغوي العلامة أحمد باشا تيمور - رحمه الله - وكانت وفاته سنة 1349:
يساورني طول الدجى وأساوره
ملال
42
وطرفي ساهد الليل ساهره
ولولا التقى ناديت يا حبذا الردى
وقلت: متى تلقى إلي بشائره؟
لعمرك ما بالعيش إرب لعاقل
توغل في علم الحقيقة خاطره
تسلسل آلام وترداد محنة
تراوحه في كربها وتباكره
وخيبة آمال وفقد أعزة
وبعد طوال السجن فالموت آخره
ليهنك يا تيمور أنك جزتها
إلى ملأ لا يعرف الموت زائره
وفارقت دارا لا يزال قطينها
يفكر في الهول الذي هو غامره
فإن تك عقبى الدار قسمة فاضل
فأقصى أمانيك الذي أنت صائره
تخطتك في ذا الخطب داعية الرثا
ولكنها صارت إلى من تغادره
جدير بأن يرثى الذين تركتهم
يصابر كل منهم ما يصابره
يسائل بعضا بعضهم: أين أحمد؟
وأحمد قد ضمت عليه حفائره
فأنى لهم تلك الخلائق بعده
وأنى لهم من ذلك الوجه ناضره؟
وأنى لهم تلك السكينة والنهى
إذا عصفت من أي خطب أعاصره
يريدون في ذا العصر ندا لأحمد
وأحمد فذ مفرد الخلق نادره
ينوحون نوح الثاكلات فكلهم
تدفق عن مثل السيول محاجره
على سيد في جنبه كل سيد
يظل ضئيلا باديات مفاقره
على ملك في صورة بشرية
تعدته من هذا الوجود صغائره
إذا ما جرى في أي ناد حديثه
تقول فتيت المسك شبت مجامره
حري بأن الشرق يظلم أفقه
لمنعاه والإسلام تبكي منابره
وتنكس رايات الفضائل كلها
عليه وترخى للكمال ستائره
فمن بعده للعلم تنشق حجبه
ويسلس عاصيه ويسهل واعره؟
وللغة الفصحى يصون ذمارها
وتملأ فيها الخافقين مآثره؟
صباباته في حسنها وسهاده
ومن كتبها أعلاقه وذخائره
وذوق جناها غبقه وصبوحه
وجوب فلاها روضه وأزاهره
أوابدها طرا لديه أوانس
وشردها من كل فن معاشره
أقام لسان العرب مما هوى به
ولولاه حتما ما أقيلت عواثره
43
ولو كان في عصر المؤلف لم يكن
لديه ابن منظور بكفء يناظره
ولو أنه وافى الصحاح مصححا
غلت فوق عهد الجوهري جواهره
وكان كتاب العين قد غاب جملة
عن العين لو أن الخليل معاصره
ولو كان في القاموس لجج
44
ما طما
وما كان إلا كالرقارق
45
زاخره
ولو أن رب التاج
46
عاش بعصره
لحل من التاج الذي هو ضافره
ولو شمل المصباح
47
يوما بنقده
لخلاه ملقى ليس يزهر زاهره
مدى ليس فيه من يشق غباره
وطائلة ما إن بها من يجاوره
فقد غيبت تلك الفضائل كلها
ودارت على ذاك النبوغ دوائره
وبات يبكي كل صاب إلى العلا
وكان حرى ألا تجف بوادره
أأحمد لا تبعد ففي كل مهجة
ولاؤك عقد محكمات أواصره
لئن بنت عنا لم تزل متمثلا
عليك احتوت من كل شخص ضمائره
دخلت إلى الدار التي أنت أهلها
مكانك فيها مشرق الوجه سافره
ولا بأس من هول الحساب على امرئ
له زرد من نسج أيديه ناصره
عليك سلام الله ما لاح بارق
وجاد ثراك الغيث ما سح ماطره
على الناس دين من ثنائك لازم
يؤدونه ما يذكر الحق ذاكره
ورثيت صديقي المرحوم الشيخ عبد القادر الشيبي كبير سدنة البيت الحرام، وعين أعيان مكة المكرمة:
سلاني هل على بعدي سلاني
وهل كان المغيب سوى العيان؟
وهل فارقته إلا توالت
رسائله علي بلا توان؟
صديق نادر الأمثال فيما
عهدت وما له في العهد ثان
وغطريف تعز به قريش
له في كل مكرمة يدان
من النفر الألى سادوا وشادوا
وجادوا للأقاصي والأداني
عريق المجد أروع عبدري
له شأن يكذب كل شاني
وكيف يكون من ينميه أصل
كعبد الدار أو عبد المدان؟
وكيف يكون مضطلع بأمر
تسجل بالمثالث والمثاني
أقر الله للشيبي حقا
سدانة بيته طول الزمان
تغيرت البلاد ومن عليها
ورتبة آل شيبة في أمان
وقد ضموا إلى ما أورثوه
تميزهم بأخلاق حسان
وكان عميد هذا الوقت منهم
يشار إلى علاه بالبنان
يهز به الحجاز أخا مضاء
إلى العلياء كالسيف اليماني
وإذ فارقته في أرض وج
48
وجا
49
قلبي التياع كالسنان
كأني قد شعرت لدى وداعي
بأني لن أراه ولا يراني
ولما جاءني منعاه أذكى
ضلوعي واستهل المدمعان
وباتت تسفع الأحشاء ذكرى
مجالس كالأمان وكالأماني
زمانا كان يرعاني وفاه
على مر الدقائق والثواني
ألا يا آل شيبة لي حنين
إليكم من أخ جم الحنان
لعبد القادر الشيبي عندي
مقام لا يقوم به بياني
أشاطركم بهذا الخطب حزنا
شجاكم منه سهم قد شجاني
ولكني بعبد الله
50
أرجو
عزاء آسيا جرح الجنان
وأسأل للفقيد كريم نزل
لدى مولاه في غرف الجنان
هناك العالم القدسي باق
وهذا العالم الإنسي فان
هذه مرثيتي للأخ القديم، والولي الحميم، أحمد بك شوقي، أمير الشعراء - رحمه الله - وقد توفي سنة 1351ه/1932م:
قد أعجز الشعراء طول حياته
واليوم يعجزهم بندب مماته
هيهات يوجد في البرية منهم
كفؤ ليرثيه بمثل لغاته
كان الأمير لجيشهم مستنة
فرسانهم في الظل من راياته
ما عاب أهل العبقرية أنهم
قد قصروا في الخب
51
عن غاياته
هذا أمير الشعر غير مدافع
في الشرق أجمع منذ فتق لهاته
لو كان وحي بعد وحي محمد
لانشق ذاك الوحي عن آياته
السحر في نفثاته والزهر في
نفحاته والدهر بعض رواته
رقت لنغمته القلوب فكيفما
غنى بها رقصت على نبراته
تغدو المعاني العصم شمس مقادة
فيقودها قود الغلام لشاته
وإذا أراد الصخرة الصماء من
أغراضه رقت نظير سحاته
52
ما رام شارد حكمة في نظمه
إلا أصاب صميمها بحصاته
جلى الإله له الأمور كأنما
يلقي عليها الشمس من نظراته
فكسا الطبيعة من نسيج بيانه
حللا خلت من غير طرز دواته
فترى الطبيعة قبل نظرته لها
غير الطبيعة وهي في مرآته
والحسن يشرق في العيون بذاته
وهنا يضيء بذاته وصفاته
هذا هو الشعر الذي بنبوغه
لم تحسن النظراء قرع صفاته
من كل بيت في رفيع عماده
تتقاصر الأقدام عن عتباته
كالدر في لمعاته، والبدر في
قسماته، والصبح في نسماته
ولقد رويت الشعر عن آحاده
وألفت للسباق في حلباته
وقضيت فيه صبوتي وصبابتي
وقطفت منه خير نواراته
وأثرت في الميدان بزل فحوله
وأطرت في الآفاق شهب بزاته
فرأيت «شوقي» لم يدع في عصره
قرنا يهز قناته لقناته
الفرد في أمداحه ونواحه
والفذ في أمثاله وعظاته
وإذا تعرض للغرام فهل درت
لغة الغرام نظير شوقياته؟
ما في الهيام كوجده وحنينه
أو في النسيب كظبيه ومهاته
أو بات يعبث بالشراب أضاف من
كاساته حببا إلى كاساته
أو خاض في ذكرى العذيب تشابهت
أعطاف مستمعيه مع باناته
وإذا تحدث بالربيع وروضه
أنساك بالتحبير وشي نباته
أو سل في وصف الوقائع صارما
خلت العدى سالت على شفراته
لا رتبة تعلو مكانته ولا
شرف يناف عليه من شرفاته
نحت القوافي السائرات أوابدا
ماذا يفيد النحت من أثلاته
قد بذ آلهة القريض بأسرهم
ومحا عبادة لاته ومناته
ينضون كل نجيبة أن يطلعوا
جبلا يحل الرأس من شعفاته
ولكم مررت بحاسدين لفضله
رغم القلى يروون من أبياته
لا ند يعدله وكم من مجلس
أشعار شوقي الند في سمراته
يتمثل العصر الحديث بشعره
حق التمثل من جميع جهاته
ولرب بيت يستقل بجملة
تغني عن التاريخ في صفحاته
لم يفتتن من عصره بمساوئ
كلا ولم يغمطه من حسناته
قد لازم الإنصاف في أحكامه
لا فرق بين صحابه وعداته
وإذا سألت عن الجهاد فإنه
منذ الحداثة كان في سرواته
كالسيف في أوضائه ومضائه
والليث في وثباته وثباته
ما حل بالإسلام حيف مصيبة
إلا وكان بها لسان شكاته
يحمي حقائقه ويوضح سبله
ويقيل طول الوقت من عثراته
يلقي على غمرات كل ملمة
قولا يزيل أجاجها بفراته
ويظل يرسلها قصائد شردا
غررا تشق الفجر عن ليلاته
كانت قصائده هي الصوت الذي
سرى عن الإسلام ثقل سباته
بعثت به روح الحياة كأنها
هي صور إسرافيل في زعقاته
قد كان أدرى الناس بالداء الذي
قد حط هذا الشرق عن صهواته
داء هو الأخلاق في اضمحلالها
فلذا ترى الأخلاق رأس وصاته
وفى عن الشرق القديم نضاله
من يوم نشأته ليوم وفاته
قد ذاد عنه بقلبه وبلبه
شأن الأبي يذود عن تركاته
ماض يحذره استلاب تراثه
منه ويحفزه لأخذ تراته
أعلى منار الشرق في أوصافه
وأجاد وصف الغرب في آفاته
ووحى إلى الشرقي بالطرق التي
يمشي النجاء بها لأجل نجاته
أملى مكافحة الذئاب عواديا
بالواد قد حلوا مكان رعاته
الجائسين ببحره وببره
والجائشين بنجده ووطاته
والغاصبين لزرعه ولضرعه
والآكلين لتمره بنواته
أشعاره تحيا وتحيي أمة
تجد الحياة الحق في كلماته
يا راحلا ملأ الزمان بدائعا
من قبل أن نزل القضا بسكاته
أتركت بعدك شاعرا ترضى بأن
ترعى جياد الفكر في تلعاته
يبكي بك الإسلام خير جنوده
أبدا ويرثي الشرق خير حماته
وكأن وادي النيل من أحزانه
يلقي على الشطين من زفراته
ونوادب العربية الفصحى لها
ندب عليك يذيب في رناته
انظر إلى الإخوان كيف تركتهم
من كل مضطجع على جمراته
انظر لحال أخ فداك بروحه
لو كان يحيي الميت عزم فداته
قد كنت طول العمر قرة عينه
والآن يجري السخن من عبراته
مضت السنون الأربعون ونحن في
هذا الإخاء نمز من قهواته
أرعاك عن بعد وترعاني على
عهد نهز الرطب من عذباته
عهد رعيناه مديد حياتنا
واليوم زاد الموت من حرماته
قد كنت أطمع أن ترى لي راثيا
يا من غدوت اليوم بين رثاته
كنا نخاف رداك قبل وقوعه
فلنا الأمان اليوم من دهشاته
تبا لعيش قد يكون مساؤه
نوحا وكان سروره بغداته
والمرء إن ينظر لما يبلى به
لا فرق بين بقائه وفواته
فالميت وهو يذوب في حشراته
كالحي وهو يذوب من حسراته
نرجو لك الدار التي عمارها
هم كل من صنع الجميل لذاته
يضفي عليك الله ثوب نعيمه
والله لا تحصى ضروب هباته
قد كنت في الدنيا هزارا صادحا
يشجي ويسلي الناس في نغماته
فالآن كن بجلال ربك ساجعا
والطائر المحكي في جناته
وقلت أرثي صديقي الطيب الذكر، الحاج عبد السلام بنونة، من عيون أعيان تطوان، بل المغرب كله، المنتقل إلى رحمة ربه في 3 شوال من هذه السنة 1353، وهذا آخر شعر لي إلى تاريخ نشر هذا الديوان. وقد أرادت جريدة «الحياة» الصادرة في تطوان في عددها المؤرخ في 3 ذي القعدة سنة 1353، الموافق 7 فبراير سنة 1935 أن تتلطف بالكلمات الآتية قبل إثبات القصيدة:
لوعة أخ على أخيه
رثاء لمفخرة المغرب المرحوم الحاج عبد السلام بنونة، نور الله ضريحه وروح روحه.
الأمير شكيب أرسلان؛ رجل الساعة في العالم الإسلامي، ابتدأ يخدم القضية الإسلامية منذ خمسين عاما، وهو أول زعيم عربي رفع صوته في الشرق والغرب مدافعا عن قوميتنا المغربية المهددة، فبلغ صدى صوته الخافقين، يحب المغاربة حبا جما، وتربطه برجالهم روابط حب متين وإخلاص مكين، وليست هذه القصيدة التي نقدمها للقراء اليوم إلا صورة مصغرة منبئة عن عواطفه النبيلة نحو أمتنا وقادتها في الحياة والموت.
الحياة
يا مدمعي اكفياني نار أحزاني
إني عهدتكما من خير أعواني
نار تأجج في قلبي فهل لكما
أن تطفئاها بتسكاب وتهتان
إن لم يك اليوم لي رنات ثاكلة
فأي يوم له وجدي وتحناني
أقضي الليالي لا أحظى بطيف كرى
موزعا بين حيران وحران
ما لي بغير كئوس الدمع مغتبق
وليس غير نجوم الليل ندماني
53
تأبى المروءة قلبا غير متقد
على حبيب وطرفا غير ريان
لا بوأتني المعالي متن صهوتها
إن كان لم يصم
54
قلبي فقد خلاني
وليس كل أخ تأتي منيته
على رءوس ذويه دك بنيان
إنا فقدناك يا «عبد السلام» لدن
كنت المرجى لأوطار وأوطان
وكنت ركنا لها إن أمة لجأت
من الورى لأساطين وأركان
الباهر الخصل
55
يعيي من يسابقه
والقائل الفصل عن علم وبرهان
يرمي بكل مراش من كنائنه
عن كل قوس من التفكير مرنان
كانت محامده شتى نقول لها
سبحان ناظمها في سلك إنسان
مهذب الخلق في صفو وفي كدر
وناصح الود في سر وإعلان
مناقب سنمته ذروة قعست
وما أقرت لأقران بإقران
56
بصيرة تستشف الغيب أغمضه
وهمة تقرن العالي إلى الداني
كانت له في هوى الإسلام صارخة
57
الموت في سبلها والعيش سيان
وعزة العرب العرباء مالئة
عروقه ملء أنداء لأغصان
أخي الذي كنت أرجوه على ثقة
إذا تشابه إخوان بخوان
يمضي إلى المجد إذ يمضي بلا ملل
ولا يبالي بأحقاد وأضغان
ما كان يثنيه عن علياء يقصدها
ثان ولا يرتضي في السبق بالثاني
إن صوبت نحوه الأعداء أسهمها
فالمجد والسلم في الدنيا نقيضان
إن شئت تعلم شأو المرء في شرف
قسه بما هاج من بغي وعدوان
إن الحقيقة مثل الشمس آبية
إلا التجلي لقوم غير عميان
تتعتع المغرب الأقصى لمصرعه
فلا ترى من بنيه غير سكران
كأنما كل ما في الغرب من مهج
تجمعت وغدت في وسط تطوان
قد كنت آمل أن نحيا معاصرة
مديد عمر وألقاه ويلقاني
أدعو له في جناني كلما انفردت
نفسي بنجوى وأرعاه ويرعاني
فخيب البين ما قد كنت آمله
وكم أرتني الليالي ضد حسباني
خذ في حياتك ما تشتاق من نعم
وخذ بمقداره تهمام وجدان
واعلم فما صادفت عيناك في زمن
من قرة فهي يوما قرح أجفان
لم تحل لي من زماني لحظة عذبت
إلا أمرت وحاكت وقع مران
58
ولا توفر لي حظ ألذ به
إلا تضمن أشجاني وأشجاني
59
يا راحلا فجع الإسلام أجمعه
فالشرق في ندبه والغرب صنوان
ومسلما بطلا كانت حميته
تملا الفجاج بإسلام وإيمان
بدلت من هذه الدنيا سماء علا
فابشر أمستبدل الباقي من الفاني
شقيت في دارك الدنيا بجيرتها
فاسعد من الملأ الأعلى بجيران
أثواك ربك في أفياء جنته
ممتع الروح في روح وريحان
وجاد ترب ضريح أنت ساكنه
بكل أوطف داني الهدب حنان
60
وأورث الله من أنجبت من ولد
خلالك الغر، هذا خير سلوان
فاذهب عليك سلام الله ما طلعت
شمس وناح حمام فوق أفنان
يقل بعدك مدفونا فجعت به
أن أستطار على ضعفي لحدثان
القسم الرابع
في المدائح السلطانية، وشئون السياسة العثمانية
لي عدة قصائد سلطانية كنت أمدح بها السلطان عبد الحميد، ولم أكن أقدمها للحضرة السلطانية، وإنما كنت أنشرها في الجرائد؛ تعظيما لمقام الخلافة وتأييدا لوحدة الأمة، فمن هذه القصائد ما لم أعثر عليه حتى هذه الساعة؛ ولذلك تراني ممليا منها ما لا يزال في خاطري كيفما اتفق.
