ذكريات بعيدة
حيرة
زواج
خطابان
عودة الزغاريد
وجهات نظر
أستغفر الله
طوق حول العنق
ربيع
ولدي ألا تعود
Halaman tidak diketahui
انتظار
على رغم الأيام
يا لها من أيام
عودا إليك يا أبي
ذكريات بعيدة
حيرة
زواج
خطابان
عودة الزغاريد
وجهات نظر
Halaman tidak diketahui
أستغفر الله
طوق حول العنق
ربيع
ولدي ألا تعود
انتظار
على رغم الأيام
يا لها من أيام
عودا إليك يا أبي
ذكريات بعيدة
ذكريات بعيدة
Halaman tidak diketahui
تأليف
ثروت أباظة
ذكريات بعيدة
وفي يوم دخلت إلى حجرتها لأجدها تجفف دموعها وتودع الكراسة صندوقها دون أن تهتم بإدخالها إلى الدولاب؛ فقد أصبحت مطمئنة أنني لم أمد إليها يدي.
كانت تبيح لي كل مكان في حجرتها، فكلها ملعبي وكل شيء فيها من لعبي، لا يذودني عن شيء فيها أحد، بل كانت تنهر كل من يحاول أن يبعدني عن شيء لها، فكل عزيز عندها رخيص لي، وكل آنية أو علبة أو منضدة قربان مقدم لنزوات طفولتي وعبث يدي، وحين تصل إلى يدي مقتنياتها تصبح بين يدي القدر، لا ينقذها من الكسر أو التلف إلا الحظ وحده، ولم يكن الحظ رفيقا بأشياء جدتي؛ فيا طالما حطمت لها من أشياء ويا طالما أتلفت لها من أدوات، ويا طالما انتهرت جدتي أبي أو أمي إذا حاول واحد منهما أن يعاقبني أو يردعني عن حجرتها.
وقد كنت أجد نفسي أسيرا لأوامر أبوي في أي غرفة أدخلها في البيت؛ فأنا مقيد حينئذ بخوفي أن أحطم شيئا أو ألمس شيئا أو ألهو بشيء، ويظل هذا القيد من الخوف يلازمني حتى أدخل إلى غرفة جدتي فأنا إذن حر طليق أحطم ما أشاء أن أحطم وألهو ما شاء لي اللهو، أحس أنني في هذه الغرفة أقوى من أمي وأبي جميعا، أقف منهما بحصن يعجزان أن ينفذا دونه إلي، وألهو.
شيء واحد لم تبحه لي جدتي ولم أكن أدرى سر حبها له ومنعي عنه، ولم يكن هذا الشيء جديرا بانتباهي، ولا مما يغري الطفل أن يلهو به، إنما هو صندوق قديم لا يبدو من قدمه إلا صنعته التي تدل دلالة واضحة على الزمن الذي صنع فيه، أما هو فقد كان أنيقا دائما؛ فنحاسه الذي يحليه ذو بريق لم يكن يوما خابيا، وخشبه أنيق نظيف لم تستطع السنون أن تعدو على نظافته أو أناقته.
وكنت أرى جدتي في كل يوم تمسك به وتفتحه فينفرج عن كراسة ذات شريط جديد دائما، يعلو الكراسة الكثير من غبار السنين أحال بياض أوراقها إلى غبشة كتلك التي تغشى نظرة الناظرة إلى التاريخ البعيد. وكانت جدتي تقلب صفحاتها الواحدة بعد الأخرى وتظل رانية إليها بنظرات حسيرة، ولا تنتهي إلى الصفحة الأخيرة حتى تذرف سكبا من الدموع وحينئذ تعيد الكراسة إلى شريطها ثم تودعها في إعزاز صندوقها الأثير.
وهكذا أصبح هذا الصندوق طلبتي الوحيدة، فهو الشيء الوحيد عند جدتي الذي لم أستطع الوصول إليه، فكنت كلما أقبلت عليه أريد أن أمسك به تفزع جدتي قائلة: إلا هذا.
وتسارع إلى الكراسة تقفلها وتحيطها بالشريط في عجل ثم تعيدها إلى الصندوق دون أن تصل إلى مرحلة البكاء، وهكذا كنت أعدو أيضا على هذه الدمعات التي كانت ترتاح لها جدتي فأحرمها منها. وقد كان هذا على إيلامه لها أهون عندها من أن تترك الكراسة أو الصندوق بين يدي ويدي الحظ.
Halaman tidak diketahui
وكبرت رغبتي في الوصول إلى هذا الصندوق بل أصبحت كلما دخلت غرفة جدتي ألعب حول الدولاب الذي يستقر فيه الصندوق، أملي ومطلبي، لم أكن أفكر فيه إلا لأنه الشيء الوحيد الذي منعتني عنه جدتي، وحين كبرت بعض الشيء وذهبت إلى المدرسة ووجدتني أقلب في كراسات وأكتب فيها وأقرأ، أصبحت أعجب من نفسي أنني لا أبكي كما تبكي جدتي حين تنظر في كراستها، وهكذا أصبح الصندوق والكراسة التي تستلقي في أحضانه سرا عجيبا لا يفارق ذهني غموضه ولا يكف تفكيري عن محاولة الوصول إلى حقيقته واستجلاء ما يخفيه من أسباب تستجلب هذه الدمعات إلى عيني جدتي، إنني أقرأ فلا أبكي فماذا يبكيها هي، إنني قد أبكي حين أعجز عن القراءة وتمتد عصا المدرس إلي ولكنني حين أقرأ لا أجد ما يبكي، ولقد حاولت مرارا أن أثير في نفسي مكامن الدموع حين أقرأ فإذا الدموع جامدة وإذا البكاء عصي عنيد لا يسعفني فيزداد سر جدتي وصندوقها استغلاقا علي.
وفي مرة فاجأت جدتي وهي تقفل كراستها وقد بلغت مرحلة الدموع وراحت دمعات تنهمر على وجهها الناصع البياض تركت فيه آثار السمن الذي أصبح نحافة وآثار السنين التي مرت غضونا كثيرة.
ونظرت إلى جدتي مليا وسألتها: لماذا تبكين؟
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي ألقيت فيها هذا السؤال ولكنها كانت دائما لا تقول شيئا سوى أن تنظر إلى صورة جدي التي علقتها بحيث تظل رانية إليها من أريكتها التي لا تكاد تتركها، ثم هي تتمالك أمر نفسها في سرعة حازمة وتحيد عن السؤال الذي ألقيته وتقدم بين يدي قربانا جديدا مما تحفظه عندها لألعب به وأحطمه، وكنت دائما أنخدع بهذا القربان عن السؤال الذي أبحث عن جوابه وأنصرف إلى ما قدمته إلي ألعب به أو أحطمه حسبما يقضي الحظ. وفي هذه المرة حين سألت جدتي أجابتني بنفس طريقتها وقدمت إلي كراسة وقلما وقالت: اكتب هنا ما تعلمته اليوم.
وكنت قد أعددت نفسي ألا أنخدع، إلا أن الهدية كانت شيقة؛ فقد كنت أحب الكراسات حبا عارما لا أدري لماذا؟ ألأنني ظللت سنوات عديدة أهفو إلى كراسة جدتي أم لأن شكل الكراسة الجديدة كان أثيرا عندي دائما؟ لا أدري! ولكن الذي أذكره أنني خدعت في هذه المرة أيضا وتناولت الكراسة ورحت أهوش صفحاتها بحروف ما تلبث أن تصبح رسوما، وقامت جدتي إلى الدولاب فأودعته صندوقها وعادت إلى جلستها وراحت ترنو إلي وأنا أكتب أو ألهو في كراستي التي كانت جديدة، وكان لا بد لعينيها أن تتجها إلى ما أخطه في الكراسة وثبتت نظرتها في كتابتي فترة طويلة ثم قالت: هشام، أتعلمني؟
ونزل علي السؤال كحدث مفاجئ لم أتوقعه ولم أجد بين شفتي إلا: ماذا؟
فعادت جدتي ترنو إلي في ابتسامة طيبة ودود وقالت: أتعلمني؟
قلت لجدتي وأنا أضحك: أتضحكين علي ؟
وظلت ابتسامتها الطيبة على وجهها وهي تقول: لماذا؟
فقلت في براءة: إنك تقرئين الكراسة كل يوم وتبكين.
Halaman tidak diketahui
وعلت وجهها حمرة أكسبت السنين على وجهها جمالا ورونقا وقالت: آه يا عفريت.
ومدت يدها تدغدغ ملتقى صدري بذراعي، موطن تعلم أنه لا يخطئ في إضحاكي، فضحكت وضحكنا، ومرت الأعوام.
كبرت وأصبحت أعرف أن لجدتي في كراستها سرا، وأصبحت أدرك أنه لا بد أن يكون هذا السر وثيق الصلة بذكرياتها، وأصبحت أدرك أيضا أنه لا يجوز لي أن أقحم نفسي على ذكريات جدتي وسنين شبابها، ولكن شوقي إلى معرفة هذا السر لم تخفف منه السنون بل لعلها زادته تحرقا.
وعرفت مع الأيام أيضا أن جدتي لا تعرف القراءة والكتابة، وزادت معرفتي هذه السر استغلاقا، كما زادت رغبتي في معرفته تغلغلا في نفسي، ولكن حرصي على ألا أقحم نفسي على أسرارها أو على سرها الوحيد بالنسبة إلي جعلني أحيط رغبتي هذه بسياج محكم من الصمت والتجاهل كلما رأيت كراستها الحبيبة بين يديها.
وفي يوم دخلت إلى حجرتها لأجدها تجفف دموعها وتودع الكراسة صندوقها دون أن تهتم بإدخالها إلى الدولاب؛ فقد أصبحت مطمئنة أنني لم أمد إليها يدي. حولت جدتي عينيها عن صورة جدي وابتسامة دافئة ما تزال معلقة بشفتيها وقالت: هشام، ألا تنوي أن تعلمني القراءة؟
وكدت أن أقول، لماذا، ولكنني سرعان ما نظرت إلى الصندوق فاختطفت الكلمة من على شفتي قبل أن أطلقها وقلت: أنا تحت أمرك.
وقالت وقد أشرق وجهها بالفرح: صحيح؟!
فقلت شاعرا أنني أحقق لها أملا كبيرا: طبعا.
