وعادت الابتسامة وطال تحديقه إلى الأفق البعيد، ومرت بعينيه طيوف تتباين بين السعادة والحزن، وظل صامتا، فأكرمت صمته، ولم أعد إلى السؤال.
تعود كلما جاء إلى القاهرة أن يدعوني بالتليفون فأقضي معه بعض الوقت، وفي يوم جاء إلى القاهرة والتقينا على منضدة في مينا هاوس وانساب الحديث بيننا، وقد تعودت أن أسعد بنغمات حديثه؛ فهي همس منغوم فيه عذوبة ورقة وهدوء، وكانت عيناه إليه الباب، عينان هادئتان فارقتهما الدهشة لكثرة ما مر بهما ولكن بريقا من أيام الشباب ما زال يطل منهما، وإن كان بريقا عجوزا عدت عليه السنون.
وفي لحظة خيل إلي أنه ليس هو، أو أنه قد عاد إلى شبابه الذي رأيته عليه في الصورة المعلقة ببيته بالقرية، بل خيل إلي في ومضة عابرة أن شعره الفضي لم يعد فضيا، وجمد على حاله هذا ونظرت إلى حيث ينظر فإذا سيدة وقور ليست مصرية على أية حال، شعرها فضي كشعره وإن كان غزيرا، طويلة القامة في غير امتلاء ولا نحافة، تطل السنون من عينيها ولكنها إطلالة فيها حنان ودعة. وقفت السيدة على الباب وكانت تنفض المكان بعينيها تبحث عن مكان حتى إذا يئست أوشكت أن تولينا ظهرها وتتركنا، ولكني شعرت بزلزال في النضد الذي أجلس إليه، وإذا الشيخ الذي كان بجانبي قد أصبح بجانب السيدة، ناداها فالتفتت ونظرت إليه فإذا هي أيضا يطوف بها ذلك الطائف الذي مس الرجل، وإذا أنا يخيل إلي في لحظة أنها لم تعد هي. ورأيته يحتضن يديها في راحتيه ويظل كل منهما يرنو إلى الآخر بعض الحين في صمت ثم يفيضان، وقد أقبل فوج جديد يريد أن يدخل إلى المكان، فيتركان الفندق جميعا ويخرجان دون أن يحفل بي العم ودون حتى أن يلتفت إلي.
تركت مكاني وقمت، وفي باكر الصباح دق جرس التليفون وكان هو المتحدث. - أريدك اليوم. - أنا تحت أمرك. - اليوم جميعه. - اليوم جميعه، منذ متي تريدني؟ - منذ الآن.
وما هي إلا بعض دقائق حتى كنت عنده. لم أسأله فقد وجدت الذكريات تفيض على لسانه يريد أن يرويها لأي إنسان يلاقيه. وكنت أنا. قال ونظرة تقطر سعادة تنسكب من عينيه: في أول عهدي بإنجلترا دعاني أحد أصدقائي إلى حفلة يقيمها في بيته، وقد لبيت دعوته ملهوفا؛ فما كان لي من أصدقاء إلا ندرة جمعتني بهم فصول المدرسة، لم يكن ضيوف صديقي إلا قلة من الصفوة وكان من بينهم أختان، كان جلوسي إلى جانب بيسي، وكان حديثها منطلقا في خفة، وكانت مرحة اللفتة، قريبة الفهم، سريعة الإقبال. لم يطل بنا الحديث حتى سألتها إن كانت تسمح لي أن أزورها فرحبت وكانت أختها ليزا تمر بنا فاستوقفتها وقدمتني إليها فصافحتني وانصرفت لم تلبث وانتهى الحفل. وفي ضحى اليوم التالي ركبت دراجتي قصدت إلى بيتهم؛ فقد كان في مكان لا يمكن أن أصل إليه إلا بالدراجة، أو بعربة خاصة، لم أكن محتاجا أن أدق الجرس، فقد وجدت ليزا جالسة في شرفة البيت تقرأ. أسندت دراجتي إلى درابزين الشرفة الخشبي