منها قصيدة نظمتها في الآستانة سنة 1310ه/1892م؛ أي من ثلاث وأربعين سنة، لا أزال أحفظ منها ما يلي:
ما إن لشأو في البيان يبين
تدنو لمدحك غاية وتبين
شأو لو الحدقي
1
حاول مثله
أعيا البيان لديه والتبيين
إيتاء حق الشكر حق خليفة
تزين الدنيا به والدين
ومنها:
تغشى الأمور بفكرة وقادة
الظن منها في الأمور يقين
يا طالما صدت مقارعة الظبى
إن العقول معاقل وحصون
ومنها:
فاسلم أمير المؤمنين ولا تزل
تعطى مناك وما تريد يكون
في دولة غراء عثمانية
متكنفاها النصر والتمكين
ومنها قصيدة أخرى بائية نظمتها في سورية، وأظن عهدها يرجع إلى أربعين سنة، وقد بقي منها في حافظتي الأبيات التالية:
قف بين معترك الأمواج والهضب
بنقطة الأمتين: الترك والعرب
بدار سلطنة الدنيا ومركزها
ومرجع الأرض من قطب إلى قطب
بحيث قد فرق البرين ربهما
وحيث قد مرج البحرين عن كثب
وقابل الشرق في أزياء قدمته
بصنوه الغرب في أثوابه القشب
ثغر الثغور حماه الله قام له
من لطف بوسفوره أحلى من الشنب
ما زال من عهد قسطنطين مرتقبا
يجد نحو بني عثمان في الطلب
حتى أتته جيوش لا كفاء لها
نزلن عند أبي أيوب في الرحب
2
سخرن من أرضه قرنا يذل له
إسكندر ناطح القرنين للسحب
ومنها في ذكر السلطان:
حاز الخلافة في عصر أبي لهب
له جيوش العدى حمالة الحطب
فأطفأ النار من بعد السعير له
رأي يفرق بين النار والخشب
ومنها قصيدة نشرتها في المؤيد عهدها يتأخر عن عهد القصيدتين الأوليين بعدة سنوات، وأذكر منها ما يلي:
مشارق أرض لفها بمغارب
وغادر قطبيها مزاجا لقاطب
وجانس بين الغور والنجد عندها
كلا أرضها لم يعي وقع السلاهب
وضيق بين الفرجتين فصارتا
إلى مثل ما ضمت أنامل حاسب
وقرب بين العدوتين كأنما
له كرة الغبراء أكرة لاعب
مروى شعار الهند دان وراويا
سبان المعالي عن رقاق المضارب
لواء من الإسلام قد عز نصره
أطل على الآفاق من كل جانب
لواء لو ان الأرض طال أثيرها
لما زال حتى اندق بين الكواكب
ولو أن قرن الشمس أرخى ذوائبا
لما كان منه غير إحدى الذوائب
تداوله بعد النبي خلائف
مفاخرهم كل على كل غارب
لعمري لئن طال التحكك بالسهى
وقارب روق النجم أو لم يقارب
لما طاولت أحساب عثمان عصبة
ولا دان منها مطلب نحو طالب
أرى آل عثمان بنصر محمد
هي الأزد إلا أنها لم تصاحب
3
مليون بالأمر الذي يحملونه
خليون عن خلف المساعي الكواذب
لقد نوروا ليلا من النقع داجيا
بشهب رماح للنحور ثواقب
وقد فرعوا من كل ملك عقيلة
رياضتها أعيت على كل خاطب
لقد جمعوا البرين مع زاخريهما
وأحسن منه جمعهم للمناقب
ومنها في ذكر السلطان:
حفظت لعثمان وفارا مريده
تردى بإذن الله حلة خائب
وحسنت بل حصنت ما شئت واقتضت
خواطرك الغرا وحسن المذاهب
سردت له هذا الحديد فلم تزل
تمد بقضبان له وقواضب
قواضبه في الحرب إن تنتدب لها
وقضبانه في السلم إن لم تحارب
وما عفت نار الحرب إلا تعقلا
وكل من الدولات تدلى بجاذب
وما عفتها إلا احتفازا لقربها
وهل ينهض البازي بغير مخالب؟
لكل من الأمرين أعددت عدة
فسالم إذا ما طبت نفسا وغاضب
سهرت وقد نام الأنام بمقلة
لها قلب شيحان وجثمان شاحب
وآخرها:
فحبك ذا شرعي وعرفي ومذهبي
ومدحك ذا فرضي ووتري وواجبي
ونظم المرحوم شوقي بك عندما ذهب إلى الآستانة، وكان ضيف أمير المؤمنين، القصيدة الآتية:
رضي المسلمون والإسلام
فرع عثمان دم فداك الدوام
كيف نحصي على علاك ثناء
لك منك الثناء والإكرام
هل كلام العباد في الشمس إلا
أنها الشمس ليس فيها كلام
ومكان الإمام أعلى ولكن
بأحاديثه يتيه الأنام
إيه «عبد الحميد» جل زمان
أنت فيه خليفة وإمام
ما رأت مثل ذا الذي تبتني الأق
وام مجدا ولن يرى الأقوام
دولة شاد ركنها ألف عام
ومئات تعيدها أعوام
وأساس من عهد عثمان يبنى
في ثمان ومثلهن يقام
حكمة حال كل هذا التجلي
دونها أن تنالها الأفهام
يسأل الناس عندها الناس هل في الن
اس ذو المقلة التي لا تنام؟
أم من الناس بعد من قوله وح
ي كريم وفعله إلهام؟
صدق الخلق أنت هذا وهذا
يا عظيما ما جازه إعظام
شرف باذخ وملك كبير
ويمين بسط
4
وأمر جسام «عمر» أنت بيد أنك ظل
للبرايا وعصمة وسلام
ما تتوجت بالخلافة حتى
توج البائسون والأيتام
وسرى الخصب والنماء ووافى ال
بشر والظل والجنى والغمام
وتلقى الهلال منك جبين
فيه حسن وبالعفاة غرام
فسلام عليهم وعليه
يوم حيتهم به الأيام
و«بدا الملك» ملك عثمان من عل
ياك في الذروة التي لا ترام
يهرع العرش والملوك إليه
وبنو العصر والولاة الفخام
هكذا الدهر حالة ثم ضد
ما لحال مع الزمان دوام
ولأنت الذي رعيته الأس
د ومسرى ظلالها الآجام
أمة الترك والعراق وأهلو
ه ولبنان والربى والخيام
عالم لم يكن لينظم لولا
أنك السلم وسطه والوئام
هذبته السيوف في الدهر واليو
م أتمت تهذيبه الأقلام
أيقولون سكرة لن تجلى
وقعود مع الهوى وقيام
ليذوقن للمهلهل صحوا
تشرف الكأس عنده والمدام
وضع الشرق في يديك يديه
وأتت من حماته الأقسام
بالولاء الذي تريد الأيادي
والولاء الذي يريد المقام
غير غاو أو خائن أو حسود
برئت من أولئك الأحلام
كيف تهدى لما تشيد عيون
في الثرى ملؤها حصى ورغام
مقل عانت الظلام طويلا
فعماها في أن يزول الظلام
قد تعيش النفوس في الضيم حتى
لترى الضيم أنها لا تضام
أيها النافرون عودوا إلينا
ولجوا الباب إنه الإسلام
غرض أنتم وفي الدهر سهم
يوم لا تدفع السهام السهام
نمتم ثم تطلبون المعالي
والمعالي على النيام حرام
شر عيش الرجال ما كان حلما
قد تسيغ المنية الأحلام
ويبيت الزمان أندلسيا
ثم يضحى وناسه أعجام •••
عالي الباب هز بابك منا
فسعينا وفي النفوس مرام
وتجليت فاستلمنا كما للن
اس بالركن ذي الجلال استلام
نستميح الإمام نصرا لمصر
مثلما ينصر الحسام الحسام
فلمصر وأنت بالحب أدرى
بك يا حامي الحمى استعصام
يشهد الله للنفوس بهذا
وكفاها أن يشهد العلام
وإلى السيد الخليفة تشكو
جور دهر أحراره ظلام
وعدوها لنا وعودا كبارا
هل رأيت القرى علاها الجهام؟
فمللنا ولم يك الداء يحمي
أن تمل الأرواح والأجسام
يمنع القيد أن نقوم فهل تا
ج فبالتاج للبلاد قيام
فارفع الصوت إنها هي مصر
وارفع الصوت إنها الأهرام
وارع مصرا ولم تزل خير راع
فلها بالذي أرتك زمام
إن جهد الوفاء ما أنت آت
فليقم في وفائك الخدام
وليصولوا بمن له الدهر عبد
وله السعد تابع وغلام
فاللواء الذي تلقوا رفيع
والأمور التي تولوا عظام
من يرد حقه فللحق أنصا
ر كثير وفي الزمان كرام
لا تروقن نومة الحق للبا
غي فللحق هبة وانتقام
إن للوحش، والعظام مناها،
لمنايا أسبابهن العظام
رافع الضاد للسها هل قبول
فيباهي النجوم هذا النظام
قامت الضاد في فمي لك حبا
فهي فيه تحية وابتسام
إن في «يلدز» الهدى لخلالا
أنا صب بلطفها مستهام
قد تجلت لخير بدر أقلت
في كمال بدت له أعلام
فالزم التم أيها البدر دوما
والزم البدر أيهذا التمام
فعارضته بالقصيدة الآتية:
هل لسان أقواله الإلهام؟
أم بيان آياته الإحكام؟
فتباري الألفاظ شأو المعاني
ويوفي حق الثناء الإمام؟
الذي شرفت خلافته الأر
ض فحف البرية الإكرام
وغدت لهجة الثناء عليه
مثلما دام للصلاة إقام
قعدت نهضة البلاغة عنه
ودنت عن خياله الأوهام
قعس في الصفيح من أطلس العز
تهاوت من دونه الأفهام •••
إنما وصفه على فاتح الأفكا
ر في الذروة التي لا ترام
كل طرف للفكر عنه كليل
كل طرف للجري فيه كهام
قصر الوصف دون من يفضح الوص
ف وعند الفعال يخفى الكلام
ينبذ الشعر والشهود الرياضي
ات عدا والحجة الأرقام
إن ما سال في ثناه يراع
لا كما سح من يديه غمام
وفعال الضرغام أوقع في النف
س من القول إنه الضرغام •••
كل يوم له صنائع تترى
في البرايا لباسهن الدوام
تكفل الناس مثلما يكفل الغب
راء غيث له عليها انسجام
طوق الخلق جوده ونداه
فهي في مدحه لعمري حمام
وجدير أن تنطق الطير والوح
ش فيتلو الصداح فيه البغام •••
نسخت عنده الملوك وأمسى
خبرا من أخبار كان الكرام
ما رأى مثله الزمان عظيما
صبية عنده الرجال العظام
جاء من ضئضئ الخلافة فردا
هو من معشر الملوك السنام
فرع عثمان وكفى المجد والأح
ساب والمكرمات والأحلام •••
دولة حجة الزمان على الخل
ق بها دون مرية إلزام
ليس للشرق غيرها فبنو المش
رق طرا بدونها أيتام
قد أقامت سرادق العز يعلي
ه الوشيج الرماح والأقلام
فوقه راية الهلال منيرا
يدبر الظلم عندها والظلام
ينضوي تحتها النقاد مع الأس
د وترعى الذئاب والآرام •••
مجد عثمان ليس غيرك مجد
كل مدح من دون مدحك ذام
لم تزل شامخا بأنف عزيز
ولكم أعطس الملوك الرغام
لا ترى دولة هزالا وضعفا
حولها المسلمون والإسلام
وعلى رأسها خليفة عصر
دهره تابع له وغلام
لم يزل قائما لديه بأبوا
ب عليهن للجباه ازدحام
حيثما تهطع الملوك وتعنو
تحت تيجانها الطلى والهام
موقف تخشع النواظر فيه
وتسوى الرءوس والأقدام
قد حباه عثمان أسا متينا
مثل البيت عنده والمقام
شاب قرن الزمان وهو مكين
وتخطت مئاتها الأعوام
وغدا آلفا سهام الليالي
فلذا لا تنال منه السهام •••
إيه «عبد الحميد» إن زمانا
أنت فيه عباسه بسام
أوله نصرك العزيز وأيد
وارو مصرا له إليك أوام
أشخصت نحوك العيون حيارى
أمم الخافقين والأقوام
وتصبى القلوب منك خلال
يحرم العشق دونها والهيام
أقبل العصر يرتجيك وفي اليم
نى كتاب وفي الشمال حسام
حبذا الدولة التي صار فيها
توءمين العلوم والأعلام
هو ذا الشرق في حماك لك الأم
ر جميعا وفي يديك الزمام
هزه هزة تثوب بها الرو
ح وتحيي الآمال وهي رمام
أرهف الحد للخطوب فما ين
فع مع هذه الليالي احتشام
لم تزل أرضنا مآسد بالله
ومأوى رجالنا الآجام •••
إن للشرق هبة بعد نوم
أزعجته خلاله الأحلام
هبة تبعث الحمية في النا
س كما يبعث الخمار المدام
يسأل الغرب عندها الشرق هل جا
ءك روح تحيا به الأصنام؟
ترسل الكهرباء فيها شعاعا
ويرى للبخار فيها ركام
وتشب النيران في كل أرض
فتعود النيران وهي سلام
إنما تثلج الصدور بسلم
حيثما يوقد الصدور ضرام •••
يا إمام الهدى هنيئا وأولى
أن يهنا بالعيد عنك الأنام
إن أحاول على علاك ثناء
فهو مما قضى علي الذمام
أو أعارض فتى القريض
5
فما عا
رض ورد الحدائق القلام
6
ذا مجال رضيت فيه من السب
ق بعزم لم يثنه الإحجام
وإذا كان بدع وصفك سمطا
جاء عفوا من القريض النظام •••
إن يوما به الجلوس تجلى
هو يوم خدامه الأيام
كفر الدهر فيه عن كل ما جر
فلم يتجه عليه ملام
جاء ختما لطارقات الليالي
فاختلافاتها إلينا لمام
7 •••
ليس يلحى على أواليه عصر
بمعاليك طاب منه الختام
ولما استرجعت الدولة العثمانية مدينة أدرنة وتوابعها بعد الحرب البلقانية المشئومة، أرسلت الدولة وفدا إلى أدرنة من رجالات العرب لتهنئة أهل تلك الديار على رجوعهم إلى حضن الدولة، فجرت احتفالات وقيلت خطب، وكنت من جملة أعضاء الوفد العربي المذكور، فتلوت أمام ضباط الجيش العثماني قصيدة نشرتها أكثر الجرائد العربية والتركية، ولا أزال أحفظ منها الأبيات التالية:
فدا لحمانا كل من يمنع الحمى
ومن ليس يرضى خوضه متهدما
فما العيش إلا أن نموت أعزة
وما الموت إلا أن نعيش ونسلما
تأملت في صرف الزمان فلم أجد
سوى الصارم البتار للسلم سلما
ولم أر أنأى عن سلام من الذي
تأخر يعتد السلامة مغنما
يقولون: وجه السيف أبيض دائما
وما ابيض إلا وهو أحمر بالدما
فإن يك دفع الشر بالرأي حازما
فما زال دفع الشر بالشر أحزما
تجاهل أهل الغرب كل قضية
إذا لم يجئ فيها الحسام مترجما
وكابر قوم ينظرون بأعين
ألا عمه الألباب أعمى من العمى «أدرنة» يا أم الحصون ومن غدت
لدار بني عثمان سورا ومعصما
فديناك ربعا ما أبر بأهله
وأما علينا ما أعز وأكرما
عمرناك أحقابا طوالا فلم نزل
بأهلك من أهل البسيطة أرحما
فلما أتاك المصلحون بزعمهم
أعادوا إلى تلك الجنان جهنما
ألا قل «لفردينان»
8
أسرفت عاديا
وأكثرت في وادي الضلالة مزعما
وهاجمت والأحلاف غدرا وغيلة
رجالا غدوا عما تكيدون نوما
رجالا لها بعضا ببعض تشاجر
فكان قضاء الله فيهم محتما
تعرض هذا الملك منكم ومنهمو
لسهمين كل منهما انقض أسهما «أدرنتنا» لو كان للصخر ألسن
بها يوم عاد الراجعوها
9
تكلما
فما من فتى إلا وأجهش بالبكا
وما من جواد عاد إلا وحمحما
ولا غادة إلا وكفكف دمعها
مكر حماة العرض كالسيل مفعما
ولا منبر إلا وأورق بهجة
وقام عليه ساجع مترنما
وقرت عيون المصطفى في ضريحه
وهناه في الفردوس عيسى بن مريما
ومنها:
تعجلتمو منا ثغورا شواغرا
فهلا وقد جاء الخميس عرمرما
خميس إذا النيات صحت رأيته
يخيم معه نصره حيث خيما
تأمل أهاضيب الجبال وقد رست
وحدث عن البحر المحيط وقد طمى
تضيء نواحيه بغرة عزة
10
مشيع ما تحت الضلوع غشمشما
يليه من الأبطال كل غضنفر
إذا عبس الموت الزءام تبسما
تراهم ليوثا في الوغى وضياغما
وفي أفق النادي بدورا وأنجما
فمن مبلغ البلغار أنا إلى الوغى
وإخواننا الأتراك نزحف توءما
وأنا جميع العرب والترك إخوة
عليهم إليهم يبتغون تقدما
وليس يزال العرب والترك أمة
حنيفية بيضاء لن تتقسما
وقولوا لهم بانت سعاد فلا يزل
فؤادكمو دهرا عليها متيما
ستلبث عثمانية رغم أنفكم
وأنف الألي منا يصيحون لوما
فلا يطمعنكم في أدرنة مطمع
ولا تفتحوا في شأنها أبدا فما
أدرنة صارت عندنا تلو مكة
وماء المريج اليوم أشبه زمزما
ومنها:
فيا لك من يوم أتى في خطوبنا
كشادخة غراء في وجه أدهما
وكانت بقايا السيف تبكي فأصبحت
تضاحكهم طرا ملائكة السما
وما زالت الدنيا سرورا وغمة
وما زالت الأيام بؤسى وأنعما
عسى كل يوم بعد يوم أدرنة
يعود على الإسلام عيدا وموسما
وليس على المولى عسير بأن نرى
هناء محا ذاك العزاء المقدما
ولما أعلن السلطان عبد الحميد الدستور العثماني، وعم الفرح في ذلك الوقت جميع الأمة حصل اجتماع كبير في بيروت، فتلوت فيه هذه القصيدة ذاهبا فيها مذهب من لا يريد أن تكون الحرية مقرونة بالفوضى، ومن يغار على مقام الخلافة:
ألا يا بني عثمان حسبكم بشرى
لقد جاد رب العرش بالنعمة الكبرى
وقد فزتم ذا اليوم بالغاية التي
عليها رجال قد قضوا دونكم قهرا
أطلت عليكم بغتة شرد المنى
تحقق بعث الله مع عسره اليسرا
أتت وحجاب اليأس قد حال دونها
كما ينشر الديان من سكن القبرا
وكم قد أسأتم من ظنون وقلتم
مضينا وبعض الظن يحتقب الوزرا
فعن غير وعد بدل الله حالكم
لتضحى لكم رحمى وتغدو لكم ذكرى
ويعلم أن الله لا رب غيره
وليس سواه يملك النفع والضرا
أراد تلافي الشرق من عثراته
فألقى عليه من عنايته سترا
وألهم مولانا الخليفة ظله
قياما على الدستور في الدولة الغرا
تداركها رمقا بإكسير ناظر
إذا مال نحو الترب صيره تبرا
فنلتم بنعماه حياة جديدة
غدت بنفوس عند غيركم تشرى
سلاما وبردا نلتموها بلطفه
وجيرانكم بالسيف هاماتهم تفرى
بكم ظن إشفاقا وفي أرض غيره
فما أكثر القتلى وما أرخص الأسرى
وحاشا أبا بر الأبوة مثله
يريد بنا ضيما ويرهقنا عسرا
إمام له في كل يوم عوارف
على الشرق والإسلام لا تقبل الحصرا
تلقاه عصر بالخطوب فلم يزل
يكافح في آرائه وحده العصرا
أذل عناد النائبات فأسلست
وأصبح بالتدبير يقتادها قسرا
لنا من نداه الجم في كل حادث
سحائب في الأقطار قد حكت القطرا
ولو لم يكن إلا الطريق الذي به
غدا أمما شباك طه أبي الزهرا
11
لكان لعمري كافيا في ثنائه
وأن يبلغ الفخر المؤثل والأجرا
لقد من بالنعمى التي جاء وقعها
على الخلق وقع الماء من كبد حرى
وأمة عثمان أزالت بلحظة
به بالليالي البيض أيامها السمرا
فيا لك بشرى في مسامع أمة
بها قد غدت سكرى ولم تعرف الخمرا
ويا لك من أمر به البرق جاءنا
فسالت له سحب الدموع من السرا
ويا لك من وقت سعيد أظلنا
ويوم تبشرنا به يعدل العمرا
فشكرا على النعماء إخواننا الألى
لدى تلكم البأساء قد أحسنوا الصبرا
ألا قدروا هذي المكارم قدرها
وأدوا عليها من صداقتكم شكرا
فكم قد وقفتم صابرين وكنتم
على شاطئ لا تملكون له عبرا
ولا تذكروا ذاك الزمان الذي مضى
فقد عاض حلو اليوم من مر ما مرا
لقد طال ليل بالمحبين غاسق
فقد نسي الظلماء من شهد الفجرا
ولا عذر في التقصير بعد الذي جرى
فما فات فرض الصوم من شهد الشهرا
وفدوا أمير المؤمنين بأنفس
كفتها إلى عثمان نسبتها فخرا
سيغدو لكم دور جديد بجوده
وقبلا أياديه على هامكم تترى
تلقوا لنا العصر الجديد بحكمة
فقد جاء عدوا في شبيبته الخضرا
لقد من بالشورى عليكم بمقتضى «وشاورهم بالأمر» إن تحمل الأمرا
وهذه الأبيات من قصيدة نظمتها وقت إعلان الدستور العثماني، وقد فقدت القصيدة:
تذكروا مثل الخطاب حين جرى
ذاك الخطاب عساها تنفع الذكر
إذ ارتقى منبرا يدعو رعيته
إذا ترون اعوجاجا بي فلا تذروا
فقيل والله لو أنا نرى عوجا
إذن أقمناه بالأسياف يا عمر
فقال أحمد ربي إذ على يدكم
باتت تقوم مني البيض والسمر
وكتبت هذه القصيدة من ساحة الجهاد في الجبل الأخضر لأول هجوم إيطاليا على طرابلس الغرب:
سراعا بني أمي بحث ظعونها
12
فما حرك الآلام غير سكونها
وما زال فري الخطب تحت خفافها
وشرح صدور الركب فوق متونها
لعمر المعالي ما عدون ديارنا
ولا حربت
13
إلا بطول هدونها
ولا كان ما قد آثرت من فتورها
سوى الأصل فيما كابدت من فتونها
14
يعافون مورود الصعاب إلى العلا
ولا مجد إلا بارتقاء حزونها
فمن يرد الأيام بيضا فلا يكن
جزوعا لكرات الليالي بجونها
ركبنا ظهور الصافنات وقد ثوت
بأصلابنا فرسان ما في بطونها
15
وقلنا لهادينا الفلاة فإننا
رجعنا إلى آبائنا وشئونها
طووا شقق البيداء شرقا ومغربا
ألم نك من ماء الأوالي وطينها؟
وما إن شأى
16
بالكهرباءة مركب
بشاحطة الصحراء مد هجينها
فإن يقطع القوم البحار فعندنا
مهامه لا تلقى لهم بسفينها
على غير شيء غير أنا عصابة
غضاب لدنيا المسلمين ودينها
تعدوا حدود الصبر حيفا بأمة
غدوا لبدا
17
في عزم قطع وتينها
وقد طالما بتنا نغالط أنفسا
ونبغي من الأعلاج سل ضغونها
إلى أن تجلى العزم لا حجب دونه
وقصر بالأعذار نص مبينها
ولم يبق من مستعجم في مرادهم
بأمة صدق أمعنت في ركونها
فقلنا عليكم بالسيوف فإنها