فقالت في حزم والإشراق على وجهها لا يبارحه: قم إلى هذا الدرج ستجد كراسات وأقلاما هات واحدة وقلما وتعال علمني.
وبدأت أعلم جدتي، دون أن أشق عليها في التعليم فكنت أعلمها حرفين أو ثلاثة في اليوم، ولكن قليلا ما دامت هذه الأيام؛ فقد هاجم جدتي مرض بدا في أول أمره هينا ثم ازداد خطورة، وحاولت أن ألهيها عن مرضها بالتعليم.
Halaman tidak diketahui
وحاولت هي أن تستجيب لي ولكن المرض كان أقوى منها ومني فلم تستطع.
مرت أيام مرضها الأول وهي تستطيع أن تصل إلى الدولاب لتحضر الصندوق وتستطيع أيضا أن تصل إليه فتعيده، ثم أقعدها المرض فكانت تطلب إلي أن أحضره لها وتطلب إلي أن أعيده. وكانت دموعها تزداد غزارة، حتى كان يوم قالت لي فيه: هشام، يخيل إلي أنني سأموت قبل أن أتعلم القراءة.
فقلت لها في تأثر بالغ: بعد الشر عنك يا ستي.
فقالت وقد علت وجهها حمرة من الخجل كخجل العذارى: أتعرف ما تحويه هذه الكراسة. واحتضنت الكراسة في حب كأنها تحتضن السنين والذكريات وقلت لها: لا.
فازداد وجهها حمرة وعذرية وقالت: إنها مذكرات جدك. فقلت: مذكرات جدي؟ - دخلت إلى مكتبه فوجدته يقرؤها وسألته عنها فقال: إنها مذكرات حبي لك كنت أكتبها أيام خطبتنا. - أكان يراك وأنتما خطيبان؟ - ألا تعرف أن أبي عقد عقدي على جدك ثم انتظرنا فترة طويلة حتى يتم جدك التعليم وهكذا كان يراني دون أن نتزوج. وكان يكتب هذه المذكرات بعد كل لقاء لنا وكنا نلتقي كل يوم تقريبا.
ونظرت إليها في خبث وقلت: أكنت ترينه وحدك؟
فازدادت خجلا وخالط صوتها نغم من الفرح النشوان وهي تقول: امش يا قليل الأدب، كنت ألقاه أمام أمي وإخوتي. - آه، طيب، طيب، لا تزعلي.
وقالت جدتي والنشوة لا تزال في عينيها القديمتين وقد خالطهما البريق فهما عينا فتاة في بواكير الشباب حتى خيل إلي أن جدتي عادت بعينيها ووجهها القاني من الخجل إلى تلك السن التي خطبها فيها جدي، قالت: هشام.
ثم صمتت فقلت: نعم.
فقالت: هشام، أتقرأ لي هذه المذكرات؟
Halaman tidak diketahui
فسارعت أقول وقد أحسست أنني موشك أن أصل إلى أعماق سرها: يا سلام يا ستي، أقرؤها وأقرؤها وأقرؤها.
فقالت على عادتها: صحيح؟
فقلت: صحيح جدا.
فقالت في استخذاء: قم إلى الباب واقفله بالمفتاح؛ فإنك أول من يقرؤها، فأنا كما تعلم لم أقرأها أبدا ولم أبحها لأحد أبدا، اقرأها لي أنت، هل أحسنت إقفال الباب؟
وكنت قد رجعت عن الباب واستويت على كرسي بجوارها، وأعطتني الكراسة فأخذتها بيد ملهوفة وراحت هي ترنو إلى صورة جدي متهيئة لأن تسمع هذا الكلام الذي استغلق عليها السنوات الطوال. وفتحت الكراسة وقبل أن أعلو بصوتي لأسمعها رحت أمر بعيني على الصفحة الأولى.
لقد كانت كراسة ذكريات لا شك في ذلك. ولكن لم تكن جدتي هي محور هذه الذكريات، كان جدي يحب فتاة أخرى غير زوجته، رعاك الله يا جدتي كم أضعت من دموع وكم أفنيت من أوقات وكم بذلت من جهد في تجديد الشريط الذي يلم الذكريات وفي تنظيف الصندوق الذي ينضم على المذكرات، وانتاب لساني نوع من الشلل الداهش الحزين، واجتاح قلبي عاصف من الألم والحرقة والإشفاق على جدتي والحب لها، وفي لمحة خاطفة اتجه ذهني إلى طريق آخر، هل كانت سدى هذه الدموع، هل كانت هذه المجهودات التي بذلتها في المحافظة على الصندوق وتجديد الشريط بلا جدوى، هل كانت نظراتها الطويلة على السنين الطويلة في صفحات الكراسة هباء، أكانت جدتي تسعد بشيء قدر سعادتها بهذه النظرات الجاهلة وهذه الدموع المنسكبة وهذه العناية البالغة، ألم يستطع جدي أن يترك لها في هذه الكراسة الخادعة حياة لها تحيا بها في سنوات الكهولة والشيخوخة، لقد سعدت جدتي بالكراسة سواء كان ما تحويه حبا لها أم خداعا لها، لقد سعدت. لقد خيل إلي أن الصفحات قد أصبحت مطبوعة برسوم حروفها في عقل جدتي وعلى قلبها، مطبوعة بحروف أكثر ثبوتا وبقاء وعمقا من هذه الحروف الملقاة على صفحات الكراسة. وخيل إلى أن نظرات جدتي قد احتفرت على السنين حفرا في أوراق المذكرات أكثر جمالا من كل حب وأصدق إحساسا من كل كلام، أيذهب هذا جميعه سدى، وأيقظتني جدتي من سرحتي الطويلة لتقول في صوت تردد بين الخجل والتشوق والفرح: اقرأ.
ونظرت إلى جدتي طويلا وقلت: يا سلام يا ستي، كم كان يحبك جدي، كم كان يحبك!
ونظرت جدتي إلى الصورة المطلة عليها وابتسمت وهي تقول وقد تعثرت الألفاظ بخجلها: نعم، أعرف، اقرأ.
ورحت أقرأ جاعلا اسم الحبيبة التي تروى عنها المذكرات هو اسم جدتي، حذرا دائما مبتعدا دائما عن كل لقاء لم يكن في بيت، مختارا الكلام العام الذي لا توحيه مناسبة بعينها، وظللت أقرأ وظل وجه جدتي يتهلل ونظرتها إلى الصورة تزداد إنعاما فإن غشت عينيها الدموع راحت تزيحها عن عينيها وتنعم في صورة جدي حتى انتهيت من المذكرات ولم تكن طويلة وهدأت، لقد بلغت آخرها ولم أخطئ ونظرت إلى جدتي ورأيتها في سبحتها ما تزال رانية إلى الصورة فحولت نظري إلى الصورة معها وخيل إلي أن جدي يبتسم لي شاكرا فابتسمت له أنا أيضا رغم ما جعلني أعاني من حيرة وحسرة على ذكريات جدتي، ورغم المجهود الذي بذلته لأستر حقيقة مذكراته.
نعم لقد حطمت في غرفة جدتي كل مقتنياتها العزيزة ولكني تركت لها أحلامها المودعة في صندوق الذكريات والسنوات الطوال من الحب التي عاشتها في ظله لم أحطم منها شيئا.
Halaman tidak diketahui
حيرة
وكأنما اهتدى صميدة إلى النجاة من حيرته فما هي إلا دقائق غير معدودة حتى كان جالسا إلى فهيمة ويمتع عينيه بفهيمة التي طالما أعجب بها وطالما تمنى أن تكون زوجته.
استيقظت نفيسة مع الفجر وراحت تسخن العيش وتعد الفطور لزوجها صميدة ثم قصدت إليه فوكزته فتقلب في فراشه بين اليقظة والنوم فما هي إلا الوكزة الثانية كان صاحيا يسأل: ما لك؟ - لا شيء. الشمس طلعت. - وما شأني بها إن طلعت، هل أنا خفير على باب الشمس؟ - والله فايق على الصبح، قم، غير ريقك واذهب إلى المكتب. - المكتب؟ - نعم المكتب، أليس اليوم موعدك مع إسماعيل أفندي لترى حسابك؟ - آه، صحيح، ولكن إسماعيل أفندي لا يذهب إلى المكتب قبل الساعة العاشرة. - وما البأس، انتظره حتى تأخذ حسابك قبل أن يجيء الفلاحون الآخرون ويعطلونك. - يا ستي وماذا ورائي، وما البأس أن يعطلوني وهل سأذهب إلى المحكمة؟ - المحكمة، العفو، لا يا فالح لن تذهب إلى المحكمة ولكن ستذهب إلى البندر. - البندر؟ ماذا أفعل في البندر؟ - ماذا جرى لعقلك؟ ألا تدري ماذا ستفعل في البندر؟ أنا أريد جلبابا وملابس وبنتك تريد أن تجهز، أنسيت؟ لقد واعدنا حسنين أننا سنزوجه منها بعد القطن مباشرة، وابنك علي لا بد أن يذهب للدكتور، لن يعيش إذا تركناه بهذا الحال. - أمن أجل ضعف بسيط يذهب إلى الدكتور؟ - أهذا ضعف بسيط، الولد لا يستطيع أن يمشي خطوتين، وأنت في كل يوم تقول إنك ستأخذه إلى الدكتور بعد القطن، أجننت؟! - هيه وماذا أيضا؟ - وأنت تريد ملابس، الشتاء داخل علينا وليس عندك شيء يدفئك. - والفلوس تكفي لكل هذا؟ - ولماذا لا تكفي؟ أم ترى يكفينا من الساقية نعبرها، تزرع أربعة أفدنة وتشقى طول السنة ثم لا تجد ما يكفي لهذه الأشياء البسيطة، تكفي، لا بد أن تكفي الفلوس. - وإن لم تكف ماذا أفعل بها، أرجعها لإسماعيل أفندي؟ - يا أخي قم وجعت قلبي على الصبح. - وهل هذا صبح؟ - ألا يعجبك؟ - أيعجبك أنت؟ - وما الذي لا يعجبك يا سي صميدة؟ ماذا تغير علينا؟ ألست أنا أنا نفيسة التي حفيت رجلاك لتتزوج مني؟ أصبحت لا أعجبك اليوم، والله عشنا وشفنا. - أنا، أنا حفيت رجلاي؟ - لا أنا، أظن أنا التي خطبتك، هه، انطق. - أعوذ بالله، يا شيخة اتقي الله، ألا تكفين عن النكد أبدا؟! ارحمي، ارحمي، أنا لحم ودم. - والله أعلم لحم فقط، بلا دم، أين الدم عند أب لا يريد أن يعالج ابنه المريض. - أعوذ بالله، أين السم الهاري؟ - على الطبلية، قم ألق حبة ماء على وجهك وتسمم وتوكل على الله. - أتعرفين الله أنت؟ - الحمد لله، أصلي الفرض والسنة، وشريفة ونظيفة ولا يستطيع أحد أن يقول عني كلمة، أما أنت. - نعم، مالي أنا؟ - ألا تعرف، الحشيش قاطع نفسك وكل يوم تجري وراء امرأة وذيلك نجس. - وما شأن الحشيش بالدين؟ - اخرس، وأنت ماذا تفهم في الدين يا ضلالي، قم، وخل لها نهاية. - وإن لم أخل لها نهاية ماذا ستفعلين؟ - هه، سأترك لك المكان لتستريح.
