الأول، وهو أنطاكي الأصل، فأكرم يوحنا مارون ورحب به كثيرا، ثم رقاه إلى مقام البطريركية الأنطاكية وألبسه الدرع
28
إيذانا بكمال الرياسة له، وسلمه التاج والخاتم والعصا، وأنعم عليه بجميع الامتيازات المعروفة، فعاد إلى أنطاكية بدرع الرياسة البطريركية، وسعى منذ وصوله في تزييف البدع وتعطيل مقالاتها، وكتب في ذلك عدة رسائل وبث الاعتقاد بالطبيعتين والمشيئتين، ولما اتصل ذلك بأصحاب مقالة المشيئة الواحدة من الأساقفة في القسطنطينية امتعضوا منه وزينوا للملك بوستنيانوس أن يكره البابا سرجيس والبطريرك يوحنا على تأييد مقالة أصحاب المشيئة الواحدة، فأرسل الملك إليهما يأمرهما بذلك وينهاهما عن مخالفته وتوعدهما بالنفي فآثرا النفي والموت على الارتداد عن عقيدتهما، فأوغر صدر الملك غيظا وسخطا فسير إليهما قائدين من قادة جيشه ذكرياء ولاون ليأتياه بهما مصفدين بالأغلال، أما البابا ففيما قال فلاتينا المؤرخ: «لما عرف ذلك أتباعه في إيطاليا ثارت الحمية والغيرة عليه في نفوسهم فتدججوا بالسلاح لوقايته من أعدائه، واندفعوا يطلبون رسول الملك ذكرياء يريدون قتله، فواراه البابا عنهم ووجهه إلى الملك خفية، وأما يوحنا مارون فإنه لجأ إلى دير القديس مارون وأخذ يكتب في مسألة الطبيعتين، وبعث برسالة في ذلك إلى أهل لبنان.»
أما الملك فأمر قائده لاون بالمسير إلى أنحاء المشرق ليأتيه بالبطريرك مقيدا بالسلاسل، فتلكأ القائد معتذرا أن اللبنانيين لا يدفعون إليه الرجل؛ لأنهم يحبونه كثيرا وأن دون الوصول إليه أهوالا، وما تمحل لاون ذلك العذر إلا لأنه كان في الباطن يحب اللبنانيين، ويذكر لهم جميلا صنعوه بنجدتهم له في محاربة العرب، فاستشاط الملك غيظا وأمر بلاون أن يسجن، وأوعز إلى موريق وموريقان أن يقودا الجند إلى سورية لنيل تلك البغية. هذا في الباطن، وأما في الظاهر فأشاع أنه وجههما لمقاتلة العرب لتتم بذلك مكيدته، ولكن البطريرك لم يخف عليه وجه المكيدة؛ فكتب إلى إبراهيم ابن أخته يستغيث به، فجاءه إبراهيم باثني عشر ألف مقاتل، وذهب به إلى سمر جبيل، وأما موريق وموريقان فكان من أمرهما أنهما لما بلغا الديار السورية في سنة 694 سطيا برجالهما على دير القديس مارون ودكا مبانيه بعد أن قتلا من الرهبان فيه خمسمائة راهب، ثم توليا عنه وجعلا يقفوان أثر القائلين بالطبيعتين والمشيئتين وسكان تلك الأنحاء مثل أهل قنسرين وغيرها، وفتكا فيهم فتكا ذريعا لم يستحييا منهم أحدا ممن بلت يدهما به وخربا منازلهم. ولم تفتأ سيوفهما تحصد رقاب أولئك الناس، حتى بلغا مدينة طرابلس، فضربت خيام جيوشهما ما بين أميون وقرية في سفح الجبل يقال لها: الناووس؛ فوفد عليهما أعيان تلك النواحي بقلوب ملؤها الرعب، وجعلوا يلاطفونهما ملتمسين منهما الأمان بعد أن خضعوا لرائهما فأمناهم.