لأفصح من أقلامنا برنينها
فإن يخفر الأعداء بيض عهودنا
فعند ذمام البيض
18
ردع خئونها
ألا شد ما قد أصغرت من مقامنا
وما اقتحمتنا في الغزاة لحينها
تناست سريعا ما مضى من بلائنا
وأنا علونا عاليات قرونها
وظنت عروش الشرق مالت وأصبحت
كأن لم يكن بين الصفا وحجونها
19
وأن زمان الثأر وافى فأوجفت
ألا خاب ما قد قدمت من ظنونها
فلم يزل الإسلام غضا
20
بأهله
ونيرانه لم تنطفئ بكمونها
وما رقرق القرآن ماء طباعها
فهيهات يخشى من نضوب معينها
فلا يغترر قوم بظاهر ليننا
فما الصعدة السمراء هونا بلينها
لنا من بني عثمان كل غضنفر
تخر له أبطالهم لذقونها
فلسنا نباهي أن نحرنا سخالها
وقبلا صرعنا أسدها في عرينها
فما اضطلعت بالسيف أيدي جنودها
وإن مهرت في الشحذ أيدي قيونها
جحافل في سيف البحار تخالها
من الذعر ورقا عكفا في وكونها
21
ولولا الجواري المنشآت تمدها
من اللج زجت في مفاغر
22
نونها
لئن جردتها رومة لحصارنا
لقد أودعتها عندنا بسجونها
وفي كل يوم وقعة لجيوشها
تضيق بها بطحاؤها بدفينها
لقد طعمت مما جنته وضيعة
23
تخالط فيها جبنها بجنونها
قد استوقدتها الحرب نار شكوكها
إذ العرب وافتها بثلج يقينها
فدونكمو يا أيها العرب حملة
نزارية فاستبسلوا لزبونها
24
وصونوا ذمار الملك شدا فلم يمل
سروج المطايا غير رخو وضينها
25
وهذي طلى الطليان تهفو إليكمو
سقوط ثمار الدوح من عن غصونها
ستعلم أطرابلس أنا صحابها
وبرقة لا نرضى لعمري بدونها
وكل ذراع عندنا من ترابها
كخالصة الأعلاق عند ضنينها
سلمت أمير المؤمنين لأمة
محمد طول الدهر نور عيونها
تقيم بها في الحق حكم أميرها
وترعى لها بالرفق عهد أمينها
ومن أمراء الشرق حولك عصبة
سطاك كراسيها وشم حصونها
أعباس يا عضد الخلافة والذي
يضاء به في داجيات دجونها
ويا سيف نصر عاملا في عداتها
وقائمه لما يزل في يمينها
إذا اعتصمت في روعها من محمد
بصاحبها منك اهتدت لمعينها
وإن جهمتها
26
الحادثات فلم يزل
بعباسها بسام نور جبينها
إذا عالم الإسلام أولاك شكره
فما لذباب بلغة بطنينها
تحن إلى ناديك مهجة غائب
يقطعها في البعد فرط حنينها
فإن تك آلت نجدة لقبيلها
فمثلك من يرضى ببر يمينها
ولولا الحقوق الواجبات لما نبت
أماكن من أوطانها بمكينها
تظل الدعاوى في المعالي كثيرة
وما كل باغ وصلها بقرينها
إلى ملتقى الجمعين والسيف فاصل
هنالك يدرى غثها من سمينها
هناك لنا في جانب الغرب إخوة
تسومهم البؤسى العدى بفنونها
بكينا لها نحن الألى ما تعودت
مدامعهم في الخطب بذل مصونها
فإن نحن قاررنا على ضيم أهلنا
فهيهات نرجو العز من بعد هونها
ترى النفس دينا وقفة في صفوفها
قضاء على الأرحام بعض ديونها
فما الشام والنيل السعيد ودجلة
سواها لدى أفراحها وشجونها
ووالله لا أعطي المقاد لظالم
ولما أرد بالنفس حوض منونها
إذا بات إخواني ببرقة سهدا
فكيف تنام العين ملء جفونها
27
عن مخيم عين منصور في ظاهر درنة أول ربيع الأول سنة 1330
وفي أول حرب طرابلس الغرب، واندفاع المصريين بمساعدة إخوانهم الطرابلسيين أقيمت في القاهرة سوق خيرية لشراء أشياء يعود ثمنها إلى المجاهدين والجرحى، وفي ذلك الوقت مثلوا في الأوبرا بمصر رواية «صلاح الدين الأيوبي»، وتليت قصائد ثلاث إحداها قصيدة لي تلوتها بنفسي، والثانية قصيدة للمرحوم «شوقي»، والثالثة قصيدة لشاعر القطرين «خليل مطران». وقد فقدت قصيدتي من بين أوراقي، فأمليت منها ما لا يزال عالقا بخاطري وهو:
سلا: هل لديهم من حديث لقادم
عن الغرب
28
يروى فيه غلة هائم؟
وهل وردتهم عن كريم مقامه
سمان المعالي في لطاف النسائم؟
وهل نظروا من نحو برقة موهنا
29
فلاحت لهم منها بروق الصوارم؟
تألق في ليلي ظلام وقسطل
فتنشئ سحب الدمع من طرف شائم
مواطن إخوان تملوا من الردى
كئوسا تساقوها بملء الحلاقم
دفاعا عن الأوطان إن دفاعها
لدى كل قوم كان أولى المكارم
تهيبهم فيها العدو مهاجما
فجاء دبيب اللص في ليل قاتم
ولين في إقباله من إهابه
وهل يخدع الإنسان لين الأراقم؟
فثاروا وما كانت زعانف رومة
من العرب أكفاء الليوث الضراغم
ونعم سقاة الموت هم كلما بدت
بروق المواضي في رعود الغماغم
وحسبك منهم كل قوم نمتهمو
أرومة قحطان ونبعة هاشم
وكم وقفوا يستنصفون عدوهم
وهزوا من الأملاك جذع المراحم
فلما رأوا عجز الدليل تطلبوا
لدى الصارم البتار صدق التراجم
فلم يك مثل السيف كاليوم قاضيا
ولا العهد مثل الآن أحلام حالم
وما طال نوم السيف إلا تنبهت
عيون الدواهي منه عن جفن نائم
أخلاي سوق للمنايا مقامة
تباع حفافيها غوالي الجماجم
فهل لكمو في سوق بر ورحمة
تنالون فيها باقيات المغانم
غياثا لمظلوم ونصرا لصارخ
وضمدا لمجروح وقوتا لصائم
كفى بالهلال الأحمر اليوم هاديا
لمن حار في ليل من الشك داهم
وأكرم بأم المحسنين
30
الذي طمى
جداها كلج العيلم المتلاطم
سليلة «إلهامي» فمن كل جانب
لها نسب نحو البحور الخضارم
وأجدر بقوم أمطرتهم هباتها
بأن يأملوا قرب انفراج المآزم
وحاشا بلادا أنتم عن يمينها
يفت بأعضاد لها ومعاصم
تخيلتها شوقا على بعد دارها
تصافحكم بالقلب لا بالبراجم
لقد حوصروا برا وبحرا وأمطروا
بحمر المنايا من سواد الغمائم
وقد طالما أرهفت حد يراعتي
فلما تعالى الخطب عدت لصارمي
أجل إننا من أمة عربية
نكافح عنها عاديات الأعاجم
ولو أنصف الأقوام في حقهم رأوا
مؤاساتهم فرضا على كل آدمي
وقبل الحرب العامة بسنة جرى في الآستانة تمثيل رواية «صلاح الدين يوسف الأيوبي» باللغة العربية، وقبل التمثيل تليت قصائد، منها قصيدة للأستاذ الكبير جميل صدقي بك الزهاوي العراقي؛ مبعوث بغداد يومئذ، ومنها قصيدة للأستاذ الكبير فارس بك الخوري السوري؛ مبعوث الشام يومئذ، ومنها هذه القصيدة لي. وإني لموصي قراء هذا الديوان بالتأمل في الأبيات الأخيرة منها التي فيها الكلام على مصير البلاد الشرقية؛ ليتأملوا كيف تم كل ما قيل:
إذا افتخر الشرق القديم بسيد
تميد بذكراه ابتهاجا محافله
ونصت موازين الفخار وقد أتى
يماتن كل خصمه ويساجله
فمن كصلاح الدين تعنو لذكره
رءوس أعاديه ومن ذا يعادله
يخالط أعماق القلوب ولاؤه
وتفعل أفعال الشمول شمائله
وأقسم لو في الحي نودي باسمه
لدى سنوات المحل لاخضر ماحله
له عاملا حرب وسلم كلاهما
كفيل بإذلال العدو وقاتله
مهنده في عنق قرن مساور
ومنته في عنق خصم يجامله
وما قتل الحر الأبي الذي زكت
سجاياه كالعفو الذي هو شامله
وما كل يوما عضبه عن كريهة
ولا مل من حلم ولو مل عامله
تظل طوال الوقت تندى سيوفه
دماء وتندي جانبيها فواضله
فكم من عدو قد تردى بحربه
قتيلا وعاشت من نداه أرامله
31
وفي الحرب قد تخطي مراميه مرة
وفي كل حال ليس يخطئ نائله
تفيض على بؤس العداة دموعه
ولم يلف يوما سائل الدمع سائله
كأن الورى كانوا أهاليه جملة
فمهما يكن من بائس فهو كافله
ومن فهم الإنسان في الناس فهمه
رأى أن كل العالمين عوائله
كذلك من كان التمدن دأبه
سجية صدق محضة لا تزايله
وليس كمن بات التمدن يدعي
مقاوله قد كذبتها مفاعله
تعلم أهل الغرب من يوسف العلا
وإن بهرتهم في التلافي فضائله
32
سلوا الشرق عن آثاره في غزاته
على حين كل الغرب صفا يقابله
مشى الغرب طرا قضه وقضيضه
وفارسه رام النزال وراجله
مئات ألوف والفرنسيس
33
وحده
غدا أمة في الأرض إن صال صائله
وريكارد
34
قلب الليث في كل موقف
يؤازره في طوله ويماثله
ومن أمة الألمان جيش عرمرم
يسير به من أبعد الأرض عاهله
35
هم الأمم الكبرى وما ثم قيصر
سواها ولم تزحف إلينا جحافله
فصادمهم من نجل أيوب وحده
فتى بهم جمعا تميل موائله
حليف وفاء لا يضام نزيله
ولكنه أمسى يضام منازله
له ثقة بالله ليست بغيره
ومن يرج غير الله فالله خاذله
وقال وقد تعيي الجبال جموعهم
ليفعل إلهي اليوم ما هو فاعله
36
تجمع كرات بعكا عدوه
ومن تل كيسان تهد صواهله
37
ويصطدم الجمعان حولين كلما
خبت نار حرب أوقدتها مشاعله
ذرا برجال الشام شم جيوشهم
فعادوا كعصف بددته مآكله
وسخر هاتيك المعاقل كلها
وليست سوى آي الكتاب معاقله
وسل عنه في حطين
38
يوما عقبقبا
غداة لواء الحق عزز حامله
وعن ملك الإفرنج وهو أسيره
وأرناط
39
إذ تبكي عليه حلائله
هنا انتصف الشرق الأصيل من الذي
أغار عليه واستطالت طوائله
فهل كان مثل الشام حصنا لأمة
تمشى إليها الغرب تغلي مراجله
ومن قصد الشام الشريف فإنه
ليعرفه قبل التوغل ساحله
فيا وطني لا تترك الحزم لحظة
بعصر أحيطت بالزحام مناهله
وكن يقظا لا تستنم لمكيدة
ولا لكلام يشبه الحق باطله
وكيد على الأتراك قيل مصوب
ولكن لصيد الأمتين حبائله
تذكر قديم الأمر تعلم حديثه
فكل أخير قد نمته أوائله
إذا غالت الجلى أخاك فإنه
لقد غالك الأمر الذي هو غائله
فليست بغير الإتحاد وسيلة
لمن عاف أن تغشى عليه منازله
وليس لنا غير الهلال مظلة
ينال لديها العز من هو آمله
ولو لم يفدنا عبرة خطب غيرنا
لهان ولكن عندنا من نسائله
سيعلم قومي أنني لا أغشهم
ومهما استطال الليل فالصبح واصله
40
ولما كنت في طبرية سنة 1320 ذهبت إلى قرية حطين التابعة لطبرية لأجل مشاهدة الموقع الذي دارت فيه رحى معركة حطين الشهيرة بين السلطان صلاح الدين يوسف - رحمه الله وجزاه عن الإسلام خيرا - وبين الصليبيين؛ وبعد أن شاهدت حطين ولوبيا وقرون حطين التي جلس عندها السلطان بعد الظفر ولديه ملك الصليبيين ورفاقه وسائر الجيش الإفرنجي أسرى نظمت القصيدة الآتية، ونشرتها إذ ذاك في مجلة المقتطف. ثم إنه من سنتين أعادت نشرها جريدة «الفتح» بمناسبة ذكرى وقعة حطين، وعلق الأستاذ، ليث كتيبة الكتاب، السيد محب الدين الخطيب عليها بعض تفاسير، فنحن ننقلها هنا عن الفتح، ونضم شيئا من التفسير زيادة على ما علقه الأستاذ الخطيب:
أحسن ما فيه يسرح النظر
واد بحيث الأردن ينفجر
41
غارت عليه النجود من شغف
فالغور ما بينهن منحصر
42
قامت على الجانبين تخفره
كذلك الحسن شأنه الخفر
43
مبتدئ الجري في الشمال لدى
شيخ له الكبر بات والكبر
44
هاو إلى الموت في الجنوب لدى
بحر ولا كالبحار يحتضر
45
ومن يعم البياض لمته
فهل سوى الموت بات ينتظر؟ •••
يا شرق هونين
46
كم لديك جرى
معين ماء حصباؤه درر
الشطر تل القاضي
47
يسلسله
والشطر من بانياس ينحدر
48
والحاصباني بات إثرهما
يشتد في الجري ليس يصطبر
49
يملأ منها الأردن بركته
ويزدهي مرج حوله الخضر
حيث وشيج اليراع مشتبك
كأنما الخط تم والسمر
50
حيث نمو النبات معجزة
كأنما سوق قمحه الشجر
والصيد ما إن يزال عن كثب
لا كن من دونه ولا قتر
51
بحيرة لم يرم
52
بساحتها
ضاق بها أن تقله الصغر
يمم أخرى ورام ثالثة
لقد ترامت به نوى شطر
53
أمن جسر البنات معبره
وربما خاض دونه الجسر
54
حتى إذا فاض من هناك غدت
أرض البطيحاء منه تزدهر
أرض علت، ماؤه مناكبها
وبات منها في البحر ينفغر
أقبل يرغي وما به قطم
55
وظل يعدو وما به بطر
حتى إذا ما مياهه اختلطت
به تولاه بغتة سكر
من بعد تلك الحياة بات به
ميتا وفي البحر يغرق النهر •••
بحر الجليل الذي شواطئه
في كل شبر من رحبها أثر
56
غذا دماء المسيح مورده
وراقه منه ريقه النضر
وبين أمواجه وأربعه
كانت تجلى آياته الكبر
كم فيه للكاتبين من سير
وكم نبيين فيه تدكر
عيسى حواريه وصفوته
والناس من حول وعظه زمر
والصائدون الألى له اتبعوا
هدى وذاك الشراع منتشر
وكفر ناحوم مع عجائبها
ومن بها آمنوا ومن كفروا
والمجدل القرية التي نشأت
مريم منها والطيب منتثر
والزهد فيه الأفراح قد دمجت
57
والفقر معه البيان والفقر
والخبز تقري الألوف كسرته
والمشي فوق المياه مشتهر
والقول هذي الفتاة نائمة
والبكر عزريل نحوها بكر
وكم نبت بالسفين عاصفة
وظن أن الركاب قد غبروا
فسكن البحر وهو مضطرب
من بعد ما استصرخوا وما جأروا
سجا
58
بإيماءة له ونجا
من حملته الألواح والدسر
في ضفتي هذه البحيرة لو
تبحر الفكر حارت الفكر
كم خبأ الدهر في جوانبها
وكم رمى فوق موجها القدر
ما الأبحر السبع من نتائجها
ما الروم ما الهند ثم ما الخزر
وقوم موسى لهم بساحتها
مركع صدق وأدمع غزر
في طبريا مواقف حمدت
وأرضها مقدس ومغتفر
بها رجال التلمود قد سكنوا
وجل آرائهم بها زبروا
وكم نبي في ذي البلاد قفا
موسى وكم مر ها هنا الخضر
يكفيك ما في الأردن من عبر
نهر عليه آباؤهم عبروا
وأن يحيى
59
على شواطئه
بين يديه الأنام تطهر
ما القنج ما النيل في جوانبه
ما دجلة ما الفرات يعتبر
والغور بين البحرين منبسط
تسرح فيه الجآذر العفر
لو طبقته أيدي الورى عملا
على فلسطين فاضت المير
قد كان والماء غابرا شرعا
والآن ما إن يكاد ينحسر
بحيرة كل شأنها عجب
وهي من الحسن كلها غرر
لله در الكندي واصفها
كأنها في نهارها قمر
60
كانت تحف الجنان دورتها
والآن تحف دورها السدر
61
مرآة نور من السفوح لها
إطار نور لم تحكه الأطر
62
كأنها في صفائها فلك
وفلكها فيه أنجم زهر
أجمد بقوم رأوا محاسنها
يوما فما أنشدوا ولا شعروا
عند الشمال الأردن واردها
وفي جنوبيها له صدر
شريعة من مياهها ظهرت
وقد تلتها شرائع أخر
63
علم عيسى هنا شريعته
وقوم موسى توراتهم فسروا
وفي حروب الصليب قد رفعت
أعلام دين الذي نمت مضر •••
يا يوم حطين كم حططت من ال
إفرنج شأنا ما كان ينكسر
هبوا من الغرب كالجراد فلم
يكن لشرق بردهم قدر
واستفتحوا القدس والبلاد ولم
يعص عليهم بدو ولا حضر
وهددوا المسجد الحرام وكم
دعا ملب فيه ومعتمر
وكاد يبكي الميزاب فيه دما
ورق مما أصابنا الحجر
ونابت المسلمين داهية
دهماء قد عمهم بها الذعر
فكل كف أصابها شلل
وكل عزم أصابه خور
وكل جمع ناواهم انقلبت
فرسانه وهي للظبى جزر
64
وحوصرت جلق ولو أخذت
لم تبق مدن لنا ولا مدر
65
وقيل دار الإسلام قد حصرت
وحف باقي بلاده الخطر
ما زال ملء القلوب رعبهم
ولم يكن نافعا لها الحذر
حتى تولى زنكي
66
فنازلهم
وكان من شيركو
67
له وزر
طليعة النصر في ولاية نو
ر الدين
68
ملك بالعدل يأتزر
مجاهد ماهد بخطته
في الفتح والعدل سارت السير
تقر عين النبي سيرته
ويرتضي مثل هديه عمر
ثم ابن أيوب
69
جاءه خلفا
وليس إلا سروجه سرر
مهد دار المعز
70
فانقلبت
بيوسف مصر وهي تفتخر
لما استقامت له الأمور ولم
يبق رقيب وانجابت الغمر
أقبل في جحفل له لجب
يطلب ثأر الدين الذي وتروا
بفتية سمرهم إذا عشقوا
سمر صعاد وبيضهم بتر
غير طعان النحور ما عرفوا
وغير جرد الخيول ما زجروا
71
أناخ في شاطئ البحيرة إذ
إليه عن كل ناجذ كشروا
فقام من أرضه لصدمهم
في السهل من لوبياء واشتجروا
72 •••
يوم تلاقى الجمعان والتظت ال
هيجاء حتى كأنها سقر
يوم تلاقى الجمعان وانتصب ال
ميزان رهن انحرافه الظفر
الشرق والغرب بعد طول وغى
تواقفا والبراز مختصر
ثلاثة والنزال بينهما
نزال من بعد يومه العصر
فأمطرتهم قسي جيش صلا
ح الدين نبلا من دونه المطر
73
ودوا وقد أبصروه عارضهم
لو سترتهم من دونه حفر
كأنما قومنا وقد ثبتوا
شم حصون لها القنا جدر
كأنما قومنا وقد وثبوا
زعازع للغصون تهتصر
ذاق العدا من سلاف طعنهم
كأسا بغير العنقود تختمر
لما بدا الأمر غير ما حسبوا
والناس من فوق صبرهم صبروا
ولوا ظبى يوسف ظهورهم
تأخذ منها فوق الذي تذر
ضياغم أجفلوا وقد نظروا
حمر المنايا كأنهم حمر
74
وأدبر القمص
75
مع فوارسه
ما غره مثل غيره الغرر
لا عجب أن نجا وحيط به
عادة ذي الأرض نشر من قبروا
مالوا لحطين طالبين نجا
فلم يفدهم ضلع ولا دبر
76
وأسفر السبت عن هزيمتهم
وأصبح الملك
77
ضمن من أسروا
وفوق ذاك الصعيد نائمهم
كأنه النخل وهو منقعر
والهيكليون
78
من قساورهم
لم يبق إلا هياكل دثر
لم يجبنوا ساعة وإن خذلوا
وإنما الليث دونه النمر
في حضرة من شعيب قد شعبوا
كذا لهم عن مزاره زور
79
فأزلفوا نحو يوسف خضعا
رقابهم، ناكسا لهم بصر
ترهقهم ذلة وتحسبهم
قوما سكارى كأنهم حشروا
يوسف عصر صلاح مملكة
بكل أمر للبر مؤتمر
أصبح مستحييا دماءهم
حياؤه والخلائق الزهر
أبى عليه الإباء مصرعهم
وعف إذ عف وهو مقتدر
عفوا به عمهم وأخرج من
بنكثه السهل ضاق والوعر
وفى بأرناط نذره بيد
إذ طالما لم تحك به النذر
80
وقال إذ تله بصارمه
ها أنا ذا للنبي أنتصر
81
أزوج بين التهليل مهجته
مخضوبة صارما هو الذكر
فأصبح الملك وهو مرتجف
ما شك أن بالحسام يبتدر
أبصر جسم البرنس منعفرا
82
فقال إثر البرنس أقتفر
فأفرخ الروع منه ساعة إذ
بشر أن لن يصيبه ضرر
83
عوقب بالأسر موقن بردى
وجل ملكا مع العمى العور •••
قاصمة الظهر للفرنج غدت
وقعة قرني حطين مذ ظهروا
كأن عليا حطين مبتدأ
وكل فتح من بعدها خبر
حظ ابن أيوب أن يفوز بها
والله من خلقه له أثر
وحظ جيش لبى النداء غدت
في اللوح مكتوبة له الأجر
قوم أراحوا الأقوام إذ تعبوا
وقد أناموا الأنام إذ سهروا
بهم جدود الإسلام قد صعدت
من بعد ما كان أهله عثروا
ولابن شاذي ذكر شذاه سرى
في كل قطر كأنه القطر
84
قام بوجه الفرنج منفردا
والقوم من كل أمة جمروا
85
حتى استرد البلاد أكثرها
وأصبح القدس دان والصخر
كانت مئات الحصون تعصمهم
منيعة إذ ثغورنا ثغر
من كل حصن أماط عرتهم
بالسيف لم يمش نحوهم خمر
86
واستعصمت صور في معاقلها
وكل طرف به لها صور
من فرط ما عمهم برأفته
وفلته فلهم وقد كثروا
87
فامتنعوا كلهم بعقوتها
فهي لهم ملجأ ومعتصر
إن عيب بالحلم والوفا بطل
فإنه خير ما هفا البشر
ما شان طول الأناة في رجل
إن لم يكن شان باعه القصر
قد كان في رقة وفي جلد
كالسيف في ماء حده الشرر
جمرة بأس ما شابها وهل
غمرة حلم ما شابها كدر
ما كان يدري من الوغى ضجرا
والكل في الجانبين قد ضجروا
حتى يميط العوار أجمعه
ما هان من كان همه العسر
أمن دار الإسلام بعد عنا
كذلك الشهد دونه الإبر
لم يلهه عن ثغور مملكة
ثغر ولا ناظر به حور
وكان من حرمة العدو له
أن ذكره في بلادهم عطر
88
تغدو عظام الملوك
89
واقفة
ببابه وهو أعظم نخر
وينحني حاسرا بتربته
رأس بأعلى التيجان معتجر
90
شهادة منهم لخصمهم
والحق كالشمس ليس يستتر
والفضل يحيا من بعد صاحبه
والذكر يبقى ولو عدت غير
ونحن من بعد كل ذاك وذا
لم يبق إلا الحديث والسمر!