وخرجت نفيسة من الحجرة وقال صميدة: غوري، امرأة نكدة، أهذا صباح يا عالم، الله يقطعك يا نفيسة ويقطع من أشار علي بك، قال تملك فدانين، وصدقت، وكنت عبيطا مجنونا، الفدادين تملكها أمها، أم ممسكة حريصة، بلغت التسعين وترفض أن تموت، قال تملك فدانين صدقت، وحسبت الأم ستموت عن قريب ولكن الظاهر - والله أعلم - أننا جميعا سنموت وستظل أمها بهانة على ظهر الدنيا تملك الفدانين وتخرج لنا لسانها ونحن في الآخرة.
وقبل أن يكمل دخل إلى الحجرة ابنه علي، ضعيفا هزيلا لا يكاد يقيم مشيته. واستقبله الأب باشا أول الأمر ولكنه ما لبث أن قطب جبينه وأحس قلبه كأنما تعتصره يد شديدة البأس قوية: مالك يا علي؟
وصمت علي وعاد الأب يقول: لا والله يا ابني إنك مريض فعلا، يا نفيسة. وجاءه صوت امرأته ثم ما لبثت أن تبعت صوتها إلى الحجرة: مالك، ماذا تريد؟ - جهزي علي، سآخذه إلى الدكتور اليوم. - أزغرد لك. - الولد مريض جدا. - ألم أقل لك؟ إنه لا يأكل شيئا مطلقا. - جهزيه.
وخرج صميدة إلى الطريق وما لبث ذهنه أن ترك مرض علي وفكر في زوجته هذه التي تأبى إلا أن تصب عليه السخط في كل يوم، ثم عاد يفكر فيما ينتظره من حساب عند الكاتب، ماذا سيدفع لهذا الكاتب في عامه هذا، ترى ماذا سيبقى له، إنه يزرع أربعة أفدنة إن بقي له أقل من مائة جنيه فلا شك أن الكاتب سرقه، مائة جنيه على الأقل، ماذا أفعل بالمائة جنيه؟ أولا أهيص الليلة، أذهب إلى عبد الباقي أبو سليمان وأشتري نصف قرش، لا بل قرشا، أنا لم أدخن قرشا في حياتي أبدا، سأدخن الليلة قرشا، وسأمر بطبيعة الحال على فهيمة العضلة وسأجدها واقفة بباب بيتها كعادتها وقد شمرت عن ذراعين ينسكب عليهما ضوء المصباح فهما في لون العسل النحل ذي الشمع الصافي، ويلي من ذراعيها، لماذا لم أتزوجها، الفدانان، قطع الله من أشار علي بها وبالفدانين.
كانت فهيمة أولى، جمال كجمال الصور في الجرائد، ترى هل الحور العين في الجنة سيكن في جمال فهيمة؟ وأنا من يوصلني إلى الجنة؟ أنا عاص، أمن أجل الحشيش، إنما الخمر والميسر، الخمر، الخمر، وما صلة الخمر بالحشيش، كل مسكر خمر، كلام مشايخ، وهم ألا يشربون الحشيش، إنهم كالأطباء يحرمون الدخان ويشربون مائة سيجارة في اليوم، يهيأ لي أن المشايخ ضمنوا الدخول إلى الجنة فهم يفعلون ما يريدون، وما لهم لا يضمنون الدخول إليها وهم يرشدون الناس إلى الصراط المستقيم، أهم يرشدون؟
وقطع عليه تفكيره صوت فتوح البرموني وهو يقول له: صباح الخير يا صميدة. - صباح الخير يا فتوح، هل جاء إسماعيل أفندي إلى المكتب؟ - نعم. - أكنت هناك؟ - نعم. - هل تحاسبت؟ - أنا غلطان يا صميدة. - لماذا؟ - لأني قلت لك صباح الخير. - لماذا، ماذا فعلت لك؟ - مائة سؤال، يا رجل حرام عليك، ألا تعرف كيف يكون الحال بعد الحساب؟ - آه، والله لك الحق، سلام عليكم. - وعليكم السلام.
وفي عزمة القادم على الخطير من الأمر حث صميدة أقدامه أن تسرع فأسرعت ودخل إلى إسماعيل، وكأنه يهاجم قلعة عصية الأبواب وقال في زئير مضطرب بعض الشيء: السلام عليكم.
Halaman tidak diketahui
ونظر إليه إسماعيل أفندي طويلا، طويلا، وكلما طالت النظرة من إسماعيل خمدت الحدة من صميدة حتى إذا أجاب إسماعيل أفندي: وعليكم السلام.
في صوت يجمع إلى السخرية عدم المبالاة والهزء. كان صميدة وقد أصبح أقرب إلى الخوف منه إلى اعتدال المزاج أو الجرأة لا قدر الله.
فإن إسماعيل أفندي هذا على كل شيء قدير، وقال صميدة في صوت أصابه كثير من التخاذل: هل حسابي جاهز يا إسماعيل بك؟
وقال إسماعيل أفندي في صوته الساخر لا يزال: نعم يا خلف الحبايب.
وحاول صميدة أن يستمد من مزاح إسماعيل أفندي بعض الشجاعة فقال في صوت يتأرجح بين الرهبة والجرأة: تشكر، كم بقي لي؟
وأمسك إسماعيل أفندي بدفتره الكبير وراح يردد: صميدة عبد التواب، صميدة عبد التواب، ها هو ذا يا سيدي، جملة ما له مليم خمسمائة وجنيه مائتان وستة عشر جنيها.
وحينئذ صفق قلب صميدة من الفرح، ثروة، إذن فسيدخن قرشين من الحشيش، قرشين وإن فقد الوعي بعدها سنة بأكملها.
وتابع إسماعيل قراءة الحساب: منه يا سيدي منه، منه، أربعون جنيها قسط شراء، وستة وستون جنيها وأربعمائة مليم إيجار، وأربعون جنيها وسبعون مليما كيماوي، وثمانية جنيهات خفر، وثمانية جنيهات ري، وثمانية جنيهات مقابل استخدام آلات، وسبعة جنيهات مقابل إدارة: المجموع يا سيدي مائة وسبعون جنيها، وأربعمائة وسبعون مليما.
وسقط صميدة مشدوها هلعا على الكرسي. - ماذا!
ودون أن ينظر إليه إسماعيل أفندي تابع حسابه: يكون مجموع ما بقي له يا سيد، تسعة وعشرون جنيها وثلاثون مليما.
Halaman tidak diketahui
وعاد صميدة يقول في لهفة: ماذا؟
ودون أن ينظر إليه إسماعيل أفندي قال: انتظر.
ثم أخذ يهمهم بالأرقام همهمة لا تكاد تفصح ثم قال: تمام تسعة وعشرون جنيها وثلاثون مليما. - سنة أسود من الحبر يا أولاد، كم يا إسماعيل أفندي، كم؟
كشر إسماعيل أفندي عن أنيابه في غضبة مستأسدة: ما سمعت، إن كان هذا جميعه من أجل الجنيه الذي آخذه منك كل سنة فلا داعي له. - وتريد جنيها أيضا يا إسماعيل أفندي. - أنت حر، وعلى كل حال السنوات القادمة أكثر من الفائتة، لا تغضب في السنة القادمة إن جعلت غيرك يقدم عليك في الري أو أخرت عنك الكيماوي أو إذا ... وقاطعه صميدة: وتريد جنيها أيضا يا إسماعيل أفندي.
وقال إسماعيل أفندي في جراءة وعدم مبالاة: يا أخي قلت لك أنت حر، قم، قم. - أمرك يا إسماعيل أفندي، أمرك، خذ الجنيه يا إسماعيل أفندي. - لا أبدا، لا لزوم له. - أنا غلطان يا إسماعيل أفندي. - أبدا، لماذا؟ - هات رأسك، أبوسها. - لا، لا، أنا لست بزعلان، خذ، هذه هي نقودك. - وهذا هو جنيهك، لا تكن غضبان يا إسماعيل أفندي، سلام عليكم.
وقال إسماعيل أفندي بلهجته الساخرة الهازئة: وعليكم السلام يا سيدي ورحمة الله وبركاته.
وخرج صميدة إلى الطريق، أهذه هي نتيجة الشقاء لمدة عام بأكمله، ماذا أفعل الآن، أظن الولد هو أهم شيء الآن، الولد، مسكين علي.
وقصد صميدة إلى بيته وصحب ابنه إلى البندر.
وفجأه الطبيب هناك بأن الطفل مريض بالزائدة الدودية ولا بد أن تجرى له عملية لاستئصالها. - وكم تكلف هذه العملية؟ - عشرة جنيهات.
ولم يزد: حمل ابنه على كتفه ولم يشتر شيئا مما أرادته زوجه أن يشتري وعاد إلى القرية، ماذا سيفعل، عشرة جنيهات، للعملية وجهاز البنت، هذه هي السنة الثالثة في خطبتها، كيف يؤخر زواجها بعد الآن؟ لقد قبض مهرا ثلاثين جنيها لا بد أن يقدم جهازا بأربعين جنيها على الأقل، من أين لي بالأربعين جنيها؟ ونفيسة تريد ملابس وأنا أريد ملابس، ماذا سأفعل بهذا المبلغ؟
Halaman tidak diketahui
سار يفكر تقوده قدماه إلى حيث لا يدري له مقصدا أو إلى حيث تحدد رغبة خفية اتجاهه ومقصده، كان يقصد بيت عبد الباقي، وقبل أن يبلغه تصدت له فهيمة وهي تقول: ماذا بك يا صميدة؟
وصحا صميدة على صوت فهيمة فإذا هو ينفض عن نفسه كل ما هي فيه من حيرة: لا شيء يا فهيمة، لا شيء. - لماذا لا تزور؟ - أنا خدام. - تعال. - أشتري نصف، أشتري قرشا من عبد الباقي وأجيء حالا. - وأنا ألهب الفحم في انتظارك.
