وكأن الله لم يودع في قلب فرنشسكو عاطفة من تلك العواطف الطبيعية التي امتاز بها الحيوان قبل الإنسان؛ فلم يكن في قلبه ذرة حنان لأبنائه، بل كان يمقتهم مقتا، ولا يخفى استياءه من وجودهم على أحد. وروي عنه أنه كان يبني في قصره كنيسة - كما جرت عادة الأشراف في ذلك العصر - فقال للمهندس بعد أن رسم له مكان القبر منها: «هنا آمل أن أدفنهم جميعا، مشيرا إلى أولاده.» قال المهندس: فوجمت من قوله، ولولا ما يصيبني منه من طائل المال لامتنعت عن إتمام البناء.
وما كاد أولاد فرنشسكو أن يبلغوا أشدهم حتى أرسل بثلاثة منهم - وهم أكبرهم - إلى مدارس سلمنك الجامعة بإسبانيا، وكان الثلاثة يدعون جاك وكريستوف وروك، وظن أبوهم أنه يتخلص منهم إلى الأبد بإرسالهم إلى هذه الأقطار الغريبة البعيدة، فقطع عنهم الزاد والنقود، فلبث الغلمان الثلاثة يقاسون ألم الفقر والجوع شهورا، ثم اضطروا أن يبرحوا سلمنك، فعادوا إلى وطنهم سائرين على الأقدام حفاة عراة يسألون الناس طول الطريق، فاخترقوا على هذه الحال جبال البرينيه وبلاد فرنسا وجبال الألب وأرض إيتاليا، حتى بلغوا روما منهوكي القوى، وقد كادت تزهق منهم الروح.
وكان القائم على عرش البابوية إذ ذاك كليمنتوس الثامن، وقد اشتهر بعدله في الناس فقصده الغلمان الثلاثة، وسألوه أن يخصهم من ثروة أبيهم الواسعة بجزء يعيشون منه، فرأى البابا أحقية مطلبهم، فأمر أباهم أن يجعل لكل منهم ألفي ريال سنويا، فأراد هذا الطاغية أن يتخلص من تنفيذ هذا الأمر بكل الوسائل، فجبره البابا على تنفيذه، فأطاع حانقا مرغما.
وبعد ذلك بقليل سجن فرنشسكو لجريمة هتك عرض أيضا، فذهب أولاده إلى البابا وقالوا له: إن أبانا أهان شرف اسمنا وحط من كرامة أسرتنا، فلا تعفه من عقاب شديد يكون له رادعا، فرأى البابا أن ذلك المسعى من الأبناء عقوق، فطردهم من حضرته شر طردة، وتخلص أبوهم من سجنه هذه المرة كما تخلص من قبل؛ أي بفضل دراهمه.
ورأى فرنشسكو أن يديه لا تصل إلى أبنائه؛ حيث استقلوا عنه، واستغنوا بما خصوا به من ماله، فأنزل سخطه على بنتيه حتى أصبحتا من عذابه في جحيم. فلم تطق كبراهما صبرا وتمكنت رغما عن مراقبة أبيها الشديدة أن تبلغ البابا شكواها، وتشرح له ما هي فيه من العذاب، وتتوسل إليه أن يخلصها مما هي فيه، ولو بإدخالها أحد الديور. فأشفق البابا عليها، وأخرجها من بيت أبيها، وزوجها برجل من أشراف روما يدعى كارلو غابرييلي جوبيو، واضطر أباها أن يقدم لها مهرا قدره ستون ألف ريال، فكاد يجن فرنشسكو لضياع فريسته من يده، إلا أنه تعزى عنها بفقد ولديه في عام واحد روك وكريستوف، فمات أولهما مقتولا من يد جزار، وقتل الآخر رجل يدعى بول كورسو دي ماسا.