ذكرى الأندلس
نظمتها لما شاهدت مسجد قرطبة في سياحتي إلى الأندلس سنة 1930:
لك الله إن شئت الصبوح فبكر
بكأس دهاق من حميا التذكر
وغن على ذكرى الليالي التي خلت
قصائد إن تنشد على الميت ينشر
فقد تعجب الذكرى ولو لفجيعة
ويشفي أوار الصدر فرط التحسر
ولولا المراثي والمآقي وراءها
لأفنى الورى حر الأسى المتسعر
تقضت لبانات الرجال من الجوى
بتذكار ماض أو إثارة مضمر
لعمرك لا يرجى لنشأة مقبل
ومستقبل من لم يفكر بمدبر
وما هذه الدنيا سوى متقدم
يكرر تجديدا على متأخر
أدرها ترد الرشد في عقل ذاهب
وتذهب عقل الراشد المتبصر
وتحيي لنا عهدا يصوب عهاده
منازل قلب من هوى الذكر مقفر •••
وكائنة لم يعرف الدهر أختها
ولا حدثت عن مثلها كتب مخبر
يكاد الذي يقرا غريب حديثها
يظن خيالا أو أحاديث مفتر
يقولون كانت أمة عربية
بأندلس سادت بها جم أعصر
وقد عمرت أقطار أندلس بهم
فكم بلد فخم ومصر ممصر
وكم أربع خضر وحرث مطبق
وفاكهة رغد وزهر منور
وكم قائد قرم وجند مدرب
وكم سائس فحل وأمر مدبر
وكم بطل إن ثار نقع رأيته
يبيع بأسواق المنايا ويشتري
وما شئت من علم ورأي وحكمة
ودرس وتحقيق وقول محرر
إلى شمم جم ومجد مؤثل
وفي عزة قعسا ووفر موفر
نعم كان فيها من نزار ويعرب
جموع تخيل الأرض في يوم محشر
فراحت كأن لم تغن بالأمس وانقضى
لهم كل ركز غير ذكر معطر
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر هناك ويسهر
كأن لم تكن في أرض أندلس لنا
جحافل إن تحمل على الدهر يذعر
فماذا الذي أخنى عليها وما الذي
رماها بهذا الخسف بعد التصدر؟
إذا أعمل المرء البصيرة لم يجد
لها علة غير الخلاف المتبر
91
خلافان هذا بين قيس ويعرب
92
مقيم وهذا بين عرب وبربر
93
ولا شر يحكي شر حرب إذا التقت
صناديد قيس مع غطاريف حمير •••
لعمرك لولا الخلف لم يك مشرق
ولا مغرب يعصي عليهم ويجتري
لقد عصفت في شقة الغرب ريحهم
فسادت ولكن لم تكن ريح صرصر
فقد أثلوا في أرضها مدنية
ترى الخصم في عليائها ليس يمتري
وسووا جميع العالمين بعدلهم
ومن يتمسك بالسوية يعمر
ولا عارضوا في دينه غير مسلم
94
ولا عاملوا أهل الكتاب بمنكر
ولا نصبوا ديوان تفتيشهم على
عقائد أقوام يجوس ويفتري
95
ولا أحرقوا بالنار من قيل إنه
على صلة مع دينه بالتستر
بذلك هاتيك الممالك أصبحت
مثالا قويما للعلا والتحضر
وقد صار نهر الرون
96
ثغر بلادهم
وكم صبغوه في الجهاد بأحمر
وشكوا لواهم في ذرى قرقشنة
97
وسلوا على نربونة
98
كل أبتر
ودانت لهم صيد الجلالقة
99
الألى
بلى منهم الرومان كل غضنفر
ولم يقف البشكنس
100
في وجه زحفهم
ولا أوطئوا الجرمان ثغرة معور
وإن يك لاقى الغافقي
101
حمامه
ومحص في يوم البلاط المقدر
فقد لبثت من بعد ذاك جيوشهم
تعرض دهرا للفرنج وتنبري
يقول الألى قد شاهدوا غزواتهم
هم العرب فوق الخيل أم جن عبقر
وصقر قريش
102
حين جاء مشردا
فأنشب فيهم أي ظفر مظفر
وشاد بهاتيك القواصي إمارة
لها أجفل المنصور والد جعفر
وخلف أملاكا سموا وخلائقا
أسود عرين منهم كل مخدر
كفى بالإمام الناصر
103
الفذ عاهلا
كسا أمة الإسلام حلة مفخر
تقبل أملاك الفرنجة كفه
ويقصد عالي بابه وفد قيصر
104
غداة تجلى للخلافة رونق
به ظهر الإسلام أروع مظهر
وأضحت بها الزهرا تميد جموعها
فيا لك من يوم أغر مشهر
تلعثم فيه كل رب فصاحة
فعيوا سوى قاضي الجماعة
105
منذر
ولا تهمل المستنصر
106
الحكم الذي
تلاه، ومن يستنصر الله ينصر
غدت قبة الإسلام قرطبة العلا
وسارقت الزوراء لحظة أزور
وبارى بني العباس فيها أمية
وجروا على بغداد ذيل التبختر
وكان بها العمران يزخر مثلما
تلاطم أمواج الخضم المهدر
ولما رأيت المسجد الجامع الذي
بقرطبة من فوق فوق التصور
عضضت على كفي بكل نواجذي
وقلت لعيني: اليوم دورك فاهمري
هو الجامع الطامي العباب بوقته
يحاكي به عماره لج أبحر
ظللت به بين الأساطين سائحا
بفكري حتى غاب عني محضري
تخيلته والذكر يتلى خلاله
نظير دوي النحل من كل مصدر
تأمل خليلي كم هنا من مهلل
إلى ربه صلى وكم من مكبر
وكم أزهرت فيه ألوف مصابح
وكم أوقدت أرطال عود وعنبر
وكم قارئ بالسبع في وسط حلقة
وكم خاطب بالسجع من فوق منبر
وكم عالم يلقي على الجمع درسه
وكم واعظ يمري
107
مدامع محجر
وكم ملك ضخم وكم من خليفة
هنا كان يجثو عن جبين معفر
تسد فجاج المغربين جيوشه
ويبدو هنا في ثوب أشعث أغبر
108
خليلي تأمل كالعرائس تنجلي
أساطين قد تحصى بألف وأكثر
أساطين من صم الجماد مواثل
يذوب لها قلب الحنيف المفكر
تراها صفوفا قائمات كأنها
حدائق نصت من جماد مشجر
من العمد الأسنى
109
فكل يتيمة
لها نسب من مقطع متخير
أجادت تحريها قروم أمية
معادن شتى من فلز
110
ومرمر
نبت دونها زرق الفئوس وأصبحت
لدى الفري تهزا بالحديد المعصفر
ولكن لفضل الفن ألقت قيادها
فصالت بها الصناع صولة عنتر
فبينا هي الصم الصلاد إذ انثنت
مقاطع جبن أو قوالب سكر
عرائس للتخريم فوق رءوسها
أكاليل در في قلائد جوهر
ووجه إلى المحراب طرفك ينسرح
من الصخر في مثل الطراز المحبر
وحدق بهاتيك النقوش وزهوها
كأن فاتها صناعها منذ أشهر
وبالقبة العلياء يبدو شعاعها
بألمع من زهر النجوم وأزهر
لو ان الثريا في سماها تعرضت
لظلت تحدى للثريا وتزدري
أقول لخصم يبخس العرب حقهم
أجاحد نور الشمس دونك فانظر
ويا سائحا يبغي مآثر قومه
وينشدها في كل سهل وموعر
تطوف فلا تلقاك غير بدائع
يميل لديها كل عطف مخصر
تطلع فلا تلقاك غير روائع
لها الليث يرنو عن لواحظ جؤذر
111
خليلي فما فحص السرادق
112
نائيا
وهذا براس الطور حصن المدور
113
وهذي رسوم للمنيف
114
ومؤنس
وقصر السرور
115
الدارس المتبعثر
وكان هنا قصر الدمشق
116
وأنه
يطاول عليا بعلبك وتدمر
وزاهرة المنصور
117
لا شك جنة
تمد من الوادي الكبير بكوثر
وسائل عن المنصور نجل ابن عامر
يجاوبك عنه كل قوس موتر
غزا في العدى ستا وخمسين غزوة
وآض بها طرا بنصر مؤزر
خليلي وعرج بالبهور
118
فإنه
تقطع عن أمثاله كل أبهر
119
وهذي التي كانت تسمى شقندة
120
وتدخل في التخطيط ضمن المسور
وفيها جرى ذاك العراك الذي جرى
وروى ثراها بالدم المتفجر
وقائع قيس واليماني وكلها
مصائب إن تذكر لنا نتفطر
وزر ضفة الوادي الكبير وسح بها
وعرج على الجسر الطويل المقنطر
وهذي الطواحين الشهيرة لم تزل
كأن تركوها أمس لم تتغير
قصور نبا عنها قصور مشيد
وعلياء لم تعلم مشيد مقصر
وأفنية تحكي الجنان نضارة
وأقنية تجري على كل أخضر
وشم حصون لا تعد ودونها
مقاصف إن تذكر تهز وتسكر
على همم دلت لهم وقرائح
ويعرف بالآثار قدر المؤثر
فأخنى على تلك المحاسن كلها
غرامهم بالإنقسام المشطر
محا الخلف من أوضاعهم كل نافع
وصوح من أعمالهم كل مثمر
ولم يستفيدوا من تقاطع بينهم
سوى عيش ذل تحت نقمة موتر
إذا آنسوا أدنى بصيص لثورة
تداعوا لها كالماء عند التحدر
فكل الذي قد شيدوه بحزمهم
أضاعوه حقا بالشقاق المدمر
ولم يبق في هذي الديار لنا سوى
ممالك فكر من حروف وأسطر
ممالك لا تقوى عليها كتائب
ولا سالب تاريخها زحف عسكر
إذا حضرت آثار قومي وإن خلوا
فإني منها في قبيل ومعشر
وأشعر أني في بلادي كأنما
تخاطبني الأرواح من كل مقبر
وأني أرى بالعين ما لم أكن أرى
حقيقته في وصف طرس ومزبر
لعل الذي قد كان منه بوارنا
يعود علينا خير وعظ ومزجر
وفي أثناء الحرب العامة جاء وفد تركي مؤلف من بضعة عشر شخصا من مبعوثي مجلس الأمة، ومن أدباء الأتراك وكتابهم، وذلك إلى سورية لأجل إحكام علاقات الاتحاد بين العرب والترك، وتلافي ما قام به جمال باشا من الأعمال التي أثارت العرب، فأقيمت لهم حفلات كثيرة في حلب والشام والقدس وغيرها ، واقترح علينا والي الشام إذ ذاك تحسين بك أن ننظم أبياتا تتلى في المأدبة العظيمة التي أدبوها لهم في دمشق. فنظمنا قصيدة تلوناها في الجمع، وهي أيضا من جملة القصائد المفقودة من بين أوراقنا، ولا يزال منها في خاطرنا الأبيات التالية:
قف بين مشتبك الأغصان والعذب
بأرض جيرون
121
ذات السلسل العذب
بربوة في حفافيها المعين جرى
بجؤجؤ الباز حيث الصيد عن كثب
واهتف بساكنها أن ينثنوا طربا
إن الكريم عليه هزة الطرب
ومنها:
في ساحة المسجد الأقصى يقال لهم
أهلا وفي عتبات المصطفى العربي
لو أنصفتهم ديار الشام قاطبة
صفقن بالكف من مصر إلى حلب
ومنها في خطاب الأتراك العثمانيين:
أحبكم حب من يسعى لطيته
في طاعة العقل لا في طاعة الغضب
أحبكم حب من يدري مواقفكم
في خدمة الدين والإسلام من حقب
ومذ تقلدتمو أمر الخلافة قد
آويتمو من بنيها كل مغترب
لقد ضربتم لعمري في حياطتها
بكل سيف رهيب الحد ذي شطب
فكل غر يماري في فضائلكم
لا يعرف الحشف البالي من الرطب
مهما يكن من هنات بيننا فلنا
معكم على الدهر عهد غير منقضب
كفى الشهادة
122
فيما بيننا نسبا
إن لم تكن جمعتنا وحدة النسب
مجدي بعثمان حامي ملتي وأنا
لم أنس قحطان أصلي في الورى وأبي
ولي تهنئة لأحد عيون أعيان المغرب بزفافه المبارك:
اهنأ أبا العباس بالفرح الذي
حلت ملائكة الرضى بحفافه
فرح به التوفيق يسحب ذيله
ويهز فيه السعد من أعطافه
يا طالما ارتقب الأنام هلاله
لينير ليل الهم من أسدافه
حرصا على ثمرات غصن ناضر
هو نخبة ويراد من أخلافه
فالآن قد وافاهم النبأ الذي
طربت قلوبهم بحسو سلافه
هذا هداء فتى يقل نظيره
في الدهر إن نجنح إلى إنصافه
بذ الشيوخ ولم تزل أيامه
شرخا وزان شبابه بعفافه
ما زال حب المجد يشغل قلبه
حتى رقاه إلى ذرى أعرافه
تهوى الملائك والملوك لو انها
محبوة بالفضل من أوصافه
قد أقطع الأوطان كل عنائه
وأحل خدمتها صميم شغافه
ناديت قطر المغرب الأقصى الذي
يتألق الإسلام في أكنافه
يا أيها القطر الذي فتيانه
يحيون للمتروك عن أسلافه
حقا نهضت بما تكن من القوى
حتى استبان الدر من أصدافه
وعمدت للمجد القديم تعيده
بالنظم بين تلاده وطرافه
بعصابة غراء كل مهذب
هو سر صنع الله في ألطافه
فلتحي أرخ ولتهن بسيد
الكون مبتهج بيوم زفافه [ولتهن = 491، بسيد = 76، الكون = 107، مبتهج = 450، بيوم = 58، زفافه = 173]
1355
الباكورة
قال الأمير: ذكرنا في مقدمة هذا الديوان ما سبق لنا من نشر الباكورة نظمنا، وذلك سنة 1887، جامعة لبكائر شعرنا من سنة 1884 إلى سنة 1887؛ أي أيام كنا في الرابعة عشرة إلى أن صرنا في السابعة عشرة من العمر، ولم نجد لزوما لنشر الباكورة كلها لأنها مطبوعة، ولكننا نظرا لندور النسخ الباقية منها أحببنا أن ننتخب منها عدة قصائد وعدة مقاطيع، وهي هذه:
إهداء الباكورة
لحضرة العالم العامل الفيلسوف الكامل واسطة عقد الحكماء ودرة تاج البلغاء، الأستاذ الأكبر الشيخ محمد عبده المصري - أيده الله تعالى.
لو هاج مثل الفضل خاطر شاعر
ألقيت بين يدي سواك بواكري
أو لو وجدت بمثل فضلك عاذلا
كان الكمال إذا سلوتك عاذري
لكن سطوت على القريض بأسره
وغدوت أعذب منهل للخاطر
فزهوت بين مدارك ومشاهد
وسموت بين بصائر وبواصر
أو كيف لا تسمو ومثلك من حوى
بأعز نفس كل خلق باهر
علم على عمل على قلم، غدا
في الخطب يهزأ بالحسام الباتر
وفضائل تستنطق الأفواه من
كل البرية بالثناء العاطر
علامة العلماء والبحر الذي
لا ينتهي مثل البحار لآخر
يا أيها العلم الذي أوصافه
أضحت رياض قرائح وضمائر
شهد الزمان لنا بأنك فرده
من كل باد في الأنام وحاضر
يا أوحد العصر الذي عقدت على
تقديمه في الفضل خير خناصر
لا غرو أن أهدي إليك رقائقي
وأنا رقيق فضائل ومآثر
ليس القريض سوى تأثر خاطر
مما به للمرء قرة ناظر
تمسي المحاسن وهي فيه بواعث
للشعر بين مسبب ومباشر
غرر على الأيام لولاها لما
لاحت وجوه الدهر غير بواسر
لم تبرح الشعراء صرعى نشوة
برحيقها من سالف ومعاصر
فإذا انجلت في مثل ذاتك مرة
كنت الأحق بكل مقول شاكر
يا من غدا بعوارف ومعارف
يزري على لجج العباب الزاخر
أهديك بعضا من عقيق قريحتي
يا بحر لكن لا أقول جواهري
أبيات إحسان وليس جميعها
من كل بيت بالمحاسن عامر
قد جادها صوب الصبا وبنشرها
نم الصبا عن كل عرف زافر
درجت معي أطوار عمر واصل
ما جاش من يوم بليل ساهر
قد باكرتني قبل صادق فجره
مذ كنت من أعوامه في العاشر
أوحت إلى قلبي الهوى فشعرت إذ
غصن الصبابة لا يميل لهاصر
فمضيت بين كمائل ومفاخر
ومشيت بين خمائل وأزاهر
ما قلت ذا فخرا ولا عجبا وما
من معجب في نظمها أو فاخر
لكن لترفق غير مأمور بها
فلكم خطت طورا لنيل الحاضر
إن تأتني عفوا فكم هذبتها
من سخف لفظ أو روي نافر
مكنتها بعد النزاع وكم حكت
قلق القداح بدت بكفي ياسر
حتى أتت من بعد تربيتي لها
حسبي وإن لم تغد ملء محاجري
عوضت ما خسرته من حسن بما
رفعت إليك فلم أكن بالخاسر
فكن الوصي على يتامى ناظم
وبنات فكر في ثناك قواصر
أهديتها لا كي تليق وطالما
قبل الكبير هدية من صاغر
هي دون ما يهدى إليك وإنما
مثلي على ما فاق ليس بقادر
الداعي
شكيب أرسلان
وقلت، وأنشدتها في محفل مدرسة الحكمة، وكنت في السادسة عشرة من العمر:
عما بصباح العلم رغدا وانعما
بربع ظلام الجهل عنه تصرما
قد انصاح صبح السعد في ليل نحسه
فغادره شيئا فشيئا مهزما
وثاب إليه العلم عدوا بعوده
إليه فلا لؤم إذا ما تلوما
فأصبح داجي أفقه اليوم زاهرا
وقد كان زاهي أفقه قبل مظلما
وأينع ذاوي روضه اليوم بعد أن
تصوح من عصف البوارج في الحمى
ترنح عطف السعد منه بعيد أن
رأى لثغور العلم فيه تبسما
وباتت غصون العز تخطر عندما
رأت فوقها طير المعارف حوما
لعمرك إن الشرق رد بهاؤه
فيرفل في ثوب النساء منمنما
وعاد إليه الفضل والعود أحمد
عليه إذا كان الغياب مذمما
وما الشرق إلا ذلك الشرق لم يزل
مدى الدهر أعلام العلا متسنما
فإن نابه يوما من الدهر صرفه
فلم تمض إلا برهة فتثلما
وإما تطش دهم الليالي سهامه
فهيهات لم تسلبه للحظ أسهما
وإن فاته للفضل غيث فإنما
توخى إليه الرجع جما فعتما
وإن تعره الأحداث من بعد بسطة
فأي الورى لم يلق بوسى وأنعما
وإن يك يوما سود الجهل أفقه
فقد طالما في الفضل أطلع أنجما
نجوم علوم أخجلت بضيائها
نجوم ضياء لحن في كبد السما
بهن اهتدى في سيره كل بارج
توغل في بحر الكيان الذي طمى
رجال بهم جاد الزمان وعله
على مثل هذا الجود يوما تندما
أقامهم في الشرق يحيون شأنه
فأذهل عما نال عادا وجرهما
هم الملأ الأخيار والعصبة الألى
رأينا لعمري الرشد فيهم مجسما
تظلم منه الفجر قبل مجيئهم
فجاءوا فلما أثقلوه تظلما
لكم أرهفوا بالجد للمجد مخذما
وكم أرعفوا بالنيل للفضل مخطما
وكم صرفوا وجه الصروف عن الورى
وكم عفروا بالحزم للدهر مرغما
وسلوا من الآراء أبيض صارما
ففلوا من الأرزاء بحرا عرمرما
أماطوا قناع المكرمات وقد جلوا
محيا المعالي بعد أن كان أسحما
وأعلوا منار الرشد في أفق شرقهم
وخلوا سبيلا للمآثر أقوما
وأجروا ينابيع المعارف في الملا
فطال بها نبت المعاني وقد نما
وشادوا أصولا للفنون وأوضحوا
لها سبلا أضحت إلى النجح سلما
فنعم رجال الشرق قوما ومعشرا
إلى جدهم أصل المعالي قد انتمى
جروا في رهان الفضل في أول المدى
سباقا كما أجريت أجرد شيظما
ولم يرهبوا من دونها في جهادهم
خطارا فقد خالوا التوقي تقحما
فهم أسسوا ركن الحضارة في الورى
ولم يفعلوا إلا لندرك مغنما
وهم أكنهوا سر المعارف أولا
وهم عرفوا نفع العلوم مقدما
فلما أحل الله فيهم قضاءه
وأوفاهم داعي الردى متخرما
طوتهم أيادي البين من بعد أن رموا
من الهمة الشماء أبعد مرتمى
فغار ضياء الشرق عند غيارهم
وأظلم وجه الشرق وقتا وأقتما
ودالت إلى العرب العلوم مع العلا
كما حكم المبدي المعيد وأبرما
وأوجف ركب السعي في طلب العلا
فكان بذا الجري الجواد المصمما
فهادنه صرف الزمان مسالما
ونوله الخير الأتم المعمما
وباتت بلاد الشرق من بعد عزها
كأن لم تنل مجدا ولم تحو مغرما
إلى أن تجلى طالع العصر بعد أن
تحجب عن تلك الجوانب واكتمى
فثابت لدى إشراقه الهمم التي
عن العلم قبلا قد تقاعسن نوما
عن العلم حق العلم بالفضل ظاهر
فذلك للألباب قد كان ألزما
وعفت على ما كان قبلا وذللت
جماح زمان قد طغى وتجرما
فإن يك خسف الشرق أضحى محللا
لديه فما كان الفلاح محرما
ألا يا بني الأوطان إن عليكم
إلى السعي في تلك المعالي التقدما
عليكم بها فاسعوا لها وتشبهوا
فمن يتشبه بالكرام تكرما
ومن قصرت أيديه فليسع طوقه
ومن لم يجد ماء بأرض تيمما
وقد نكتفي بالطل إن بان وابل
فإن اعورار العين خير من العمى
ولا سيما العلم الشريف فإننا
نرى نيله جدا على الكل مغرما
أما نحن من سنوا المآثر واقتفى
مآثرنا من بعدنا حاز مستمى
ألم نعل أعلام العلوم بقطرنا
على حين حد السيف يرعف بالدما
ألم نك أهل الأولية في العلا
ليالي لم نقصر عن المجد معزما
بلى نحن كنا أهلها فأزالنا
زمان توخى حيفنا وتحكما
وما زال أهل الغرب يدرون قدرنا
من الفضل ما أبدوا من الدهر معجما
متى يذكر الأفضال فيهم خطيبهم
على منبر صلى علينا وسلما
فلا تحسبونا قد عرينا وطالما
جررنا من الفضل الرداء المرقما
وهم أثروا عنا العلوم فهذبوا
فجروا علينا مطرف المجد معلما
تباروا بعلم بينهم وتنافسوا
فلا جرم أن العلم سر فأشكما
وقد بلغوا من باذخ العز منزلا
يظل لسان الحال عنه مترجما
إذا نظر الشرقي حال صلاحهم
بكى صاحبي منها دما سال عندما
فيا وطني حتام تلبث غافلا
وحتام يا شرقي أراك مهوما؟
ألم تدر بالغربي في الأرض سائحا
على سابح من علمه ليس ملجما؟
فلله در العلم إن جداءه
لمما يفوق العارض المتسجما
لكم نال من فخر وأيد صاغرا
وكم عال من فقر وقلد معدما
وكم حل من عي وأطلق حبة
وكم فل من غي وأنطق أبكما
فمن يعتصم بالعلم يظهر بهديه
فلم يك غير العلم شيء ليعصما
إذا العلم هذا الحق ما فيه شبهة
وحسبك بالحق المبين معلما
ومن عز دون العلم شأنا فإنه
لسوف يلاقي أمره متحتما
فذو السيف يلقى العز حينا ومفردا
وذو العلم يلقى العز دهرا وتوءما
ومن نال أخطار اليراع فإنما
ستقرن كفاه يراعا وصيلما
فسعدا لمن في حلبة العلم قد جرى
وسحقا لمن في حلبة العلم أحجما
وما ذل من يهوى العلوم وإنما
تسود من بالعلم كان متيما
سما بالذي كان الحضيض مقره
فطنب من فوق الدراري مخيما
فما يبلغ المنطيق وصف جدائه
ولو كان كل الكون في وصفه فما
فحثوا مطايا العزم كي تظفروا به
تنالوا بيمن العصر منه الميمما
فلا منية إلا ونلتم أعزها
ولو أنها باتت على روق أعصما
لئن تبذلوا فيه النفيس فغيركم
لإحرازه هلك النفوس تجشما
وما غيركم والله إلا أصولكم
نخبر عنهم لا حديثا مرجما
وقوم هدوا في الحق هدي جدودكم
إلى أن غدوا أعلين في الأمر مثلما
أولئك قد سادوا وأقصى نكاية
لنا فيهم ألقاب علج وأعجما
بعلم إذا ما بات فيهم متوجا
فيا طالما قد كان فينا معمما
فإما لعمري قدوة بمعاصر
وإما تراث للذي صار أعظما
ولا نحسب الأحوال وهي عوارض
تغير في أصل المبادي فنسأما
وإما نصبنا في سبيل جهادنا
فأي قرار لا يقابل مخرما
وقد أشرع الدرب الموصل نحوه
بما شفع الرحمن فينا وألهما
فلا صدفت فتياننا عن ولوجه
ليغدو بهم رث البلاد مرمما
ويرتق فتق الشرق بعد اتساعه
ويرفي غطاه بعدما قد تشرما
فإن الفتى من زان مسقط رأسه
بما ناله من حكمة وتعلما
فذاك الذي في بردة الفضل ينثني
وليس الفتى من بالعقيق تختما