ورحت أصعد السلم متعمدا أن أثير بحذائي تثير انتباهها ولكني لم أفلح في انتزاعها من الكتاب، ولم أجد بدا آخر الأمر من أن ألقي تحية متعثرة توشك أن تسقط في الطريق إلى أذنيها، ولكنها مع ذلك أفلحت في أن تجعلها ترفع رأسها عن الكتاب لتلقي إلي تحية باسمة قد تتسم بالأدب أو قد تتسم بالرقة ولكنها أبدا لا تتسم بالترحيب، كما أنها لا تحمل معنى واحدا يدل على أنها تعرفني أو حتى تذكر أين التقت بي، لم أجد بدا من أن أذكرها بنفسي، وليس أثقل على نفسي من أن أقدم نفسي، فقلت: أسألها عن أختها لعل في سؤالي عنها ما يذكرها بي. سألتها: أين بيسي؟
وتذكرت، أو بدا لي أنها تذكرت، فقد عادت تبتسم ابتسامة أخرى أكثر إيناسا من الأولى، ثم قالت: إنها خرجت تشتري بعض أشياء، ملكني الإعجاب بليزا، تمنيت لو كانت هي من جلست إليها في حفلة الأمس وتمنيت أن أجد سببا يبقيني معها فتستبدلني بهذا الكتاب في يدها، وتقرأ ما بنفسي من الإعجاب لها وأقرأ في عينيها الخضراوين من بساطة الأمل، وربيع الشباب، تمنيت ولم أجد ما أحقق به أمنياتي إلا سؤالا متعثرا آخر. - لعلها لن تتأخر.
وظلت الابتسامة الأنيسة على وجهها وهي تقول: بل ستتأخر على ما أظن.
كانت الإجابة أمرا صريحا لي بالانصراف، لم تبعث ابتسامتها، ولا كلمة أظن الشك في نفسي من أنها تريدني أن أنصرف. ووجدت نفسي ألقي بتحية وداع متعثرة وأستدير إلى السلم أنزله في تفكير عميق، ماذا يمكن أن يبقيني هنا؟ أيمكن مثلا أن أقع على السلم فأعرج فأبقى! ولكن ماذا تفعل هذه الدرجات القلائل، إنها أهون من أن تصيبني بجرح يستحق البقاء، ماذا يمكن أن يحدث. كنت قد وصلت إلى دراجتي، ودون أن أنظر إلى اتجاه يدي مددتها لأمسك بالمقود فإذا مسمار في الدرابزين يجرحني، آه، قلتها في صوت مباغت واهن، ثم ما لبثت أن تذكرت أملي في أن أجرح، فنظرت إلى الجرح ثم هززت رأسي، لقد كان الجرح أهون من أن أطلب له دواء، وأهون من أن أذكره، ولكن فكرة ما لبثت أن ومضت في ذهني. فنظرت إليها فوجدت الكتاب قد اختطفها مرة أخرى فما لبثت أن نزعت المسمار من مكانه وأهويت به على عجلة الدراجة فأفرغتها من الهواء، كنت أحس بهواء العجلة وهو خارج وكأنه يقضي على الحيرة التي خالطتني، وعلى اليأس الذي ملك نفسي حتى إذا استقر حديد العجلة على الأرض اطمأنت نفسي وهدأ مضطربي، وعدت أصعد لأقول في صوت ما زلت أذكر رنة الفرح فيه حتى اليوم. - لقد فسدت دراجتي فكيف السبيل أن أعود إلى البيت؟ وشاعت ابتسامة حلوة في وجهها ثم أقفلت الكتاب دون أن تعنى بثني الورقة التي كانت تقرؤها، وقالت: انتظر حتى تأتي بيسي، فقد أخذت العربة معها.
وقبل أن تتم جملتها كنت قد أخذت مكاني بجانبها، وأنا أسأل: أتقود بيسي العربة؟
فقالت والابتسامة على وجهها ما تزال: نعم. - ألا تخاف الجياد؟ - إنه جواد واحد يحبنا ونحبه ولا نخافه.
Halaman tidak diketahui