وبدأت الحاجة بمبة تعد القهوة وهي تسأله: إلى أين العزم إن شاء الله؟ - إلى الشيخ حسنين المحلاوي؛ فقد وعدني اليوم أن أزوره وأشرب عنده القهوة وأتقاضى ديني. - أتذهب إلى العشماوية في هذا اليوم العاصف؟ - يا حاجة بمبة نحن فلاحون، إذا قبعنا في بيوتنا من أجل الجو تعطلت أعمالنا. - ربنا يكون في عونك يا حاج والي.
وكانت القهوة قد أعدت، وأخذ الزوجان يحتسيانها وفي ذهن كل منهما أفكار تضطرب يحاول أن يسترها عن رفيق عمره ما وسعه الجهد. وقال الحاج والي: لو كانت القطارات تسير لوجدت الجرائد في المحطة. - لا عليك، فالإنجليز يعملون بهمة في إعادة الخطوط الحديدية. - والله يا حاجة لا يضايقني من هذه المهمة إلا أنني سأمر على الإنجليز. - يا أخي ما لك وما لهم؟! - يكفي أنني سأنظر إلى وجوههم المسلوخة. - إذا وصلت إليهم فانظر إلى الجهة الأخرى. - على رأيك، أفوتك بعافية. - انتظر. - ماذا؟ - سأقرأ لك الفنجان. - كدت أنسى والله يا شيخة. - انتظر، أرى كأنك في طريق ستحصل منه على مال. - لا يا حاجة هذه ليست في الفنجان، لقد أخبرتك الآن أنني سأتقاضى ديني من الشيخ حسنين ... - انتظر، وأرى كأنك جالس في وسط الطريق. - إني سأقطع الطريق كله جالسا؛ لأني سأمتطي الحمار.
وضحكت الحاجة بمبة وهي تقول: لا بد أنك ستقع من على الحمار يا حاج والي، لأني أراك جالسا على الأرض!
وضحك الحاج والي قائلا: هذا هو الجديد، لا شك أن هذا هو الجديد. لم يبق إلا أن أقع من على الحمار. - هذا كلام فنجانك. وأراك منصورا والله يا حاج والي، إن شاء الله أنت منصور على أعدائك يا حاج. - ربنا يسمع منك يا حاجة، فأنت طيبة ونفسك طاهر. أفوتك بعافية. - عافاك الله.
وخرج الحاج والي إلى الطريق وقد ركب حماره، وكان الفلاحون في طريقهم إلى حقولهم، وفئوسهم على أكتافهم، وفي أيديهم دوابهم. وتبادل الحاج والي التحايا مع الفلاحين، وقد كان الحديث بينهم عن الثورة المشتعلة في القاهرة والريف، فقد كانت تسيطر على سماء مصر في ذلك الحين أجواء من الحيرة والاضطراب.
أما أبناء مصر أنفسهم فقد كانوا بعيدين عن الحيرة كل البعد؛ فقد عرفوا الغاية والطريق، فهم ينشدون الحرية، والثورة هي سبيلهم إليها، فهم يشعلونها في كل ما تقع عليه أيديهم. تأتيهم الأنباء من مصر فيها قهر من المحتل، وعنف، وعسف، وظلم؛ فلا يزيدهم شيء من هذا إلا إصرارا واندفاعا. فهم التيار الآخذ لا يصده عن متمناه شيء. سمعوا عن اعتقال سعد وصحبه فثاروا، وسمعوا عن مأمور الضبط الذي قبض على الأجانب المستكبرين بالحماية الإنجليزية فأجرى معهم التحقيقات الرسمية ووقعها باسمه ثم استقال من الحكومة؛ فشعروا أن شباب مصر يستطيعون أن يبلغوا الآمال وإن غاب عنهم القادة والزعماء. وكانت الثورة في داخل النفوس، فهي نيران. وكان وجود الإنجليز وحده كافيا أن يمد هذه النيران بوقودها، فهي متأججة دائمة الأوار.