وكأنما اهتدى صميدة إلى النجاة من حيرته؛ فما هي إلا دقائق غير معدودة حتى كان جالسا إلى فهيمة ويمتع عينيه بفهيمة التي طالما أعجب بها وطالما تمنى أن تكون زوجته، وما هي إلا أنفاس قلائل حتى قال: فهيمة، أتتزوجينني؟ - وكم تدفع مهرا؟ - وكم يرضيك؟ - ثلاثون جنيها. - لا أملك إلا خمسة وعشرين. - لأجل خاطرك، لقد كنت عزمت بعد المرحوم ألا أتزوج أبدا. ولكن أنت، أنت، لا أستطيع أن أرفض لك أمرا. - متى نتزوج؟ - متى تشاء. - الآن. - الآن.
وجاء المأذون وخرج، واطمأن صميدة بعد حيرة؛ فلم يعد يحاول أن يفكر كيف سيواجه المطالب المتزاحمة حوله، لقد انتهت حيرته، لا لم يعد حائرا، لم يعد حائرا على الإطلاق.
زواج
وكان الزواج، وأقبلت هبة عليه إقبالة خائفة أول أمرها؛ فما تدري ما مصيرها مع شخص لم تفكر يوما أنه سيكون زوجها وإنما هو ابن العم.
حلوة هي، كالأمل، كالموعد وقد حققه اللقاء، كالنشوة وقد عربدت، حلوة كالقلب السكران، كالفكرة الحالمة، كالذكريات المأنوسة الهانئة، عينان ساجيتان فيهما إلى الحب دعوة وفيهما العفة المنيعة، وشعر منسرح كآمال الشباب، وفم دقيق ذو تعبير يختلط بين الدعوة والتمنع؛ فما يدري من يراها والابتسامة وامضة عن شفتيها ماذا تقول؟ ولا يجد من يراها بدا من أن يبتسم ثم يقف الأمر به عند الابتسام يردعه جمالها وابتسامتها أن يزيد.
نشأت بين إخوة من الذكور فالبيت لا عمل له إلا أن يتقصى رغباتها فيحققها؛ فمطلبها أمر قبل أن تبين عنه، إنما هي الإشارة العابرة أو التلميح البعيد؛ فإذا ما أرادت فقد تم، وكان للذكور أصحاب وكان للعائلة أقارب، ولكن الجميع كان يقف منها موقف المكبر المعجب، ولم يستطع أحد أن يقف منها موقف المحب، والشباب يعدو إلى الفتيات في خطى واسعة فيلتهم سنوات الطفولة التهاما، فما أسرع ما كبرت هبة، وما أسرع ما أخذت أمها ثم أبوها يتلفتان حولهما عن العريس الذي يصلح لها، ثم ما أسرع ما أصبحا يتلفتان عن أي عريس، ولكن السنين ثقال بطيئات، وجمال هبة الصارخ يقف دون الشباب أن يتقدموا؛ فكأنما هذا الجمال سياج حولها لا يرى أحد من الشباب نفسه أهلا أن يعدوه إليها، كان الأقارب والأصحاب ينظرون إليها وكأنها في مستشرف رفيع لا سبيل أن يرقى إليه واحد منهم.
وتستطيع هبة أن تطلب إلى أبيها ما تشاء. ويستطيع أبوها أن يقدم إليها ما تصبو إليه لكنها أبدا لا تستطيع أن تقول كبرت ولا يستطيع أبوها أن يجيب إشارتها إن هي قالت.
فكانت هبة تنظر إلى الأيام نظرة واجفة هالعة، ماذا لها في مطوي الغيب، أين تلقي بها خوافي المستقبل، أتراها تصبح ...؟ لا، إنها لا تطيق أن تنطق الكلمة، أتصبح عانسا، ويلي! أهذا الجمال كله لا يجد من يقدره، كيف؟ إنها لا تنسى النظرات الحافلة بالإعجاب والإكبار وهي تحيط بها، يأتي إلى البيت أقرباؤها ويأتي أصدقاء كثيرون ويأتي ويأتي إلى البيت ابن عمها مسعود.
Halaman tidak diketahui
وكلهم، كلهم يرنو إليها في إكبار ذاهل، أما مسعود، مسعود، فإنه يتطلع إليها أملا بعيد المنال، ولكن الأمر يقف به عند هذا التطلع لا يزيد، منذ هما طفلان ونظرته لا تتغير، وها هو هذا يسعى في حياته سعيا حثيثا موفقا وينال شهادته، ثم يلقي إلى الحياة آماله فتستجيب له الحياة استجابتها الباسمة، ويصبح مسعود ذا شأن، ولكنه مع ذلك يخشى أن يتقدم لخطبة ابنة عمه؛ فجمالها أعظم من أن يرضى به زوجا، ولا يحس مسعود بهذا الموقف الضنك الذي هيأه جمالها لها. والأب يرى زيارات ابن أخيه ويرى نظراته الوالهة المحبة، ثم يرى إحجامه وصمته، ويمسك به كبر الأب أن يشجعه، والأم ترى ما يراه الأب ويمسك بها خوفها من زوجها أن تصطنع ما تصطنعه الأمهات من تشجيع الخطيب أن يخطب بناتهن، ولكن الأيام تمر والابنة تكبر، والسنون إذا مرت بالبنات الناهدات فهي قلق وذعر، والأوقات كالحة والتفكير هلع، حتى المرآة لم تعد تستطيع أن تمنح هبة ما كانت تمنحه لها من فرح وطمأنينة، بل إن خوفها يزداد كلما شاهدت جمالها. وهي ترى مسعودا وقد كانت تراه منذ هما طفلان ولم يكن يزيد عندها عن فتى مثل كل الفتيان الذين يقفون حول سياج جمالها وقفة العباد أمام الوثن. ولو لم تمر بها السنون القلقة لكان مسعود هذا أبعد ما يكون عن تفكيرها وآمالها؛ فقد كان لها من أصدقاء إخوتها ومن أقاربها من لا يقارن بمسعود في لباقته وذكائه أو قوة شخصيته. أما مسعود، فما هو إلا تلميذ يحسن أن يذاكر دروسه، ويحسن أن ينجح في الامتحان، ثم هو لا يحسن بعد هذا من الحياة شيئا. وحين أفلح مسعود في الحياة لم يكن الأمر عندها يعدو أن فتى من أقاربها أطاع رئيسه فأحسن رئيسه إليه بأن رقاه، وأصبح الأقارب يتحادثون عن ذكائه وعن تقدمه ولم تستطع يوما أن تتصور أن مسعودا يستطيع أن يؤدي عملا يتسم ببعض ذكاء أو ببعض لماحية أو بعض فهم، إنما هو مرءوس يحسن إطاعة الرؤساء، أو رئيس يحسن تنفيذ ما رسمه له رؤساء آخرون، وهكذا لم تستطع أن تجاري أقاربها في إعجابهم بمسعود، ولكنها مع ذلك لا تمنع نفسها أن تفرح بهذه النظرة الذاهلة الدالة على الإعجاب الشديد، والإكبار المأخوذ الذاهل التي تعلقت بأهداب مسعود منذ هما طفلان حتى سعت بهما الأيام هذا السعي الحثيث؛ فجعلت منها فتاة تكاد تصبح عانسا، وجعلت منه فتى ناجحا يلهج بنجاحه الأقارب والأصدقاء.
وتمر الأيام ويوشك الأب أن يتنازل عن كبريائه، وتجد الأم أن خوفها على مستقبل ابنتها أعظم من خوفها غضب زوجها، فما إن يأتي مسعود لزيارتها حتى تعمل على أن تختلي به وتلقي الحديث وكأنها لا تقصد ما يرمي إليه: ماذا جرى يا مسعود يا ابني؟ - ماذا يا أبلتي؟ - ألا تلاحظ أنك كبرت؟ - نعم، أعرف. - وماذا تنتظر.
وفهم مسعود ما تقصد إليه أو كاد، ولكنه قال في تظاهر شديد بالغباء ماذا أنتظر في ماذا؟ وأطلقت الست أم هبة تنهيدة عاجبة طويلة ثم قالت بعد أن مصت شفتيها: ألا تعرف؟
وكأنما ألصقت هذه الحركات ابتسامة على شفتي مسعود؛ فهو يبتسم في تخابث ساذج وتقول: يا بني الشيء لا يخجل من أوانه، لا بد أن تتزوج يا مسعود. وظل مسعود رانيا إلى أبلته في دهشة وقد اضطرمت في نفسه آمال عريضة كانت تراود نفسه في يأس باهت متخاذل، ويكاد الآن يراها حقيقة يخشى أن يصدقها، ثم تعود إلى خذلانه فيصبح يومه شرا من أمسه وغده أشد قتاما من ماضيه؛ فإن الآمال مهما تكن واهنة بعيدة التحقيق أحلى مذاقا من مرارة اليأس، ويوشك أن يقول فيخذله لسانه أن يقول وتعينه زوجة عمه: ألف يتمنى كلمة منك يا مسعود، وافق أنت ولا شأن لك.
ويقول مسعود ذاهلا: ألف يتمنى أن يزوجني؟! - أنت لا تعرف حقيقة مكانتك يا مسعود. - إذن فأنا أتمنى ...
وعاده الخوف فأرتج عليه وعادت زوجة عمه إلى إسعافه. - قل، قل ماذا تتمنى ولا شأن لك، اترك الباقي لي أنا، واستجمع وقال في سرعة من يخشى ألا يكمل جملته: أتمنى أن أتزوج ...
وأشرقت الابتسامة في وجه أم هبة وهي تطلق: هه.
وقال مسعود: هبة.
وسارعت الأم تقول: فهي لك.
وألجمت مسعود الفرحة فصمت حينا ثم قال: لا.
