ونادى أحد الإنجليز الشاب المصري فذهب إليه، وأوشك الحاج والي أن ينصرف، ولكن الشاب ناداه: انتظر يا عم الشيخ.
فانتظر الحاج والي، وجاء إليه الشاب وفي يده جنيه ذهبي وقال: خذ هذا. - ما هذا؟ - يقولون إنه ثمن الحمار.
وقال الحاج والي في غيظ: قطعت يدي إن أخذته. - خذه بالله؛ فإن أولاد الكلب هؤلاء لا يرحمون وقد يغضبون ويطلقون عليك أنت النار. وما أسهل أن يقولوا بعد ذلك أنك حاولت أن تعتدي عليهم. خذ ... خذ ...
وأمسك الحاج والي الجنيه الذهبي، وألقى به إلى الأرض في شيء من الخوف، وفي كثير من الحزم، مراعيا أن يسقط الجنيه بحيث يرى الإنجليز أنه رماه، وبحيث يجدونه أيضا إن تفقدوه. وأولى الجمع ظهره وأخذ سمته إلى القرية منتظرا في الخطوات الأولى أن ترديه رصاصة محكمة التصويب فيقول في نفسه: «أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله». ويملأ نفسه شعور بالكرامة، فهو يستأني في خطوه، وكأنما يتحدى، حتى إذا وثق أنه صار بمنأى عن مرمى الرصاص منهم؛ سار طريقه في خطوات متفلتة يحمد الله أن نجا، يملؤه شعور بأنه انتصر، ويملؤه شعور آخر بأنه مظلوم، تختلط في نفسه ألوان من الغيظ ومشاعر من العزة.
الفصل الرابع
لم يكن بيت زين العابدين بك باذخ الفخامة، وإنما كان رحب اللقاء تستقبل الداخل إليه شرفة واسعة ليست مرتفعة عن الأرض إلا ببعض درجات قلائل، ثم هي تفضي إلى بهو كبير تحيط به من الجانبين حجرات واسعة للاستقبال، وأما الطابق الأعلى منه فهو حجرات للنوم.
وتحرص بهية هانم زكي على العناية بالمنزل بغاية ما تستطيع من نظافة، وإن كانت الفيران كثيرا ما تعدو على نظافتها بما لا تحب، فهي تطاردها ما وسعها الجهد؛ فبهية هانم سيدة نشأت في بيت النظافة فيه قطعة من الدين، والدين فيه هو كل شيء. فهي لم تقل يوما لزوجها إلا ما يرضيه؛ شأنه أن يأمر، وشأنها أن تطيع، دون أن تحاول تعليل أوامره أو مناقشتها. ولولا ما يشغلها من إنجاب الأطفال لسعدت بحياتها في ظله كل السعادة، فما ينقصها من حياتها شيء إلا أن تصبح أما، فهي تسعد حين تنظر إلى المرآة غاية السعادة، إنها جميلة القسمات؛ فم متسع بعض الشيء، يعلوه أنف صغير، تحيط به وجنتان فيهما امتلاء وفيهما نعومة وإشراق، يغطي الشعر الأصفر أذنيها الصغيرتين، بادئا من رأس متسع، تاركا بينه وبين العينين السوداوين جبهة صافية عريضة. وبهية ممتلئة القوام في غير إفراط، وإنما هو القوام كما يشتهيه زوجها طولا وعرضا. ولم تكن بهية قد أدركت الخامسة والثلاثين من عمرها؛ وهكذا كان أملها في الإنجاب تمهد له هذه السن الباكرة أن يزدهر ولا يتضاءل.
كان الوقت مساء، وقد صعد زين العابدين مبكرا من الطابق الأدنى، وقال لها مبتسما: هيه، ما رأيك لو سافرنا إلى مصر في باكر؟ - صحيح، هل أصلحت السكة الحديد؟ - سيمر بنا أول قطار إلى مصر صباح غد. - ولكن لي شرط. - ألك شروط أيضا؟ - شرط واحد. - آخذك معي إلى مصر لتري أباك وأمك، وتملي شروطك أيضا. - قلت لك إنه شرط واحد. - أمرك يا ستي. قولي شرطك. - أذهب إلى الدكتور نجيب محفوظ. - ماذا؟! - دكتور مشهور في مصر سمعت عنه من زوجة مأمور المركز؛ ظلت عشر سنوات بلا خلف، حتى كتب لها الدكتور محفوظ دواء فأصبح لها ولد وبنت. - أمرك يا ستي، أمرك. ولكن لي أنا الآخر شرط. - أمرك. - لا تطلبي مني أن أقيم معك في بيت والدك. - لماذا؟! - لا أرتاح هناك. - أمرك. - اتفقنا.
وكان الصباح، ونزل زين العابدين إلى الطابق الأسفل بعد أن أوصى زوجته ألا تتأخر في إعداد الحقائب. وكان في انتظاره الحاج والي الذي جاء بناء على موعد سابق. - صباح الخير يا حاج والي. - صباح الخير يا سعادة البك. - هيه، هل أحضرت المبلغ؟ - المائة جنيه معي، إلا أن لي كلمة. - لا تقلها. - لا بد أن أقولها. - يا حاج والي إن لم أتمتع بمالي فلمن أتركه؟ ها أنت ذا ترى، لا ولد ولا بنت. - يا سعادة البك العمر أمامك طويل، وقد بعت حتى الآن ما يقرب من الخمسين فدانا، ماذا تفعل غدا إذا رزقك الله الولد أو البنت؟ - هل كان أحد يصدق أنني سأخلف؟ ها أنا ذا أنتظر مولودي. اعمل معروفا يا زين العابدين بك، كفاك بيعا. - ربنا يسمع منك يا حاج. لك حق من يدري، فها نحن أولاء سنذهب إلى الدكتور نجيب محفوظ في القاهرة. - إن شاء الله ربنا يستجيب لدعائنا. - ربنا يهيئ الخير يا حاج. - على بركة الله، تفضل المبلغ. - العقد الذي معك سليم؟ - نعم، أبقاك الله. نحن جميعا نشهد لك بأن بيوعك شريفة، وعقودك نظيفة والحمد لله. - الحمد لله. - أستأذن أنا. - مع السلامة يا حاج والي. - وقام الحاج والي وخرج، وظل زين العابدين وحده يفكر فيما قال له الحاج، ثم ما لبث أن أبعده عن ذهنه، وقام إلى شرفة داره يذرعها في انتظار موعد القطار، وألقى نظرة إلى الشجر الذي يحيط ببيته، فوجد طيورا كثيرة مطمئنة الجلسة فوق أعرافه؛ ما الذي يمسك بهذه الطيور هنا؟ لماذا لا تذهب إلى القاهرة ولها أجنحة؟ أهو الأمن الذي يشيع حول بيته، فهو لا يصيد الطير، فليس ثمة صوت قذيفة يسمع؟ وهل يكفي الأمن حتى تستقر الطير فوق أشجاره؟ ما لها لا ترود السماء والأشجار؟ إنها غبية هذه الطيور ، غبية.
ومال زين العابدين بك فجأة فأمسك بحجر وألقاه على شجرة حافلة بالطير؛ فانبعث الحمام واليمام صاعدا في السماء، وحوم مرة ثم أتبعها بأخرى، ثم عاد إلى الشجرة، واطمأن به المقام، وزين العابدين ما يزال يقول: غبي هذا الطير، غبي.
Halaman tidak diketahui