فإن ينتظم شمل الرجال بقطرنا
ترتب فيه أمرنا وتنظما
لأن نجاح الصقع في حسن أهله
إذا كان أمر الود في القوم محكما
وكانوا كما الأعضاء في الجسم فاغتدى
على الكل منهم خيره متقسما
فيشتد أزر القوم بعد انحلاله
إذا شد من عقد التضافر محزما
إذا نبتغي علما بدون تضافر
إذن فاتباع الجهل قد كان أحزما
وكل امرئ عن قومه متخلف
فلا يعدمن الدهر للوطء منسما
فكونوا كجسم واحد إن تألمت
له أنمل تلقى الجميع تألما
تفوزوا بتذليل الصعاب إذا عصت
وتقووا على ذا الدهر إما تهضما
وتحظوا بأعلاق المنى وتحققوا
بهمتكم من عصرنا ما توسما
هو العصر وافى ضاحكا عن فنونه
وقد كان من قبل عليكم تأجما
تبدى وهذا الجهل في الناس سائد
فأطرق منه هيبة وتحشما
وراح على الدنيا ينش بدائعا
فهز أخا عشق ورنح ضيغما
بكم معشر الحضار تزان أرضنا
ويصبح عرض الخسف فيها مكلما
تجلون عن أن ترشدوا من مماثلي
ولكنها ذكرى لما ليس مبهما
كفى عصركم فخرا وعزا إذا ادعى
أمير الورى عبد الحميد المعظما
ليجهد في استرجاع رونق شرقنا
وتجديد ما من مجده قد تهدما
فلا زال في عصر الخلافة قائما
لما انآد من أمر العباد مقوما
ينث عليه الخافقان بعدله
ثناء جميلا بالدعاء مختما
وقلت في مثل ذلك عند حضور امتحان المدرسة السلطانية في السنة نفسها:
بدور بأفق العلم هذي المواسم
على البدر قد لاحت لهن مواسم
لتغدو بها عين الفلاح قريرة
وتبدو ثغور السعد وهي بواسم
يقدر فيها العلم ما هو كاسب
ويعرف فيها الفضل ما هو غانم
فتنتج ما قد حاول الجهد في العلا
وتسفر عما باشرته العزائم
شهور على صدق الفعال أمينة
ولكن قضاة بالسباق حواكم
مضامير أقران النباهة والنهى
يميز مرغوم لديها وراغم
هو الجد حتى البعد للقرب سابق
وحتى الخوافي خلفهن القوادم
وحتى ترى ما كان في نيله الرجا
صريما قد التفت عليه الصرائم
وهل يبلغ الآمال إلا مجاهد
وهل يطرد الأهوال إلا مقاوم
وهل دون غاي الجهد تدرك غاية
ودون اخترام النفس تعنو المخارم
وكيف يرجي الوصل من ليس يمتطي
وكيف يزيل القرن من لا يصادم
ولا بد من غوص الفتى قصر لجة
لتخرج غران اللآلي الخضارم
ومن مدرك من فاته وهو قاعد
ومن لاحق من جازه وهو نائم
وما النفع من جيش تعبى صفوفه
إذا لازمت أغمادهن الصوارم
فإن تمام الجهد للنجح واجب
وليس يسوغ الصد عما يلائم
وإن المسمي العقل في المرء صاحب
لعلم غدت منه عليه رثائم
فأجدر بخل أن يصاحب خله
ولا يترك الملزوم ما هو لازم
وللعقل طول العمر بالعلم صبوة
بلا سلوة والإلف بالإلف هائم
أليفان لا ينفك كل متيما
بصاحبه تعيى لديه اللوائم
فإن عد حقا أفضل الناس عالم
فأفضل منه عاقل وهو عالم
وإن أمكنت من دون ذا العلم عزة
فبالعلم أسنى ما تسود العوالم
كما عز بالعلم الأعارب قبلنا
فذلت وهابتهم لذاك الأعاجم
ليالي لا أملاك إلا ملوكهم
تعد ولا تيجان إلا العمائم
تقدمنا منهم رجال تقدموا
وسادوا وما في القوم إلا ضبارم
رجال مضوا لم تلههم عن علومهم
وشغل الورى غاراتهم والملاحم
لهم أشرقت تلك الديار وأزهرت
بأقطارنا أنجادها والتهائم
قد استخرجوا در المعارف بالعنا
وموج العوادي حولها متلاطم
فمنم بآثار العدو صوائف
ومنهم لآثار العلوم معالم
لقد أوسعوا الأمرين فتحا كأنما
مكارمهم في الحالتين مغارم
فغنت رهام الطير فوق رياضهم
وأثنت عليهم في النزال القشاعم
وسادوا العدى في كل أمر فأصبحت
بأيديهم أمصارهم والعواصم
وأصبح منهم هؤلاء على الثرى
كما سكنت بطن التراب الأراقم
يخافون أمر العرب حتى كأنما
لهيبتهم فيهم رقى وطلاسم
ولم يك إلا العلم علة مجدهم
فجادهم ما لا تجود الغمائم
فمن يعتصم بالعلم يمس معززا
ومن يفتتن عنه تطأه المناسم
إذا ما تأملت الزمان رأيته
بكل نجاح في العباد يساهم
فإن عد كسب العلم فينا فريضة
فكل جهالات الأنام محارم
وهل نرتضي ذا اليوم ذلا بتركه
إذا ساد فيه جيلنا المتقادم
لعمري لقد كانت لنا بجدودنا
مآثر في حق القصور مآثم
فلا غرو أن نقتص آثار مجدهم
طرائقهم قدامنا والمناجم
ولم لا نرجي كل فوز وما لنا
سوى الفضل في جنب الزمان جرائم
ونعلم أنا إن نجد نجد وذا
مجرب أمر ليس فيه مزاعم
وكيف يرى نيل الفلاح بدونه
ويأمل دون الجد ذا النيل حازم
بعصر يفوت القوت فيه معده
ويعدم ورد الماء من لا يزاحم
وقد نهضت كل الخواطر للعلا
وزادت جيوشا في الصدور الشكائم
فكل فخار ناهل الفكر حائم
له وعليه طائر الذهن حائم
فعزما بني الأوطان فالجهد واجب
بذا وبحول الله فالنصر قادم
فقد قيض الرحمن فينا ذرائعا
وقامت لهذا الفضل فينا دعائم
ويوم هو المشهور أيامنا به
مقلدة أجيادها والمعاصم
لدى مشهد يستوقف الركب عن ظما
وتسكن من جفل إليه النعائم
تناهب فيه الحمد من كل جانب
كرام صنوف المجد فيهم مقاسم
بهم رجع الفضل الأصيل لأهله
وعادت إلى أصحابهن المكارم
وهل ناجح بالأمر إلا رجاله
وهل ساجع بالأيك إلا الحمائم
وهل يتحرى الفضل إلا عميده
وهل تسكن الآجام إلا الضراغم
فسقيا لروض للمعارف ناضر
بها وعليه عارض الفضل ساجم
لأطياره في العلم شدو وإنما
به الطائر المحكي في القول جاثم
123
يضوع له في الأرض عرف معارف
ثناء على عرف الخليفة دائم
سلام على السلطان أما مرامه
فنفع وأما شغله فالعظائم
سليل بني عثمان أما جداؤه
فغيث وأما عزمه فلهاذم
أطاع له البران شرق ومغرب
ودانت له في العدوتين الأناسم
له بين أعباء الخلافة في العلا
صرائم إلا أنهن صوارم
أقام أمور العرش بعد تظاهرت
عليه خطوب للظهور قواصم
وقام بأمر الملك حق قيامه
يدافع عنه تارة ويهاجم
فسد ثغور الملك بعد انثلامها
وجاز إلى دار الوغى وهو ثالم
وأحكم إجراء العدالة في الورى
وعمت له كل العباد مراحم
فيوما تراه وهو للرزق قاسم
ويوما نراه وهو للخطب حاسم
يسهد جفنا لا يطيب له الكرى
وفي أرض عثمان ظليم وظالم
فلا زال بدرا نوره متكامل
وغيثا علينا ودقه متراكم
يعيد لنا عز الخلافة عهده
ويغتبط الإسلام إذ هو سالم
تضيء على الدنيا مطالع شكره
وتعطر فيه بالدعاء الخواتم
وقلت أشكو الزمان:
من الدهر تشكو أم على الدهر تعتب
وما صاحب الأيام إلا معذب
شكي بلا قاض شجي بلا أسى
إذا بات في دنياه يعتب يعتب
يلاقي الأسى في صدره كل مذهب
متى ضاق عنه في البسيطة مذهب
هو المرء في كف الزمان مقلب
يقاسي عذاب الموت والدهر يلعب
تولد في الدنيا حليف مصائب
فلم يغن عنه حرصه والتجنب
يصاحبها وهي العداة وإنه
لخسف بأن تشنا الذي أنت تصحب
إذا نقصت من كل عز حظوظه
فأسهمه من نكبة ليس تغلب
طريد ليال بات في كف طارد
ومطلوب دهر عند من هو يطلب
فبينا يسام الخسف من كل وجهة
إذا هو في بطن الضريح مغيب
فلله يا دنيا حياتك كربة
وفيك غراب البين ما زال ينعب
رأيتك محض الغش في محض قدرة
فلا منك رهبان ولا فيك أرحب
وإني وإن ضاقت علي مذاهبي
لديك فصدري من فنائك أرحب
أرى بك من نكدي وصبري عجائبا
وأعجب من حالي وحالك أعجب
فهل فيك ضيم مثل بعد أحبتي
مضى ذلك الأمر الذي أتهيب
بكيت عليه وانتحبت لياليا
فلم يجدني ما كنت أبكي وأنحب
فكم ليلة منها قضيت مسامرا
نجوم السما طورا تضيء وتغرب
إلى جانب الورقاء تندب في الدجى
شجيين طول الليل نشكو ونندب
تشب شرارات الأسى بترائبي
ويطفئها من ماء عيني صيب
وقد كنت لا أبغي خمود صبابتي
وأزجر طرفي إذ يجف وينضب
بصدري حر الشوق برد يلذ لي
وعندي ورد الدمع والله طيب
أبى الله أن أهوى السرور وإنني
على غير صوت النوح أشجي وأطرب
لئن عذب التعذيب لي قبل ذا النوى
بوجدي فهل بعد النوى ليس يعذب
فيا ليت شعري هل أرى الدهر مرة
لدى غفلة عن نكبتي يتنكب
أليست لتصفو منه يوما سرائر
فيحلو لي طعم وينساغ مشرب
أما تحفظ الأيام مني وقيعة
وتغضب مني مثلما أنا أغضب
فقد طال وصفي نكدها غير كاذب
ألا ليتها تسعى برد وأكذب
فتبا لها من مصميات سهامها
ولا ينفع الإنسان منها التأتب
هي الدجن أما صاعقات خطوبها
فصدق وأما البرق منها فخلب
قضى قبلنا الكندي
124
أحمد حقبة
يعنفها في شعره ويؤنب
على أنها الدنيا إذا شئت وصفها
وإن لم أشأ تملي علي وأكتب
وإني وإن لم تحيني غير صبوة
فكم ناشني منها إلى اليوم مخلب
سأشكرها إذ إنها مذ حداثتي
لقد عودتني الصبر وهو محبب
وقد نجذتني الحادثات وأدبت
وليس كمثل الحادثات مؤدب
ولكنها مني تمارس شدة
وقد عجمت عودي فعودي أصلب
وما عدمت من شدة وبراعة
ولكن من لاقت أشد وأنجب
ولكنه لا نفع فيها لصابر
إذا لم يكن منها لعمرك مهرب
محاكية للبحر تعلوه جيفة
وفيه نفيس الدر في القعر يرسب
فيعدم فيها الحظ من يستحقه
ويحرم فيها الكسب من يتكسب
ويحظى بها بالجد من لا يرومه
ويشوى بها بالسهم من لا يصوب
إذا الحق لم يصبح على الكل سائدا
فليس لحر في البرية مأرب
وإن عدم الحق المبين نصيره
فما يرتضي بالعيش حر مهذب
وإن لم تكن فينا على الخير عصبة
ففيما سواه ساء ما نتعصب
فليس بمغن للكريم اتساعها
إذا كان فيها الحق كالمال ينهب
لكم بت أنضي همتي لأقيمه
وأظهره في بعض أمر ويحجب
فما زال للأبصار تحت ستائر
إذا زال عنه غيهب جن غيهب
فقد قلت ما قد قلت لا عن مآرب
أجل أنا من مثل ذاك وأحسب
وإني من القوم الذين هم هم
إذا غاب منهم كوكب لاح كوكب
عتاق المعالي قد تسامت جدودهم
على الشم ممن أنسل الشيخ يعرب
لهم نسبة في أقعس المجد عرقها
له منزل فوق السماك مطنب
وأصحابهم فيها الفصاحة والحجى
وبذل اللهى والمشرفي المذرب
بدور إذا الهامات بالبيض عممت
ليوث إذا الهامات بالبيض تضرب
بحور إذا الأرزاء ألقت جرانها
غيوث إذا الأعوام في القوم تجدب
فياصل حق بالبيان وتارة
فياصل إذ دار الأصم المكعب
لهم حسب يحكي الشموس وضوحه
يزاحم منه منكب الشمس منكب
فإن كنت منسوبا إليهم فإنها
إليهم لتعزى المكرمات وتنسب
فدون انتساب المرء للمجد والعلا
لعمرك لا يغنيه أم ولا أب
فما دمت حيا في الزمان فلم تزل
علي حقوق ليس منهن أوجب
أهم بأشياء كبار ودونها
من البعد في ذي الحال عنقاء مغرب
أرى الفتح يدنو كلما أنا ساكن
ويبعد عني كلما أنا أقرب
وقد غادرت قلبي العوارض حائرا
هو القلب من تلك الحوادث قلب
توارد أنواعا كثارا وكلها
تؤثر في القلب اللطيف وتنشب
وقلت متغزلا بالحسن المعنوي مفتخرا بأصحابه:
مال الصبا بعواطف النشوان
ميل الصبا بمعاطف الأغصان
ولوى الغرام عنانه نحو اللوى
وبدا الحنين لأبرق الحنان
وهوى الهوى بالقلب بين أعقة
ومتالع ومطالع ورعان
فغدا يراوح من معاهدها التي
في نجد بين معالم ومغان
يأتي اللصاب من الشعاب وينتحي
من منزل الجرعا سفوح البان
في كل منعطف وكل ثنية
يبدو له شجن من الأشجان
ويح المحب لقد تهتك في الهوى
فرعاه في سر وفي إعلان
أجرى العقيق بطرفه وبنى بأو
تاد الضلوع مضارب الكثبان
صب ألم به الهوى فمضى به
للحسن تحت أسنة الخرصان
أنذرته سوء المصير فقال لي
إن الصبابة عزة الفتيان
أطلقت للقلب العنان فهمت لا
ألوي ولست لذا العنان بثان
لهفي عليه عدت بمهجته الظبا
حبا إلى حيث الظبى بمكان
بين البوارق والصفوف زواحف
تحت البيارق والرماح دوان
طلب المحاسن في الخيام ودونها
ضرب يطيح سواعد الشجعان
وإذا هوى نجد تحكم في فتى
جعل الردى في حيز النسيان •••
هيهات ليس لعاشق أمنية
يسعى إليها في طريق أمان
وإذا العواسل دون معسول اللمى
يزداد معها القلب في الخفقان
وإذا الخدود القانيات تعرضت
للحب سال لها النجيع القاني
وإذا الأسود وقد تردت في الحمى
صرعى أمام كوانس الغزلان
وإذا رجال كتائب النعمان قد
ذلت لعز شقائق النعمان
وإذا الأعز الأيهم الغسان قد
أمسى رقيق الأهيف الغساني
حال تطيش بها العقول وربما
أخبت ذكاء ثواقب الأذهان
تعيي فؤاد الأحوذي كأنه
مما أصيب صريع خمر دنان
ما إن يقاوم بأسها بطل ولو
حازت يداه عزة العقبان
تغشى مقاصير العظام ولم تكن
عنها تعز مناسك الرهبان
عمت فإن فاتت عديم القلب بال
وجدان ما فاتته بالبرهان
لكن ما أودى بعذرة حبه
لم يختلف بشعوره إثنان
وترى القلوب على المحاسن أقبلت
مثل الدلاء جذبن بالأشطان
وترى إلى وصل الحبيب حنينها
يحكي حنين النجب للأعطان
كيف الخلاف وللفؤاد تأثر
بجميع ما مرت به العينان
أو كيف لا أهوى الجمال وقد بدا
من نور ذاك العالم الرباني
عين الوجود اللامع النور الذي
ما لاح مثل سناه للأعيان
العاقب الإكليل مصباح الهدى
والصادق المبعوث بالفرقان
هو أحمد المحمود من في حله
كنف الوجود تشرف الثقلان
فالله يشهد أن طه المجتبى
هو خير من سارت به قدمان
واذكر صحابة صاحب المعراج من
حازوا السباق بأول الميدان
الراشدين العاملين إلى الهدى
والناشرين شريعة القرآن
هم عصبة الدين الحنيف وشيعة الش
رع الشريف وفتية الإيمان
تلقى أبا بكر بصدرهم انبرى
يهدي الألى رجعوا إلى الكفران
وترى أبا حفص يقيم المسجد ال
أقصى بهمته على أركان
يرمي الممالك بالجيوش وقد غدت
في قبضتيه شواسع البلدان
ضرب القياصرة العظام بصارم
أنسى البرية «سيف» في غمدان
فعنت له بالرغم شم أنوفهم
وخلا له كسرى من الإيوان
وأباد فارس سيف سعد وأذعنت
مصر لعمرو أيما إذعان
وقضى الإله علاء ذادة دينه
بالنصر والجيشان يلتقيان
فالهدي فيهم ضارب أطنابه
والحق ملق في الورى بجران
والدين تعصف بالممالك ريحه
عما يزل مواقف البهتان
بجهاد قوم أصبحت أعمالهم
أبدا بجيد الدهر عقد جمان
فيهم أبو الحسنين صفحة سيفه
فجر ينور ليل كل طعان
قد كان ليث عرينه وفؤاده
بحقائق الأكوان بحر معان
وافى منازل في العلوم تقطعت
عن دركهن نياط كل جنان
فلكم حوت تلك الصحابة سادة
غرا من الأنصار والأعوان
صرفوا إلى الأرواح جل عنائهم
وتجانفوا عن خدمة الأبدان
أسياف حق بالهداية قطعت
بين العباد هوادي الأوثان
حق الفخار بهم لكل موحد
لثبوت مجدهم بكل أوان
فاذكر فتوحات العقول برشدهم
تهدي لحق العلم والعرفان
واذكر لهم فتح الممالك في الورى
من كل ناحية وكل لسان
من مشرق ذاق النكال ومغرب
طلعت عليه كواكب الفرسان
هم قدوة للعالمين بها اهتدى
شم المعاطس في أولي السلطان
أهل الخلافة من بني العباس من
بعد الخلائف من بني مروان
بلغوا جدار الصين من جهة ومن
أخرى تخطوا شاهق البيران
وترى حذاء فروق وقع سيوفهم
وتجاوب الأصداء في السودان
والغزنوية يوغلون بزحفهم
في السند آونة وهندستان
وبنو أمية في الجزيرة حكموا
أمضى ظباهم في ذوي التيجان
وانظر بني أيوب لما أعملوا
في المعتدين عواسل المران
وصلاح دين الله أنزل بطشه
بالقوم في حطين كل هوان
ولواء يوسف تاشفين بمغرب
خرت له الأعداء للأذقان
ثم السلاجقة العظام وإثرهم
أصوات ضرب الصيلم العثماني
سيف الصناديد المساعير المغا
وير القروم المعشر الغران
ما كان ينضى في وغى إلا ملا الد
نيا برعب صليله الرنان
سل عنه عثمان القديم وإن تمل
لزيادة فاعطف على أرخان
وانظر مراد وبايزيد بغربه
قادا الأعادي كلها بعران
وارمق أبا الفتح الأعز محمدا
أخنى على جرثومة الرومان
في مأزق والجانبان تصادما
وتقابل البران والبحران
والخيل باشرت البحار فردها ال
فرسان فامتنعت على الأرسان
والبيض تخطب في الرءوس رواكعا
طورا وتنطق ألسن النيران
حتى تصاغرت البلاد لأمره
واستسلمت ليديه مثل العاني
وغدا سليم رب كل أيالة
في الشرق محميا به الحرمان
وأتى سليمان الزمان بفيلق
خضعت له الأفلاك في الدوران
مادت لهيبته البسيطة ميدة
لم تبق من أحد ومن ثهلان
وسعت عزائمه الزمان وقائعا
من كل حرب في العداة عوان
تفدي بني عثمان كل قبيلة
في الأرض أبرزها لنا العصران
حملوا الخلافة والبلاد طرائق
في كف أهل البغي والعصيان
فغدت وقد صارت لهم أطرافها
تيها تجر ضوافي الأردان
ولهم بها العدل الذي أبدى لنا
كيف استواء الشاة والسرحان
حق إذا ما أمنوا فيه الورى
ردوا غرارهم إلى الأجفان
فبمثلهم فلنفتخر وبهديهم
فلنهد بعد تقاعد وتوان
في السالفين من الأفاضل عبرة
تجلو المراء بأقصر الإمعان
في كل يوم من برازخهم لنا
داع ينبه خاطر الغفلان
أولا نجيب ونحن أحيا في الورى
يوما ندا الأجنان في الأجنان
إن نعتذر بزماننا وطباعه
فهي العوارض لم تخص بآن
إن المبادئ لا تزال فواعلا
ما بين ما يتعاقب الملوان
فيها يكون إلى الحصول توسل
وبدون ذلك علة الحرمان
يغدو الزمان بها على أحواله
بالناس من زيد ومن نقصان
والعقل لا يعنو لحالات إذا
ما شاء أوقعها بحال تفان
وإذا تحصلت الشجاعة لم تكن
عند المحصل غاية الإمكان
فلنعملن؛ فالرأي في نيل المنى
هو أول وهي المحل الثاني
وقلت مفتخرا بالسلف:
أقل عذابي ما تصاب مقاتلي
وأضيع نصحي ما تقول عواذلي
وأسعر ناري ما تكن جوانحي
وأهدأ حالي ما تهيج بلابلي
تفيض دموعي كلما لاح بارق
وتطرب من مر النسيم شمائلي
وإني لتشجوني الحمائم إن شدت
على عذبات البان عند الأصائل
سواجع بالشكوى ينحن على النوى
نواعم لا يعرفن غير الخمائل
يبكين أوقات الصفاء التي خلت
وأبكي لأيام الصباء الرواحل
وإني لصب لم أزل أندب اللقا
بدمع طويل الذيل هام وهامل
حنيني إلى عهد الوصال وأهله
وسهدي على هجر الخليط المزايل
ولكنه قد رمث الحب مهجتي
وروق إعنات الغرام مناهلي
تفردت في طبع إلى الحب نازع
وقلب على حكم الصبابة نازل
فيطربني همس القصائر في الحمى
ويعجبني في الرمل هدي المطافل
وأهوى لحاظ العين معسولة اللمى
وأعشق ربات الخصور النواحل
وأختال في غي الهوى غير عابئ
وأمرح في بذخ الصبا غير سائل
وإني ليجري في جناني هوى الحمى
وحب الدمى مجرى الدما في مفاصلي
فيا ظبية الكثبان حسنك فاتني
ويا غادة الجرعاء حبك قاتلي
ويا هذه الأعطاف رمحك طاعني
ويا هذه الألحاظ سحرك بابلي
ويا عاذلي أقصر فلست بوازعي
أطلت بتعنيفي على غير طائل
سأمنع عن عيني لأجلك نومها
وأقسم ما تبكيه بين المنازل
وأجري بمضمار الهوى متهتكا
أجرر في شوطي فضول الغلائل
لأعشق حتى ليس لي من معادل
وأكلف حتى ليس لي من مماثل
وأرهن هذا القلب للغيد والمهى
وأجعل هذا العقل مهر العقائل
وما الحب إلا خلق كل مهذب
وما الوجد إلا شأن كل حلاحل
وما الحسن إلا دون كل عرينة
وما الوصل إلا في مجال الغوائل
إذن كل طرف ذابل عند ذابل
وكل قوام عاسل دون عاسل
تجول جياد الخيل في كل عرصة
وأنضي إليها كل يوم رواحلي
وتحمي سيوف الهند عن كل كلة
لقد طالما علقت فيها حمائلي
أزور خيام الربع غير موارب
وأغشى ديار الحي غير مخاتل
وإني من الشعب الذين إذا سعوا
يجلون قدرا عن حئول الحوائل
ألم ترهم بالأمس حزما وقوة
مفاعيلهم في الأمر قبل المقاول
فما آجل يرجونه غير عاجل
وما عاجل يأبونه غير آجل
لقد خيبوا آمال كل معارض
وقد زلزلوا أقدام كل منازل
بشقر سراحيب وسمر ذوابل
وبيض أصاليت وصفر عياطل
غداة بلاد الناس شرقا ومغربا
أطلوا على أقطارها بالجحافل
لقد دكدكوا الأجبال فيها وشيدوا
سواهن شما من غبار القساطل
سقوا تربة الأرضين سهلا ومرقبا
من الدم بالأنهار لا بالجداول
أطاروا قلوب الكاشحين وأرقصوا
فرائصهم من كل حاف وناعل
وقد سحقوا بطشا رءوس عداتهم
وقد نزلوهم من رءوس المعاقل
فما زال منهم باخعا كل عامل
وما زال فيهم عاملا كل عامل
إلى أن ولوا بالسيف أقصى بلادهم
فلم يدعوا فيها مجالا لجائل
فهم خير من في الأرض سلوا صوارما
وقادوا عتاق الخيل قب الأياطل
وهم خير من ضموا اليراع إلى القنا
وهم خير حد بين حق وباطل
لقد نشروا العلم الحقيقي في الورى
على حين تغلي الحرب غلي المراجل