Halaman tidak diketahui
وعاد الذعر إلى الأم: ماذا، ألا تريدها؟ - بل أريدها. - فهي لك. - لا، لا أريدها هكذا. - وكيف تريدها إذن؟ - إذا قبلت أنت أن تزوجيها لي فمعنى هذا أنك أنت ترضين عني، أو أنك ترضين عن الوظيفة التي أشغلها والمرتب الذي أناله وأنا أريد أن ترضى هي، وأن ترضى برغبتها الخالصة دون أي تأثير منك أو من عمي.
وعادت الإشراقة إلى نفس الست؛ فقد كانت تدرك ما تعانيه ابنتها من مخاوف.
وكان الزواج، وأقبلت هبة عليه إقبالة خائفة أول أمرها؛ فما تدري ما مصيرها مع شخص لم تفكر يوما أنه سيكون زوجها وإنما هو ابن العم الخجول، والمحب الواله الذاهل إذا نظر إليها. ما الزواج من رجل لم تره إلا فاغرا فاه من الدهش، والفم الفاغر لا ينطق فهو لا ينطق، أتراه يتضح عن رجل يجيد فن الحياة كما يجيد أن يفرج شفتيه، وكما يجيد أن يطيع الرؤساء وينفذ أوامرهم؟ أتراه، يحسن من الحياة ما يحسن من الوظيفة؟!
وأقبل مسعود على الزواج إقبالة مذهول أيضا؛ فقد كانت الآمال - إن شاءت هذه الآمال أن تبلغ به أقصى غاياتها - تهيئ له أنه يستطيع أن ينال من هبة نظرة رضا. أما أن تهب له ابتسامة عطف أو حتى ابتسامة بغير عطف أما هذه فإن آماله لم تجرؤ أن تصل إليها، ولكنه اليوم ينال هبة بجميعها بابتساماتها بل بقبلاتها، ماذا؟ نعم بقبلاتها بل بكل شيء بل والأعجب من هذا أنها لا تستطيع أن تمنح إنسانا آخر في العالم ما تمنحه له من نفسها، ولا استثناء من هذه القاعدة. لا ينال إنسان آخر في العالم ما يناله هو من هبة، لماذا، ماذا أنا، وماذا أصبحت حتى أنال كل هذا الهناء، أتراها تحبني أم أنها ...؟ أم أنها ماذا؟ ما الذي يجعلها تقبلني زوجا إن لم تكن تحبني أتحبني، وما لي لا أسألها؟ عجيب أمر الناس. أتراها ستقول لي أكرهك إن كانت تكرهني، وإن كانت تكرهني وكانت عندها الشجاعة التي تقول لي أكرهك أتراني أصدقها؟ سأقول لنفسي حينئذ، لا، إنما هي تريد أن تلهب حبي لها ولا يمكن أن تكرهني؛ فإن أحدا لا يصدق أن من يحبها تكرهه، وترى هل أصدقها إن قالت إنها تحبني، أتراني إذا خلوت إلى نفسي أصدق من أعماق قلبي أنها تحبني؟! عجيب أمر نفسي هذه، كثيرة الشكوك لا تصدق ما يحلو لها، ولا تصدق ما يسوءها، دائمة الحيرة عديمة الاطمئنان ثائرة متقلبة. وكيف لها أن ترضى أو تطمئن وهي لا تدري ماذا يرضيها، وهي لا تدري أين الحقيقة في مشاعر من تحب، بل هي لا تدري إن كانت تريد هذه الحقيقة أم لا تريدها، فما كنت لأسعى إلى معرفة الحقيقة لو أن معرفتي هذه ستنتهي بي إلى أن هبة لا تحبني، أنا لا أريد حقيقة المشاعر؛ فالمشاعر لا سبيل لي إليها، وإن كان هناك سبيل فأنا لا أريده، أنا أريد الواقع دون الباعث إليه، أريد ما أراه أمامي ولا أريد أن أعرف لماذا يحصل. ما لي وللنفوس وما تخفيه، إنها أحراش وغابات تستخفي بين شعابها الكثة وحوش أشد ضراوة وفتكا من وحوش الغابات والأحراش، ما لي وللنفس وما تخفيه، إن هبة زوجتي ويكفيني منها أنها زوجتي، ويكفيني من الحياة أنني زوجها.
وفي اندفاعة محمومة هالعة استبق مسعود الأيام ليتم الزواج، فما هو إلا بعض زمن حتى كانت هبة ومسعود في بيت واحد، ولم يستطع مسعود على رغم ما ناقش به نفسه من كذب وصدق، لم يستطع إلا أن يسأل هبة: هبة، هل تحبينني؟ - لقد تزوجتك. - ليس هذا جواب سؤالي. - بل إن سؤالك لن يجاب بأبلغ من هذا. - قد تتزوجينني دون حب. - لو كنت نشأت في بيت غير بيت أبي لجاز لك أن تقول هذا. - لا أفهم. - أنت تعرف أن أبي لا يمكن أن يفعل شيئا لا أرضى عنه فكيف يزوجني دون رضائي؟ - قد ترضين أن تتزوجي مني ولا تستطيعين أن تحبيني. - هراء، إن الزواج أشد قوة من الحب. - فأنت لا تدرين الحب، أنا أحبك حبا لا أجد شيئا في العالم أقوى منه. - بل إنك أنت الذي لا تعرف الحب، إنني حين أقبلك زوجا أضع حياتي وحياة أولادي كلها أمانة بين يديك وليس في العالم حب أقوى من هذا. - إذن فأنت ... - لقد تزوجتك، أليس كذلك؟
ولم تكن هبة كاذبة فيما ظهرت به من حب؛ فهي منذ تزوجت مسعودا وهي تقنع نفسها أنها تحبه، ولما كانت نفسها ذات إباء وكبرياء فقد سرعان ما صدقت أنها تحبه، بل إنها زادت فاقتنعت أنها تحبه منذ هما طفلان، وهكذا اطمأنت هبة أنها لم تتزوج زيجة ملهوفة تخشى أن يفوتها القطار فهي تتعلق بالعربة الأخيرة منه، وإنما هي تتزوج زواجا تقوم أسسه على الحب، وأنها إنما تستقل من القطار أوفى عرباته راحة تصعد إليها في لا عجلة لاهفة ولا اندفاعة طائشة هالعة، إنها تصعد مطمئنة الخطوات على ريث من أمرها وتدبر هادئ مستريح. فهي إذن تحبه وهي لأنها تحبه تتزوج منه، اقتنعت ومر عام، بل لم يكد عام أن يمر، ودخلت هبة إلى زوجها حجرة مكتبه وعلى كتفها طفلهما الأول سعيد وقالت هبة وهي تغالب الدموع أن تنفجر من عينيها: هل أستطيع أن أكلمك؟
ودون أن يرفع رأسه عما يقرأ قال: تفضلي. - تذكر يوم زواجنا؟
فقاطعها: لا زلت تذكرين؟
وقالت في غيظ مكبوت: ليس الوقت طويلا على كل حال. - لقد جاء في أثناء هذا الوقت ولد بأكمله. - نعم، ولكن ليس الوقت طويلا مع ذلك. تذكر أنني قلت لك إنني أضع حياتي وحياة أولادي أمانة بين يديك. - نعم، وها أنت ترين أني أعمل ليل نهار لأوفر لك ولسعيد كل أسباب السعادة. - لقد نسيت أن بين طوايا حياتي هذه التي أودعتها أمانة في يديك كرامتي. إنها أعز ما تضمه حياتي من مقومات. - فلسفة عالية علي. - بل حقيقة إن كنت تجهلها فأنت تجهل الكرامة. - وهل مسست كرامتك؟ - أولا هذه اللهجة التي تكلمني بها. - ما لها؟
وعلا صوتها في غيظ: أنت تعرف ما لها وإلا فأنت تقبل أن يكلمك بها الناس. - لعلي كنت مشغولا، على أنني لم أقصد أن أمس كرامتك، ألمثل هذا ... - لا تكمل. لقد أردت أن أنبهك إلى شيء أخطر من ذلك، أنت تخرج مع سكرتيرتك.
Halaman tidak diketahui
وذهل مسعود وقال في حيرة: مع من، أتتجسسين علي؟ - لا، ولكن أخبارك تصل إلي دون أن أسعى إليها. - وما البأس أن يراني الناس مع سكرتيرتي. - في غير مواعيد العمل. - وفي أي وقت. - تلك هي إذن كرامتي المضاعة، فعليك أن تختار، أن أبقى في البيت أو تبقي على سكرتيرتك. - لا يمكن أن أختار، لا يمكن. - لماذا، ماذا بينكما؟ - إنها زوجتي.
قالها وعادت إلى فمه الانفراجة البلهاء وإلى عينيه النظرة الذاهلة، وحدقت فيه هبة طويلا، ثم احتضنت ابنها وتركت الغرفة، وحاولت، وحاولت كثيرا أن تترك البيت ولكن ذراعي طفلها الواهيتين كانتا تمسكان بها ببيت الأب في عنف جبار لا تطيق التغلب عليه، فهي باقية، باقية.
خطابان
أنت يا صديقي أحببت في مجدك، وأحببت في صورتك التي رسمتها، أحببت في رأي النقاد في عملك، ولن يبقى من هذا جميعه شيء.
لم تعرف خطه على الظرف؛ فقد كانت المرة الأولى التي يكتب لها. وبيد مرتجفة أمسكت الخطاب:
أطويل طريقنا أم قصير؟ إلى أين تقودين خطاي؟ عرفتك منذ عرفتك هوى جامحا وحبا عاصفا، وأفانين من السعادة يشوبها الخوف وألوان من الهناء يخالطها الأسى، فما استمتعت بسعادة ولا خوف ولا هناء ولا أسى مثل هذه المتعة التي ذقتها من نبرة صوتك وفيها الحنين أو نبرته وفيها غضب، أو من عينيك أنظر إليهما فهما واد من الحب الظليل الحار العاصف النضير، ثم أنظر إليهما فهما حينا خوف وهما حينا أسى وهما حينا كل شيء ووميض وابتهال.
إلى أين بنا الطريق، إلى أين؟ أطويل سبيلنا، لكم أرجو أن يطول، أم قصير؟ لكم أخشى أن يقصر.