وبينما كان اللبنانيون في جزع شديد من الجيش الرومي؛ إذ وفد على البطريرك يوحنا وعلى الأمير سمعان رسول من القائد لاون الذي كان الملك قد سجنه لتلكئه عن إنفاذ الأمر، وبشرهما أن قد نجا من محبسه، وبلت يده بيوستنيان؛ فاخترم أنفه وتبوأ عرش ملكه بعد أن نفاه، ثم أذن لهما أن يحاربا الجيش الموجه عليهما فسر الجبليون بذلك، وانقضوا على الروم دفعة واحدة انقضاض الصواعق؛ فقتلوا أكثرهم وهزموا الباقين شر هزيمة، فكان من نتيجة ذلك كله أن الذين انصاعوا لإرادة جيش الروم وخضعوا لرأيهم سموا ملكية إشعارا باتباعهم طريقة ملك الروم حينئذ، وأن الذين ثبتوا في طاعة البطريرك مارون سموا موارنة، وأما العلامة السمعاني فقد ذكر في المكتبة الشرقية مج1 ص508 ما يخالف هذا الرأي مؤيدا ذلك بأقوال بعض المؤرخين، وها نحن نورده بنصه قال في المكتبة الشرقية مج1 ص508: «رفع آخرون نسبة المليكة إلى مرقيان الملك والمجمع الرابع، وأول من كتب هذا فيما أعلم من السريان هو ديونيس بن صليما نحو سنة 1160 للمسيح، وذلك في شرح الليتورجية (فصل 1) حيث قال ما معناه: «يسمون ملكية؛ لأنهم لما تركوا إيمان آبائهم اعتنقوا مذهب مرقيان الإمبراطور.»» وارتأى مثل ذلك من مؤرخي اليونان نيقوفور كاليست الذي عاش نحو سنة 1330 في تاريخه الكنائسي (كتاب 18 صفحة 52)، ونقل كلامه ديمتريوس القوزيقي في مقالته عن بدعة اليعقوبيين (مج2 صفحة 63).
قال نيقوفور: «إنه في أيام يعقوب هذا الذي تكلمنا عنه والذي كان يعلم البدعة المونوفيزية في سورية ظهر شقاق عظيم. فأما الذين تمسكوا بالرأي المهذب فسموا بالملكية؛ لأنهم تبعوا المجمع الرابع والإمبراطور نفسه.» غير أني أعرض عن كتبة اليونان والعرب المتأخرين عن نيقوفور وابن صليبا مثل ساويروس أسقف الأشمونيين، وابن الراهب صاحب التاريخ الشرقي وجرجس المكين بن العميد الذي تبعهم بارونيس، ولا أذكر أيضا أوطيخا الإسكندري الذي أتى مرارا في تاريخه باسم الملكية، وما أورد مطلقا أصل تسميتهم فضلا عن أنه قدر كون هذا الاسم كان قبل عهد مرقيان مرادفا للفظة أرثوذكسي؛ لأنه قال في صفحة 100: «وكان مرقيان الملك حسن الأمانة، وكان يدين ويقاتل عن أمانته الملكية، أما توما الحاراني أسقف كفر طاب من الشيعة المونوتولية الذي دار بينه وبين يوحنا بطريرك الملكية سنة 1089 جدال في مشيئة المسيح الواحدة، فأثبت أنهم كانوا يسمون بالملكية أولئك الذين بانقيادهم لكلام مكسيموس المعترف اتبعوا مرقيان وأخاه وموريق سالفي هرقل؛ لأن توما المذكور يقول: «إن مكسيموس هذا ذهب إلى المدينة المتملكة وقابل الإمبراطورين مرقيان وأخاه وموريق الذي خلفهما، واستأذنهم أن يعلم السوريين مشيئتي المسيح، أما الذين قبلوا هذا التعليم فدعوا ملكية».» إلا أن كلامه هذا هو عار عن كل صحة، وتخالفه آثار جميع التاريخ الكنائسي التي تشهد أن الإمبراطور مرقيان الذي تقدم موريق بأكثر من مائة سنة لم يكن له أخ يشاركه في الملك، وأنه في أيامه لم يجر مطلقا أدنى جدال في مشيئتي السيد المسيح، وإنما حصل ذلك في أيام هرقل نائب فوقا وموريق نحو السنة 628.