وانقطعت الأنباء عن الفلاحين في قراهم بعد أن قطعوا الخطوط الحديدية، ووقفت السلطات الإنجليزية تعيد الخطوط إلى أمكنتها وتمنع الحوادث؛ فسكن الفلاحون ينتظرون. ولكن الثورة في نفوسهم لم تسكن، فلا حديث لهم إلا عما كان من الحوادث وما يرغبونه من مستقبل. وكان الحاج والي وهو في طريقه إلى العشماوية لا يكاد يمر بجماعة من الفلاحين في طريقهم إلا وسمع كلمة «سعد» أو كلمة «الإنجليز» أو كلمة «الثورة» أو كلمة «القضبان»، لم يسمع الحاج والي فيما سمع كلمة السماد، أو القمح، أو الأرض، أو كلمة من هذه الكلمات التي تعود أن يتبادلها أبناء القرية في مألوف حياتهم.
وبلغ الحاج مشارف المحطة، وعبر مواضع القضبان الحديدة المنزوعة، متعمدا أن يلقي بنظره بعيدا عن الإنجليز. وما كاد يبتعد عنهم حتى أطلق تنهدة مستريحة، وهو يقول: الحمد لله.
وكأنه خرج من مأزق حرج. وبلغ الحاج والي مقصده وتقاضى دينه، وعاد طريقه. وعبر موضع القضبان مرة أخرى وأوشك أن يبتعد ويطلق التنهدة، ولكن طلقا ناريا كان أسرع من تنهدته! وفي لحظة خاطفة كان الحاج والي جالسا في الطريق فوق الحمار المتهاوي تحته، ومر بذهنه أنه أصيب؛ فلبث مكانه ينتظر أن ينبثق الألم من أي مكان في جسمه، وطال لبثه، ولكنه لم يتألم، فأخذ يتحسس ما تصل إليه يده، فعادت إليه يده كما أطلقها لم يعلق بها شيء يؤكد شكه، ففكر أن يعتدل؛ فحرك جسمه فتحرك معه، وتهيأ ليقف. وأخذ يرسم حركاته قبل أن يتحركها؛ فراح جسمه يطاوعه في كل ما يحاوله حتى استقام أمره أخيرا واعتمد رجليه، ووقف. ونظر إلى حيث كان جالسا فتبين الحادث بأكمله؛ لقد أطلق الإنجليز الرصاص على الجزء الأعلى من ذيل الحمارة. لو لم يكن الحاج والي مشغولا بما أصابه، ولو لم يكن ضجيج الذهول والاضطراب محيطا به من كل جانب؛ لسمع القهقهات العالية التي كان الإنجليز يطلقونها بعد عيارهم. وقصد إليهم الحاج والي في ثورة عاتية يمسك بأطرافها في نفسه، خوفا من عيار ناري آخر يصوب إليه هو في هذه المرة، وما أرخص الأرواح عند الإنجليز! وما ضر أن يموت هو كما مات الحمار! فما كانوا يقيمون كثير فرق بين إنسان مصري وحمار. قصد إليهم يفكر فيما يقول أو يفعل، وتقدم إليه قبل أن يصل شاب مصري يرافقهم من قبل مصلحة السكك الحديدية وقال: على رسلك يا شيخ.
وقال الشيخ في غضبته: أيرضي الله هذا؟ - وهل يعرف هؤلاء الله؟! - ماذا فعلت حتى يفعلوا بي هذا؟ - لا شيء، لقد تراهن أحدهم مع آخر على أنه يستطيع أن يصيب الحمارة التي تركبها دون أن يصيبك، وها هو ذا يضحك لأنه كسب الرهان. الحمد لله أنه كسب الرهان. - الحمد لله؟! - لو كان خسر الرهان؛ لخسرت أنت حياتك. - لا إله إلا الله! لا إله إلا الله!
Halaman tidak diketahui