وقد خطبوا في الأرض بالحق من على
منابر عز من متون الصواهل
أزالوا سفاهات الشعوب وقابلوا
سفاسفهم بالمكرمات الجلائل
وشادوا على تلك الرسوم حضارة
أقيمت على أس التقى والفضائل
فأصبح منهم عامرا كل غامر
وأضحى لديهم ممرعا كل قاحل
زها ونما نبت الوشيج بأرضهم
وفي مدنهم زادت فنون الصياقل
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
وإلا فهم في الأرض خير القبائل
رجال لديهم راق جمع مناقب
عفاف وإقدام وحزم ونائل
بدور بآفاق الزمان أوافل
نحيبي على تلك البدور الأوافل
أقاموا زمانا ثم مر عليهم
عتو الدواهي والليالي الدوائل
زمانا قضوه بالعلاء ولم تكن
ليالي علاهم بالليالي القلائل
كذلك قد كانت أوائل قومنا
ألا ليتنا نبني بناء الأوائل
ونحيي رسوما غادروا لاعتبارنا
فأصبح منها دارسا كل ماثل
أما نحن من حازوا الغنى بعقولهم
وجادوا على كل الورى بالفواضل
وقد كان منا كل ندب مجرب
بنور الحجى جال دياجي المعاضل
وكل همام مشبع الحجر راشد
موفق آراء دليل مجاهل
وكل إمام كالغزالي وهو من
إذا قال لم يترك مجالا لقائل
وكل حكيم كالرئيس الذي جرى
وخلى أرسطو خلفه بمراحل
وكل أريب كابن رشد ومن على
هداه وكالرازي ند الأوائل
فبالشرق منا كالرشيد وقومه
وبالغرب منا ناصر بعد داخل
125
ولا تنس في وادي الفرات وجلق
وفي مصر آثار الصلاح وعادل
126
ولا سادة منهم محمد
127
جاعل
بقبضته البرين دون مطاول
لعمري إذا ندري الأمور فإنما
زوال العنا بين القنا والقنابل
وغر العلا فوق العوالي دواميا
ونيل المنى دون المنى والمناصل
لنعم نداء الحرب في كل أمة
أناخ عليها دهرها بالكلاكل
لينشر من أكفانه كل ميت
ويوقظ من تهويمه كل غافل
فذلك أمر لا يزال مجددا
نشاهده فليذكرن كل ذاهل
إذا ضاق عنه النثر فالبحر واسع
بنا والقوافي رافدات الفواصل
وكتبت إلى السيد جمال الدين الأفغاني - رحمه الله:
يا جمال الإسلام والإسلام
صده عن هوى الجمال الملام
مثلما أنت في الحياة وإلا
فحياة الفتى عليه حرام
هكذا إن يصح في الأرض مجد
دونه كل ما نرى أوهام
همم دونها الكواكب مثوى
ومضاء من دونه الأيام
قاذفات على المصاعب عزما
لو تبدى تدكدك الأعلام
مثل هذا حويت يا رجل الأر
ض فماذا عسى يدل الكلام
لم تزل تحرز المحامد حتى
كل حمد له عليك ذمام
أنت فرد فيما شملت ولكن
في اقتدار الجنان أنت لهام
لك نفس الأملاك في عزة الأف
لاك في جود من يداه الغمام
لك طبع سام ووجه وسيم
أدبر الظلم منهما والظلام
ورموز ملء الحقائق طرا
وعلوم فوق العلا أعلام
ويراع كالغيث منه انسكاب
وذكاء كالنار فيها ضرام
ومعان لو أوحيت لجماد
هزه الشوق نحوها والغرام
حيرت كل ذي حصاة إلى أن
قيل لا شك إنها إلهام
كل هذا حوى الجمال وأوفى
يا جمال الدنيا عليك السلام
كل حي لم يحذ فضلك حذوا
كل ساعات عمره آثام
فلتطاول بك الكواكب وليف
خر بعلياك آدم لا سام
ونجب ما تدعو إليه وإلا
فلحق النفوس منا اهتضام
كل نفس قصد الفلاح عليها
طلفا ليس تخلق الآنام
وقبيح يا نفس قولك هذا
فوق همي وقوة لا تضام
أبدع الله في العباد أمورا
وعليها عليهم الأقدام
حسبنا الله من وكيل ولكن
لنقل مثل ذا ونحن قيام
دون نيل العلا ربى ووهاد
لا ننال العلا ونحن نيام
نطلب المجد من سوانا ولكن
لم يسود عصام إلا عصام
يا زمانا أتى بكل عجيب
أي يوم كنا وخسفا نسام
جئ بما شئت يا زمان غريبا
وتحكم إذ أنت لست تلام
إن أمرا أصحابه تركوه
بعدما أفطروا عليه وصاموا
فغدوا مثلما جعلت وما كا
ن إلهي مغيرا لو داموا
يا جمال الإسلام إني امرؤ مم
ن عليهم والله ضاق الكظام
عبثا يجهز الزمان علينا
ما لجرح بميت إيلام
ليس يخلو الزمان يوما من العب
رة لكن قد شلت الأفهام
حالة عن فصال أمثالها الأي
ام قد مسها لعمري العقام
منك يرجى يا سيدي يا جمال الد
ين وصل الحبال وهي رمام
أنت للمسلمين في دينهم حج
ة حق لغيرهم إلزام
عطف النفس ما استطعت علينا
نحن لولاك في الورى أيتام
ما شككنا في أن تنال الأماني
سيد أنت والزمان غلام
ما عجبنا للفرس إذ بصنيع الد
ولة اليوم حفك الإعظام
128
اظهر اليوم يا محمد وابهر
أنت في المشرقين بدر تمام
وتغلب على العوائق واجعل
كل ما لا يرام مما يرام
قاطع رأيك المسدد في الده
ر الذي ليس يقطع الصمصام
فيك يأتي القريض منتظما عف
وا وتنساب وحدها الأقلام
ذا مجال إن تجتنبه خناذي
ذ القوافي فإنني الضرغام
فامهر اليوم ما زففت قبولا
يا جمالا أنا به مستهام
خدم الدهر باب عزك بالإخ
لاص ما واصل افتتاحا ختام
وقلت، وكتبت بها إلى الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده:
لقلبي ما تهمي العيون وتأرق
وللعين ما يبلي الفؤاد ويرهق
وما كنت ممن يرهق العشق قلبه
ولكن من يدري فنونك يعشق
وما كنت ممن يرشق السهم لحظه
فيهوى لذا لكن يراعك أشيق
أصبت به كل القلوب وإنه
لينضحها بالنبل قبل يفوق
تركت الورى أسرى هواك وإنما
أسيرك في ميدان فضلك مطلق
لديك استرقتهم من الطبع رقة
فأنت لهم حق رقيق ومعتق
جذبت بهاتيك المعاني قلوبهم
وتيمها والله ذاك التأنق
كلام إذا ألقيته في جماعة
غدا منك مثل اللؤلؤ الرطب ينسق
عليه من النور الإلهي مسحة
تكاد على أرجائه تتألق
مناهل ألطاف وأعين حكمة
تظل على روض المعارف تغدق
يبيت بها غصن البلاغة ناضرا
وريقا على نبت الفصاحة يسمق
سلام على وجه الإمام محمد
محيا به ماء الحيا يترقرق
ولله در البحر در محمد
تتوج منه للمعارف مفرق
وأخلاقه الغرا إذا شئت وصفها
وإن لم أشأ توحي إلي وأنطق
إمام بخصل العقل والنقل فائز
سبوق لغايات حكيم محقق
إذا ما انبرى في حلبة الفضل قصرت
حوالي مداه حلية هن سبق
خطيب الورى بالحق للحق مظهر
ظهير وللبطلان مرد ومزهق
إذا قام من فوق المنابر فاصلا
فأي ضلال ليس يمحى ويمحق
تميد الورى عند استماع خطابه
وتعجب للأعواد إذ ليس تورق
فما قام بالحق الحنيفي صادعا
وللفكر شمل بات ليس يمزق
له القلم المشهور يزري مداده
بتبر إذا في مهرق هو مهرق
عجائب مولى في محمد عبده
وربك يعطي ما يشاء ويرزق
لك الله يا مولاي هل من فضيلة
بهذا الورى إلا بها أنت أليق
ومنها:
وفي أمل أني لدى فعل واجب
أسكن قلبا دونه بات يخفق
إذا نال مثلي من كلامك لفظة
تشرفه فهو السعيد الموفق
وقلت أمدح الأمير الكبير علي باشا صاحب تونس الخضراء، وأقرظ تأليفه المسمى بمناهج التعريف في أصول التكليف:
عج باللصاب وعنق الليل مقتول
بصارم ابن ذكاء وهو مسلول
ومنها:
باتت سعاد على ذا كله وغدت
تضفو عليها من النعمى سرابيل
إذا تمر الصبا في خدرها غلسا
راحت عليها من الريا مثاقيل
كذاك حتى إذا شمس الضحى طلعت
قامت ومنها وشاح الصدر محلول
قامت سعاد تحيينا فما قمر
على قضيب على الكثبان محمول
جلت محاسن ما يلفى لها مثل
وما لملتمس منهن تنويل
نقول بدر وغصن كي نشبهها
وإنما قولنا يا صاح تمثيل
فلا يغرنك في مثل لها طمع
فدون أمثالها العنقاء والغول
حتى إذا شغف القلب الذي اجتذبت «بانت سعاد فقلبي اليوم متبول»
يحاول الجهد كي يقتص مدرجها
وهل يطيق تباع العيس مغلول
تجوب جوز الفلا في كل ناحية
تزل عن متنها رقطاء زهلول
مرثومة بالبرى خلت مخاطمها
جذبا كما غودر الثوب الرعابيل
فاعطف على طلل بالجزع إن دمي
منها على طلل بالجزع مطلول
كانت لنا غر أوقات مضت معها
والخطب منهزم والهم معزول
تلك الليالي التي ما بت أذكرها
إلا شجيت وبي اهتاجت عقابيل
كنا نهيم بها والعمر مقتبل
والعيش غض وربع الأنس مأهول
في كل واد من الآرام ليس به
إلا أغن غضيض الطرف مكحول
أما الليالي فقد عادت وهن بنا
من بعد ما كن أطفالا مطافيل
ولت سعاد وبدلنا بها جزعا
وكل شيء له في الأرض تبديل
فلا يغرنك من دنياك زخرفها
فما زخارفها إلا الأباطيل
إنا نزلنا على وادي تضلل قد
تدفقت من حوالينا الأضاليل
يمد في كل يوم للورى شركا
والناس منهم به ناج ومحبول
فمن سعى عن طريق الغي مبتعدا
فحبل مسعاه بالخيرات موصول
ومن تهافت عمدا في ضلالته
فليعلمن فعرش الكفر مثلول
كم زلزل الله من قوم لكفرهم
قدما وأهلك جيل قبله جيل
فليس تبرح للرحمن حامية
لتزهق البطل إن البطل زحليل
هل باي تونس إلا السيف جرده
في الأرض ربي فحد البغي مفلول
فاليوم للرشد بين الناس واسطة
وللتعسف والإلحاد تذليل
بكف أبلج ميمون مطالعه
فخم الجناب وقيل قيله القيل
أشد أوسع من في ذرعه سعة
طولا وأطول من في باعه طول
مشبوب عزم بحسن الحدس متقد
فؤاده وبحب الله مشغول
يلاحق القصد بالتسديد منتهجا
إذا انتحت هدية الساري العواقيل
إذا تغضف جنح الخطب معتكرا
فما على غيره في الكشف تعويل
من معشر المؤمنين الغر محتده
لدى عمامته تعنو الأكاليل
ومنها:
بفيلق لجب من كل ملتثم
له صديق غداة الحرب عزريل
مقذف يقذف العادي بصهوته
إذا علا النقع تكبير وتهليل
لله هذي علا باي الزمان فهل
لمثل محصوله في المجد تحصيل
عن مثل علياه كف الدهر قاصرة
وأعين السخط من حساده حول
فليس ينضى لروع عضب همته
إلا وتنجاب في الحال العراقيل
وليس يمسك عن عاف مواهبه
إلا كما يمسك الماء الغرابيل
ومنها:
حقائق طي ذاك الصدر محرزة
على شتات فمعمول ومنقول
تزهو بهن تآليف مفردة
على افتراق فتجميل وتفصيل
منها مناهج للتعريف واضحة
يدل سالكها حكم وتعليل
تجلو بفصل خطاب كل مسألة
عوصا وإن كثرت فيها الأقاويل
الله أكبر هذا فضل سيدنا
فأين من وصفه مدح وتبجيل
يبغي جميع الورى إيفاه دين ثنا
فيعجزون ودين الشكر ممطول
مهلا أبا حسن نجل الحسين فما
أنتم أيا سادتي إلا بهاليل
تزهو بكم تونس الخضراء ممرعة
وليس يزعب في أغوارها النيل
كفاكم شرفا أهل الحسين فهل
مقصر عنكم في الوصف معذول
أثني عليكم بتقصيري على أمل
لعل عذري عند الباي مقبول
وقد أعارض فيكم فارسا
129
بطلا
لا يترك القرن إلا وهو مجدول
فيا مليكا تقاصى في ممالكه
لكن لنعمته في الأرض تظليل
إن كنت بدرا بأفق الغرب منبلجا
فالشرق من لطف ذاك النور مشمول
فاسلم وعزك للأحلاف معتصم
من الرزايا وللأعداء تنكيل
وارع الحنيفية البيضاء معتصما
بالحق والله بالتوفيق مسئول
وقلت في الأستاذ الشيخ محمد عبده أهنيه بالأضحى:
هل الدهر إلا ذا النهار وضده
يعاود كلا منهما الدهر نده
يدور فمن أي الجهات ابتدرته
وتابعته تبدا به وتحده
ولا خير في يوم يمر على الفتى
إذا لم ينل فيه ثنا يستجده
فليست حياة المرء إلا شهادة
على فضل مولاه فيظهر مجده
إذا كان لا يختار تمجيد ربه
فإن الإله اختار ما فيه نكده
وإلا ففي دار الفناء ثناؤه
مقام وفي دار السعادة خلده
وحي غدا في ما سوى الروح ميتا
لقد حل عندي حيثما حل وأده
ومن كان لا يؤتي الجماعة نفعه
فإغفاله فيها سواء وعده
لعمرك ليس العمر في المرء عيشه
ولكن حق العمر في المرء حمده
فأحجى به إجهاد ما بات فاقدا
لإحراز شيء ليس يحسن فقده
فيغنيه عن رغد المعيشة شكره
وليس بمغنيه عن الحمد رغده
كذا السيف معدوم وقد غاب نصله
وليس بمعدوم وغاب فرنده
وما الحمد إلا الجد فهو وراءه
وما الجد إلا الجد فهو معده
وهل قيمة الإنسان إلا فعاله
وهل قدره إلا عناه وجهده
ولولا اشتغال المرء ما ذاع ذكره
ولولا اشتعال العود ما ضاع نده
فأجمل من خضب بكفك شغلها
وأحسن من كحل بطرفك سهده
وأصلح من ذل بنفسك موتها
إذا كنت ممن مورد العز ورده
كذا فلتكن تلك الحياة التي أرى
وإلا فكم سهل على الحر لحده
أود بها خلقا كثيرا وإنما
أود من الأيام ما لا توده
ومنها:
لقد آثر المولى بنعماه آنفا
فلا غرو أن يسعد محمد عبده
هو البدر لكن المعالي سماؤه
هو النجم لكن الفضيلة سعده
هو الليث لكن المحامد غابه
هو السيف لكن المكارم غمده
هو البحر عن كل النقائص جزره
ولكن إلى كل الكمائل مده
محيط بأشتات العلوم جميعها
ففي أي علم جئت يقدح زنده
مجدد روح صار في وسط نزعه
وموضح أمر أقلع اليوم رشده
حكيم فلا تلهيه إلا جواهر
غدا عبرة فيما سواهن زهده
لقد ظل سلطان الكلام بأسره
فأعلامه الأقلام والكتب جنده
له قلم يزري بكل مهند
يصول على العادي به فيقده
له في رهان المكرمات مآثر
كبت دونها قب السباق وجرده
تردى بأثواب المحامد كلها
وفوف من كل المحاسن برده
إلى كل ما يسني الثناء صباؤه
وعن كل ما يؤذي الكرامة صده
أيا من ورودي في البيان معينه
فأصبحت في مدحي له أستمده
تباهي البرايا مصر أنك نجلها
ويفخر هذا العصر أنك فرده
لديك رقيق الشعر يحلو نشيده
وفيك دقيق الفكر يحسن نشده
ويفنى مداد المرء فيك لدى الثنا
وإن يكن البحر المحيط يمده
ومثلك من تبدي المواسم فضله
وفيها مع العليا يجدد عهده
فهنأك الأضحى ولا زال عائدا
عليك سعيدا دائما لك شكده
عليك من المولى يصب سلامه
وفي قلبك الوقاد ينزل برده
ولي تهنئة للشيخ محمد عبده بزفافه في بيروت، وهي بنت ساعتها:
ماذا يحاول مثلي في قوافيه
وإن تكن جمعت كل القوى فيه
من مدح من حين لاحت لي مكانته
من العلا لم أصوب رأي مدحيه
تعنو المعاني لديه وهي صاغرة
كأنها في البرايا من جواريه
تأتي سواه فتسمو فوق هامهم
وتنتحيه فلا ترقى مواطيه
رب المقام الذي باتت تحف به
غر الفضائل تعليه وتغليه
قد حازه والليالي من موانعه
من دونه والعوادي من عواديه
بفكرة ما انتضى في الخطب صارمها
إلا تمكن قطعا من هواديه
أذل كل جماح للزمان بها
ولا حسام ولا رمح يرويه
وإنما الفكر إذ صحت مبادئه
عن الجيوش غدا والله يغنيه
فهو الذي كل رأي منه منبلج
في الروع عن كل فجر في حواشيه
من يكشف الأمر خافيه كظاهره
ويبلغ القصد قاصيه كدانيه
ما إن جلا علمه في مطلب لبك
إلا وأسفر صبحا عن دياجيه
مجدد روح هذا الدين منعشها
من بعد ما بلغت منه تراقيه
من منه دهرك ماضيه وحاليه
مقلد جيده بالفخر حاليه
آلى على نفسه ألا يفارقها
إلا على مبدأ للدين يحييه
فسل نجوم العلا عن شأو همته
والشرق والغرب فاسأل عن مساعيه
لا أختشي إن أقل من ذا يساجله
من ذا يساوره من ذا يساويه؟
إذ ينتضي قلما كالعضب يظهره
على حسام صقيل الحد ماضيه
أو إن يقل كلما تغدو وقائلها
ذا البحر يزري وذي تزري لآليه
فليس تتلو الورى من قوله غررا
إلا ونادوا جميعا جل باريه
نالت فؤادي رغباه فوائده
وبلغتني آمالي أماليه
يا ليت مقدرتي في وصف حكمته
كانت تعادل بين الناس حبيه
فكنت أشعر أهل الأرض قاطبة
إذ بت أهيمهم من فطرتي فيه
لكنني دون ذا مع ذاك معتمد
على مقالة أن الفعل أنويه
إني امرؤ لم تكن تحصى مطامعه
ولم يخل في الورى شيئا ليكفيه
حتى رآه فأمست دون مبلغه
من كل مأثرة صرعى أمانيه
وإنه والذي سوى محمد من
لم أرض عن ناظري حتى أرانيه
فهو الهمام الذي فخر القلوب به
إذا ابتدا اللب يروي عن معانيه
المسترق قلوب الخلق منطقه
إذا أفاض فلا حر بواديه
وقد غدا طالب التأهيل عن رشد
وشيمة الحر تأبى غير أهليه
آتاه ربي من النعمى موفرها
إذ يمنح الفضل ربي مستحقيه
أراه أنجال إنجاب وأسعده
بخفض عيش رفيع الشان ساميه
ومد في عمره ذخرا لملته
بالذود عن حرم الإسلام يقضيه
فهو الذي في الورى غران أنعمه
قد أنطقتني ارتجالا في تهانيه
تاريخ
بارك الله لمولانا زفا
فا قرينا للرفا والولد
جئت فيه اليوم أرخ قائلا
حلت الشمس ببرج الأسد
ولي رثاء لحرم واصا باشا متصرف لبنان، وهي من نظمي يوم كنت في الرابعة عشرة من العمر:
أتنكر نبذ الصبح فيما تحاوله
بعذل وباكي العين جارت عواذله
وتحجو انصباب الدمع ويحك منكرا
إذا دبجت خضر الروابي هواطله
فأرود فأقصر - عمرك الله - واتئد
فأنأى من العنقاء ما أنت آمله
تحاول تجفيفا لدمعي كعامد
لتجفيف بحر محور الأرض ساحله
وإطفاء نار بالحشا مثل من أتى
لظى سقر يطفي الصلا وهو آكله
أيا لائمي في الحزن كلني للأسى
شجيا فقد طابت لدي مناهله
ولا تتعبن أو تعتبن حيث لم أصخ
فهيهات إصغائي لما أنت قائله
عذلت بما قد ظلت تجهل همه
ألا فاعذلني بالذي أنت عاقله
ولو كنت تدري ما الرزيئة لم تلم
ولكنما يستصغر الأمر جاهله
مصاب بدت للموت فيه شدائد
بما لم تكن تدريه يوما غوائله
به ذهب اليوم الردى كل مذهب
كأن الردى لم يدر ما هو فاعله
أزال بأفق المجد شمس فضيلة
تميد بها من ذا الزمان جلائله
عقيلة صون قد أصيب بها العلا
على مثلها مات العلا وعقائله
تعطل خسفا جيد ذا الدهر بعدما
تحلى بها دهرا من الدهر عاطله
مضت فمضى منها إلى الله ممتعا
بنعماه شخص لا تعد كمائله
فقامت لها في كل حي نوادب
لحسن ثناء يفعم البر نائله
ألا إن لبنان الأغر تخضبت
رباه دما مما بكته قبائله
تمثل دك الطور في صعقاته
دمادمه مما تميد معاقله
أمصرعها يوم الثلاثا وقد سرى
بها نعشها كالفلك والدمع حامله
تصعد فيه الناس كل شرارة
بما فيه قد ساوت ضحاه أصائله
فيا قبرها في الحازمية فوقه
غطاء من العفو المهيمن سادله
سقتك شآبيب الرضى كل غدوة
وظل الحيا ينهل فوقك وابله
أراحلة من عالم الموت للبقا
ويا حبذا من ذلك الحي راحله
لك الله بالصبر الذي قد قضيته
بداء مدى السبع السنين يناضله
تخذت الليالي النابغية مألفا
فما شأن طرف حالك الليل كاحله
وتصبر حتى أصبح الداء عندها
أواخره قد سويت وأوائله
فويح الردى كيف انبرى لاختطافها
ولم تدم مذ مدت يداه أنامله
تخرمها لا يرهب البأس من حمى
وزير وفت أسيافه وعوامله
فلم يتهيب للوزير بسالة
تسامت ولم تغن الوزير مناصله
أقام السرايا فوق لبنان تنجلي
فأين السرايا للحمام تنازله
أصيب لعمر الله ليس تفيده
فتيلا على درء المصاب جحافله
ولا غرو فيه من مصاب معظم
فما واثب الضرغام إلا مماثله
وإن الذي جل الزمان بفضله
لأحرى بأن هانت عليه نوازله
لقد جل أن يخشى من الدهر بأسه
بل الدهر يخشاه فليس يعادله
وزير إذا قل الثناء فإنما
شمائله بالإلتفات شوامله
هنيئا للبنان به أن ذكره
يضوع بأذكى ما تضوع خمائله
تولاه واصا حيث واصى أياديا
تواصي الثنا طول المدى وتواصله
فدنياك طرا لا تطع باعث الأسى
فإنك لا يعينك في الخطب هائله
وإن الذي قد صلتته يد القضا
حسام غدت أمر الإله حمائله
فهل في قضاء الله تنجيك حيلة
إذا نصبت للإقتناص حبائله
وهل كل شأن مبتغيه وسائله
يصح به فيما يروم وسائله
فجدلت ذا العدوان بالسيف عنوة
ولكن هذا الموت ليس يشاكله
فعطف على المكروه نفسا فإنه
قضاء عميم مقصدات مقاتله
فمثلك لا يعنو لأثقال نكبة
على أن حزم الرأي إذ ذاك كاهله
ومثلك في لبنان همته انتضت
فوائف ما كانت ترجى أواهله
نشرت لواء العدل فوق هضابه
خفوقا بآلاء غدت لا تزايله
فدمت عليه واليا تسعد الورى
كما دمت جودا فيه يخضر وابله
ولي بعد ذلك تهنئة بزفافه:
أدر لنا راح تذكار الحمى أدر
وصف لنا اليوم مجلى سفحه النضر
وارمق سناوته وانظر سماوته
ترى دراريها تزدان بالدرر
ترى قباب السنا في الأفق صاعدة
على أساطين نور ناثر الأكر
أنعم بها ليلة لبنان تاه بها
وبات يرفل في ثوب من الحبر
جاد الزمان بأهليه بطلعتها
من بعد ظن بها في سالف العصر
كأنما كان منذ البدء حاملها
حتى تمخضها ذا اليوم عن كبر
يزين قبتها نور وساحتها
نور فتزهر بين الزهر والزهر
حتى كأن ضياها امتد متصلا
بيومها وكأن الأرض لم تدر
مشاهد كملت أنوار زينتها
ما بين منتظم منها ومنتثر
يكاد لبنان أن يهتز من طرب
وأن يميس بما يحويه من مدر
عمت بذي البهجة العليا مسرته
جميع أهليه من باد ومحتضر
تأرجت من ثنا المولى الوزير لنا
أرجاؤه بأريج ضائع عطر
هو الوزير الذي ما شئت من وزر
منه على دهرنا ألفيت من وزر