أنت خائفة، دائما إذا خلوت إلى فكرك وخلصت من فؤادك، تخافين، ثرية أنت باذخة الثراء. وأنا لا أملك إلا هذه الريشة التي أرسم بها، ولكني أكسب منها أموالا طائلة إن لم تصل إلى إيراد ثرائك فهي لا تقل عنه كثيرا. ولكنك مع ذلك خائفة، وتأبين أن تقولي مبعث خوفك ويهيئ لك الوهم أنني لا أعرفه، لماذا يظن الناس دائما أن غيرهم أقل منهم ذكاء؟ إنني أعرف خوفك ومبعثه، بل إني أيضا أمهد لك العذر أن تخافي ويشتد بك الخوف، فقد شاء حظك أو شاء حظي أن يتقدم لخطبتك قبلي إنسان كشفت حقيقة نفسه فإذا هو ولا مطمع له إلا مالك؛ فأنت منذ ذلك اليوم تأبين أن تصدقي أن بين الناس من يحبك لأنك أنت ...
أنت وحدك بلا مال ولا ثراء، مسكينة أنت لكم تنظرين إلى المرآة، ولكم تكذبين ما تقول لك المرآة، أنت جميلة، ألا تدرين أنك جميلة، ألا تدرين، أتذكرين أول يوم رأيتك فيه؟ أتذكرين ماذا فعلنا؟ لم أكن أعرفك وإنما رأيت هذه الوضاءة تشع من حولك فإذا ما حولك جميعا لا شيء إلا أنت، وقد كان ما حولك كثيرا. أضواء باهتة ونساء جئن يشهدن عرض الأزياء فجعلن من أنفسهن معرض أزياء، ومعرض جواهر أيضا، وموسيقى حنون ناعمة ونساء صنعتهن أيد ماهرة صناع يعرضن أنفسهن قبل أن يعرضن أزياء المتاجر، وصخب وتصفيق وضجيج، تلاشى هذا جميعا ولم يبق في عيني إلا أنت، أنت وحدك وجمالك الصاخب عالي الضجيج حلو الرنين عذب الأغاني باهر وهاب. وظللت أرنو إليك فما شهدت من الأزياء أو النساء أو الأضواء شيئا، وحين قارب الحفل الانتهاء كنت أنت وثقت أن عينين من مئات العيون لم ترتفع عنك، وكنت أنا قد بلغت من حيرتي يأسا. فما أدري كيف يتم بيننا اللقاء، لم أكن أريد حينذاك إلا أن يقدمني إليك أحد، وكالغريق في المحيط المترامي الأطراف تمتد إليه يد لا يدري من أين امتدت، جئت أنت، نعم أنت، صوب المائدة التي أجلس عليها، وحملقت، ولكنك كنت ما زلت قادمة إلى المائدة، وحملقت ودارت بذهني احتمالات فيما ستفعلين، أتراك ستثورين في أن ظللت أرنو إليك طوال العرض، أتراك ستصفعين وجهي، أتراك؟ لم يستطع واحد من هذه الاحتمالات أن يمنع الفرحة التي راحت تهز قلبي هزا، فإني سأتعرف بك، ثائرة كنت أو غاضبة لا يهم، المهم أنني سأتعرف إليك، وجئت، ووقفت إلى مائدتي وظللت جالسا أحملق منتظرا هجومك أو منتظرا ما هو أشد من هجومك ولكنك لم تفعلي شيئا من هذا، وإنما مددت يدا طيبة إلى أختي التي كنت قد نسيتها مع ما نسيت من ناس وأشياء، وحينئذ وقفت وقبل أن أعرف اسمك قلت: أتسمحين يا سيدتي أن أرسم لك صورة؟
وكان من الطبيعي أن تنظري إلي نظرتك إلى مجنون، ولم أحفل حينذاك بما تظنين، وإنما كانت لهفتي إلى أن أرسم صورة لك هي كل ما يسيطر علي، خيل إلي أنني لو رسمت صورة لك سجلت قطعة فريدة من إبداع الخالق لا تتكرر ولا يجوز لها أن تتكرر؛ فالعمل الفني إذا ما أعيد سقط عنه جلاله. لم أحفل بما قد يتواثب إلى ذهنك من أفكار، فما رأيك؟ وما ظنك بي أنني مجنون إذا ما قارنته بهذا العمل الفني الكبير الذي أريد أن أسجله، ولا أدري لماذا فكرت في هذه اللحظة العابرة أن حياتي الفنية، بل حياتي متوقفة على لفظة منك. وأدركت أختي الموقف وسارعت: أخي فريد حسني.
Halaman tidak diketahui
ولم تزل عنك دهشتك كلها ولكنك قلت في نغمة حسية الجرس: أهلا وسهلا.
وقالت أختي: طبعا تعرفين أنه رسام.
وابتسمت فما رأيت ابتسامة أحلى مما رأيت على وجهك. - إن لم أكن أعرف فقد عرفني هو وضحكت أختي، ولم أملك أن أضحك، وقلت أنت: أراك متعجلا على أن ترسمني. - الآن قبل اللحظة الأتية. - يا سلام، ولماذا العجلة؟ - أخشى أن تمر الأيام على هذا الجمال. بل أخشى أن تمر الدقائق. وضحكت وضحكت أختي ثم تجهمت أساريرك فجأة وقلت: أتعرف من أنا؟
وقلت وأعتقد أن وجهي كان ساذجا وأنا أقول: أبدا، ولكني لم أعرف لجمالك مثيلا.
وعادت الابتسامة إلى وجهك ثم قلت: أخشى أن يكون هذا غزلا. - أنت تعرفين من أنا؟ - نعم قرأت عنك ورأيت لك بعض الصور. - أتعتقدين أنني أقبل لكرامتي أن أقول ما أقول لمجرد الغزل؟ - إذن ... - أنا يا سيدتي، رسام، رسام رأى وجها لم ير له مثلا من قبل وما يعتقد أنه سيرى له مثيلا من بعد، أنت عندي الآن وجه، مجرد وجه. أنا لا أعرف من أنت ولا يهمني أن أعرف، إنما أعرف هذا الوجه، ولا أريد أن يمر الزمن قبل أن أرسم هذا الجمال فيه، وأنا لا أريد منك إلا رسمك، إنه جمال أراد له الله أن يكون واحة ندية للبشرية العانية، سيدتي أخشى أن يمر الزمن، أي قدر ضئيل من الزمن على هذا الوجه وأنا أريده هو الآن. - أتخشى الزمن إلى هذا الحد؟ - قاس لا يرحم الجمال، لو كان الزمن يعقل لمر بجمالك هذا فتركه دون أن يوقع عليه بغضونه أو يلمس شعرك الزاهي المتكبر بثلجه، ولكن الزمن يمر ولا يعفي أحدا، وأريد أن أرسمك قبل أن يمر.
وارتسمت في عينيك أمواج من الخوف وأمواج من الفرح وازداد بهما الشعاع وقلت: لك أن ترسمني.
أنت لم تعرفي أي أمل حققته بألفاظك القليلة هذه، والتقينا بعد ذلك وكانت صورتك التي كتب عنها النقاد أضعاف ما كتبوا عن صوري جميعا وبلغت من المجد فوق ما كنت أهفو إليه. ولكن شيئا من هذا لم يجعلني أطير بهذين الجناحين اللذين كنت أطير بهما وأنا أرنو إليك في أول لقاء، أو هذين اللذين كنت أطير بهما وأنا جالس إليك، لقد عبدت الله المصور في صورتك، وأحببتك آية من آيات الفن الأسمى الإلهي، أحببتك منحة من السماء وأحببتك أملا لي وأحببتك جمالا لا يطاوله جمال، وحاولت أن أخطبك ولكنك رفضت، لم أكن أتوقع هذا الرفض أبدا، نعم عرفت عن ماضي أيامك هذه الخطبة الفاشلة التي أرادها طامع في مالك، ولكنك تعلمين أني لا أطمع في مالك، أتراك من أجل غلطة واحدة من الزمان تعرضين عن الحياة ومن أجل خطيئة واحدة من رجل ترفضين جميع القاصدين إليك؟ لا أظن.
فمن تستقبل الحياة إن لم تكن أنت؟ وعلى من تقبل الحياة إن لم تقبل عليك أنت؟ أنت في جمالك هذا الشاهق الأبي، وفي شبابك هذا الزاخر بالحياة، اجعلي مني حياتك فأنت كل حياتي.
ولم يعرف خطها على الظرف؛ فقد كانت المرة الأولى التي تكتب فيها إليه. وبيد مرتجفة أمسك بالخطاب:
لكم تشبه يا صديقي ذلك الفتى الذي تقدم إلى خطبتي طامعا في مالي. لا تجزع، فإنك مثله لا فارق بينكما ولا اختلاف، لقد أحب كل منكما شيئا زائلا مني، أحب هو المال وما أسرع ما يزول المال، وأحببت أنت الجمال وما أسرع ما يزول الجمال. وأنت تعلم وأنت تذكر كم كنت ملهوفا على رسم صورتي قبل أن تمر بي الأيام فتطمس جمال وجهي وتذهب بشعري المتكبر المزهو. أنت شبيه بذلك الفتى كلاكما أحب زائلا. أنت يا صديقي لم تحبني أنا، أنا جميعا بكل شيء في، بروحي وجمالي وفكري وكل ما يكون هذا الكيان الذي أمثله في هذه الحياة، لو أنك يا صديقي أحببتني جميعا إذن لهدأ خاطري واطمأن ولقبلتك زوجا قائلة لنفسي، إن ذهب الجمال بقيت الروح وإن ذهب المال بقي الفكر، ولكنك وا أسفاه، لم تحب إلا جمال وجهي فقط، وما أسرع ما يزول، أجل ما أسرع ما يزول.
Halaman tidak diketahui
أنت يا صديقي أحببت في مجدك وأحببت في صورتك التي رسمتها، وأحببت في رأي النقاد في عملك، ولن يبقى من هذا جميعه شيء، ستجدد مجدك بصورة أخرى وسيقول النقاد عما سوف ترسمه كلاما ينسيك ما قالوه عن صورتي، ولن يبقى مني لك إلا وهم تقف دونه من الأيام سدوف وضباب.
لقد التقى جمال وجهي بريشة الفنان فيك ولن يخلق هذا اللقاء حبا. لو التقت الروح مني بالروح منك، لو التقيت أنا جميعا بك لكنت الآن سعيدة، ولكنت الآن آمنة حين أقول لك إني أقبلك زوجا.