وعلى ذلك، فإني أرتئي عن الظن الراجح أن اسمي الملكية والمردة اسمان متضادان وجدا في عصر واحد لا للدلالة على اختلاف ديانة أو طقس كما ظن بعض علماء الموارنة، بل للدلالة على اختلاف غرض مدني فقط، ولو أنه أمكن فيما ولي من الزمان أن يدلا على شيء آخر، وذلك بعد أن امتاز كل من الفريقين عن الآخر وانفرد بطقس وكهنة وديانة مستقلة؛ لأن الذين تمردوا قديما في سورية على الملك سموا مردة أي عصاة، وأما الذين لبثوا في طاعة الملك فسموا ملكية نسبة إلى الملك، وهذا حدث في سورية أيام قسطنطين اللحياني عندما كان المردة كما يشهد تاوفان وشدران مالكين جميع ما هو من حد الجبل الأسود إلى مدينة أورشليم المقدسة.
ويثبت رأيي هذا صمت جميع الآباء المؤرخين الأقدمين عن الملكية. وإذا راجعت تصانيف آباء القرن الرابع والخامس والسادس والسابع والثامن والتاسع وطالعت تواريخ بركوبيس وأباغايو وثاوفان وشدران وزوناراس وتوفيلكت فإنك لا ترى فيها أثرا البتة لاسم الملكية، ولا تجد ذلك فيما كتبه بطرس القصار وفيلوكسين البعلبكي وساويروس وغيرهم الذين يدعون الكاثوليكيين مرارا خلقيدونيين وسيندوسيين ولا يسمونهم ملكيين مطلقا. وبعكس ذلك ترى تاوفان وشدران يأتيان صريحا بذكر المردة، ولكن من غير أن يتهماهم بوصمة بدعة، وذلك برهان على أن تسميتهم تشير إلى حزب مدني لا إلى فرقة دينية، ومن ثم فيقرب من الصدق أن أعداء المردة دعوا بلغة وطنهم ملكية، وإلا لأتى مؤرخو تلك الأزمنة الذين كتبوا عما جرى في سورية من الحوادث وما نشأ بها من البدع بذكر المردة والملكية بمنزلة خوارج. وكلا الاسمين - ملكية ومردة - سريانيا الأصل، وإنما نشآ في سورية، ويثبته كون طائفتي الملكية والمردة كانتا قبلا ولن تزالا إلى الآن متكاثرتين في سورية، وأما في غيرهما من الأماكن فوجودهما نادر أو لا وجود لهما أصلا. ولهذا لا ينبغي تصديق باجيس الزاعم أن اسم الملكية نشأ في مصر على عهد مرقيان الملك بقوله (تاريخ سنة 622 عدد 9) «الملكي كلمة تدل على من يتبع ديانة الملك، وهذا الانقسام لم يزل مشتدا إلى الآن في المشرق، نشأ في زمن مرقيان الملك الذي طرد ديوسقورس. ومن ذلك الحين قام بطريركان في مصر ترأس أحدهما على الأرثوذكسيين الذين سموا بعد الانقسام المذكور ملكيين، والآخر على أشياع ديوسقورس الذين كانوا كثيري العدد وقتئذ.»
لأنك أولا: لا تجد كاتبا أقدم من ابن البطريق رفع اسم الملكية إلى أيام مرقيان ، ثانيا: لو كانت هذه الكلمة قد نشأت حقيقة في مصر لما كان سمي الكاثوليك ملكية بلفظ سرياني أو عربي، بل لكان ينبغي أن يسموا باسيليين بلفظ يوناني، أو بلفظ آخر من اللغة القبطية كما هو ظاهر؛ لأن السريانية لم تدرج مطلقا في مصر، كما أن العربية لم تدرج هناك إلا بعد مرقيان الملك والمجمع الرابع بمائتي سنة لما افتتح المسلمون مصر في خلافة عمر بن الخطاب.
أما إطلاق المتأخرين اسم الملكية على الروم المصريين فلا ينبغي أن تتعجب منه؛ لأن اسم اليعقوبيين الذي ظهر بلا مراء في سورية ومن رجل سوري أيضا تراهم يدعون به المصريين المونوفيزيين؛ لأن أسماء كهذه عرضة للتغيير والتبديل، كما يوضح ذلك اسم الملكية بعينه، فإنهم في القديم كانوا يعبرون به عن الأرثوذكسيين، والآن يراد به المشاقون السريان والمصريون ذوو الطقس الرومي. وكذا اللبنانيون بعد أن تركوا لقب مردة سموا موارنة من مارون الذي تشيد ديره الشهير حذاء حماة، ومن هناك اتخذ يوحنا بطريركهم اسم مارون. هذا ما قاله العلامة السمعاني.
Halaman tidak diketahui