أقسمت ما دام منه الخير منصرفا
إلى العباد فما زند الزمان وري
كنا نحاذر دهرا قبل همته
فالآن نحن وما نبقى على حذر
يرتد عن مجده الوضاح منكسرا
طرف عن الشمس أضحى غير منكسر
بدر ينير على الأقطار قاطبة
بحر سواه جميع الناس كالغدر
مهذب تبخع الجلى لحكمته
يرى ويمضي مضاء الصارم الذكر
مؤيد سنة العدل التي شرفت
ورافع راية الإرشاد في البشر
طافت بكعبته الآمال واعتمرت
وليس إلا البنان الرطب من حجر
إلى مكارمه الآنام واردة
تترى ولكنه ورد بلا صدر
باتت تحدث عن معنى سماحته
وعدل أحكامه الغراء عن عمر
أبدى فأيد أيدي المكرمات بنا
جودا كما كف كف الرزء والغير
أين الرزيئة تجتاح العباد فقد
رمى بها بين سمع الأرض والبصر
له بكل مكان كل مأثرة
غراء معلومة الأحجال والغرر
إذا أفاض على العافي مواهبه
أزرى بغيث من الوطفاء منهمر
وإن سطا بطعان مل من يده
قرى الوشيج وغرب الصيلم البتر
يا من لتأييد علياه وسلطته
تدعو الرعية في الآصال والبكر
بك انقضت غصة الأيام وانكشفت
صروفها بالزمان الأخضر النضر
لك الأيادي على لبنان ترسلها
سحبا على رائح فيها ومبتكر
لكم رأبت له صدعا وكم شعث
لممت فيه وكم قومت من صعر
سقيته الغيث من رغد ومن دعة
كذاك يسقى جديب الأرض بالمطر
فعاد بعد ذوي عيشه نضرا
وشب بعد وضوح الشيب في الشعر
ما إن ترى ماس بين الناس غصن هنا
إلا ولبنان أمسى خير مهتصر
ما لي أعدد ما واصيت من نعم
على حماك وما شيدت من أثر
فمثل فضلك بحرا ليس يحصره
لسان مثلي في ذا العي والحصر
فاهنأ بسعد هداء لا تزال به
مقارن العز والنعمى مدى العمر
تزهو لنا اليوم في تاريخه جمل
فقل تجلى قران الشمس والقمر
ولي للمرحوم حسن أفندي بيهم من أعيان بيروت تهنئة بزفافه، وهي أيضا من أوائل شعري:
إليك التهاني تستحث وفودها
وفيك القوافي يستمال شرودها
وتسلكنا فيها معانيك هينة
إذا استصبحت أقبالها ونجودها
ومنها:
تعاتب عزمي فيك كل خليقة
عليها سرابيل العلا وبرودها
كأني قرضت الشعر قبل زمانه
ليوجب في يوم علي نشيدها
وكنت إذا ما اعتمت صمتي عن الثنا
أكلف نفسي خطة ما تريدها
فإن كنت للحسنى عميدا وصاحبا
فإني مديحا صبها وعميدها
وإن صيغ عقد المدح فيك فطالما
تحلت بك العلياء وازدان جيدها
كأنك من ماء الشهامة منهل
تظل العلا حرى إليه كبودها
لقد شملت منك الجميع بلطفها
شمائل يزري بالشمول ورودها
وقد فزت حظا بالمعلى من العلا
فتقدح نارا في يديك صلودها
حصلت على شم المعالي فلم يزل
بأفق العنان البدر وهو حسودها
صبوت إليها وهي نحوك قد صبت
فلا غرو إن تفتن بحسنك غيدها
غلبت القوافي كلها وسبقتها
وإن يزر بالدر النضيد نضيدها
بهمة مقدام العزيمة لا ترى
عياء ولا وقع الصعاب يئودها
وأخلاق ميمون النقيبة ما يني
يصوب بها غيث الثنا ويجودها
فتى لو أعار الشمس ضوء جبينه
لما ساغ تحت الدجن يوما ربودها
ولو لابس الظلماء نور جنانه
لما احتيج من نور الصباح وقودها
ولو مزج الله الحياة بلطفه
لما احتملت سقم الجسوم جلودها
نشا كلفا بالمكرمات فلم تزل
له نفحات ليس يجحد جودها
إلى الغاية القصوى منازع همه
فأقرب هاتيك المغازي بعيدها
توليه ذات الأروعية نفسه
على عقبات لا يرام كئودها
يهتك أستار المغالق حزمه
لدى معضلات لا ينادى وليدها
إذا اعترضت دهم عوابس في الورى
فمنه لهم مهديها ورشيدها
على ملتقى سبل المعاني تخاله
فمبتدر من كل صوب يصيدها
أمالت له كل القلوب من الورى
مكارم تترى في القلوب قيودها
لقد ألف الإفضال وهو ربيبه
وهل تألف الأغيال إلا أسودها
ولاقت به زهر السعود جدوده
كما تتلاقى في البروج سعودها
رعى الله من يرعى المودة والولا
بباصرة ما يطبيها هجودها
أيا حسنا لم يبق حسنا لغيره
برفعة شأن لم يزل يستزيدها
ويا مخولا لا تاركا طارف العلا
إذا كان أولاك الغناء تليدها
عشقنا معانيك الحسان وإنها
وحقك عين لا يطاق صدودها
تضاحك ثغر الأقحوان ثغورها
وتفضح والله الشقيق خدودها
تباهت بك الأقلام أنك ربها
وأنك مطبوع المعاني مجيدها
ومنها:
فخذها من الشعر العراقي غادة
تناهت إلى ماء السماء جدودها
على غير عهد بالثناء ولم يكن
حداها إلى ناديك إلا عهودها
وقد أنقذتها نحو مدحك همة
تجاذبها إقدامها وقعودها
أخا الحسن فاهنأ بالزفاف الذي زها
ودامت لك الدنيا وأنت سعيدها
ودم بهنا هذا القران ممتعا
قرينك من هذي الحياة رغيدها
بقيت بقاء الدهر فخرا لأهله
وخلدت لو نفس يرجى خلودها
ولا زلت بدر الشرق ما ذر شارق
وما طلعة الإصباح لاح عمودها
ولي ثناء على جمال بك نجل رامز بك قاضي بيروت لذلك العهد، وكان من أفذاذ القضاة في العدل والنزاهة:
ليس من يملأ العيون جمالا
غير من يملأ القلوب كمالا
وأخو العشق ذو الهيام الذي قد
تخذ الليث في هواه الغزالا
يا جمالا عشقت منه خصالا
لست أرجو لغيرهن وصالا
زادك الله رفعة ويقيني
بكمال إذا رأيت الهلالا
جمعت فيك يا جمال معان
يتمنى المديح منها المحالا
أوما فيك ذلك العزم ما وج
ه يوما إلا استخف الجبالا
يسبق القول منك فعل إذا ما
سبق القول في الأنام الفعالا
يابن من قصر الأماثل طرا
أن يرونا لذاته أمثالا
نجل قطب الزمان عدلا على الإط
لاق لم يبد نده الدهر حالا
لست أبغي وصفا لما أنت فيه
أنا ما إن أطيق هذا المجالا
لا ولا شكر ما محضت من الود
صديقا تراه باسمك آلى
مكرمات ورقة وذكاء
ذي المعالي فليعلون من تعالى
وزمان يظل ينشد عنها
هكذا هكذا وإلا فلا لا
وكتبت إلى صديقي أيوب أفندي عون مدير مدرسة الكاثوليك في حلب الشهباء:
حتام تجذبني القدود وأجنح
ويصدني عنها الصدود وأجمح؟
ويهيجني سوق الحسان وأدمعي
أبدا على سفح المعاهد تسفح
غاضت دموعي بعد فيض شئونها
وعهدت عين الدمع ليست تنزح
وبقيت فيما بين لذع صبابة
يكوي وبرح دائم لا يبرح
أحيي الليالي آملا أن تنجلي
صبحا وليس بأمثل ما تصبح
إن كان يوحشني الظلام لذي النوى
فالهجر في يومي لعيني أوضح
ولقد أتوق إلى الكرى فلربما
طيف الحبيب بزورة قد يسمح
فلئن يكن ذاك الغزال محرما
وصلى فحسبي في الكرى ما يسنح
يا ليلة بالجزع تجزعني بها
نوحا وراقي الأيك مما تصدح
باتت تذكرني ليالي بينها
كنا وكان المنحنى والأبطح
ما بين هاتيك الظباء سوانحا
تمشي بحبات القلوب وتمرح
باتت تتيه بها العقول إذا بدت
تيها كبانات النقا تترنح
من كل مياس أغن إذا انبرى
فالعقل يعقل والنواظر تطمح
يلهو ويجرح في النهار وإنما
قد ظل يجرح مهجتي إذ يجرح
يا من يعذبني ويحسب أنني
لعذابه طول الزمان مرشح
يسطو علي ولا يرق فعنده
قلب ولكن بالحديد مصفح
دلهتني في ذا الغرام فها أنا
قيس ولكن بالفراق ملوح
فإلام تهجرني وقد كاد الصبا
يذوي ورطب غصونه يتصوح؟
ما كنت أيوب الصبور وإن يكن
بالصبر معنى اسمي بفارس يشرح
ذاك السمي الباهر الشيم التي
أخلاقه بالأروعية تطفح
المشبع العقل الذي أخلاقه
غر الوجوه حسيبة لا ترجح
الواسع الفضل الذي لثنائه
في كل خلق من علاه مفتح
الناصح الجيب الذي آثاره
عن حسن ما يطوى عليه تصرح
يثني عليه بالوفاء وإنما
تمديحه بوفائه لا يمدح
حر تفتح للوداد فؤاده
وكلامه عند الثنا يتفتح
فهو الذي إن ضاق في الخلق الولا
ففؤاده بالود مغنى أفيح
وإذا تزحزح ركبه عن أرضنا
فهو الذي في العهد لا يتزحزح
لا غرو إن شط المزار فإنه
قلم اللبيب بكل مسك ينفح
سمح القريحة في رهان قريضه
يجري كما يجري الجواد الأقرح
تلقاه يرعف في الطروس يراعه
كالسيل في بطن الجوا يتبطح
ويخوض في لجج الفنون ويجتني
دررا بها صدر الزمان موشح
تزهو جنان العلم بين سطوره
إذ كل ما فيها لعين مسرح
غرر تترجم عن علو مقامه
ولعلها من كل مدح أفصح
يا صاحبا سمح الزمان ببعده
وببعده وجه الزمان مكلح
لا بدع إن تبعد وأنت عزيزه
فالدهر يبعد في الورى ما يمنح
أثويت في الشهباء أفسح منزل
لكن محلك في فؤادي أفسح
وقلت في رثاء لأحد الأعزة، وهي من أوائل نظمي:
هي الأحكام يصدرها القضاء
فليس لمبرم إلا المضاء
ولا ينبو حسام الموت مهما
أتيح له على الخلق انتضاء
لقد عم الردى كل البرايا
ومات الناس حتى الأنبياء
وأصبحنا رعايا للمنايا
علينا من ولايتها لواء
ألسنا الخلق غايتنا زوال
وعنصر خلقنا طين وماء
وسفر مراحل وذوي حياة
لها بالويل ختم وابتداء
نهل إلى البكاء متى ولدنا
ويصحبنا إلى الرمس البكاء
ولا نرجو بذي الدنيا بقاء
ألا إن البقا منا براء
حياة كانسياب الطيف مرا
بدنيا للفناء هي الفناء
إذا كانت نهايتها خفوتا
فأطولها وأقصرها سواء
يغر المرء منها ورد عز
يخال به السعادة وهو داء
موارد علقم تبدو عذابا
كذا الدنيا وما فيها رياء
يدير الدهر فينا كل كأس
لنا من صرف خمرتها انتشاء
ويرهقنا من الأرزا ببطش
تقصر دونه الأسل الظماء
يمزق في البرية كل شمل
فيصبح مثلما نثر الهباء
ويهدم للمعالي كل ركن
فيشمله بأيديه العفاء
كذا قضت الليالي من بنيها
بألا يستتب لهم هناء
لعمرك في البرية أي أم
على أولادها منها اعتداء
فوا عجبا لضاهدة لديها
أواصر ما بهن لها اعتناء
لقد آلت رعاها الله قدما
يمينا أن تسر بما نساء
تفجعنا بكل فقيد فضل
عليه يلطم الوجه العلاء
لقد كانت تتيه به المعالي
وكان عليه من شرف رداء
رويدك أيها المنعي نعيا
به تنعى المكارم والرجاء
ويا مترحلا مهلا لعمري
فداك الناس لو صح الفداء
ورد حمامك الآسون لكن
دوي الموت ليس له دواء
تناديك الفضائل وهي تبكي
ولكن ليس ينفعها النداء
وكم جفت عليك شئون دمع
بعين لم تجف لها دماء
ألا من مبلغ الإفضال عني
توفي ندبه وله البقاء
فإن يجزع فليس عليه لوم
كذا تبغي الصداقة والولاء
وإن يصبر فذاك على فقيد
بنشر حياته كفل الثناء
أغر أبر سمح الخلق كانت
تصرفه السماحة ما تشاء
عليه مدت التقوى وشاحا
وشد به مناطقه الصفاء
إذا أم العفاة ندى يديه
فكم يعرو الحيا منه الحياء
حوى غرر الخلال وكل حر
له بسني شيمته اقتداء
فتبكيه المفاخر والمعالي
وتندبه الطلاقة والسخاء
وظل ثناؤه في القوم طرا
يضوع ولا كما ضاع الكباء
فإن يك فارق الدنيا مجدا
فأثوته مراقيها السماء
لينعم باللقا أبدا وفيها
يكون به احتفال واحتفاء
فيا أنجاله الأنجاب مهلا
عزاءكم وإن عز العزاء
ولست أزيدكم حبا بصبر
جميل برد لابسه بهاء
ولا راع البلاء لكم قلوبا
ولكن في البلاء لكم بلاء
ولا يبكي على من فات دنيا
ليخلد في النعيم له ثواء
فيا صوب الحيا باكر ثراه
فمنه طالما سح العطاء
وزر جدثا بقرب البحر تعثر
على بحرين بينهما اللقاء
هنالك غيب الأقوام شهما
وغيبت المروءة والوفاء
ويا ذاك الفقيد اذهب فحاشا
مقامك أن يقوم به الرثاء
عليك سلام ربك ما توالى
صباح منذ يومك أو مساء
ومن كان الصلاح له ابتداء
فبالأجر الجزيل له انتهاء
وكتبت مجيبا صديقي الطيب الذكر أيوب أفندي عون:
ما لذات الوشاح جاءت تبختر
والضواحي بردنها تتعطر
تقتل الصب بالرنو فيردى
وتلافيه بالدنو فينشر
غادة في خدودها جنة لل
عين، والثغر للمراشف كوثر
تخجل البدر طلعة حين تبدو
تفضح البرق مبسما حين تفتر
جردت من قوامها كل رمح
وانتضت من لحاظها كل أبتر
كلما أسلمت لحديه روح
صاح يا مسلمون الله أكبر
ما انثنت أو رنت لعمري إلا
حاربتنا بأبيض بعد أسمر
دمية بيعة النفوس أحلت
ما رآها الحنيف إلا تنصر
تتجلى عن جبهة وضحاها
فلهذا منها سنا الشمس أسفر
ذات وجه إذا تلاها منير
ذات ثغر عن مثله صل وانحر
وصلت بعد هجرة فأقامت
من هوانا كمقلة من محجر
آنستنا حتى إذا ما ائتلفنا
فتكت فتكة الرشيد بجعفر
إنما الحب مثلما قيل قتل
وارد الحب ما له من مصدر
ما لنا نعشق الحسان وندري
أن حمر الخدود موت أحمر
ويح قلبي يهيم في كل واد
وهو يسعى ورا الظباء النفر
تستبيه بكل ألعس أحوى
أفلج تحت كل أدعج أحور
ومنها:
مالك للقلوب في دولة الحب
غدا داعيا له كل منبر
هو كسرى الملوك لحظا ولكن
فعله بامرئ الهوى فعل قيصر
لا أزال الإله دولته الغر
ا، وإن كان قد طغى وتجبر
إن في ظلها رعايا معان
نصرتها في الفتك نصرا مؤزر
جالد الثغر كل قلب إلى أن
فتقت ريح ذا الجلاد بعنبر
ورمى الوجد كل صدر بنار
وغزا الحب كل نفس بعسكر
إن سهم العيون ينفذ في الصد
ر ولو ألبس الحديد المعصفر
موطن عنده يهي كل عزم
ويولي قذاله كل مسعر
ينفد الصبر فيه من جعبة الصد
ر لعمري حاشاك بل أنت أصبر
يا عجيب الذكاء يا نادر المث
ل الذي ظل للعجائب مظهر
أنت والله من كنوز الليالي
أبرزتك الأقدار كلك جوهر
كيف نحكي علاك يا كامل العد
ة إذ نحن في مجالك حسر
يطرب الشعر منك أحسن ما يط
رب صوت الخلخال في ساق أعفر
130
يا لك الله من أديب إذا ما
عد يوما فغيره ليس يذكر
بينه في الذكا وبين سواه
فرق ما بين أميل ومكفر
جاءني منك يا خليلي كتاب
لا تسل كم سرى كروبي وكم سر
طالما اشتاقه فؤادي حتى
ضاع منه فتيق مسك أذفر
ما كفى يا فريدة العقد حتى
أصبح اليوم أكتب القوم أشعر
ما ترى في فتاة خدر سبتني
بمعان بها المدارك تخدر
بطراز من الفصاحة أزرى
صنع صنعاء وهو وشي محبر
أنت يا معدن اللآلي الغوالي
مثل ذا الدر منك لا يستكثر
جئت تثني على بياني وفضلي
ذاك تالله أنت أذكى وأمهر
قد كفتني منك الشهادة في إث
بات من قال بالخلاف وأنكر
وبعون الإله يا صادق الأف
عال قد رد شانئي وهو أبتر
قل لمن رام ستر فضلي بغضا
لم تكن شمس ضحوة لتستر
إن لي كل طعنة في مجال
عفرت عارض العزيز الأصعر
لي من الحزم جنة ودلاص
ومن العزم لأمة وسنور
وبكفي من المضاء حسام
وعلى هامتي من العز مغفر
لا ترى من يريد بي السوء إلا
واقعا تحت ظفر ليث مظفر
منذري يفي النذور إذا أن
ذر يوم اللقا أطاح وأندر
قيل في اسمى ليث صبور لعمري
لا يكون الصبور إلا غضنفر
لست ممن يقول شيئا فريا
أنت في كنه حال خلك أبصر
ولكم كنت للضعيف معينا
وكما قلت لي مجيرا لمعشر
إن يكونوا بي استجاروا فمني
يستظلون تحت لبدة قسور
يا صديقا نأى على متن شهبا
ء سبوح من الجياد الضمر
إن أرم ترك ذكره فهو أشهى
أو أرم ذكر فضله فهو أشهر
ولعمري من كان بالسعي أجدى
فهو بالذكر والمدائح أجدر
إن شوقي إليك جم ولكن
جم عتبي عليك أوفى وأغزر
أين كتب الأصحاب تطلع تترى
مثلما يحتسى السلاف المكرر
هل نسيت العهود؟ هيهات ما كا
نت عهود ما بيننا العمر تخفر
يا رعى الله عيشنا سابقا والد
هر ولى بذيله يتعثر
تلك أيامنا تقضت سريعا
كخيال المنام ليلا إذا مر
كم رشفنا كأس السرور دهاقا
وهصرنا غصن الصبابة أخضر
جمع الله لي بكم عن قريب
خير شمل بجاه طه الأزهر
واقترح علي الرثاء الآتي لأحد الأعيان الفقهاء:
أعلمت من فجعت به تلك العلا
وسألت أي رجالها صدع البلا
حتى اكتست ثوب السواد لفقده
وتناوحت بالندب نوحا ثكلا
وعرفت من لبنان أي شيوخه
غال الردى حتى أميل وزلزلا
من كان أسبق قومه فضلا ومن
قد كان صدر ذوي المآثر محفلا
من كان نبل القصد في أعماله
شرعا وكان القصد فيه منهلا
من كان أمضى همة من صارم
في كف مخترط وأفتك مقتلا
من كان في عزماته في جحفل
أمسى يفل من الحديد الجحفلا
من كان في حزم النهى في حزمة
تزري مطاعنها الرماح الذبلا
سبق الرجال إلى المآثر فاعتلى
شرفا وبرز مجده فتأثلا
وقضى زمانا بالسداد ورأيه
في الفقه لا يرتد إلا فيصلا
وقضى حقوق المجد إذ لم يعتزل
إلا وقد بلغ السماك الأعزلا
حتى قضى والموت فينا سنة
وسيوف مدرجه رواتع في الطلا
جار القضاء على القضاء بموته
لو لم يكن بين الخلائق منزلا
فهو الذي أحيا رسوم الشرع في
لبنان تنسف سوحه أيدي البلا
وهو الذي في ما مضى غرس المنى
فجناه أهل زمانه مستقبلا
عمت فواضله البلاد كأنما
قد كان منها بالفلاح موكلا
رن الزمان بذكره، وبفضله
حفلت مغاني العلم وامتلأ الملا
هو راجح العقل الذي من عقله
وثباته بنت الحصافة معقلا
رب البيان البين اللسن الذي
قد كان أذلق من سنان مقولا
رحب الذراع إذا الجدال تدافعت
أفواجه ترك الخصيم مجدلا
ما كان يقصر في السماح تفضلا
يمتاح منه ولا يرد مؤملا
يا قاضيا بات القضا من بعده
يبكي وجيد المكرمات معطلا
من عاش دهرا لا يشق غباره
فضلا وكان بناره لا يصطلى
وليت عن دار الفناء إلى البقا
فوليت في الدارين وضاح الولا
والناس ركب سائرون بمهيع
للموت يتبع الأخير الأولا
يسعون للأخرى وتلك حقيقة
مذ كونت هذي مجازا مرسلا
والمرء رهن كوارث ما تنقضي
تلقي عليه كل يوم كلكلا
والنفس تملأ جسمه فإذا مضت
وجدت مضيق لهاته متسهلا
لا تخدع الدنيا اللبيب فكلنا
بتنا على حكم المنية نزلا
فاذهب عليك من الإله تحية
تجني بها ثمر النعيم معللا
تحدى السحائب في السما حتى إذا
بلغت ثرى مثواك سحت هطلا
وقلت أرثي العلامة الشيخ الإمام محيي الدين اليافي الشهير تغمده الله برضوانه:
أحقا علينا الدهر دارت دوائره
أما إنه للدين صارت مصائره
فشد على الإسلام ذا اليوم ريبه
بخطب وكانت لا تعد كبائره
ألا إنه الدهر المصرح باسمه
بأن لا فتى إلا غدا وهو داهره
بواتره فينا مجردة وما
بواتره والله إلا بوائره
لها كل يوم في البرية فتكة
تناديك لا منجاة مما تحاذره
فكم ملك ضخم تخطفه الردى
قساوره من حوله وأساوره
تخرم كسرى كاسرا حد بطشه
وقيصر أردى ما وقته مقاصره
وما زال يفني كل عز يؤمه
ببأس ويلقي كل قرن يساوره
هو الموت من ذا دافع مبرم القضا
إذا الواحد القهار وافت أوامره
فسبحان من تعنو الوجوه لوجهه
ولا حي إلا وهو بالموت قاهره
دعا اليوم محيي الدين نحو جنابه
يقربه من قدسه ويجاوره
سرى نعيه في كل حي ففي الورى
تعازيه لكن في الجنان بشائره
وباتت شئون الدين تجري شئونها
على فقده والفقه تدمى محاجره
وكل امرئ يبكي عليه دما فما
عواذله في الحزن إلا عواذره
لعمرك ما للشرق ذا اليوم أقتمت
مشارقه واليوم أظلم ناظره
وللدين وجد ليس تطفأ ناره
وللشرع طرف ليس يقلع ماطره
أصاب بني الإسلام خطب عرمرم
بذا اليوم فالإسلام تبكي منابره
لقد كان فيه الشيخ ركنا مشيدا
وكانت طلاع الخافقين مآثره
فطبق آفاق البرية ذكره
وسار به بادي الزمان وحاضره
إمام بأفواه الجميع علومه
وبحر بأعناق الجميع جواهره
مبارك خلق طيب الذكر عابد
مهذب طبع مشرق الوجه سافره
بقية ذاك السالف الصالح الذي
بأمثاله الأقطاب جلت ذخائره
قد ارتفعت أسراره وتطهرت
له سير غر حكتها سرائره
وأصبح في أيامه علم الهدى
تعم البرايا بالضياء منايره
تداعت بيوت العلم يوم وفاته
وخر عماد الفضل وانهد عامره
وراح عليه الفقه يلطم وجهه
إذ انتكثت مما دهاه مرائره
ولم أدر أن الصبر تفنى دروعه
إلى أن قضى والعزم تفري مغافره
فقد فرغت من كل باك دموعه
كما نزفت من كل راث محابره
ترحل عن دار الفناء إلى التي
بها عيشه في الخلد تجري كواثره
فقد دك طود باذخ المجد شامخ
وغيض بحر زاعب الفيض زاخره
وأغمد سيف صارم الحد باتر
وغيب بدر ثاقب النور باهره
سلام على قبر تضمن تربه
فذلك لحد ساطع العرف عاطره
سقت تربه الوطفا ولا برح الحيا
يراوحه في رجعه ويباكره
وما الموت إلا مسلك عم نهجه
وجسر جميع الخلق لا بد عابره
وما المرء إلا ميت وابن ميت
ومن بدؤه الميلاد فالموت آخره
وكتبت إلى أحد الأدباء:
ما بين غزلان العقيق وبانه
حرب بها بطل الهوى كجبانه
حرب تضرم بالحضيض سعيرها
وعجاجها بالجزع فوق رعانه
ومنها:
عبثت بعشاق العقيق وأوغلت
فدماؤهم تربي على غدرانه
لم يرهبوا بأسا لقاء أسوده
فأبادهم حتفا لقا غزلانه
يا زائرا تلك الربوع وسائرا
بعراصها الفيحاء في ركبانه
