Din
الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان
Genre-genre
لا حاجة بنا إلى التنبيه على أن الحياة في الجماعة لا قيام لها إلا «بالتعاون» بين أعضائها؛ وأن هذا التعاون إنما يتم «بقانون» ينظم علاقاته، ويحدد حقوقه وواجباته، وأن هذا القانون لا غنى له عن «سلطان» نازع وازع، يكفل مهابته في النفوس ويمنع انتهاك حرماته.
تلك كلها مبادئ مقررة، والحديث فيها معاد مملول.
وإنما الشأن - كل الشأن - في هذا السلطان النازع الوازع، ما هو؟
فالذي نريد أن نثبته في هذه الحلقة من البحث هو أنه ليس على وجه الأرض قوة تكافئ قوة التدين أو تدانيها في كفالة احترام القانون، وضمان تماسك المجتمع واستقرار نظامه، والتئام أسباب الراحة والطمأنينة فيه. (2) الإنسان أسير فكرة وعقيدة لا كما يزعم كارل ماركس
السر في ذلك أن الإنسان يمتاز عن سائر الكائنات الحية بأن حركاته وتصرفاته الاختيارية يتولى قيادتها شيء لا يقع عليه سمعه ولا بصره، ولا يوضع في يده ولا عنقه، ولا يجري في دمه، ولا يسري في عضلاته وأعصابه، وإنما هو معنى إنساني روحاني، اسمه الفكرة والعقيدة، ولقد ضل قوم قلبوا هذا الوضع وحسبوا أن الفكر والضمير لا يؤثران في الحياة المادية والاقتصادية، بل يتأثران بها، هذا الرأي الماركسي هو - قبل كل شيء - نزول بالإنسان عن عرش كرامته، ورجوع به القهقرى إلى مستوى البهيمية، ثم هو تصوير مقلوب للحقائق الثابتة المشاهدة في سلوك الأفراد والجماعات في كل عصر، لكي يختار الناس أن يحيوا حياة مادية لا نصيب فيها للقلب ولا للروح، لا بد أن يقنعوا أنفسهم - بادئ ذي بدء - بأن سعادتهم هي في هذا النوع من الحياة، فالإنسان مقود أبدا بفكرة صحيحة أو فاسدة، فإذا صلحت عقيدته صلح فيه كل شيء؛ وإن فسدت فسد كل شيء.
أجل، إن الإنسان يساق من باطنه لا من ظاهره، وليست قوانين الجماعات ولا سلطان الحكومات بكافيين وحدهما لإقامة مدينة فاضلة تحترم فيها الحقوق، وتؤدى الواجبات على وجهها الكامل؛ فإن الذي يؤدي واجبه رهبة من السوط أو السجن أو العقوبة المالية، لا يلبث أن يهمله متى اطمأن إلى أنه سيفلت من طائلة القانون. (3) ليس في العلوم والثقافات وحدها ضمان للسلام «العلم سلاح ذو حدين»
ومن الخطأ البين أن نظن أن في نشر العلوم والثقافات وحدها ضمانا للسلام والرخاء، وعوضا عن التربية والتهذيب الديني والخلقي، ذلك أن العلم سلاح ذو حدين: يصلح للهدم والتدمير، كما يصلح للبناء والتعمير، ولا بد في حسن استخدامه من رقيب أخلاقي يوجهه لخير الإنسانية وعمارة الأرض، لا إلى نشر الشر والفساد.
ذلكم الرقيب هو العقيدة والإيمان.
غير أن الإيمان على ضربين: «إيمان» بقيمة الفضيلة، وكرامة الإنسانية، وما إلى ذلك من المعاني المجردة، التي تستحي النفوس العالية من مخالفة دواعيها، ولو أعفيت من التبعات الخارجية والأجزية المادية، و«إيمان» بذات علوية، رقيبة على السرائر، يستمد القانون سلطانه الأدبي من أمرها ونهيها، وتلتهب المشاعر بالحياء منها، أو بمحبتها، أو بخشيتها، ولا ريب أن هذا الضرب هو أقوى الضربين سلطانا على النفس الإنسانية، وهو أشدهما مقاومة لأعاصير الهوى وتقلبات العواطف، وأسرعهما نفاذا في قلوب الخاصة والعامة. (3-1) حاجة المجتمع إلى الدين والأخلاق
ومن أجل ذلك كان التدين خير ضمان لقيام التعامل بين الناس على قواعد العدالة والنصفة؛ وكان لذلك ضرورة اجتماعية، كما هو فطرة إنسانية.
Halaman tidak diketahui