وبينما كانت الفتاة ذات ليلة مضطجعة على فراشها تشنف الأسماع بتلك الألحان الشجية؛ إذ فتح باب حجرتها فجأة، فاستنارت بأضواء زاهية وتعطرت بروائح زكية منبعثة من الحجر الأخرى، ورأت غلمانا وحورا لا تكاد تسترهم ملابسهم يسيرون في تلك الحجرات يلعبون ويمرحون، وكان هذا الجمع من جواري وموالي فرنشسكو يدعوهم كل ليلة فيغتنم معهم أوقات الأنس. وكان فرنشسكو غنيا لا يبخل على نفسه بلذة مهما كلفته تلك اللذة من المال، فكان لذلك كثير الندمان قد ملأ قصره من الجواري الحسان ومن حسان الغلمان.
ولما تمت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل أغلق على بياتريس الباب، فاختفت عنها تلك المناظر المدهشة للألباب، وخلفتها مفكرة فيما رأت، معجبة بما سمعت وشاهدت.
وفي الليلة الثالثة رأت بياتريس ما رأته في الأولى، إنما أتى إليها في تلك الليلة أبوها عاري الجسم كيوم ولدته أمه، ودعاها إلى الاشتراك معهم في لهوهم، فنفرت الفتاة نفورا طبيعيا لا تدري له سببا، ورأت من نفسها مانعا عن قبول دعوته، فقالت له: إنها لا ترى بين هؤلاء النساء امرأة أبيها لوكريزيا؛ فلذا لا تجسر على الخروج بينهن وهي لا تعرفهن، فهدد فرنشسكو ورجا، ولكن رأى الفتاة قد التفت في غطاء الفرش، وأبت كل الإباء أن تتبعه؛ فعاد خائبا ساخطا ...
وفي الليلة الثالثة لم تنزع بياتريس عنها ملابسها، فانطرحت بها على فراشها، وفي الساعة المعهودة فتح عليها الباب، وظهر لها مشهد الليلتين السابقتين، فرأت من ضمن النساء زوجة أبيها قد مرت أمام بابها، وكان فرنشسكو قد اضطر زوجته إلى حضور حفلته، فأتت مرغمة تسيل دموعها على خديها، وقد احمرت عيناها من البكاء، ولم تلاحظ بياتريس ما بها؛ لكثرة الضوء وبعد المسافة، وأراها أبوها امرأته بين الجواري فلم تجد بدا من إطاعته إلى الخروج معهن، فخرجت تتعثر في مسيرها من الحياء وقد احمر وجهها خجلا مما تراه.
ورأت بياتريس في هذا المحفل من ضروب الفسق والتهتك ما يخجل القلم من تدوينه.
ولبثت الفتاة حريصة على طهارتها أمدا، وضميرها يحدثها بأن ما تراه منكر وضلال، ولكن لم ييأس أبوها من إفسادها، فكان كإبليس لا يزال بالمرء حتى يلهيه عن ربه وواجبه، فلما رأى أن تلك المناظر لم تحرك في الفتاة شهواتها الراقدة، استعان بفكره على إفساد أخلاقها، فقال لها: إن كل الأولياء والقديسين إنما وجدوا من اجتماع الأب بابنته، وهكذا قضى على طهارتها وهي لا تظن إثما ما تأتيه، بل ولا يخطر له أن فيه ما يستنكر.
ولما نال هذا الوحش ما تمنى أطلق لنفسه العنان، ولم يقف بمنكراته عند حد؛ فكان يرقد بين ابنته وزوجته، ويكره زوجته على ذلك، ويهددها بالقتل إن فتحت فاها للفتاة بما ينبهها إلى فظاعة ما تأتيه مع أبيها.
الانتقام
ومضى على هذا الحال ثلاث سنين، ثم اضطر فرنشسكو إلى سفر طويل مخليا الجو لنسائه، فأسرعت لوكريزيا، وأعلمت ابنة زوجها ما في علاقتها مع أبيها من المنكر، وكشفت لها عما تجهله من أمور الدنيا والدين، فاتحدت معها الفتاة على أن تشكيا الرجل للبابا؛ فحررتا له كتابا عرضتا عليه فيه ما تسامان من الذل والعذاب والضجر، ولكن لم يصل كتابهما إلى قداسته؛ لأن فرنشسكو كان قبل سفره قد احتاط لمثل هذا الحادث، فرشا حاشية البابا وبطانته حتى لا تصل إليه شكوى عنه، وحسب المرأتان أن البابا ناقم عليهما كما نقم على أولاد فرنشسكو: جاك وكريستوف وروك فطردهم من حضرته، فظنا أن الغضب لاحق أيضا بهما؛ فصبرتا على قضاء الله وسلمتا أمرهما إليه.
وفي هذه الأثناء اغتنم جاك فرصة غياب أبيه، فأتى لزيارة أخته وامرأة أبيه مع راهب من أصدقائه يدعى جويرا، وكان جويرا شابا بين الخامسة والسادسة والعشرين، ومن أشرف أسرات روما، ذا طبع حاد وعزيمة قوية وشجاعة معروفة وجمال تتحدث به النساء، فكان محياه وضاحا كمحيا الرومان، وله عينان زرقاوان تقرأ فيهما الدعة، وكانت شعوره طويلة ذهبية وله لحية كستنائية، وكان واسع العلم والاطلاع، فصيح اللسان، حلو الحديث، ذا صوت لطيف يستهوي القلوب والأسماع.
Halaman tidak diketahui