إني يا صديقي قد أحببتك، وقد أحبيت فيك شيئا خالدا، أحببت فنك، وفنك هو روحك، ولكم كنت آمل أن أجد خطابك هذا الذي قرأته والذي أرده إليك يخبرني أن لي عندك ما لك عندي، ولكنك، وهذا ما أحبه فيك، صريح لا تبدي إلا ما تخفي، ولقد وجدتك تحب في شيئا أنا واثقة أنه لن يدوم. فأيام الربيع قصيرة، وهي للمرأة أشد قصرا، فإن جاء الخريف وتلاه الشتاء وبحثت حولي ولم أجدك فوا ضيعتي يوم ذاك، وا ضيعتي! إنني أيها الصديق الحبيب ممن يعدون للشتاء منذ هم بالربيع، ولكم يؤلمني أن أخبرك أنني لن أقبل عرضك هذا؛ فالشتاء وخاصة شتاء المرأة بارد قارس باهت وما أحب أن ألقاه وحدي، لقد نعمت بما نلته منك. وبحسبي هذا من جمالي ذكرى. ولن أقول وداعا، فإنني أحب دائما أن أراك، وسأظل دائما أراك؛ فالصداقة تستطيع أن تمتد إلى كل الفصول، فإلى اللقاء، إلى لقاء دائم.
عودة الزغاريد
وكانت فايزة تحس بنظراته سواء كانت تراهما أو كانت مولية له ظهرها، كانت تحس النظرات ولا تراها.
كانت الحاجة زكية لا تترك فرصة دون أن تطالب زوجها الحاج عبد الرحيم العجل بأن يزوج ابنهما مدبولي الذي تجاوز مطالع الشباب والذي ترى أمه أن زواجه قد تأخر.
ولم يكن الشيخ عبد الرحيم يؤجل طلب زوجته عن فقر؛ فهو بحمد الله غني يملك عشرة أفدنة تنتظر الزيادة. وما كان يماطلها عن بخل؛ فهو يحب ابنه أشد الحب ولا يرجو من حياته شيئا إلا أن يسعد ابنه الوحيد هذا، بل إن السبب الحقيقي الذي من أجله لا يريد الشيخ إتمام الزواج هو هذا الحب الذي يكنه لابنه، وقد كانت مطالبة زوجته تزيده إصرارا على التأجيل الذي قد يصل إلى الإحجام، وكيف يقبل على تزويج ولده وهو ينظر إلى أمه هذه العجفاء التي لا يكاد جلدها أن يخفي عظامها. كومة من العظام حاول على السنين الطويلة، الطويلة جدا، أن يكسوها لحما فلم تفلح محاولاته جميعا.
لا يزال الشيخ عبد الرحيم يذكر ذلك اليوم الأغبر الذي أخبره فيه أبوه أنه كبر وأصبح لا بد له من الزواج عملا بالحديث الشريف: «من استطاع منكم الباءة فليتزوج.» ولم يصبر أبوه حتى يختار هو العروس بل اختيرت له وتم الاتفاق على زواجهما دون أن يراها، ودخل بها، وكانت ليلة أسود من الحبر، كانت عظاما ولم تكن زوجة، وقد كانت أحلامه، كل أحلامه أن يتزوج من امرأة، امرأة ثقيلة الأرداف حتى لا تستطيع حملها، إذا أمسك بذراعها غاصت أصابعه في تجاويف وكهوف من البشرية الحية الطازجة، فإذا زوجته هذه العجفاء الهزيلة، وصبر نفسه وقال قد أستطيع على الأيام أن أسمنها؛ فأنا في تسمين العجول بارع مشهود لي في القرية جميعا. ولكن براعته في تسمين العجول لم تجد شيئا في تسمين الزوجة.
وعاش معها عشرين عاما تزيدها الأعوام هزالا وتزيده هو يأسا وضيقا بالزواج. وقد جعله ينصب نفسه مبشرا ضد الزواج؛ فلا حديث له إلا أن ينفر الشباب من الإقدام على نصف دينهم، وهو لا ينتهي عن ذكر الأيام الحالكة الظلمة التي قضاها في ظل زواج جاف من امرأة ليس فيها من صفات المرأة إلا أن اسمها في دفتر المواليد أنثى.
لم يحقق الزواج إذن من أحلام الشيخ عبد الرحيم شيئا، وإنه يريد ابنه أن يستمتع بحياته ويخشى عليه أن يلقى في الزواج ما لاقاه أبوه من أهوال تطالعه بها الحاجة عزيزة التي ازدادت على الأيام عظاما وازداد وجهها غضونا، وازداد زوجها منها نفورا ولها كرها.
Halaman tidak diketahui
ولم يكن الشيخ يجد شيئا يفرج كربه منذ أيام زواجه الأولى إلا أن يظل ليله يستمع إلى فتيان القرية الذين أصبحوا على الأيام شيوخا مثله وهم يروون مغامراتهم مع نساء، نساء مكتملات لا كومات من العظام كتلك التي يتركها في البيت.
وحديث الرجال في القرية لا ينتهي حول النساء؛ فالأفواه لا تمل من ترديده والآذان لا تمل من سماعه. فكيف إذن بالشيخ عبد الرحيم وهو الرجل الذي يعتبر نفسه غير متزوج.
أما مدبولي ابن الشيخ عبد الرحيم فله في الزواج مذهب آخر؛ فهو يفلح الأرض منذ استطاع أن يمسك الفأس. وقد كان يشاهد فايزة وهي تقدم بالطعام لأبيها صالح أبو عرابي الذي يعمل في حقل الشيخ عبد الرحيم. وكان يعجب بقوامها الفارع وبابتسامتها التي تومض ومضا إذا سمحت للخمار الذي تضعه على نصف وجهها أن يسقط، وكان يتدله بهاتين العينين يشع منهما بريق من الحياة ونشوة من الشباب. وكان يظل رانيا إليها وهي مقبلة ثم يظل رانيا إليها وقد حملت الأواني فارغة وعادت بها فلا يمل النظر، وكانت فايزة تحس بنظراته سواء كانت تراها أو كانت مولية لها ظهرها، كانت تحس النظرات ولا تراها. وكانت تحس معها نشوة تدغدغ فؤادها الغرير، ثم تحس لذعة من الفقر؛ فإن الزواج غير متوقع بينها وبين ابن الشيخ عبد الرحيم الثري القانط من الحياة والكاره للزواج كرها أصبح في مثل شهرة الشيخ نفسه.
وكان مدبولي يعلم أن أباه لن يقبل هذا الزواج؛ فهو يعلم أن أباه لا يحب من النساء إلا المليئات وفايزة في مقاييس أبيه عجفاء لا تصلح للزواج، كما أنه يعرف أن أباه يحب أن يزيد أفدنته العشرة ببضعة أفدنة أخرى تجلبها له زوج ابنه ولن تجلب ابنة صالح أبو عرابي شيئا يزيد هذه الأفدنة، بل هي ولا شك ستكلفه مهرا وليلة زفاف وفما يبتلع قد يصبح مع الأيام عدة أفواه من الأطفال. وهكذا كان مدبولي يدرك أن أباه لن يرحب بهذا الزواج بحال من الأحوال، فلم يجد مناصا من أن يكتم هواه ويتظاهر أمام أبيه أنه يوافقه على رأيه.
وكان من بين أصدقاء الشيخ عبد الرحيم، أحمد أفندي متولي، رجل عاش عمره نصف فلاح ونصف حضري؛ فهو يذهب إلى المدينة كل يوم وللبيت في القرية كل ليلة. وقد تزوج من المدينة وجلب زوجته معه إلى القرية وامتدت صداقات الزوجة بزوجات أصدقاء زوجها، وكانت زكية من بين أولئك الصديقات. وقد استطاع الشيخ عبد الرحيم أن يرى زوجة أحمد أفندي من بعيد، وقد كانت هذه الرؤية البعيدة تكفيه أن يحكم على جمالها فما كان يعنيه من جمالها إلا أنها ذات قوام مليء بل هي تزيد عن القوام المليء؛ فكان يكن لها إعجابا ويكن لزوجها حسدا، وتزداد حسرته بامرأته العجفاء.
وفي يوم قالت زكية لزوجها: يا شيخ عبد الرحيم.
وأجابها في نفوره الذي لا يتغير: ما لك؟ - والدة الست هانم تعيش أنت. - حماة أحمد أفندي؟ - نعم، والمأتم اليوم في البندر، ألا أذهب للعزاء؟ - طبعا، أطلب لك عربة ونذهب معا.
وذهبا، وبينما هما عائدان رأى الشيخ عبد الرحيم في عيني زوجته كلاما يثور بها أن تتحدث فلم يحاول أن يسألها، حتى إذا بلغا المنزل واستقر بهما المقام أو كاد قالت زكية: أما يا شيخ عبد الرحيم ربنا رضي علينا. - خير. - الست هانم لها ابنة أخت لو أصبحت من نصيب مدبولي، وقاطعها الشيخ عبد الرحيم: يا امرأة حطي في عينك حبة ملح، أتذهبين للعزاء فتخطبين لابنك؟ - يا أخي الحي أبقى من الميت، بنت، أما بنت، مال وجمال. - يا امرأة اعقلي. - والله لو رأيتها لعرفت أنني أنا العاقلة، وأمها تتمنى النسب. - ماذا؟ - أمها تتمنى. - هل سألتها؟ - النسوان يفهمن لغة بعضهن بعضا، أخذت منها في الحديث وأعطيت فوجدتها راغبة فينا أشد الرغبة. - في مأتم أمها! - وما له، أمها مريضة من عشرين سنة، أتنتظر أن تظل البنت عانسا لأن ستها ماتت عن مائة سنة؟! يا أخي أرجو أن نعيش مثل عمرها، أو حتى أقل بثلاثين سنة. المهم أن أم البنت ...
ويقاطعها الشيخ عبد الرحيم: خطبت البنت من أمها في مأتم أم أمها.
وقالت زكية في حزم: نعم، وقبلت، لو رأيتها تعذرني، عود يا شيخ عبد الرحيم.
Halaman tidak diketahui
وقال الشيخ عبد الرحيم في سرعة: هيه، رفيعة. - العفو عود، عود مليء ووجه كالقمر، وأبوها غني. - عرفت الأخبار كلها. - بعد الأربعين نتوكل على الله.
ولم يجب الشيخ عبد الرحيم، ومرت الأيام الأربعون، مرت على الناس جميعا سريعة لا سمة لها ولكنها مرت في بيت الشيخ عبد الرحيم وهو لا يسمع شيئا إلا عن جمال البنت.
