فأجابته الأميرة: إنك لم تأت شيئا تؤاخذ عليه يا سيدي، إنما أنا لا أريد أن أوافق على عقد قران تؤاخذني عليه الناس، وكنت أظنك ذا فكر وتبصر فلا تضطرني إلى تنبيهك إلى حدودك، فاعلم أن طلباتك مجابة ما لم تخرج عن حد اللياقة، فاطلب إن شئت ضعف ما تقتضي من المال يصرف لك، واطلب إن شئت مركزا أسمى مما أنت فيه تمنحه، لكن لا تطمح أنظارك إلى عقد قران لا تؤهلك مكانتك إليه.
فقال الراهب: ومن أنبأ مولاتي أن نسبي لا يسمح لي بالحصول على هذا الشرف؟
قالت مندهشة: أنت على ما يظهر لي، فإن لم ينبئني لسانك فقد أنبأني اسمك.
فأجابها وقد تجرأ: وإذا كان هذا الاسم غير اسمي وقد اضطرتني الحوادث إلى استعارته، أفلا تتنازل مولاتي بتغيير رأيها نحوي؟
فقالت الأميرة: لقد تقدمت في حديثك بما لم يعد لك أن تعدل عنه فأتمم حديثك، وأعلمني من أنت، وإني أقسم لك إن كنت من بيت كريم كما تلمح لي أني لا أخيب لك أملا، ولا تظن أن فقرك يحول دون إتمام أمنيتك.
فخر الراهب على ركبتيه أمام الأميرة وقال: آه يا مولاتي، إن اسمي مشهور ومعروف لديك، ويا ليت لي أن أفقد نصف دمي دون أن ألفظ به في هذه الساعة، ولكنك قلت: إنه لم يعد لي سبيل إلى العدول عن إتمام حديثي، فاعلمي يا مولاتي أني ذلك الراهب التعيس الذي بلغت مسامعك أخبار جرائمه ورآك تعيدينها على مسمع منه، فأنا ذلك الراهب ده جنج.
فصاحت الأميرة منذعرة قائلة: الراهب ده جنج، الراهب ده جنج؟! أأنت ذلك الراهب اللعين الذي تقشعر من اسمه الأبدان، وإليك عهدنا بتربية ولدنا الوحيد؟ ولكن لا، لا أظنك إياه يا سيدي، وأرجو أن تكون كاذبا فيما تدعيه؛ لأنني لو كنت واثقة أنك ذلك الراهب لأمرت الآن بالقبض عليك وإرسالك إلى فرنسا لتلقى فيها جزاء ما جنته يداك، والآن فاسمع: إن كنت صادقا فيما تقول فخير لك أن تبارح حالا هذا القصر، بل هذه المدينة، بل هذه الإمارة، وكفاني عذابا فيما بقي من أيامي أن أذكر أنه ضمني وضمك بيت واحد، فلبثت معك فيه سبع سنين لا أدري من أنت.
وحاول الراهب أن يجيب، ولكن علا صوت الأميرة على صوته، وكان الأمير الصغير واقفا بالباب مستعدا لمساعدة أستاذه في بلوغ مرامه، فلما رأى الجدال قد علا بينه وبين أمه دخل ليصلح ذات البين، ولكنه وجد أمه وقد بلغ منها الرعب مبلغا عظيما، حتى إنها عندما رأته داخلا جذبته إليها كأنما تحتمي به، فأخذ يلاطفها ويسترحمها، فلم يتمكن إلا أن ينال لمعلمه مفتاح النجاة بنفسه، حيث سمحت له الأميرة بالانسحاب إلى أية بلدة شاء من بلاد الأرض على أن لا يريها وجهه بعد هذا الحين.
وانسحب الراهب إلى مدينة أمستردام، واشتغل فيها بتعليم اللغات، ولحقت به في هذه المدينة حبيبته فتزوجته، وصار تلميذه يمده بالمال رغما عن علمه بحقيقة اسمه وسيرته. ولبث الراهب على هذا الحال حتى بلغت زوجته سن الرشد، فاستولى على مالها من عقار خاص بها وكان قليلا.
وسار الراهب في الناس سيرة مثلى، واشتهر بينهم بعلمه، فأدخله البروتستنت في مجمعهم، ولبث فيها إلى أن قبض مذكورا بالخير، وربك يعلم إن كانت استقامته في نهاية أيامه توبة صادقة أو نفاقا.
Halaman tidak diketahui