إن تنزلن سفح العقيق فأشرفن
واسفح عقيق الدمع مع عقيانه
وتأملن صنع الهوى بفريقه
فإذا رضيت فبعد ذلك عانه
سبحان من خلق الفؤاد وطامه
أبدا على حب الحمى وحسانه
وأعز سلطان الهوى حتى غدت
أسمى ملوك الأرض من عبدانه
رقا كما رق القريض لمن غدا
بالألمعية مالكا لعنانه
الشاعر المتفنن الندب الذي
يروي حديث النظم عن حسانه
ومنها:
هذا أبو الفضل الذي لا بد أن
يمسي ببقعتنا بديع زمانه
وافى وما انصاح النهار بليله
زمنا فحل الصدر من إيوانه
يلهو بأنواع الفنون ويحتسي
من عصر من سلفوا سلافة حانه
وله الرقائق في الكلام يجيدها
نظما يسلي المرء عن أشجانه
قد أبرزته قريحة سيالة
تزري بصوب المزن في تهتانه
يا سامعا عنه البدائع معجبا
مهلا فليس سماعه كعيانه
إن سرت في الوطن العزيز فأشملن
وانزل بذاك السفح من لبنانه
في معلم كالروض في حسناته
تجنى ثمار الخير من أفنانه
فانزل على سعة برحب فنائه
وانظر مآثر من عجبت لشانه
وقلت أرثي الطيب الذكر العزيز سليم أفندي البستاني صاحب جريدة الجنة ومجلة الجنان، وكانت وفاته سنة 1885 وكنت ابن 15 سنة:
الدهر أفتك فارس بطراده
أبدا وأكثر فتكه بجياده
يخنى فإن قصد الفتى لم ينتفع
بمضاء صارمه وطول نجاده
ومنها:
يسطو على المرء المنى بعد العنا
قسرا فماذا النفع من إيجاده؟
يرث الفناء وقد يرى من لم يرث
شيئا سوى ذا الموت عن أجداده
لا يشفعن بالمرء غض شبابه
عند الحمام ولا ذكاء فؤاده
البين يخترم الجميع وليتما
قد كان كل البين بين سعاده
بين كفى الدنيا نعاب غرابه
وبه كفى متشائما بسواده
يردي الحبيب وخله متقلب
في مضجع أهناه شوك قتاده
متعرضا بالنائبات الغبر في
إصداره أبدا وفي إيراده
يا أيها البين المفرق بيننا
إذ فيه معنى الدهر في استبداده
الدهر أنزق شيمة من أن يرى
بالحزم ذا بقي على أفراده
ما زال يفجعنا بهم حتى غدا
شرف الفتى بين الورى بمعاده
فلبئس عيش بات مخترما به
مثل السليم رزيئة لبلاده
ولبئس إفضال ومجد بعده
ولبئست الأيام بعد بعاده
من هز هذا القطر فاجع فقده
حتى تفطر فيه قلب جماده
وسطا على الصبر التفجع بالغا
سيل الأسى الطامي ذرى أطواده
وتوفيت آمالنا من بعده
ما الدهر يحييها إلى آباده
الأروع الشهم الذي بعلومه
وجدائه كالبحر في إزباده
الطائر الصيت الرفيع مقامه
والباهر الحسنات في إسعاده
من كان بابا للرجاء مبلغا
في الخطب من يرجوه شأو مراده
وقف الحياة لخدمة العلم الذي
قد كان حقا باسطا لمهاده
فقضى بعيد أبيه
131
في أجل أبى
إلا اتصال حداده بحداده
أسفا عليه وكان ركنا للعلا
وقوامها بطريفه وتلاده
أيام باهر مجده يذر السهى
وكواكب الأفلاك من حساده
أيام لا تلقاه إلا جاهدا
ومجاهدا في العلم حق جهاده
أيام إن صعد المنابر خاطبا
تهتز من عجب ذرى أعواده
يا راحلا عنا رويدك إنما
من سار لم يندم على إرواده
مهلا لتبصر حال من غادرتهم
وترى قضاء الله بين عباده
من كل من تخذ السهاد سميره
وأقام نواحا على تعداده
من كل من نظم المراثي جاعلا
من ذوب عينيه سواد مداده
غادرت ذكرك في الورى لا نافدا
بل تنتهي الأيام قبل نفاده
فاذهب إلى مولاك يا من قد قضى
والشكر للرحمن أكثر زاده
وقلت مجاوبا أحد الأدباء:
أخف ما نال مني الطرف ما أرقا
وخير ما سر مني القلب ما خفقا
ونزر ما كادني ذا الدهر جور نوى
أصابني بسهام تخرق الدرقا
طمعت بالوصل مشتاقا فماطلني
وجد ركب التنائي بي فما رفقا
ما إن دنت من فؤادي منية قصدت
إلا وسد لها من دوني الطرقا
كأنما حلف الدهر الخئون بأن
يحول بين فؤادي والذي علقا
ورابني صرفه فيما يعنتني
أن كيف خلف لي من بعده رمقا
لله أي نسيم ليس يذكرني
وأي ساجعة لم تجدني قلقا
يميل قلبي وقد لجت نوازعه
ما ميلت نسمات الفجر غصن نقا
يا غائبا مخلصا لي في مودته
ولست أعرف منه غير ما نطقا
فدر درك من خل سما خلقا
لأنت أفضل من في وده صدقا
تفدي القلائد آثارا له سبقت
إلي والفضل لا يخفى لمن سبقا
لا غرو إن أرها من قبل صاحبها
إني أرى الصبح لكن قبله الشفقا
لله من صاحب صغرى محامده
مودة محضت لا تعرف الملقا
مهذب إن بدا منه الثناء ففي
شريف أخلاقه روض الثنا عبقا
أهدى إلي قريضا من طرائفه
يوما فقلد مني الصدر والعنقا
كالبدر متسقا والدر منتسقا
والصبح منبثقا والغيث مندفقا
شعر لكل اختراع جاء مفتتحا
من بعد ما كان هذا الباب منغلقا
سحر لقد لعبت بالقوم فتنته
بلا طلاسم تخفي سره ورقى
جازيك من شاعر إن تستجده إلى
نظم مضى فيه مثل السهم إذ مرقا
إذا انبرى في مضامير البيان غدت
جياده في المعاني تركض الرهقى
يرق في النظم حتى يسترق به
ويسترق إذا ما جاء مسترقا
لبيك يا خاطبا مني الوداد ترى
مني فتى ما درى نكثا وما مذقا
قد طالما سمعت أذني وما نظرت
بواصري فليفاخر مسمعي الحدقا
فإن عرفت فإني ناظر ثمرا
لكنني لم أصب عودا ولا ورقا
يا قاتل الله حظي والفراق هما
على مناصبتي دهرا قد اتفقا
فهل أرجي من الدنيا الصلاح ولم
تزل وفيها غراب البين قد نعقا؟
لكن على المرء عرك الدهر طاقته
ولو تحمل ذو الهمات كل شقا
حب السلامة يثني عزم صاحبه
فإن جنحت إليه فاتخذ نفقا
132
وقلت وأنا في المدرسة - وهي من أوائل نظمي - في العلامة الطيب الذكر المطران يوسف الدبس مؤسس مدرسة الحكمة التي درست بها:
أبدر بدا أم سنا باهر
وعطر سرى أم ثنا عاطر
أم انبلجت غرة العيد حتى
تزاهى بها وجهه السافر
وفتق فيه نوافج مدح
أريج العطايا به ذافر
فأنعم به عيد يمن جلا
هموم الورى بشره الظاهر
وأنساهم اليوم نعماه ما
يعنته أمسه الدابر
فلا الخلق في دهرهم ضاجرون
ولا الدهر في خلقه جائر
فهل غفل الدهر في العيد أم
تغافل عن أنه داهر
مآثر طابت بهن النفوس
جميعا وقر بها الناظر
تبدد جيش الهموم بها
لدى كسرة ما لها جابر
أغار عليه سرور الورى
وسعد السعود له ناصر
وليس سوى هزة عامل
وليس سوى بهجة باتر
وليس سوى نعمة سابح
وليس سوى منة ضامر
فأين النكال الأكول الذي
توعدنا الزمن الفاجر
إذا كان يأتي على سالف
بلاه ويسطو له غابر
فقد صار يأتي عليه الذي
جناه ويعنو له حاضر
ألا والمعالي وبيض العوالي
لئن ناصب الحادث القاهر
فلسنا ولسنا بمن يحذرون
إذا الذمر من حادث حاذر
وإنا وإنا لقوم إذا
فخرنا فما في الورى فاخر
نباهي الملا كل يوم بما
حباه بنا السيد الطاهر
عوارف بحر لها نائل
معارف عض لها آثر
فضائل بر لها مادح
فواضل حر لها شاكر
تظل البرايا تنول من
نداه الذي ما له آخر
منائحه غبطة المعتفي
مدائحه المثل السائر
فليس لأفضاله جاحد
وليس بنعمائه كافر
مديد النهى قوله كامل
طويل اللهى طوله وافر
حقيق بتمديح كل الورى
على أن كل ثنا قاصر
فكم بت أنضي له خاطري
فما ظل أن خانني الخاطر
وما زلت عن وصفه عاجزا
على أنني المدره الشاعر
ألا دمت بالخير مستمسكا
ينار بك الوطن العامر
سعيد الجدود جديد السعود
يغار لك الفرقد الزاهر
وقلت فيه وأنا في المدرسة:
لمن يا مي هاتيك القباب
على جبل تضل به الشعاب؟
أشيم خلالها يا مي برقا
فهل جادت بطلعتها الرباب؟
قباب تسطع الأنوار فيها
ويسطع في جوانبها الملاب
قد استنكهتها فنشيت عرفا
يضوع كلما مرت كعاب
تقوم علا على سمر العوالي
ويحرسها من البيض القباب
وترمي للمطل على حماها
سهاما فوق ما حوت الجعاب
غدت لظبائها وظبى ذويها
قلوب القوم تخضع والرقاب
لعمري نعم حي أبيك حيا
كما وصفت بمنعتها العقاب
وأبناء لأمك من نزار
كأسد البر أحذرهن غاب
كماة تسبق الأرواح شدا
سوابح تحتها الخيل العراب
لهم غرر مواطن صادقات
وغارات تميد بها الرحاب
يخوض فتاهم الغمرات حربا
ونيران القتال لها التهاب
ويرجع بالغنيمة بعد صدق
وليس غنيمة البطل الإياب
يطول وليس يجهضه خطار
فينكا أو يغيبه الغياب
يذوق عذاب بدء الأمر لكن
عواقبه لمورده عذاب
تقابلت الأمور فكل مر
يعاقبه اللذيذ المستطاب
ولولا المر لم تشعر بعذب
ولولا العذب لم يشعرك صاب
وكل صعوبة فلها سهول
وكل سهولة فلها عقاب
أما لو لم يكن طرفا نقيض
لما قيل: الخطاب له جواب
وأفضل ذي شروع من تراه
يقارن غب مبدئه الصواب
ومن طلب الصواب ولم يقابل
وجوه الأمر أعجزه الطلاب
ومن عدم الصواب وقد نحاه
بأحسن ما يجد فلا يعاب
ومن خاض العباب بقصد ربح
فإن الدر ما ضم العباب
ومن حسب الحياة مدى طويلا
يكذب ظنه الأجل القراب
إذا ولى شباب المرء يوما
فليس يعيد صبوته الخضاب
ألا ليت الشباب يعود يوما
تقول وإنما ذهب الشباب
فلا يشغل فؤادك في شباب
عن العمل السماع أو الشراب
ولا يقعدك عن عمل فراغ
ولو لم يعقب العمل اكتساب
فإن السيف طبع الهند يصدا
إذا ما طال يخبؤه القراب
وإن المرء إن يلزم سكونا
تولى هيكل الجسد الخراب
سيعلم كل من عرف المعالي
بأن الشغل للعليا نصاب
ومن في طوقه أمر فعيب
لدى إجرائه فيه ارتياب
ومن أضحى لأمر غير كفء
فأليق ما يليق به اجتناب
ألم تر ما أصاب السحب لما
تبارى كف يوسف والسحاب؟
ولم تر ما أصاب الشهب لما
تراءى وجه يوسف والشهاب
فلا عجب إذا ما نال فوقا
ففضل الله ذاك ولا حساب
به راجت من العلياء سوق
وعز به من الحسنى جناب
وقد زهرت زناد العلم لما
به عن شبهة رفع الحجاب
وقد نلنا رغائبنا وكانت
أمانيا كما لمع السراب
غدا من عصبة الأفراد فضلا
بما يغدو من السيف الذباب
يظل إذا انتحى العلياء يوما
هو السباق ليس له صحاب
لقد جابت مدائحه البوادي
على نكظ وغناها الركاب
فليس لبدر شهرته مغيب
وليس لشمس بهجته ضباب
كأن خلاله إن رمت مدحا
لأنواع الثنا منها انتهاب
أروم به الوفاء فمن قصوري
يقوم بكل بيت لي عتاب
تكل مناطق البلغاء فيه
ولو كانت مناطقنا الحراب
ومنها:
لقد شيدت مدرسة تعالت
على هام السماك لها كعاب
نظمت بها من الأصقاع ولدا
يبلغهم لساحتك اجتياب
ومن يترك لعمرك والديه
إليك فما يعنفه اغتراب
ليهنك بالسلام مرور عيد
ولكن ما لبهجته ذهاب
ولا زالت بك الأعياد تزهو
وعيشك للسعود له اجتذاب
فدم للغوث غيثا مستمرا
وبدرا ليس يدركه غياب
وقلت وداعا لمدرسة الحكمة في ختام سنة 1886 وكنت ابن 16 سنة:
مفارقة والله عز نظيرها
أسير غدا عنها وقلبي أسيرها
تخليت عن قلبي لها غير مكره
ولكن نفس الحر تغلو مهورها
رهنت فؤادي في هواها لمدة
فلم يغن عنه عند نفسي مرورها
فليست ترى للعلق عندي علاقة
وعندي يد لم توف عني نذورها
وإن كان نفلا ما سمحت فإنها
صنائع في رأيي تزاد أجورها
فإني رأيت الفضل فضل زيادة
على حقه يمسي خطيرا نزيرها
وإن المزايا من قليل وربما
لعمري قليل المكرمات كثيرها
فإن كنت لم أوثر على النفس مجدها
فلا أحمد الآثار عني أثيرها
وما الفرق ما بين الكريم وضده
إذا لم يحمل نفسه ما يضيرها
وما الحر من يلوي لضر يمسه
إذا لفحته في الليالي حرورها
ولكن من يقوى وللروع نصلة
يطير فؤاد الفحل إذ يستطيرها
ولكن من يطوي على المر مرة
تظل عليه مستمرا مريرها
ولكن من يغدو وتغدو عزيمة
له مثل حد السيف وهو شهيرها
ولكن من يفري الستور إذا عدت
عليه خطوب لا تزاح ستورها
ولكن من يغشى صدور مجالس
وتغشاه من جرد المذاكي صدورها
ولكن فتى عند الرزايا صبورها
وفي وسط أجوال المنايا ضبورها
ألا في سبيل المجد أن شكيمة
أجيش بها لم يخب يوما سعيرها
وإني حلبت الدهر أشطره وقد
مضت لي كأعوام الرجال شهورها
إذا لم يكن ماء الشهامة منهلي
ولم يهدني نحو الحفيظة نورها
فلا وافقت للمكرمات عقيلة
أخاها ولا صاغ القوافي أميرها
يفجر فيها للقريحة أنهرا
غزارا فلا تخشى المغاض بحورها
وما ذاك إلا أنه متخرج
على ذات فضل لا يخيب سميرها
ممنعة للفضل فيها معاقل
أقام بها الإرشاد وهو خفيرها
مؤسسة أركانها فوق حكمة
مرفعة تعلو السماك قصورها
تميل بأعطاف النجاح خصورها
وتضحك عن مثل الأقاح ثغورها
وتزهو ولا زهو الكواكب في الدجى
إذا في ليالي الجهل تم سفورها
يقر لها من كل بدر تمامه
ويحسدها من كل شمس ذرورها
ومنها:
فقد خولتني نعمة فوق نعمة
وكل إذا عدت فإني شكورها
فألبسني نسج الحبور حبيرها
وأوطأني مهد السرور سريرها
لقد رشحت حلمي فجاءت خلائقي
من الطبع أولاها ولا أستعيرها
ليالي هاتيك المهارق حولنا
يدور بنا دور الأساور دورها
لذاك غدت تحكي بياض طروسها
وإن أشبهتها بالظلام سطورها
مجر ومجرى سمر أقلامنا التي
يهين صليل المشرفي صريرها
ألا حبذا تلك الليالي فإنها
هي الغر لكن ليس يدري غرورها
قضيت بها أنسا كأن لم أفز به
ورشف كئوس لم تحرم خمورها
فما أنس لا أنس الرياض التي جرى
وأوردني ماء النعيم غديرها
ولا أنس أوقاتا قضيت بربعها
ولا صحبة مني كريم عشيرها
فإن يقض بالبعد القضاء فإنه
عذيري منها وهو مني عذيرها
مضت فأمضت مهجتي وكأنما
نظير كرى عيني كان كرورها
فلا تنكرن مني الذي قد شهدته
وجوما بنفس قد تسامى زفيرها
فبي من جوى الأحشاء ما لو جعلته
على قنن الأجبال دكت صخورها
تصعد مني زفرة فتثيرني
وأجهد في إرجاعها فأثيرها
فإن كنت أظهرت الفتور بلوعتي
فرب عيون شب نارا فتورها
أودع مغنى قد قضيت به الصبا
وأرضيت نفسا كالنهار ضميرها
ومارست أعلاما ودارست علية
وآنست أنوارا تماما بدورها
علي لهم فضل بجيدي دره
وكم فتية منهم تحلت نحورها
تحاشيت نفسي من سلو عهودهم
فإن نجارى المنذري نذيرها
فما قصرت إلا وقامت مآثر
من الأصل لا يدرى لعمري قصورها
فذكرها عهد الخورنق شأنها
وإن سدرت ما غاب عنها سديرها
مآثر أجداد جديد فخارها
يذرى وإن طالت خلوا عصورها
على أنه ما تم فضل لأول
بعصبتهم حتى أجاد أخيرها
وقلت، وهو من شعر المدرسة:
أمعلمها بين العذيب وبارق
تغزلت من غزلانه بالحقائق
فديتك ربعا قد ترحل آله
بكل إمام للمآثر سابق
عفا وخلت منه المنازل بعدما
لقد كان زينا للنهى والمناطق
وأقوى وأقوى ما حوى من معاقل
أناخت عليه عاديات البوائق
وأجدب بعد الخصب إذ كان زاهرا
بكل كتاب للفوائد واسق
سلام على تلك الربوع فإنها
رياض المعالي والمعاني الدقائق
لكم قد حوت تلك الخيام عقائلا
يضيء سناها من خلال السرادق
رواشق قلبي عن قسي جفونها
ألا بارك الباري بتلك الرواشق
تبيح لنا ألحاظها حيثما رنت
بسحر بيان صادق كل صادق
وإن خطرت سكرى فمن كل رائق
من اللفظ والمعنى ومن كل شائق
لقد أطلعت من تحت ليل فروعها
هلال محياها بأسنى المشارق
فليل وبدر عندها ما هما سوى
سواد مداد في بياض مهارق
بروحي هاتيك الثنايا فإنها
زهت في رياض الفضل زهو الشقائق
أتلحونني يا أيها الناس ويحكم
على الحب ما أنتم له بالعوائق
ولي أيضا، وهو من أوائل نظمي:
عليك أقمت أسناء الثناء
فأنت أقمت أثناء السناء
جعلت علي حق ثناك فرضا
وقد أحييت لي ميت الرجاء
توقد فطنة وتسيل لطفا
كطبع السيف من نار وماء
وحلمك راجح برعان رضوى
وعزمك كالمهند في المضاء
ومجدك ظاهر فوق الدراري
وذكرك فائق عرف الكباء
بروحي أنت لا وحدي ولكن
فداك القوم من دان وناء
إذا فتشت يوما في عروقي
ترى سريان حبك مع دمائي
فأين تكون يا مولاي مني
لأسني عند منزلك احتفائي
ففي قلبي أعيذك من غليلي
وفي عيني أعيذك من بكائي
لقد أنآك بالقدر التداني
وقد أدناك بالحب التنائي
أرى لك هزة للفضل حتى
طباعك أصبحت مجرى الطلاء
أراك لطفت حتى كدت تخفى
على أبصار مختبر وراء
فلابست الضمائر مثل سر
ولامست الظواهر كالهواء
وكتبت تحت أول صورة فوتوغرافية استخرجت لي، وكنت في الرابعة عشرة:
ونفسك فابدأ بتصويرها
بما أنت من خالد فاعل
وإلا مضى الجسم مع رسمه
ولا يخلد الزائل الزائل
رثائي لحجة الإسلام
وبينما كنا مباشرين طبع هذا الديوان بمطبعة المنار، تحت إشراف صاحبها العلامة الإمام حجة الإسلام السيد محمد رشيد رضا، إذ أصيب العالم الإسلامي كله بفقد هذا السيد الإمام الذي تتعاقب القرون ولا ينسى الإسلام عظمة مصابه - قدس الله روحه - فأنا ملحق بهذه القصائد، التي كانت تطبع تحت ملاحظته، بقصيدة رثاء له، وا حسرتاه عليه! والله يفرغ علينا الصبر الجميل من بعده، وهي:
تحدري يا دموعي بالميازيب
وعارضي السحب أسكوبا بأسكوب
وأدركي كبدا لج الأوار بها
عن مارج في صميم القلب مشبوب
هيهات أي الرزايا بعد ترمضني
وأي داهية دهياء تلوي بي
وأي خطب ملي أن أقول له
يا عمري انفض أو يا مهجتي ذوبي
مضى الذي كان فيه منتهى أملي
ومن نشدت لتعليمي وتهذيبي
ومن عن الأخذ عنه شد راحلتي
ومن للقياه إسآدي وتأويبي
شعرت أن خلت الدنيا بمصرعه
لم يكفني طول تشريدي وتغريبي
فمن أناجيه بعد اليوم في حزني
ومن أرى بثه بثي وتعذيبي
واها على حجة الإسلام حين خبا
ذاك الشهاب بليلات غرابيب
واها على علم الأعلام حين هوى
فلا تصادف قلبا غير منخوب
هوى وكل جبال العلم دانية
عن شأوه فهي منه كالأهاضيب
أين الذي كان إن أجرى يراعته
في أي فن أتانا بالأعاجيب
هذا المصاب الذي كنا نحاذره
نظل نلبس منه جلد مرعوب
من قبل رزناه فقدا غير ذي عوض
وكم حسبناه صدعا غير مرءوب
حتى إذا حل لم تعقد مناحته
إلا على حادث من قبل مرهوب
قضى الإمام الذي كانت مكانته
بين الأئمة في أعلى الشناخيب
لو كان أنصفه الإسلام يوم ثوى
لبات يرفل في سود الجلابيب
كان المقدم في علم وفي عمل
والجمع ما بين منسوب ومكسوب
له شمائل أمثال النسيم سرى
تذكيه نفحة نوار التعاشيب
سمح السجية لا يلوي على حسك
ويكره العفو أن ينأى عن الحوب
لم تعرف الحقد في يوم سريرته
ولا وعى سره شيئا سوى الطيب
كم قد تلقى أعاديه وقد كشحوا
بفضل ذيل على الآثام مسحوب
يلقونه حملا حتى إذا عبثوا
بالدين أصبح كالبزل المصاعيب
هناك لا هدنة يدري ولا خصم
إلا سيأخذ منه بالتلابيب
هناك أعظم بفحل غير ذي نكل
لدى اللقاء وسيف غير مقروب
يصول صول علي في وقائعه
فليس يعرف قرنا غير مكبوب
عدا على عبقر من ليس ذا صلة
معها على الرغم من نعت وتلقيب
فالعبقرية وصف في رشيد رضا
والعبقرية ليست بالأكاذيب
قس كل صاحب فضل مع رشيد رضا
قيس الرهام إلى الطير المناسيب
تسمو المنابر إعجابا بوطأته
لها وتخضع أقواس المحاريب
سبحان من زاده علما وألهمه
تلك البراهين في أحلى الأساليب
رب الوفاء الذي أربى بشهرته
حقا على مثل في العهد مضروب
لم يدر بغيا على الإخوان في زمن
سادت على الجم فيه شيمة الذيب
له المنار الذي كانت تنار به
سفائن القوم في لج التجاريب
مقلة من أصول الشرع أشرعة
تمشي مع العقل تسيار الأصاحيب
كان المنار لحزب الحق معتصرا
يهديهم بشعاع غير محجوب
غدت به ملة الإسلام حجتها
شهباء في حازب منها ومحزوب
جميع أجزائه تأتي على نسق
مثل اطراد العوالي بالأنابيب
فيه الفتاوى التي يرضى الجميع بها
فلا ترى حاجة في نفس يعقوب
تجري بآذان من يصغي لقارئها
لحن السريجي في سمع المطاريب
ما بالمنار ضياء غير مقتبس
وليس فيه هلال غير مرقوب
وكم كتاب له غير المنار غدا
فوق الكتائب في حشد وتكتيب
في كل عام تآليف يجود بها
كالغيث يرسل شؤبوبا بشؤبوب
مواقف لن ترى من يستقل بها
ولن ترى طامعا منها بتقريب •••
سر نحو ربك مبكيا بكل دم
قان على صفحة الخدين مصبوب
وانعم لديه بما قدمت من عمل
وفز بقسطك من بر وتثويب
واترك ثناء كنفح الطيب ليس يني
يملا البلاد بتشريق وتغريب
قد يغلب الحزن أقوام بصبرهم
لكن حزنك عندي غير مغلوب
أبكيك ما دمت في الدنيا وما بقيت
إلا بقية عيش غير محبوب
لي معك عهد فآبى أن أخيس به
حتى أصير إلى لحد وتتريب
الأسيف
شكيب أرسلان
جنيف 24 جمادى الآخرة سنة 1354
Halaman tidak diketahui