وفرح ذلك الأب الغشوم لمقتل ولديه وأبى أن يصرف شيئا لدفنهما، فأنذر القسوس أنه لا يدفع درهما لما يقام لهما من الطقوس والرسوم الدينية، فدفن الولدان كما تدفن صعاليك القوم، ولما رآهما أبوهما راقدين في لحد واحد، قال: إني لسعيد إذ تخلصت منهما، وقد كانا من شر الخلق، ولن تتم سعادتي إلا إذا ضممت لهما إخوتهما الخمسة الباقين، فأوقد النار إذ ذاك في بيت آواهم إعلانا لفرحه بالخلاص منهم.
واحتاط فرنشسكو حتى لا تتبع ابنته الباقية - بياتريس - خطة أختها، فشدد في مراقبتها.
وكانت بياتريس في ذلك الحين فتاة في الثالثة عشرة صبوحة الوجه جميلة المحيا يظنها رائيها ملكا من السماء لا بشرا من الأرض، وكانت ذات شعور ذهبية قل أن توجد في الرومانيات، حتى عدها روفاييل من متممات الجمال؛ فرسم كل عذاريه بشعور ذهبية، وكنت ترى شعرها فوق جبينها أو مسترسلا على كتفيها يموج، فتظنه ذهبا سكب على اللجين. وكان لبياتريس عينان زرقاوان إذا نظرت إليهما سرت نفسك إلى عالم الأرواح، فتنسى العالم السفلي، وتظن أنك بلغت السماء، وأنك في حضرة ملك كريم. أما قامتها فلم تكن بالطويلة ولا بالقصيرة، بل ناسب الله بين أجزائها فجاءت من أبدع ما خلق فصور، وكانت ضحوكة السن إلا إذا بكت استبكت القلوب ، وجاء في أمثال الفرنساويين - الدالة على رقيق عواطفهم - ما من شيء يؤلم النفس كرؤية جميل يتألم. وكنت ترى في نظرات بياتريس - حتى إذا بكت - ما يدل على قوة جنانها وثبات عزيمتها.
وأراد أبوها أن يستوثق منها، فسجنها في حجرة قصية من القصر، ولم يعهد إلى أحد بمفتاحها، وكان يحمل إليها بنفسه ما يقوم بأود حياتها، ولبث سنين يعاملها معاملة الأسير، بل معاملة السجان القاسي للسجين. حتى بلغت الفتاة الثالثة عشرة، فرأت أباها قد تلطفت معها طباعه؛ فرق حديثه وحسنت معاملته، فاندهشت لهذا الانقلاب كل الاندهاش، ولم تدرك أنها أصبحت فتاة بعد أن كانت طفلة، وأن ربيع حياتها قد أينع زهرة شبابها، فنظر لها أبوها نظرة فاسق، ألا رد الله طرفه خاسئا وهو حسير.
ولا يخفى أن فتاة نشأت كما نشأت بياتريس بعيدة عن مجتمع بني الإنسان، حتى عن إخوتها وامرأة أبيها، لا تستطيع التمييز بين الخير والشر، ولا تعرف الضار من النافع، فمن السهل أن يبلغ منها أربا من لا يرحم عبدا ولا يخشى ربا، ومع ذلك أراد فرنشسكو أن تتم نصرته - خذله الله - فيشرك معه عوامل النفس الطبيعية في الفتاة، فينال منها ما ينال عن شوق وطيب خاطر؛ فكانت تستيقظ الفتاة كل ليلة على صوت آلات طرب شجية ذات ألحان تصبي النفس، فتأتيها كأنها في حلم تظن أنها آتية من السماء، فسألت أباها عن مصدر تلك الألحان وإن كانت آتية من السماء حقيقة كما تظن، فثبتها الفاسق في ظنها وزاد قائلا: إنها إذا لم تعص له أمرا وتطيع ما يشير به، فإن الله يكافئها فيريها بعينيها ما تسمعه بأذنيها، ففرحت الفتاة؛ لبساطتها، وانتظرت أن يمن الله عليها فترى تلك السماء.
Halaman tidak diketahui