علية وحلاوة علية وعود علية وغنى أبي علية وطيبة أم علية، حتى أصبحت علية داء مستعصيا في لسان زكية وفي أذن الشيخ عبد الرحيم وفي حياته. إنها المرأة حين تريد، وقد أرادت زكية فهيهات أن يعصي الشيخ عبد الرحيم؛ كان بين اثنتين: أن يطيع زوجه أو يذهب واحد منهما إلى مستشفى المجاذيب، ولما كان الرجل لا يريد لنفسه ولا لزوجته هذه النهاية فقد أسلم أمره لله وأطاع زوجته. وكلم أحمد أفندي أن يحدد لهم موعدا عند عديلة، وتحدد الموعد وخرج موكب الشيخ عبد الرحيم ليخطب لابن الشيخ عبد الرحيم.
ولو كنت في القرية يومذاك لرأيت الشيخ عبد الرحيم في عمامته الجديدة وجبته المصنوعة من الجوخ الأخضر وتحتها القفطان الحريري ذو الخطوط الحمراء، ولرأيت الشيخ وقد أفلت ذقنه من الحلاق بعد أن سلخها فهي كالجزرة لولا بعض البودرة التي يعدو عليها العرق فتتناقص.
ولرأيت الست زكية في فستانها الكريب دشين وقد غطته بالمعطف الأسود الحريري واتخذت على رأسها خمارا يدور حول أسفل ذقنها شأن سيدات المدن.
ولرأيت خادمة المنزل في فستان جديد وقد صحبتها الست زكية لتكون مظهر غنى ودلالة سيادة أمام الأصهار، وقد امتنع مدبولي عن الذهاب أول الأمر ولكن أباه تحت وطأة إلحاح أمه أمره فأدخل نفسه في الجلباب الحريري الجديد والمعطف الصوفي الذي وضعه على نفسه على رغم الحر الشديد، وأدخل رأسه في طربوش أحضره له أبوه، وخرج الموكب.
ولم تستطع زكية حين رأت نفسها وزوجها وابنها، والخادمة في العربة ذات الجياد المطهمة لم تستطع أن تملك نفسها فأطلقت زغرودة عريضة تردد صداها في القرية جميعا، ولكنها لم تكتف بها بل ظلت طوال مرور العربة في القرية تطلق الزغاريد، وتفسر لزوجها السبب في كل زغرودة تطلقها، فهذه للحاجة فهيمة حبيبة العمر ولا بد أن تشاركها الفرحة، وهذه لفاطمة العدو اللدود التي كرهتها منذ دخلت القرية، وهذه للحاجة منيرة الحاضنة لتستدعي زغرودتها المشهورة، وهكذا حتى خرجت العربة من القرية.
ولو أنك انتظرت في القرية بضع ساعات لوجدت هذا الركب عائدا كما هو لم يتغير منه شيء أبدا إلا الزغرودة وزكية، كان الركب عائدا بالعربة نفسها وزكية واقفة في العربة وقد رفعت الخمار الذي كان يغطي رأسها وصفحتي وجهها وأمسكت به بيديها كلتيهما وراحت تحركه ذهابا وجيئة خلف رأسها. ثم راحت في الوقت نفسه ترسل الأصوات النائحة الصارخة والكلمات الفاجعة، يا مصيبتي، يا قلة بختي، يا خيبتي عملتها بيدي، وتقلب عينك في الركب فتجد الجميع لم يغب منهم أحد ولم يمت أحد، بل إنك تجد أيضا السعادة في وجوه الجميع.
لقد ذهب الشيخ عبد الرحيم وخطب علية فعلا، الفرق الوحيد أنه لم يخطبها لابنه مدبولي وإنما خطبها لنفسه، ولعل هذا يفسر لك كل شيء من حزن زكية ونواحها إلى سعادة الآخرين وفرحهم.
فالشيخ عبد الرحيم فرح لأنه حقق أمله آخر الأمر. ومدبولي فرح لأن أباه قبل أن يزوجه فايزة مقابل أن يتزوج هو علية، والخادمة فرحة لأن فرحين سيقامان في المنزل بدلا من فرح واحد.
Halaman tidak diketahui
وجهات نظر
ولم أستطع السكوت، فهاجمتها في عنف، وثبت إلى ذهني الابتسامات التي تومض وتختفي، ووثب إلى ذهني ذلك الرجل الذي يلازمها ولا يتركها، فثرت.
قالت الزوجة: نعم إنه كان يشتري لي كل ما كنت أتمنى أن ألبسه، فساتين ومعاطف من فراء الثعلب ومن فراء أجنة الخراف ذلك الذي نقول عنه الأستراكان شديد الغلاء، ومعاطف من الزبلين والأرمين والفيزون، لا أدري ما هي هذه الأنواع من الفراء، أو أنني على الأقل لم أكن أدريها وإنما لبستها جميعا، وأثرت بها من الإعجاب ما أثرت، بل أثرت بها أيضا الحسد والحقد في نفوس الصديقات وغير الصديقات، وكان يشتري لي المجوهرات والحلي، من الماس واللؤلؤ والزمرد وغير هذا من الأحجار التي يخالها الناس لروعتها صناعية وهي حقيقية بعيدة الجذور والأصول. وكنا نقطن مسكنا إن رآه مخرج السينما لأخرج عنه فيلما وأسماه بيت الأحلام، أثاث من شتى الدول وبيوت الأثاث في العالم أسهمت فيه بأوفى نصيب، وكانت السيارة لا تكمل العام عندنا؛ فهي دائما أحدث طرازا وهي دائما أغلى نوعا.
وأشهد لم يكن زوجي زير نساء، وأستطيع أن أقول عن ثقة إنه لو أحب أن يكون زير نساء لأتاحت له نساء كثيرات - وكثيرات جدا - أن يتحلى بهذا اللقب، ولكنه لم يكن، وقد كان زوجي لا يشرب الخمر إلا في حفلات تضم قوما تصله بهم مصلحة عمل، وكان حينذاك حريصا كل الحرص، خبيرا عميق الخبرة، فإن كان للناس الذين تربطهم به مصلحة ميل إلى الشراب فهو يقدمه لهم إن كانوا في بيته، وهو يطنب في وصف المشروب الذي يقدمه، ويتحدث عنه في إحاطة وعلم ومرونة، وإن كان هؤلاء القوم من الذين يميلون إلى الصلاة وذكر الله والتمثل بآياته، فهو حينئذ يمسك بمسبحة من المرجان الأحمر ذات حلية من خالص الذهب، ثم هو يدير الحديث إلى النحو الذي يستهويهم؛ فيتحدث بالإحاطة والدربة والمرونة نفسها التي يتحدث بها عن الخمر وأنواعها، وإذا أبدى أحد الجالسين إعجابه بالمسبحة نظر إلى هذا المعجب فإن كان ذا مكانة قد تنفعه، عاجل يهدي إليه المسبحة، ويصر على هذا الإهداء، حتى يأخذها المعجب، وإن لم يكن ذا مكانة كبرى استطاع في لباقة أن يلوي الحديث إلى وجهة تبعده عن المسبحة. وكان منظر زوجي طريفا حين يدعو إلى بيته فريقين ممن يرجو لديهم نفعا، أحد الفريقين من هواة الخمر، والفريق الثاني من هواة الدين، فكنت تراه يمسك كأسه بيد، وإحدى مسابحه المرجانية باليد الأخرى، ويدير الحديث على الناحيتين موجها إلى كل فريق الحديث الذي يرضيه.
كانت مصالحه هي كل شيء في حياته، وما كان هذا ليغضبني لولا أنني وجدت نفسي في بيته مصلحة من مصالحه، ووسيلة من وسائله للبلوغ إلى أغراضه؛ فهو لم يقدم لي هدية من حلي أو ملابس إلا وشفعها بجملته الخالدة أحضرت لك هذا لأننا سنتناول العشاء الليلة عند فلان بك، أو فلان باشا.
كان يخيل إلي أنني معرض يضع عليه غناه ليرسل الثقة بما ألبس أو أتحلى به إلى نفوس المتعاملين معه. لم ألبس شيئا غاليا إلا لأعرض على فلان أو فلان من الناس، لم ألبس شيئا له ولم ألبس شيئا لنفسي، ولم ألبس شيئا لأنني أستحقه، ينسى عيد ميلادي وعيد زواجي وأعياد ميلاد أولادنا، ولكنه لا ينسى أبدا أن يحمل لي معطفا أو حلية غالية؛ لأننا سنتناول العشاء أو الغداء في مكان يضم قوما ذوي أهمية.
وكانت حياتي معه أشبه ما تكون بحياة الزائرين الرسميين في البلاد الأجنبية؛ فهو كل صباح يطالعني ببرنامج اليوم من زيارات ومواعيد؛ فأترك بطاقة في بيت فلان، أو ألبي دعوة من فلان، أو أدعو فلانا آخر إلى وليمة، قد يجد الزائر الرسمي ضمن البرنامج فترة يقضيها في حرية ليشاهد معالم المدينة التي يزورها، أما أنا فلم يكن لي هذا الحق، فالبرنامج لا يفوت يوما، والبرنامج كامل لا يترك ساعة، وقد يداخل الزائر اليومي أمل أن تنتهي الزيارة الرسمية ويعود إلى بلاده وحريته أما أنا فلا أمل لي؛ فهو زوجي ومصالحه تزداد كلما تقدمت به الأيام، والبرنامج ثابت لا يتغير فيه إلا الأشخاص.
تقطعت صلتي بالبيت، تقطعت صلتي بالأولاد، وأصبحت جزءا من سيارته، ومعرضا لغناه، ووسيلة لآماله.
ومرضت يوما فاعتذرت عن عدم تنفيذ البرنامج، لازمت سريري وجاء هو من الخارج وسأل أمه عني، فقالت إنني خرجت، ولكنه دخل فوجدني نائمة في السرير فسألني: أين كنت؟ - هنا. - أمي تقول إنك خرجت. - لم يحصل. - أمي لا تكذب. - وأنا لم أخرج.
وشتمني وشتمته، وتركني وخرج، قمت إلى ملابسي فجمعتها وخرجت تاركة الحلي والمعاطف لتنفع زوجته القادمة في الدعوات التي ستلبيها.
Halaman tidak diketahui