وكان الملك لويس الرابع عشر من رأي الجمهور في هذا الحكم، حيث لم ينس جمال المركيزة الفتان، حتى إنهم لما طلبوا منه العفو عن المركيز ده دنز المتهم بسم امرأته ظانين أن الملك نسي قصة آل جنج، أجابهم الملك قائلا: ليس المركيز في حاجة إلى عفوي، حيث إن قضيته منظورة أمام محكمة تولوز، فله من رأفة قضاتها ما يغنيه عن عفوي، كما استغنى عنه المركيز ده جنج.
مصير الظالمين
أما وقد علم القراء ما تم للمركيزة، فلعلهم يتساءلون عما تم لقاتليها، فلنرو لهم عنهم خبرا، فأما الخوري بيريبت فكان أول من ذهبت روحه منهم إلى سقر لتناقش الحساب عما جنته يداه؛ إذ مات وهو مقيد في الأغلال وسائر من تولوز إلى برست ليقضي عقوبته في ليماناتها كما سلف القول.
أما الفارس فقصد مدينة البندقية، وانخرط في سلك جنودها، وكانت جمهورية البندقية في حرب مع الأتراك، فأرسل مع من أرسل إلى كنديا «بجزيرة كريت»، وكان المسلمون محاصرين لها منذ اثنين وعشرين عاما. وبينما هو يتمشى ذات يوم بعد وصوله بأيام قلائل فوق أسوار المدينة ومعه ضابطان، إذ ألقيت قنبلة وانفجرت تحت أرجلهم فقتلت إحدى شظاياها الفارس ولم يصب رفيقاه بسوء؛ ولذا يرى الناس في هذه الحادثة يد انتقام من لا يغفل ولا ينام.
أما الراهب فحديثه طويل، وما تم له أعجب مما تم لأخيه؛ إذ ترك الراهب أخاه في ضواحي مدينة جنوة، وسافر مخترقا إيطاليا وسويسرا وألمانيا حتى أتى هولندا، فدخلها متنكرا، وسمى نفسه لا مارتليير. وتردد الراهب في اختيار البلد الذي يلقي إليه عصا ترحاله، حتى قر عزمه على أن يقصد مدينة فيان، وكان أميرها في ذلك الحين يدعى الكونت ده ليب، وتعرف فيها الراهب برجل من الأشراف توصل به إلى الأمير، فقدمه له الرجل بصفة غريب من الفرنساويين الذين أقصتهم الحروب الدينية عن بلادهم.
ورأى الأمير من ذلك الغريب الذي آوى إلى مملكته نابغة في العلوم والمعارف، وبحرا في الآداب، فعهد إليه بتربية ولي عهده، وكان غلاما في التاسعة من عمره، ورأى الراهب في ما أسند إليه السعادة والرفعة، فقبل الوظيفة شاكرا ممتنا.
وكان الراهب ده جنج ذا عزيمة لا تفل وذا سلطان على نفسه لا يغلب، فلما رأى سعادته بل حياته متوقفة على سيرته، اجتهد فأخفى ما به من رذيلة وسوء خلق، وتجلى في الناس متظاهرا بما ليس فيه من فضل ومن كرم.
وقد تقوم العزيمة مقام الفضيلة، بل كل الفضيلة في العزيمة، وقد توصل الراهب إلى تقوية إرادة تلميذه وتقويم أهوائه بما غرسه فيه من مبادئ العزم والحزم في الأمور، حتى جعله على صغر سنه كهلا في فن السياسة والإدارة، ورأى الأمير ليب ثمرة هذه التربية، فأراد أيضا أن يقتبس من جنيها، فصار يستشير معلم ولده في كل شأن من شئون ملكه، حتى أصبح «لا مارتليير» - الموهوم - روح هذه الإمارة ولما يمض عليه فيها حين طويل.
وكان لدى الأميرة - زوجة الأمير - ابنة عم فقيرة، لكنها ذات نسب رفيع، تربيها وتحبها محبة الولد، فما لبثت الأميرة أن رأت انعطافا من الفتاة نحو مربي ابنها، وميلا له لا يليق بمكانتها وشرفها، وكان الراهب قد توصل - بدهائه - إلى إلقاء الفتاة المسكينة في شرك حبه، فاستدعت الأميرة ابنة عمها إليها، وتحايلت حتى اعترفت لها الفتاة بحبها ل «مارتليير»، فقالت لها الأميرة: إنها وزوجها يقدران ذلك الرجل حق قدره وفي عزمهما أن يكافئاه على خدماته لابنهما وللمملكة بأن يرفعاه مكانا عليا، ولكن هذا الرجل ليس له لقب شريف يعرف به، ولا عائلة ظاهرة يفخر بالانتساب إليها، فما له أن يطمع في مصاهرة الأمراء والملوك. وزادت الأميرة قائلة: إنها لا تشترط أن يخطب ابنة عمها أمير من آل بوريون أو روهان، إنما لا تتنازل عن أن يكون خاطبها من الأشراف ولو كان فتى قرويا.
وأعادت الفتاة عن سمع حبيبها ما دار من الحديث بينها وبين الأميرة كلمة كلمة، وظنت أنه يتكدر له، لكنه أجابها قائلا: إن الأمر ممهد إن لم يكن إلا انتسابه العائق. وكان الراهب يظن أن إقامته ثماني سنين لدى الأمير أمينا لأسراره ومحفوفا بعنايته وإكرامه قد تجعل له مكانة لديه حتى إذا باح له باسمه لم يجد منه سخطا عليه، فطلب من الأميرة أن تسمح له بمقابلتها، فصرحت حتى إذا تمثل بين يديها طأطأ أمامها رأسه تحية واحتراما، ثم قال: مولاتي، أراني سعيدا إذ تشرفت باكتساب رضاء سموكم، ولكن مولاتي تحول دون إتمام أسباب سعادتي، فابنة عمها تنازلت بقبولي بعلا لها، ومولاي الأمير الصغير يعززني في آمالي ويصفح عن جراءتي، فما لمولاتي تعترض سبيل هذا القران؟ وهل أتيت ذنبا أؤاخذ عليه في السنين الثماني التي قضيتها في خدمة سموها؟
Halaman tidak diketahui